الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة آل عمران:102].يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [سورة النساء:1].يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [سورة الأحزاب:70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
خطر الشرك والرياء
إخواني: إن الذي ينجي العباد عند ربهم يوم القيامة أمر واحد، هو الذي ينجيهم من نار جهنم، ويدخلهم جنات نعيم، ألا وهو إخلاص التوحيد لله ، ولذلك كان هذا التوحيد أوجب الواجبات، وهو حق الله على العبيد، إن حق الله على العبد أن يعبده لا يشرك به شيئًا، كما أن حق العبد على ربه أن لا يعذب بالنار من مات وهو لا يشرك بالله شيئًا.
وهذا الشرك مراتب وأنواع: فمنه ما يكون شرك أكبر، أو شرك أكبر، أو شركًا خفيًا، ولذلك كان لابد للمسلم من تخليص التوحيد من جميع شوائب الشرك، ومن شوائب الشرك التي تختلط بأعمال كثير من الناس في كل وقت وفي كل زمان: أنهم يريدون بأعمالهم الدنيا، لا يريدون وجه الله ، وانظر إلى حال الكثيرين في هذا الزمن، وهم يغدون ويروحون، ويجيئون ويذهبون، لو تأملت وتدبرت فيما يذهبون فيه، وما يجيئون إليه الهدف من وراء ذلك؛ لوجدت أنهم يريدون بسائر أعمالهم الدنيا، لا يبتغون وجه الله إلا قليلًا، وبعضهم لا يبتغي الأجر في الآخرة أبدًا، ولذلك كان ذاك الباب الذي عقده المجدد محمد ابن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في كتابه: كتاب التوحيد، كان بابًا عظيمًا، أولا: وهو "باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا"، ذكر فيه آية وحديثًا، ونحن أيها الإخوة في هذا المقام نريد أن نعالج هذه القضية، قضية أن كثيرًا من الناس يريدون بأعمالهم الدنيا قال الله : مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا [سورة الإسراء:18- 20].
من الناس من يريد الدنيا، ويسعى لها جاهدًا في دنياه، لا يريد إلا الدنيا، كل أعماله من أجل الدنيا، والله عادل لا يظلم أحدًا، حتى الذين يريدون الدينا فإنه سبحانه يعطيهم في دنياهم، ولكنهم ليس لهم في الآخرة من خلاق، وتأمل عظمة الفرق بين طالب الدنيا وطالب الآخرة: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ الدنيا عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ فإن الله يعطي بعضهم ولا يعطي بعضهم، ولكن في الآخرة وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كلهم جميعهم كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا، أما طلاب الدنيا الذين يسعون للأموال، والرئاسات، والمغانم الدنيوية، فإن الله قد يعطيهم وقد لا يعطيهم، عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد، والوجه الراجح أنها مخصصة لقوله : نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ [سورة هود:15].
ولذلك أنت ترى الكفرة في ديارهم فيهم الفقير والمريض والمبتلى مع أنهم يسعون للدنيا، ولكن قد لا يحصلونها، أما المؤمن الذي يريد وجه الله، فإن الله يعطيه ولابد في الآخرة، ليس هناك أناس يعملون للآخرة -ولله الحمد والفضل- قد يعطون وقد لا يعطون، كلا إنهم جميعهم يعطون في الآخرة، أولئك -كلهم- كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا، والله يعطي طلاب الدنيا، أحيانًا يعطيهم مغانم من الأموال والرئاسات والعافية والأولاد، وأحيانًا يدفع عنهم شرورًا كانت ستنزل بهم بهذا الطلب للدنيا، ولكنهم ليس لهم في الآخرة من خلاق، ليس لهم شيئًا ألبته.
محبطات الأعمال
لذلك كان لابد للمسلم من التأمل في محبطات الأعمال، ما هي الأمور التي تحبط العمل؟ من الأمور التي تحبط العمل أيها الإخوة:
أولًا: أن يعمل الإنسان رياء للناس لا لله، ويطلب المحمدة والثناء في الدنيا، لا يطلب ذلك من الله، يريد أن يقول الناس عنه هذا عابد، هذا زاهد، هذا جريء، هذا شجاع، هذا جواد، هذا كريم، يريد المحمدة في الدنيا، والله لا يرضى أبدًا أن يكون للعبد في عمله له شرك مع غيره، ويقول لهم يوم القيامة: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء[1]، فاطلبوا منهم أجركم وثوابكم، ولكن هناك هيهات، كل يقول: نفسي نفسي.
ويخسر المرائي عمله في الآخرة، ليس له منه شيء، ونوع آخر من الناس يعملون من أجل الدنيا، ونيتهم تحبط أعمالهم، وذلك كإنسان يعمل الصالحات بأنواعها، هذا الرجل لا يقوم بها ابتغاء وجه الله، ولكنه يريد بها مطمعًا دنيويًا: كرجل جاهد من أجل الغنيمة، لم يجاهد لإعلاء كلمة الله، جاهد من أجل الغنيمة مع المسلمين، أو رجل حج من أجل أن يأخذ المال، رأى أناس يريدون أن يوكلوا أحدًا يحج عن أبيهم، وقد وضعوا لذلك جعلًا من الأموال، فهو يقول: لهم نعم، أنا أحج عن أبيكم المتوفى، من أجل أن يأخذ المال الذي وضعوه جعلًا لهذا الحج أو العمرة، فهو يحج ليأخذ، وفرق بينه وبين الذي يأخذ ليحج، فإن بعض الناس فقراء ولكنهم يتشوقون لرؤية البيت العتيق، ويتمنون أن يشهدوا تلك المناسك، ولكنهم فقراء، فرأى أحد هؤلاء شخصًا يريد أن يُحَج عنه، فأخذ المال ليتمكن من بلوغ تلك الديار، ويحج عن أخيه المسلم، فكان المال عنده وسيلة والحج غاية، فهو مأجور على دعائه لنفسه في تلك المواطن مع قيامه بالحج عن أخيه المسلم، ولكن أكثر هؤلاء اليوم لا يفعلون هذا، وليست نيتهم هذه، بل إنهم يحجون ليأخذوا المال، لا يأخذوا ليحجوا، ولكن يحجوا الحج وسيلة والغاية المال، ومثل ذلك: مثل الذي يتعلم القرآن ويحفظه، ويواظب على الصلاة في الصف الأول؛ لكي يشهد له جماعة المسجد شهادة تقبل عند دار الأوقاف؛ ليحصل على وظيفة إمام في المسجد، فما هو هدف هذا الرجل إمامة يأخذ عليها أجرًا، والوسيلة حفظ القرآن، والتبكير للصلاة، والمواظبة على الصف الأول، ليس له في الآخرة من خلاق.
وكذلك الذي مثلًا يطلب العلم ليأخذ عليه شهادة علمًا شرعيًا، يأخذ شهادة ليصبح قاضيًا له من المرتب كذا وكذا، ومن السيارات كذا وكذا، يدرس ليحصل على وظيفة شرعية أين كانت في مناصب الدعوة والإفتاء ونحوها، فهو إذن جعل طلب العلم وسيلة ليأكل من الدنيا، يأخذ رواتب ويحصل على مناصب ليس له في الآخرة من خلاق، وليس له إلا أجره الدنيوي لأنه ما قصد وجه الله، ولذلك ترى هذا الصنف من الناس إذا أعطوا رضوا، وإذا لم يعطوا إذا هم يسخطون، فيقول: لا أئم بكم، ولا أذن لكم، ولا أقضي بينكم؛ إذا لم أستلم أجري في نهاية الشهر، فالمحرك له على الإمامة والأذان والقضاء والإفتاء هو المال، بحث أنه لو منع عنه لما قضى ولما أفتى ولما أمَّ ولما أذن، هؤلاء ليس لهم في الآخرة من خلاق، ليس له نصيب أبدًا.
-ومن الناس صنف ثالث قريب من هذا لكن هناك فرق كبير، من الناس من يعمل الأعمال الصالحة من الصلاة والصيام والصدقة وصلة الرحم ومعاملة الناس بالحسنى، لكن إذا سألته لماذا تفعل ذلك؟ لماذا تفعل هذه الأعمال الصالحة؟ قال لك: أنا أريد بها أعبد الله، أصلي لله، أصوم لله، لكن أنا أريد من وراء هذه الأعمال أن يحفظ الله أولادي، وأن يحفظ أموالي، وأن يحفظ عليَّ صحتي وعافيتي، كثير من المسلمين اليوم يعملون هذه الأعمال الصالحات لكن ما هي نيته؟ يقول لك: أنا أعبد الله، أنا أطيع الله، أنا لا أرتكب المنكرات والمعاصي، لماذا؟ أريد الستر في الدنيا، أريد أن يحفظ الله أولادي، أن يحفظني، أن يحفظ صحتي، يحفظ أموالي، هؤلاء الناس كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى: "الذين همهم من وراء الأعمال الصالحة حفظ أهليهم وأنفسهم وأموالهم هؤلاء لا يرجون جنة، ولا يخافون نارًا"، وليس همهم الثواب في الآخرة، ما يقصد بالصلاة والصيام الثواب في الآخرة، لكن يقصد حفظ أولاده، وحفظ نفسه، هناك من المسلمين كثير ممن لهم هذه النية، فهؤلاء الذين قال فيهم ابن عباس : "يعطون ثواب أعمالهم في الدنيا" من حفظ الأموال، وحفظ النفس، وحفظ الأولاد، والستر كما يقولون، ولكن عندما يأتوا يوم القيامة لا يجدوا أجرًا في الآخرة، صحيح أنهم ما أشركوا، صحيح أنهم ما أرادوا من وراء أعمالهم أجرًا دنيويًا، ولا أموالًا ولا يريدون رواتب على هذه الأشياء الصالحة التي يعملونها، لكن ليس لهم هم في الآخرة، انتبهوا معي أيها الإخوة: ليس لهم هم في الآخرة، ولا تطلع إلى الجنة، ولا رجاء لثواب الله، إنما يريدون الحفظ والستر في الدنيا فقط.
- ومن محبطات الأعمال: أن يعمل بعض الناس أعمالًا صالحة لكنهم مقيمون على شرك، أو عمل يخرجهم عن ملة الإسلام، كبعض المسلمين المستهزئين بالدين، التاركين للصلاة بالكلية إذا تصدق أو كفل يتيمًا، مثلهم مثل اليهود والنصارى، واحد نصراني مشرك كافر، له النار يوم القيامة لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار[2]، أدركته الشفقة على فقير فأعطاه، تصدق على يتيم وكفله نصراني، يعطى أجره في الدينا، وليس له في الآخرة من خلاق.
ولذلك نقول: يا أيها المسلمون؛ انتبهوا للأشياء المخرجة عن الملة، بعض الناس يستهزئ بالدين بالمجلس عدة مرات، وبعضهم لا يصلون أبدًا إلا في رمضان، أو في يوم الجمعة، تاركين للصلاة، نقول لهم انتبهوا لما يحبط أعمالكم، جاء رجال إلى رسول الله ﷺ كان أحدهم يقول: كان أبي يتصدق في الجاهلية: يكرم الضيف، يصل الرحم، يفدي الموؤدة، لكنه مات في الجاهلية، ماذا قال رسول الله ﷺ: إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين[3]، إنه لم يقل يومًا من الأيام ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين ما كان موحدًا، والصحابيان الذين جاءا إلى رسول الله ﷺ يسألان عن أمهما التي ماتت في الجاهلية تفعل أشياء وكانت وأدت بنتًا لها قال: الوائدة والموؤدة في النار، إلا أن يدرك الوائدة الإسلام فتسلم[4]، عند ذلك ينفعها الأعمال الصالحة التي كانت عملتها، ولذلك لابد أن ننتبه من محبطات الأعمال، رب كلمة استهزاء بأمر من الدين وكلمة واحدة في مجلس تنسف لك كل الأعمال الصالحة التي تقوم بها؛ ولذلك إن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا تهوي به في النار سبعين خريفًا، ولذلك لابد من تجديد التوبة دائمًا وسؤال الله تنقية العبادة من شوائب الشرك والرياء وغيرها وأن يميت الله المسلم على التوحيد.
وقد يسأل بعض الناس فيقول: هل يعني هذا أن لا نطلب الدنيا بأي سبب؟ لا نبيع ولا نشتري ولا نتعلم علوم الكيمياء والفيزياء والرياضيات والطب والهندسة لكي نجعل هذه الشهادات وسيلة نأكل بها لقمة العيش في المستقبل؟ نقول كلا ليس هذا هو المراد، طلب الدنيا بأسباب دنيوية لا بأس بها، انتبه معي طلب الدنيا بأسباب دنيوية لا بأس به، ادرس الطب لتصبح طبيبًا وتأخذ الراتب، لكن طلب الدنيا بأسباب دينية مصيبة كبيرة، تطلب الدينا بحفظ القرآن، تطلب الدنيا بدراسة العلم الشرعي الذي جعل الله أصحابه ورثة الأنبياء هنا الخطورة بعينها، وهذا لا يجوز أبدًا، أما طلب الدنيا بأسباب دنيوية فلابأس بذلك، بل إن الطبيب والمهندس لو نوى خدمة الإنسان أو أن هذا الراتب الذي يأتيه يستغله في طاعة الله لصار مأجورًا، وأما الذين يدرسون العلوم الشرعية ويتبوؤن المناصب الدينية كالإمام والأذان والخطابة والقضاء والفتوى فلا يجوز أبدًا أن يتخذوا من هذه الأشياء وسيلة للدنيا، ولكن الرواتب التي يأخذونها لا تؤثر على أعمالهم، وإنما تكون بمنزلة الحمار الذي يركبه صاحبه، والحمام: المرحاض الذي يدخل فيه، ما هي أهمية المرحاض -بيت الخلاء- ما هي أهميته؟ لابد منه لقضاء الحاجة، لكن هل هو هدف سامي تسعى إليه؟ كلا، ولذلك -أيها الإخوة- الذين يأخذون الرواتب على الأشياء الدينية هذه فقط مجرد استعانة على القيام بشؤونهم، لكن لا يجوز أبدًا أن يجعلوها هي الهدف الذي من أجله يدرسون، ويحفظون، ويتعلمون، ويفتون، ويقضون، وإلا فليس لهم في الآخرة من نصيب، هذه الرواتب، والإعانات، والمكافئات، هذه قضايا تمشية حال، لكن لا يجوز أن تكون هي الهدف أبدًا.
ولذلك فإننا نذكر معاشر الدعاة إلى الله الذين يقومون بعمل بعض الأعمال الدينية استجابة لطلب شيخ أو كبير في الدعوة مثلًا، فيعقدون حلق ذكر، أو تعليم نزولًا عند رغبة بعض الفضلاء الذين ينصحون بعمل هذه الحلقات، وإفادة الناس يجب أن تكون نيتهم في عقد هذه الحِلق، وإقامة هذه الدروس أن تكون لله، وليست فقط لأن فلان طلب فأنا لبيت طلبه، يجب أن ننتبه لهذه المسألة، إذا طلب من إنسان عقد درس أن يجعل النية لله، وهذا الرجل ذكره ونصحه وأرشده ووجهه، ولكن ليس أنه عمل الدرس لطلب فلان كلا، وإنما يعمله طاعة لله، وهذا مُذكر، موجه، مرشد، معلم، منبه، ناصح، خبير، دلال على الخير نعم، وإلا لفقد الكثيرون الأجر إذا قاموا بالأشياء هذه فقط استجابة لرغبات بعض الناس، ولذلك كان علمائنا -رحمهم الله- يطلبون العلم الشرعي من أجل الدين، من أجل تعليم الناس، من أجل المنفعة، الدال على الخير كفاعلة، ويفتون ويقضون احتسابًا لوجه الله، لو استطاعوا أن لا يأخذوا من الدنيا شيئًا لما أخذوه.
وكان الشيخ الشنقيطي -رحمة الله تعالى عليه- يقول: أنا ليس علمي في قارورة، شهادة شرعية مغلفة بزجاج لا صدى ولا ندى كلا، ليس علمي مغلف في قارورة، وإنما يتعلم لوجه الله، ولذلك هذه مسألة مهمة لطلاب الكليات الشرعية، أن يتبغوا وجه الله، لا لمرتبة خامسة، ولا سادسة، ولا العاشرة، وإنما يبتغوا بتعلمهم وجه الله، وهذا يقوله شيخنا أبو عبدالله محمد بن صالح بن عثيمين يقول: "ولقد جربنا وجرب غيرنا، والأمر كما جربنا وجرب غيرنا أن تعلم العلم الشرعي في المساجد أنفع وأبرك"، وأنفع للقلب، وأرق وأفود من التعلم في الكليات، لماذا؟ لأن التعليم في المسجد لا يختلط به شيء من الدنيا، ليس هناك شهادة، ولا شيء فيجب الحرص على مثل هذا النوع من التعليم، وفقني الله وإياكم لكل خير، ولأن نرجو بأعمالنا وجهه ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، لا شريك له، ولا ند له، ولا مثل له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوان الله وجناته، الذي علمنا التوحيد، ونهانا عن الشرك، وبلغنا عمليًا كيف يوحد المسلم ربه، فصلوات الله وسلامه عليه.
موقف المسلم من المنافع الدنيوية للأعمال الصالحة
أيها الإخوة: ومما يتعلق بهذا الموضوع إرادة الإنسان بعمله الدنيا: ما يحصل في بعض العبادات من المنافع الدنيوية، مثلًا: الصوم ونحن مقبلون على شهر الصوم، نسأل الله أن يبلغنا وإياكم، الصوم له فوائد دنيوية فالصوم مثلًا: قد يخفف الوزن، قد يدرأ بعض الأمراض، ويسبب ويكون نوعًا من الحمية، له فوائد دنيوية.
والصلاة قد يكون لها فوائد دنيوية، من ناحية تحريك البدن ونحوه، وصلة الرحم لها فوائد دنيوية؛ لأنه ﷺ قال: صلة الرحم منسأة في الأثر مثراة في المال[5]، أنها تطيل العمر، وتغني واصلها، وبعض الأذكار الشرعية لها فوائد دنيوية: كبعض أذكار الصباح والمساء، وأذكار نزول المنزل مثلًا، فماذا ينبغي أن يكون موقف المسلم تجاه هذه العبادات التي لها منافع دنيوية؟
الحقيقة أيها الإخوة: أنه ينبغي أن يكون قصده بأداء هذه العبادة وجه الله سبحانه، ورجاء ثوابه، وطمعًا في جنته، وخوفًا من ناره، ورجاء الأمن يوم الفزع الأكبر، ولا يصح أن يكون قصده أبدًا بأداء العبادات هذه الأمور الدنيوية، يصوم لأجل الحمية، ويصلي لأجل الرياضة، ويصل الرحم لأجل المال، كلا وإنما هذه فوائد على الطريق، أشياء جانبية ستحصل -إن شاء الله، لكن حصلت أو ما حصلت فالمسلم يؤدي عبادته يرجو بها وجه الله، ولذلك فإننا نرى من الخطورة أن يقوم بعض الناس عند تذكيرهم المسلمين بالعبادات أن يقتصروا بالتذكير على المنافع الدنيوية، ويقول يا أخي الصوم مقبل، عليك بالصيام إنه ينقي البدن من الأمراض، إنه نوع حمية، إنه مفيد، إنه يخفف وزنك، يا أخي اذهب إلى صلاة الفجر، لقد أثبت العلم الحديث أن الذهاب لصلاة الفجر يسبب استنشاق غاز الأوزون المهم للجسم، والذي يعطيك صحة وقوة.
هذه أمور مضحكة في الحقيقة نحن نربط المسلمين بالله، والثواب بثوابه وجنته، لا نربط المسلمين بالفوائد الدنيوية، هذه الفوائد الدنيوية تحصيل حاصل، أمور ستأتي على الطريق، لكن عندما نكلم كفارًا أو فساقًا أو فجارًا لابأس أن نبين لهم بعض المنافع الدنيوية للعبادات، لماذا؟ لأن مثلهم مثل المؤلفة قلوبهم، المؤلفة قلوبهم يدخلون الدين بالمال في البداية، ثم يحسن إسلامهم، وإذا عز الإسلام فلا يصرف لهم شيء، ولذلك انظر إلى دعوة نوح كان يكلم أناس كفارًا, فماذا قال؟ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا [سورة نوح: 10،11] وهذه فائدة دنيوية وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ [سورة نوح: 12]، وهذه فائدة دنيوية، وبنين: وهذه فائدة دنيوية،وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ [سورة نوح: 12].
وهذه فائدة دنيوية، وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [سورة نوح:12]، وهذه أيضًا فائدة دنيوية، لكن السؤال هو: هل اقتصر نوح في دعوته على ذكر هذه الأشياء لفائدة التوحيد؟ إذا أردت الجواب فانظر إلى مقدمة السورة، في مقدمة السورة: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [سورة نوح:1- 3] لماذا؟ أول فائدة: يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ [سورة نوح:4] ولذلك قال أيضًا بعدها: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [سورة نوح:10، 11].
أول فوائد الأعمال الصالحة والتوحيد هي الفوائد الأخروية، وذكر الأشياء الأخرى كانت ترغيبًا لهؤلاء الكفرة، أما المسلمون الصادقون فلا يحتاجون إلى بيان المنافع الدنيوية للعبادات ليتحمسوا لها.
انتبه أيها الأخ: المسلم الصادق لا يحتاج لبيان المنافع الدنيوية للصيام لكي يصوم، لأنه يصوم أولًا لله -رب العالمين، للثواب، للجنة، خوفًا من النار، هذا الذي يدفعه للعمل ويحركه إليه، ولذلك نقول لكل أخ مسلم عندما تسمع مثلًا: بعض الأذكار الشرعية مذكور فوائدها أخروية، من قال حين يصبح وحين يمسي اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أعوذ بك من شر ما صنعت. إذا قال حين يمسي فمات دخل الجنة - أو: كان من أهل الجنة - وإذا قال حين يصبح فمات من يومه مثله[6]، هذه فائدة شرعية أخروية، عندما نرى ذكرًا آخر من قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء، في الأرض، ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم تصبه فجأة بلاء، حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات، لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي[7].
والذي يقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق[8] أيضًا يمنع عنه أشياء كثيرة، ومن نزل منزلًا في بر أو حضر قال هذا لا يصبه بلاء حتى يمشي من ذلك المكان، صلة الرحم منسأة في الأثر مثراة في المال[9]، إذا قلت هذه الأذكار، ووصلت الرحم، فاجعل رجاء الله نصب عينيك، الثواب الأخروي زائد الحماية في الدينا ليس هناك مانع، وانظر معي لهذه الآية فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة:200- 202] قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : "كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف في الحج.
فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاد حسن " فقط، أعراب، "لا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا فنزل الله فيهم هذه الآية"[10]، وأناس آخرون يقولون: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، هؤلاء يطلبون الآخرة ويطلبون الدنيا، هذا هو منهج المسلم، ثم قال ابن كثير رحمه الله: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] "فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، ومركب هنيء، وثناء جميل، ولا منافاة بينهما، إنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا، وكذلك: وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً [سورة البقرة:201] آتنا في الآخرة حسنة، أيش الحسنة في الآخرة؟ على رأسها الجنة، وثوب الله، والأمن في الفزع الأكبر، وتيسير الحساب، هذه كلها من الحسنة في الآخرة، وتختم وقنا عذاب النار، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن أنس قال: كان أكثر دعوة يدعو بها رسول الله ﷺ: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار[11]، وروى الشافعي بإسناده إلى عبدالله بن السائب أنه سمع رسول الله ﷺ يقول فيما بين الركن اليماني والحجر الأسود: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"[12]، ومن أجل ذلك جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد ومسلم عن أنس أن رسول الله ﷺ عاد رجلًا من المسلمين -واحد مريض من المسلمين اشتد به المرض، قد صار مثل الفرخ من الهُزال والضعف، فقال له رسول الله ﷺ: هل تدعو لله بشيء، أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: "اللهم ماكنت معاقبي به في الآخرة؛ فعجله لي في الدنيا" هذا مسكين نيته طيبة يريد التخلص من عذاب الآخرة، لكن أخطأ الطريق يظن أنه هكذا المسألة، يقول: يا رب كل عذاب تريد أن تعذبني به في الآخرة أنزله علي في الدينا الآن، فصار مثل الفرخ أوشك على الموت، فقال رسول الله ﷺ: سبحان الله -تقال عند التعجب- لا تطيقه- أو لا تستطيعه - أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار،قال فدعا الله بهذه الدعوة فشفاه الله [13].
فإذن ربنا آتنا في الدنيا حسنة، تشمل كل شيء في الدنيا من الحسنات، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، هذا منهج المسلم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
- ^ رواه أحمد: (23630).
- ^ السنن الكبرى للنسائي: (11177).
- ^ رواه مسلم: (214).
- ^ رواه أحمد: (15965).
- ^ مسند البزار: (8220).
- ^ البخاري: (6323).
- ^ رواه أبوداود: (5088).
- ^ رواه مسلم: (2708).
- ^ مسند البزار: (8220).
- ^ تفسير ابن أبي حاتم: (1874).
- ^ رواه أحمد: (119891)، والبخاري: (6389)، ومسلم: (2690).
- ^ رواه أحمد: (15399).
- ^ رواه مسلم: (2688).