الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة آل عمران:102].يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [سورة النساء:1].يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [سورة الأحزاب:70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
نعمة الهداية للإسلام
إخواني: إن نعمة الهداية لهذا الدين نعمة عظيمة، يمن الله بها على من يشاء من عباده، فيخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إليه صراطا مستقيما.
ونلاحظ أيها الإخوة في كثير من الأحيان، في كثير من الأشخاص، ونلحظها في أنفسنا نحن بدرجات مختلفة، أنه تمر بنا فترات يصبح المسلم فيها متحمساً متوقداً للعمل لهذا الدين، معطاءً، تتابعة خطواته الحسنة في هذا الدين، ويكون في فترة من الفترات مبتعداً عن الشبهات فضلاً عن المحرمات، مبتعداً عن المكروهات آخذاً بالمستحبات، ثم تأتي بعد ذلك فترات تفتر فيها العزيمة، وتقل فيها هذه الجهود المبذولة، فيتراجع المستوى، وينحدر هذا الإنسان، وقد يتردى في مهاوي الرذيلة والفساد، وينكص على عقبيه والعياذ بالله.
وسائل للثبات على هذا الدين
من أجل ذلك أيها الإخوة من أجل ذلك لابد أن نواصل الدعاء لله بالطلب منه أن يثبتنا على هذا الدين، لابد أن نواصل باللجوء إليه ونقول: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك؛ لأن القلوب أيها الإخوة كما قال ﷺ: أشد انقلاباً من القدر إذا استجمعت غليانه[1] إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب في تقلبه كمثل الريشة بأرض فلات تقلبها الريح ظهراً لبطن وبطناً لظهر وهكذا، ولذلك كان لابد للمسلم من التعرف على الأسباب التي تعينه على الثبات، والمواصلة في العطاء، فإنه لا يدرى متى يأتي الأجل؟ فإنه لا يدرى متى ينزل الموت؟ فإنه لا يدرى متى حتى يحال بين الإنسان وبين العمل؟ فإذا نزل الموت بهذا الإنسان ذهبت الفرص، وانقطع كل شيء، والعاقل من اغتنم، واتعظ، وسارع، وبادر، لذلك تجد النصوص الآمرة للعمل بالآخرة فيها هذه الألفاظ: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ [سورة آل عمران:133]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ [سورة الحديد:21]، فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الجمعة:9]، كلها ألفاظ فيها معاني المبادرة والسرعة وانتهاز الفرصة قبل مجيء الأجل.
هذا القرآن الذي أنزله ربنا أنزله علينا نعمة كبيرة، قل من عرف قيمتها وأدرك حقها، هذا القرآن كلام الله، يقول الناس: نحن لا نرى الله، نعم نحن لا نرى الله في الدنيا، ولكن عندنا من ربنا أثر وعندنا من ربنا كلام تكلم به ثم استدرك الآن وأدرك هل تقدر قيمة هذه الكلمات المكتوبة في هذا المصحف؟ هل تقدر قيمة هذه الكلمات التي تكلم بها الرب ؟ هذه الكلمات هذا الكلام الذي خرج منه ، فأنزله على رسولنا ﷺ هذا أثر من الله، هذا من عند الله، هذا الكلام الذي تكلم به الله يحتوي على موعظة من قصص الأولين والآخرين، تذكير باليوم الآخر، والجنة والنار، والمحشر والحساب، والجزء والصراط، تذكير بعاقبة المصلحين الصالحين وعاقبة المفسدين الجائرين، في هذا القرآن رد على شبهات الكفار والمنافقين، في هذا القرآن تبيان للهدى، هو نور وبصيرة أنزله الله على خلقه، هو كالمطر إذا نزل.
بل كالغيث إذا نزل على القلوب يحييها كما تحيى الارض بعد موتها، هذا القرآن فيه نبأ من قبلنا، وحكم ما بيننا، من تمسك به هدي، ومن تركه ضل وزاغ، لا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على مر الزمن، وأنت ترى من معجزات هذا الكتاب العزيز، أنك تقرأه لو قرأته آلاف المرات ما شبعت منه، ولو قرأت أعظم قصة كتبها أعظم روائي في العالم لا تستطيع أن تقرأها أكثر من عشرين مرة؛ لأنك تمل، لكن للمعجزة والعظمة في هذا القرآن مهما قرأناه هل تشعر يوماً أنك مللت منه وقلت: إن هذا كلام مكرر؟ كلا، بل إن معانيه تتجدد في النفوس، هذا القرآن عندما نتخيل أيها الإخوة، عندما نتخيل ما هو دور القرآن في صحابة الرسول ﷺ؟ مثال واحد عندما رجع المسلمون من معركة الحديبية دون أن يدخلوا مكة حصل في نفوسهم حرج، حرج عظيم على رجوعهم بغير دخول لمكة.
فماذا قال الله : وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا [سورة الفتح:20]، وعدهم بمغانم من غزوة الحديبية، وعدهم بمغانم قريبة يأخذونها وأخبرهم أنهم سيأخذونها قريباً، وأخبرهم أنهم سيخرجونهم فقط أهل الحديبية إلى هذه الغنائم، وأخبرهم أن المنافقين سيقولون لهم ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ [سورة الفتح:15]، وأخبرهم أنهم لابد أن يقولوا للمنافقين: قُل لَّن تَتَّبِعُونَا، وأخبرهم أن المنافقين سيقولون لهم: بَلْ تَحْسُدُونَنَا، وأخبرهم بالرد على المنافقين، ولما رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة بعدها بفترة بسيطة يجهز الجيش إلى خيبر، من هم الناس الذين ذهبوا؟ نفس الناس الذين كانوا في الحديبية، ما خرج معهم أحد آخر، إلى مغانم اليهود ليأخذوها، وفعلاً أخذوها وفعلاً كانت قريبة وكان الفتح من الله وفعلاً قال المنافقون: ذرونا نتبعكم، وفعلاً منعهم رسول الله.
وفعلاً قالوا: بَلْ تَحْسُدُونَنَا، وفعلاً رد عليهم المسلمون، تنزل الآيات ليجد المؤمنون مصداق ما في هذه الآيات في الواقع بالضبط كما أخبر ربكم هذا تثبيت أيها الإخوة.
التأسي بالرسل -عليهم الصلاة السلام
التأسي بدعوات الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم-، الرسل الذين صبروا أمام الطغاة، الذين نشروا دين الله، وبلغوا ما أنزل إليهم من ربهم، الذين ربوا أتباعهم على هذا الدين، هؤلاء الرسل الذي يقرأ في سيرتهم في القرآن الكريم، إنه يشعر بالثبات فعلاً إنه يشعر بالثبات وهو يتمعن في قول موسى لقومه لما قالوا له وقد هربوا من فرعون، فأتوا على البحر فصار البحر أمامهم، والعدو خلفهم، فرعون وجنوده فقالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [سورة الشعراء:60، 61]، فأوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر، فانفلق فعبر المسلمون، فاغتر فرعون فعبر وراءهم، فلما اكتمل عبور المسلمين أمر الله البحر فانطبق على الكفرة فأغرقهم الله، عندما نسمع قول موسى : قال كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ، إنه معنى من معاني الثبات يدخل في نفس المسلمين، التزام شرع الله والعمل الصالح، كلما واضب الإنسان على الأعمال الصالحة ولم يتركها كلما كان ثباته أكبر، ولذلك كان أحب الأعمال إلى رسول الله ﷺ أدومه وإن قل، وكان صحابة رسول الله ﷺ إذا عملوا عملاً أثبتوه والتزموه ولذلك تجد في الأحاديث من صلى ثنتي عشر ركعة بنى الله له بيتا في الجنة[2] السنن الرواتب.
وتجد في الحديث القدسي ولا يزال عبدي يتقرب إلي[3] لا يزال يتقرب حتى يحبه الله ؛ فإذاً هذه المواصلة على الأعمال الصالحة تسبب الثبات ولا شك، قال الله : يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء [سورة إبراهيم:27]، يثبت الله الذين آمنوا بأي شيء؟ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ماهو القول الثابت؟ هي الأعمال الصالحة، ويثبتهم في القبر عند السؤال، فلا يحيدوا عن الجواب الصحيح.
ملازمة طريق أهل السنة
وكذلك أيها الإخوة: فإن سلوك الصراط المستقيم سبيل أهل السنة ولجماعة هو الذي يضمن للمسلم حقيقة أن لا يعتريه الخبط ولا تعتريه الألاعيب، ولا تنطلي عليه الحيل، ولا تتذبذب مواقفه باختلاف الحوادث والأشخاص، ولذلك عليكم بسلوك هذا السبيل، واتباع من سلف، والسير على نهجه ﷺ وعدم الاغترار بقول كل ناعق يخرج فيستحدث لنا عملاً جديداً، بل لا تصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، لا يصلح هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، الثبات على المبدأ، الثبات على ما جاءنا من النهج، الثبات على السنة وعدم التغيير، ونحن نقرأ يومياً ونسمع عن أناس من هؤلاء الذين أزلهم الله فيتكلمون باسم الإسلام، يقولون عن تجديد الدين، ويدخلون من هذا الباب في أفكار تظل المسلمين يزعمون أنها من هذا الدين، أو يقولون بلفظ أدق: تطوير الدين، ما معنى تطوير الدين؟ أي: العدول عن سنة رسول الله ﷺ تطوير الدين، هذه من الدعاوى الباطلة.
ومن مداخل الشيطان العظيمة، وكذلك أيها الإخوة الدعاء بأن يثبتنا الله، الدعاء واللجوء إلى الرب هذا من آكد الوسائل وأعظمها؛ لأن القلب المتصل بالله اللاجئ إليه سبحانه، اليدان اللتان ترفع للطلب من الله لا تخيبان، وإن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً، فلا بد فلابد أن يجيبه الآن أو يؤخرها له أو يعوضها عنه بدفع مصيبة أو أجر في الآخرة، وكذلك فإن في ذكر الله ملاذا عظيماً فهو كالحصن، ذكر الله إذا دخل فيه العبد لا يستطيع الشيطان أن يقتحم عليه، ولا أن يغويه ولا أن يظله، ولا أن يزله، ذلك هو ذكر الله .
تأمل ماذا قال يوسف لما دعته امرأة العزيز، وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [سورة يوسف:23]، ماذا قال يوسف؟ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ، أعوذ بالله أعتصم بالله ألتجئ إلى الله، أعوذ بالله قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ؛ فإذن أيها الإخوة:
أهمية الذكر في الثبات على الدين
كم نحتاج إلى الإكثار من ذكر الله؟ إن شعائر الإسلام قد كثرت علي، أعطني يا رسول الله شيئاً أتمسك به، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله[4]، هل تستطيع أن تسير في السوق وتنظر إلى المرأة الأجنبية وتحدق فيها باللذة والشهوة المحرمة ولسانك يجري بذكر الله؟ هل تستطيع أن تدفع رشوة أو تقبضها ولسانك يجري بذكر الله، هل تستطيع أن تذهب في مشوار محرم ولسانك يجري بذكر الله؟ هل تستطيع أن تقول غيبة أو نميمة أو كذباً ولسانك يجري بذكر الله؟ لا، هذه وصايا رسول الله ﷺ وصايا أيها الإخوة من تدبرها عرف ما وراءها، عرف ما معنى أنه أوتي جوامع الكلم، لا يزال لسانك رطباً بذكر الله، وكذلك فلابد أن نربي أنفسنا على هذا الدين، التربية مشوار طويل أيها الإخوة، مشوار عظيم يأخذ المسلم طيلة حياته وهو يربي نفسه يربي أولاده، يربي زوجته، يربي أقرباءه، بل إن المدير إذا أراد وجه الله ربى الموظفين عنده، بل إن رب المنزل إذا أراد وجه الله ربى حتى السائق الذي عنده.
وكم من المؤلم أيها الإخوة: أن نخرج فنرى السائق يمازح الخادمة عند باب البيت، إنه مظهر مؤلم والله، هل يظن رب البيت أنه سيفلت في الموقف عند الله؟ وإن المدرس ليستطيع أن يربي تلاميذه إذا أراد وجه الله، يستطيع إمام المسجد أن يربي من معه إذا أراد وجه الله، يستطيع كل إنسان بحسب مسؤوليته أن يربي من تحته إذا أراد وجه الله، يستطيع أن يحملهم على الخير وأن يجنبهم الفواحش، يستطيع أن ينصحهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، يستطيع أن يعطيهم ما يقرأون وما يستمعون من أعمال الخير، يستطيع أن يأتي بهم إلى مجالس الذكر والحلق، يستطيع لكن من الذي يعمل؟ أين العاملون لهذه التربية؟ على الكتاب والسنة، أين هم؟
ملازمة الأخيار
وكذلك فإن الالتفاف حول المؤمنين الصادقين من أهم ما يعين على الثبات، هناك عباد لله مفاتيح للخير مغاليق للشر، تنطق ألسنتهم بالحكمة، وأعمالهم بالصدق، توافق أعمالهم أقوالهم، إن سألتني عن الشخص الصادق إن سألتني عن هذه النوعية لا أقول لك: هو من يتكلم بالخير، وإنما أقول لك: هو من يوافق عمله قوله بالخير، هذا هو الشخص الصادق، نحتاج أن نبحث جميعاً أيها الإخوة عن هؤلاء في المجتمع، أين هم؟ أين يوجدون؟ ما هي أمكنتهم؟ نذهب إليهم فنزورهم، نخالطهم، نعاشرهم، لكي نثبت، هؤلاء عناصر مثبته ينبغي الالتفاف حولهم، لقد ثبت الله المسلمين بأبي بكر يوم الردة، فالتف المسلمون حوله فقضوا على أخطر فتنة ظهرت بعد وفاة الرسول ﷺ ارتد أكثر العرب ما بقي إلا مكة والمدينة وأناس متفرقون من المسلمين.
وثبت الله المسلمين يوم المحنة بالإمام أحمد -رحمه الله- لما أراد الطاغية المأمون أن يجمع الناس على عقيدة باطلة، القول بخلق القرآن وقف الإمام أحمد يقول ربي الله هذا كلام الله هذا القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وضعوه في الأغلال في السلاسل في السجن، وضعوا عليه حصيرة، داسوا عليه من فوق الحصيرة حتى أوشك أن يموت، وكان هذا يقول للجلاد يصف الجلادين، يتقدم كل واحد منهم يضرب الإمام أحمد بكل ما يملك من قوة، ثم يأتي الذي وراءه، حتى لا تكون الضربة التي بعدها أخف فيستريح هذا ويضرب ذاك، والواقف على رأسهم يقول للجلاد: شد يدك، قطع الله يدك، والإمام أحمد ثابت والناس ينظرون ماذا يقول الإمام أحمد؟ لما يثبت فئة من الناس يثبت كل الناس الآخرين، ولو كانوا قلة ولو كانوا مستضعفين لكن يحصل بهم المقصود.
نحتاج أن نبحث أيها الإخوة في المجتمع، قد لا يكونوا هؤلاء ظاهرين، قد لا يكون هؤلاء ممن يدندن حولهم لكنهم عباداً صدقاً لله، طلقوا الدنيا وعاشوا للآخرة، نقصد بطلقوا الدنيا ابتعدوا عن المعاصي، ولم ينشغلوا بالدنيا عن طاعة الله، وإلا فمن طاعة الله الزواج وتربية الأولاد والإنفاق على الأهل، نحتاج أن نبحث عن هؤلاء أيها الإخوة، يقول ابن القيم -رحمه الله: عن شيخه، شيخ الإسلام ابن تيمية : وكنا إذا ساءت بنا الظنون وضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت علينا أنفسنا لأن المبتدعة كانوا يشنون الحروب النفسية على شيخ الإسلام وتلاميذه، كان تلاميذه يشعرون بالوحشة، يقول ابن القيم -رحمه الله: كنا إذا ضاقت بنا الأرض، ضاقت علينا أنفسنا، ساءت بنا الظنون، نذهب إليه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك عنا، ما أحوجنا إلى هذه النوعية من الناس، أناس إذا جلسنا معهم ازددنا إيماناً، أناس إذا جلسنا معهم اندفعنا بعدهم إلى الأعمال الصالحة، أولياء الله الذين إذا رؤا ذكر الله حديث صحيح، أولياء الله الذين إذا رأو رأيت أعمالهم إذا رأو ذكر الله .
نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ونسأله أن يعصمنا وإياكم عن الوقوع في الزلل والمنكرات والفواحش، وأن يميتنا على الملة الحنيفية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأرجوا من إخواني أن يتقدموا إلى الأمام حتى يدخل إخوانهم الواقفون، أفسحوا المجال لإخوانكم للدخول إلى ميمنة المسجد وميسرته.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، اسبحه وأثني عليه الخير كله على ما رزقنا ووهبنا وأنعم علينا وهدانا إلى هذا الدين، وأصلي وأسلم على رسوله محمد ﷺ سيد الثابتين وإمام المتقين الذي جاهد في الله حق جهاده فبلغ إلينا ما أنزل إلينا من ربنا وعلمنا كيف نثبت على هذا الدين فصلوات الله وسلامه عليه وعلى أصحابه الطيبين الطاهرين الذين ثبتوا من بعده، وعلى من سار على نهجهم وتبعهم سنتهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة:
الصبر والتأمل في نعيم الجنة
يحتاج المسلم لكي يثبت أن يتخلق بالأخلاق المعينة على الثبات، وعلى رأسها الصبر، ما أعطي أحد عطاء قط أوسع من الصبر ولا خيراً من الصبر كما أخبر ﷺ.
الصبر على طاعة الله والقيام بحقه، والصبر عن معصية الله، وعدم الوقوع في المنكرات والآثام، والصبر على المصائب، استجماع الإيمان بالقضاء والقدر عند نزول المصيبة، هذا الصبر نحتاج إليه جداً، وإلا فإن هناك كثيراً من القلوب الخاوية على عروشها لا يوجد فيها من أنواع هذا الإيمان إلا أشياء نادرة، عند حدوث الحادثة ونزول المصيبة، وعندما تشتد الأمور لا ترى حولك أحد من هؤلاء، ولذلك يحكي ابن الجوزي -رحمه الله تعالى- يقول: ورأيت شيخاً جاوز الثمانين من عمره يحافظ على الجماعة مات ولد لابنته حفيد مات ولد لابنته وكان عزيز عليه جداً، يقول الرجل هذا ما عنده إيمان بالقضاء والقدر، عباداته عادات لا معنى لها في الواقع، فلما حدثت هذه الحادثة واللسان يزل بسهولة والله إذا لم يثبت الإنسان فمن ذا الذي يعصمه؟ قال هذا الكبير في السن: ما ينبغي لأحد أن يدعوا فإنه لا يستجيب، ثم قال: إن الله يعاند فما يترك لنا ولد، هذه الكلمات التي توبق الإنسان في دنياه وآخرته قد تظهر بسهولة شديدة جداً في أدنى مناسبة، أدنى زلة.
في مناسبة يزل اللسان بها فتعبر عما في القلب من الخواء، ولذلك أيها الإخوة لحظات المحنة تكشف معادن الرجال، لحظات المحنة تكشف معادن الرجال، أين تظهر الحقائق؟ عند اشتداد الأمور في الرخاء كل الناس مؤمنون لكن في الشدة تظهر حقائق القلوب، ويظهر الله مافي داخلها من الإيمان أو الكفر، ولذلك كان الابتلاء ضرورياً للتمييز، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [سورة محمد:31].
وكذلك فإن التأمل في نعيم الجنة له أثر عظيم، التأمل في نعيم الجنة أيها الإخوة يثبت الإنسان، ماذا كان يقول رسول الله ﷺ لآل ياسر المعذبين في مكة عندما يمر عليهم؟ أناس من المستضعفين، أب وأم وولد من المستضعفين، ياسر وولده عمار وأمه سمية من المستضعفين في مكة، يطرحون على الرمل الحار في وسط النهار عراة الظهور والبطون، ويعذبون بالسلاسل يفتنون عن دينهم، ما الذي ثبتهم؟ كان ﷺ يتابع أصحابهم، لا يتركهم حتى في لحظات المحنة، كان يمر عليهم وهم يعذبون، لا يستطيع أن يفعل لهم شيئاً كان مستضعفاً ﷺ لا يستطيع أن يفعل لهم شيئاً، لكن كان يقول لهم: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة[5].
هذه الكلمات التثبيتية، التذكير بنعيم الجنة وما أعد الله، جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ [سورة ص:50]، والملائكة يستقبلونهم سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [سورة الرعد:24]، أول ما ينحر له ثور الجنة الذي يأكل من أطرافها[6]، كما ورد في الحديث الصحيح وأول ما يقدم لهم زيادة كبد الحوت[7]، ولا أطيب منها في الجنة تقدم لهؤلاء المؤمنين هذا أول قرى الضيف وهو ضيوف الله ، ثم ينزلهم مساكنهم في الجنة فيأخذون مساكنهم فيها وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ [سورة الإنسان:19] بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ [سورة الواقعة:19، 20]، وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا [سورة الإنسان:15، 16]، هذه القوارير من فضة.
فإننا نعرف أن القارورة من زجاج، وأنها تشوف ما بداخلها هذه هي القارورة، لكن قارورة من فضة مصنوعة من فضة ويرى ما بداخلها ما وجدنا هذا في الدنيا حتى الآن، قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ، قوارير شفافة ينظر ما بداخلها مصنوعة من فضة حتى بالاسم لا يوجد مثلها، وأنهار من عسل وأنهار من لبن وأنهار من خمر وأنهار من ماء كلها لذة للشاربين، وحور عين مقصورات في الخيام، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ [سورة الصافات:49]، فُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ [سورة الواقعة:34] وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ [سورة الغاشية:14]، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [سورة الغاشية:14- 16]، وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاء مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ [سورة الواقعة:29- 33]، وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [سورة الإنسان:20].
لمن أعدها الله؟ لهؤلاء الثابتين على طاعته، إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [سورة الكهف:30]، هؤلاء الذين يمشون إلى زيارة إخوانهم المرضى سيجدون مشاويرهم في الجنة، والذين يذهبون إلى المساجد سيجدونها نوراً هناك، من غدى إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح[8]، بشر المشائين بالظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة[9]، كل هذه الخيرات مسجلة عند ربك، والله يضاعف لمن يشاء، ليس لسبعمائة ضعف بل إلى أضعاف كثيرة إذا خلص إيمان العبد وحسنت نيته.
فلذلك نحن نفرح كثيراً عندما نجد هذه الطلائع الخيرة إقبال الناس على الخير، يزور مريضاً، يشيع جنازة، يقضي ديناً عن أخيه المسلم، يطرد جوعاً، يتصدق، يدعم إخوانه المسلين في كل مكان في أرجاء الأرض، يزيل ظلماً عن مسلم، يمشي معه في قضاء حاجته، يدعوا الناس إلى الله، يعلمهم، يدعوهم بالكتاب وبالشريط الإسلامي، وبالنصيحة، من الذي يخطر الآن في باله؟ أن يتوجه هو وأخ له في الله إلى موظف أو مسؤول فيدخل عليه في مكتبه فيعظه بينه وبينه بالحسنى ويذكره بالله، من الذي يجاهد في سبيل الله حق جهاده؟ إننا نحتاج حقيقة أيها الإخوة لأعمال وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المزمل:20] وقبل أن أنهي كلامي أيها الإخوة: أذكر بنقطتين خارجتين عن الموضوع لكن لهما أهمية:
الأولى: هناك أوراق تظهر بين كل مناسبة وأخرى، وتوزع بين المسلمين، فيها دجل وخرافة وكذب، وقد حذر منها علمائنا -حفظهم الله تعالى- وأصدروا في ذلك البيانات الرسمية بعدم صحة ما جاء فيها، ومن ذلك الأوراق المكتوب فيها وصية أحمد حامل مفاتيح الحرم النبوي، وأنه رأى رؤيا إلى آخره وأن من لم يوزعها ويصورها حصل له من النكبات والمصائب، ومن وزعها وصورها ونشرها يحصل له خير عظيم، هذه الورقة تتوزع تتوزع حتى في الدكاكين عند هذه ماكينات الحسابات، تجدها ليأخذ منها هؤلاء المغفلون من المسلمين، تختفي الورقة تظهر ورقة أخرى، أن امرأة مرضت فرأت زينب في المنام،
وأنها قالت لها إلى آخره، وأن من لم يصور هذه الورقة ثلاثة عشرة نسخة ويوزعها حصلت فيه نكبات ومصائب، وجاءني أحد الإخوان وقال لي: إن هناك من وزع عليهم في بيوتهم في الليل هذه الأوراق التي فيها هذا الدجل وهذه الخرافات، المشكلة أن الناس فيهم جهل، وفيهم ضعف إيمان وعدم وعي، فهو إذا قرأ المسكين بأنه سيصاب بالمصائب من وراء عدم توزيع هذه الأوراق قال: لا، أذهب وأصور ثلاثة عشر نسخة ويوزع بين الناس، ولذلك عليكم بالإنتباه لمثل هذه الخرافات وهذا الدجل وتحذير المسلمين من ذلك، ومزقوها أمام أعينهم ليكون التعليم في الفعل أكثر من القول.
وثانياً: أن كثيراً من الناس يتسألون عن الأعمال في شهر رجب، هل فيها حض هل فيها أجر مخصوص أو فضل معين؟ فنقول: إن بعض البدع التي شاعت بين الناس من صيام أيام معينة في رجب، أو أداء عمرة في شهر رجب ويسمونها العمرة الرجبية، كل ذلك بدعة لا أساس لها من الصحة، ولم ترد في شيء عن رسول الله ﷺ، بل إن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- من كثرة ما رأى من البدع في شهر رجب اضطر لتأليف رسالة اسمها: تبيين العجب بما ورد في فضل رجب، من كثرة البدع المنتشرة بين الناس في شهر رجب، لذلك عليكم إخواني أن تنصحوا إخوانكم وأن تعلموهم وأن تقولوا لهم: إن رجب كغيره من الشهور، الصيام في رجب كالصيام في جمادى الأولى، العمرة في رجب كالعمرة في جمادى الثانية، ليس هناك مزية معينة على عبادة في رجب، إن الصيام فيه مشروع والعمرة فيه مشروعة، لكن لا لتخصيص الشهر وإنما متى ما تيسر ظروف الإنسان اعتمر في رجب أو غيره إلا ما ثبت في الحديث بفضله كقوله ﷺ: عمرة في رمضان تعدل حجة[10] وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.