الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
أهمية البيان
قال النبي ﷺ: لا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين [رواه البخاري7416] فقام الأنبياء بالبيان، وبعدهم كان العلماء وطلبة العلم وكل من علم حقاً لزاماً عليهم أن يسيروا على طريق الأنبياء وأن يبينوا.
قال تعالى: وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَسورة آل عمران187، لقد أمروا بالإيمان بمحمد ﷺ، هؤلاء أحبار اليهود، وأن يبينوا أمره، وكان في التوراة بيان صفته عليه الصلاة والسلام ومكان بعثته وصفة أصحابه، ولكنه لما بعث وعرفوه بصفته وعرفوه بأصحابه ومكان بعثته كتموا أمره وكفروا به.
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ سورة البقرة159هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم أن يبينوا للناس الحق، أن يبينوا للناس أحكام الشريعة ولا يكتمون ذلك، فمن كتم ما أنزل الله وغش عباد الله فأولئك يلعنهم الله، أي: يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته، ويلعنهم اللاعنون جميع الخليقة، وأما الذين يعلمون الناس الخير ويبينون الحق فإن الله يصلي عليهم وملائكته تصلي عليهم، حتى الحيتان والأسماك وسائر الحيوانات والبهائم، حتى النملة في جحرها، كل جزاؤه من جنس عمله.
وتوعد الله الذين يكتمون ما أنزل لقاء شيء من الحياة الدنيا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَسورة البقرة174 فالذي يريد الحطام الدنيوي ليكتم ما أنزل الله ويخفي الحق أو يقول الباطل، ما يأكلون في بطونهم إلا النار فالثمن الذي اكتسبوه من أعظم المحرمات، وسيكون ناراً في بطونهم يوم القيامة، ولا يكلمهم الله بل يسخط عليهم ويعرض عنهم، ومن أعرض الله عنه فالنار مثواه.
وقد كان أحبار اليهود لهم منزلة فيما بين اليهود أنفسهم وعند العرب، وكانوا يأخذون من العرب هدايا وتحف؛ لأنهم يطمئنون العرب على شركهم وكفرهم، وإذا جاء كفار قريش للأحبار يقولون: أنحن خير أم محمد؟ يقولون: أنتم خير منهم.
وقال النبي ﷺ: من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار[رواه الترمذي2649]حديث صحيح، والجزاء من جنس العمل، فكما ألجم نفسه بالسكوت عن الحق ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة، وقد قال الله سبحانه: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ سورة البقرة213، وقال : لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَسورة النحل39، إذن بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِسورة الزخرف63.
وظيفة النبي ﷺ
ما هي وظيفة النبي ﷺ؟
قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَلماذا؟ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سورة النحل44 ولذلك فإن النبي ﷺ اتخذ كافة الوسائل في البلاغ والبيان، وصعد على الصفا وجمع الناس ونادى بطون قريش حتى جعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، وجاءت قريش وأبو لهب، فقال النبي ﷺ: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا، فنزلت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّسورة المسد1.[رواه البخاري4770].
وكان النبي ﷺ يطوف على القبائل، يقول ربيعة بن عباد الديلي: إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول الله ﷺ يتبع القبائل ووراءه رجل أحول وضيء ذو جمة، يقف رسول الله ﷺ على القبيلة ويقول: إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وأن تصدقوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به فإذا فرغ رسول الله ﷺمن مقالته قال الآخر من خلفه: يا بني فلان إن هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الحي بني مالك بن أقيش إلى ما جاء من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه، فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب.[رواه أحمد15595].
ورحل النبي ﷺ إلى بقاع أخرى، وذهب إلى الطائف ليبلغ الحق، ولم يكن يحابي أحداً لا كبيراً ولا صغيراً، جاء أبي بن خلف بعظم نخر فجعل يذره في الريح ويقول للنبي ﷺ: "أنّى يحيى الله هذا؟ قال النبي ﷺ: نعم يحيي الله هذا ويدخلك النار [الطبري في التفسير20/554]، ونزل قوله تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍسورة يــس79.
نماذج من بيانه ﷺ
وكان ﷺ يناظر لأجل بيان الحق، كما ناقش وفد نصارى نجران لما جاؤوا إليه في شأن عيسى ، وقال الله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَسورة آل عمران59 يا أيها الذين اختلفتم في عيسى ولم تفهموا حقيقته، عندكم شكوك وشبهات كيف جاء من مريم بلا أب؟ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ سورة آل عمران59، بل خلق آدم بلا ذكر ولا أنثى، فإذا كنتم تؤمنون بخلق آدم فأولى منه أن تؤمنوا بخلق عيسى، ولما عاندوا وأصروا نزلت آية المباهلة: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ سورة آل عمران61 فيجتمع المختلفين يدعو كل منهما على المبطل منهما بلعنة الله أو بهلاكه، أن يهلك الله المبطل من الفريقين، أي: الذي على الباطل، قضية كبيرة باهل النبي ﷺ من أجلها وخرج بفاطمة ومعه الحسن والحسين: أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم، لكن وفد نصارى نجران تخاذلوا وخافوا ولم يخرجوا للمباهلة.
وكان النبي ﷺ يكرر الكلمة، إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه، من أجل البيان، وكذلك فإنه ﷺ كان يتكلم بقول فصل لو عده العاد لأحصاه، ولم يكن يسرد سرداً يهذ هذاً يستعجل استعجالاً لا يفهم معه السامع، وكان يرفع صوته للبيان، قال عبد الله بن عمر: "تخلف عنا النبي ﷺ في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار، مرتين أو ثلاثاً.[رواه البخاري60 ومسلم241].
وكذلك فإنه صنع المنبر ليصعد عليه ليكون أبين وأوضح، وكان ﷺ أبعد الناس عن أساليب التعمية والإلغاز والإشارات الخفية، ولما فتح ﷺ مكة كان هناك نفر قد سبوا النبي ﷺ فأمر بإهدار دمائهم، ومنهم ابن خطل أمر أن يقتل ولو رأوه متعلقاً بأستار الكعبة فقتل.
وكانت ممن أهدرت دماؤهم ابن أبي سرح: "اختبأ عند عثمان فلما دعا رسول الله ﷺ الناس إلى البيعة جاء به عثمان حتى أوقفه على رسول الله ﷺ فقال: يا نبي الله بايع عبد الله، يريد أن يشفع له لعل الله يتوب عليه بدلاً من أن يقتل على الكفر، فالنبي ﷺ رفع رأسه فنظر إليه ولم يبايعه، وعثمان يقول: يا نبي الله بايع عبد الله، والنبي ﷺ ينظر إليه ولا يبايعه، يا نبي الله بايع عبد الله، لما صار ثلاثاً بايعه ﷺ، ثم أقبل النبي ﷺعلى أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله -ما رأيتموني لم أبايعه-، قالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك -إشارة خفية بالعين-، قال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين [رواه النسائي4067 وأبو داود2683]، هذا ليس من شأن النبي، النبي واضح في كلامه واضح في أفعاله، ليس عنده إشارات خفية، النبي من شأنه البيان، وحتى لما مات ﷺ عند موته ولسانه يقبض مع روحه جاهد لكي يقول لنا: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم[رواه أحمد586].
ومن بيانه ﷺ: أنه لا يمكن أن يؤخر ما يحتاج إليه الناس عن وقت الحاجة، وهذه القاعدة العظيمة لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، استدل العلماء بها في مواضع كثيرة، فمثلاً: لما سئل النبي ﷺ عن دم الحيض يصيب الثوب كيف تصلي به المرأة، أمر بحته وقرصه وغسله بالماء، ولم يأمر بعدد معين، قال الذين يقولون بعدم تعيين عدد معين لغسلات الثوب النجس قالوا: لو كان العدد المعين معتبراً لأمر به النبي ﷺ وبينه؛ لأنه لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، وعندما احتج الذين يقولون: أن ألبان الإبل لا يلزم منها الوضوء، قالوا: إنه وصفها للعرنيين علاجاً، ولو كان يجب منها الوضوء لبينه، وتلاحظوا هذا في استدلالات العلماء، لو كان لبينه؛ لأنه ﷺ لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة.
عمر بن الخطاب وهو يودع الدنيا، لما دخل عليه شاب وهو ينزف على وشك الموت رآه مسبلاً، قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك؛ فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك، وهو في هذه الحال.
ويجب على المفتين عندما يسألوا ويعرفون الحق أن يجيبوا بلا مواربة، أن يجيبوا بلا تلاعب، أن يجيبوا بصريح العبارة، أن يجيبوا جواباً يفهمه الناس، إن من المصائب اليوم أن يسأل بعض المفتين فيسكت، ويسأل بعضهم فيجيب إجابة مغماة معماة لا يعرف ما هو القصد فيها، ومن أكبر المصائب في هذا الباب أن يسأل فيجيب بالباطل إرضاء لفلان وعلان.
أضرار عدم البيان
عباد الله: إن أضرار عدم البيان شنيعة، منها: خفوت دين الله، وخفاء الحق، واستشراء المنكر؛ لأنه لم يبين فهو يستشري وينتشر، ومنها: خذلان أهل الحق لو بين لانتعش أهل الحق وانتصر أهل الحق وكان ذلك دعماً لهم، ومن أكبر المصائب لعدم التبيين وقوع العامة في الضلال، ويتخذ الناس رؤوساً جهالاً يفتون بغير علم فيضلون ويضلون، وكان الإمام أحمد رحمه الله يقدر موقعه في الأمة وأن الناس ينظرون إليه؛ ولذلك لما طلب منه القول بخلق القرآن أبى، ولما هدد بالقتل وقال له تلميذه: يا أستاذ قال الله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْسورة النساء29 قال: يا مروذي اخرج فانظر، فخرج إلى الساحة قال: فرأيت خلقاً لا يحصيهم إلا الله والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر، قال لهم المروذي: ماذا تعملون؟ قالوا: ننظر -أي: ننتظر- ما يقول أحمد فنكتبه، قال خلق القرآن نكتب بخلق القرآن، قال بعدم خلق القرآن نكتب بعدم خلق القرآن، فقال الإمام أحمد: يا مروذي أضل هؤلاء كلهم؟
والبويطي رحمه الله الشافعي لما امتحن في قضية خلق القرآن لم يجب، فقال له: والي مصر المكلف من قبل الخليفة بامتحانه وتعذيبه حتى يقر، قال له وكان بينه وبينه علاقة حسنة: قل فيما بيني وبينك، لماذا؟ بيني وبينك، لماذا لا تريد أن تكتب وتقر بما أمر به الخليفة؟ قال: إنه يقتدي بي مائة ألف ولا يدرون المعنى، ناس من العامة تقلدني لا تستطيع أن تميز، فأمر به فحمل إلى بغداد، فقال البويطي رحمه الله: لئن دخلت عليه -يعني الخليفة- لأصدقنه ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم.
ونقل ابن كثير رحمه الله عن وهب: أتي رجل من أهل زمانه إلى ملك كان يفتن الناس على أكل لحم الخنزير، فأعظم الناس مكانه وهالهم أمره، وهذا الرجل كان عالماً شريفاً يحبه الناس، والملك يريد أن يفتن الناس على أكل لحم الخنزير، وأشفق الناس على هذا العالم، فقال له صاحب شرطة الملك سراً بينه وبينه: أيها العالم اذبح جدياً مما يحل لك أكله ثم ادفعه إلي حتى أصنعه لك على حدة فإذا دعا الملك بلحم الخنزير أمرت به فوضع -أي: الجدي- بين يديك فتأكل منه حلالاً، ويرى الملك والناس أنك إنما أكلت لحم الخنزير، فذبح ذلك العالم جدياً ثم دفعه إلى صاحب الشرطة فصنعه له وأمر الطباخين إذا أمر الملك بأن يقدم إلى هذا العالم لحم الخنزير أن يضعوا بين يديه لحم ذلك الجدي، واجتمع الناس لينظروا أمر هذا العالم هل يأكل أم لا، وقالوا: إن أكل أكلنا وإن امتنع امتنعنا، فجاء ملك فدعا لهم بلحوم الخنازير فوضعت بين أيديهم ووضع بين يدي ذلك العالم لحم ذلك الجدي الحلال المذكى، فألهمه الله فقال: هب أني أكلت لحم الجدي الذي أعلم حله أنا، يقول لنفسه، فماذا أصنع بمن لا يعلم؟ والناس إنما ينتظرون أكلي ليقتدوا بي وهم لا يعلمون إلا أني إنما أكلت لحم الخنزير فيأكلون اقتداء بي فأكون ممن يحمل أوزارهم يوم القيامة، لا أفعل والله وإن قتلت وحرقت بالنار، وأبى أن يأكل، فجعل صاحب الشرطة يغمز إليه ويومي إليه ويأمره بأكله، أي: إنما هو لحم الجدي فأبى أن يأكل، ثم أمره الملك أن يأكل فأبى، فألحوا عليه فأبى، فأمر الملك صاحب الشرطة بقتله، فلما ذهبوا به ليقتلوه، قال له صاحب الشرطة: ما منعك أن تأكل اللحم الذي ذكيته أنت ودفعته إلي، أظننت أني أتيتك بغيره وخنتك فيما ائتمنتي عليه؟ قال له العالم: قد علمت أنه هو، ولكن خفت أن يتأسى الناس بي، وهم إنما ينتظرون أكلي منه ولا يعلمون إلا أني إنما أكلت لحم الخنزير، قال: وكذلك كل من أريد على أكله فيمن يأتي من الزمان يقول: قد أكله فلان، فأكون فتنة لهم، فقتل رحمه الله، ونقل ابن كثير بعدها العبارة: اتقوا زلة العالِم فإنه إذا زل، زل بزلته عالَم.
إن بيان الحق أمر عظيم، وخصوصاً في هذا الزمان الذي كثر فيه الجهل وقل فيه العلم، وكثر فيه أهل الباطل ونعيقهم، وقد قال عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة في زمن عافية الأمة وقوتها، قال: إني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره، فهو يستشعر عظم المسئولية، كيف سيغير الآن في واقع انحرافات ظنها الناس حقاً، فماذا نقول نحن عن عصرنا؟
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم نسألك قول الحق والعمل به يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أشهد أن لا إله إلا هو العليم الحكيم، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه وعلى خلفائه وذريته الطيبين وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أسباب كتم الحق
عباد الله: هل من أسباب لكتم الحق؟ هل من أسباب لكتم العلم وعدم الإخبار بالحكم؟
أولاً: إذا سئل الإنسان وهو لا يعلم فيجب أن يقول: لا أعلم، ولا يتكلم بما لا يعلم، فكيف يقول لنفسه: إن سكت كتمت العلم ولا يوجد عنده علم أصلاً، وكذلك إن كان يظن ظناً والسائل يجره قل فيها أفتي فيها هيا عجل، فإنه لا ينزلق ولا يتكلم إلا بما يقطع أنه يعرفه وأنه حق، وكذلك فإن من أعذار عدم الإخبار بالحكم أن تكون المسألة المسئول عنها لم تقع بعد، فإذا كانت لم تقع بعد بعيدة الوقوع فرضية من الفرضيات التي يفرضها بعض السائلين المماحكين فإنه يسعه أن يسكت أي العالم.
وكذلك من الأسباب التي تبرر عدم الإخبار: أن يتبين للمسئول أن السائل لا يطلب الحق، يريد فتوى ليستغلها، أو يأتي على نية إذا قال لنا الشيخ ما نحب أخذنا به وإلا تركناه، هذا فعل اليهود قالوا: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ يعني: ما يعجبكم، وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْسورة المائدة41 اذهبوا إلى محمد ﷺ فاستفتوه، إن أجابكم بما تريدون خذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا، فماذا قال الله لنبيه ﷺ؟ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ أنت بالخيار، أنت غير ملزم بالبيان هنا لقصد السائل الباطل، وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَسورة المائدة42 وبعض السائلين بينهم مراهنة محرمة قمار، يأتون للسؤال: إن قال الشيخ برأيي تعطيني كذا وإن قال برأيك أعطيك كذا.
وكذلك فإن من الأسباب المبيحة لعدم الإخبار بالجواب: ألا يكون الجواب مؤدياً إلى مفسدة أعظم، وقد ترك النبي ﷺ هدم الكعبة وإعادة بنيانها على أساس إبراهيم الخليل خشية هؤلاء حدثاء العهد بالجاهلية من قريش الذين أسلموا لتوهم، فربما يفتنوا ويرتدوا.
ومن خوف المفسدة: أن يكون عقل السائل لا يحتمل الجواب، ولما جاء حديث: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، فقال معاذ: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا[رواه البخاري2856 ومسلم30]إذن يمكن أن تفهم القضية خطأ، مثال ذلك حديث: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة[رواه بمعناه أحمد15412] لو قاله اليوم واحد على العامة دون بيان قالوا: هذا الذي نريد، لكن عندما يبين لهم أن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة حديث تبينه أحاديث أخرى، وأحاديث الشريعة يبين بعضها بعضاً، ولا يجوز أخذ نص دون نص آخر له علاقة به، وأن هناك حق للا إله إلا الله؛ لأنه قال في الحديث الآخر: إلا بحقها، وهناك شروط للا إله إلا الله، وهناك نواقض للا إله إلا الله.. وهكذا.
أما التعذيب والإكراه فإنه يجوز في حالات أن يكتم العلم إذا خشي التعذيب الذي لا يطيقه أو القتل، إلا إذا كان جوابه سيترتب عليه إضلال الأمة فإنه يجب عليه أن يتحمل القتل ويجود بنفسه لله تعالى ويتكلم بالحق لا غير.
وكذلك لو كان الشيء الذي يخشى القتل من أجله لا يترتب عليه فوات علم يحتاجه الناس، وهذا مثل ما قال أبو هريرة : "حفظت من رسول الله ﷺ وعائين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم"[رواه البخاري120] يعني: القتل، ماذا أراد أبو هريرة بالوعاء الثاني؟ أشياء لا تتعلق بها حاجة الناس، ليس فيها أحكام من حلال وحرام، أو عقائد يجب على الناس أن يؤمنوا بها، وإنما فيها بيان أسماء أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وكان أبو هريرة لا يصرح به علناً خوفاً على نفسه، وإنما يقوله لبعض خواص تلاميذه لئلا ينسى، ولكنه كان يلمح إليه كقوله: "اللهم إني أعوذ بك من رأس الستين وإمارة الصبيان" يشير إلى خلافة أحد الأمراء الذين تولوا سنة ستين من الهجرة وكان صبياً ورثها بدون وجه حق، وقد استجاب الله دعاء أبي هريرة ومات قبل سنة ستين للهجرة، سنة تسع وخمسين على بعض ما قيل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والجراب الآخر -الوعاء الآخر- لم يكن فيه شيء من علم الدين ومعرفة الله وتوحيده، وإنما الفتن التي تكون في آخر الزمان مما لا تتحمله عقول الناس مثل خراب الكعبة؛ ولذلك قال ابن عمر: لو أخبركم أبو هريرة: أنكم تقتلون خليفتكم وتهدمون البيت لقلتم: كذب أبو هريرة، فلأن عقول الناس لا تتسع؛ لأن الفتنة لم تأت بعد، لكن أبو هريرة كان عنده علم أن الكعبة ستهدم بفتنة تكون بين المسلمين، وقد حصلت، وجاء الحجاج وقصف الكعبة بالمنجنيق، حصلت أمور، إذن قد كتم أشياء لا تتحملها عقول الناس وأودعها عند بعض خواص طلابه من أصحاب الفهوم، فتنتشر بعدما تحدث القضية فلا يكذب الناس بحديث النبي ﷺ.
وكذلك فإنه إذا كان غيره أعلم منه في البلد يجوز أن يحيل عليه ولا يتكلم ويقول: اذهبوا فاسألوا فلاناً أعلم مني، وكان الصحابة تأتيهم المسألة تدور فيما بينهم حتى ترجع إلى الأول، كلهم يخشى الفتيا.
وأما الأسباب غير صحيحة لكتم العلم، فمثل: الخوف على المنصب والجاه، فهذا قيصر عرف الحق لكن لما لاحظ أنه إذا أعلنه فإن قومه سيخلعوه من الملك رجع عنه عدو الله فمات على النصرانية، هذا سبب غير مبرر لكتم الحق أبداً، كان يجب عليه أن يبلغ الحق ولو خلع من الملك.
وكذلك الخلع من الوظيفة، قال ابن القيم: ناظرت بعض علماء النصارى فلما تبين له الحق بهت، فقلت له أنا وهو خاليين: ما يمنعك الآن من اتباع الحق؟ قال: إذا قدمت على هؤلاء الحمير -هكذا لفظه قال ابن القيم يعني أتباعه- فرشوا لنا البسطة تحت حوافر دابتي، وحكموني في أموالهم ونسائهم، ولم يعصوني فيما آمرهم به، وأنا لا أعرف صنعة ولا أحفظ قرآناً ولا نحواً ولا فقهاً، فلو أسلمت لدرت في الأسواق أتكفف الناس، لا أنا بقيت على منصبي في النصرانية ولا أنا صاحب علم فأترأس في الإسلام، فمن الذي يطيب نفساً بهذا؟ فقلت له: هذا لا يكون، وكيف تظن بالله أنك إذا آثرت رضاه على هواك أنه يخزيك ويذلك ويحوجك، ولو فرضنا أن هذا أصابك فما ظفرت به من الحق والنجاة من النار فيه أتم العوض عما فاتك، أهم مما يفوتك، قال: دعنا الآن من هذا.
إذن هذه أشياء لا يسوغ كتم الحق من أجلها أبداً.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذين يقولون بالحق وبه يعدلون، نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، اللهم انصر المجاهدين، وأعل كلمة الدين، واكبت اليهود والصليبيين والمشركين، اللهم زلزلهم، اللهم انصرنا عليهم، اللهم إنا نسألك الأمن لبلادنا وبلاد المسلمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.