الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة خاتماً للنبيين.
حياة الرسول ﷺ قبل بعثته
لما أوشكت البعثة النبوية نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، نظر الله إلى الأرض وما فيها من الشرك والمعاصي وما فيها من الكفر وذهاب التوحيد ونور النبوة وتحريف الكتب وانطماس نور الرسالات السابقة، فمقت الله أهل الأرض في ذلك الوقت عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب الذين بقوا على التوحيد، وقال ربنا : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك[رواه مسلم2865]. وهكذا بعث الله محمداً ﷺ ليبتليه في تبليغ الرسالة، ليبتليه بما يحصل له من الأذى، ليبتليه فيرفع درجته وتظهر كلمته ، وأنزل عليه كتاباً قال في الحديث: وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان[رواه مسلم2865]، محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب ولا يغسله الماء؛ لأنه باقٍ تقرؤه في يسر وسهولة محفوظ في صدرك نوماً ويقظة أيضاً، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها وتألفت بها القلوب بعد شتاتها، فأوضح الطريق وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وبصر به من العمى وهدى به من الضلالة وختم به الرسالة وجعل الهدى والفلاح في اتباعه وموافقته، والضلال والشقاء في معصيته ومخالفته، وبعضهم يتباهى اليوم بأنه قد أصدر رسومات جديدة، وهذا يقول: أنه يريد أن يدخل في هذا المضمار ولكن جانب النبي ﷺ لا يضره شيء من ذلك، خير أهل الأرض نسباً على الإطلاق، قدم الله لنبيه من الهبات الشيء العظيم، ووطأ له بالموطآت والمقدمات ما جعل أمره ينتشر ونوره ينتشر، سبحان الله الذي هيأ لنبيه ما هيأ، وجده ضالاً فهداه وعائلاً فأغناه، ورفع له ذكره، إنه من عدنان من ولد إسماعيل، اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم[رواه مسلم2276] هكذا قال ﷺ، مظهراً نعمة ربه عليه في النسب، فاختار نسب نبيه من أزكى القبائل وأفضل البطون وأطهر الأصلاب، ولذلك جاء في الأثر المشهور: خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء[رواه الأجري في الشريعة957]، وهكذا في جميع طبقات نسبه الشريف ﷺمن أبيه وأمه وحتى آدم، لم يكن في أي طبقة من طبقات نسبه أي سفاح وإنما كانت كلها أنكحه صحيحة.
وعلى سفاح ما التقى يوماً | من الأيام من آبائه أبوان |
من كل صلب طاهر أفضى إلى | أحشاء طاهرة الإزار حصان |
ولذلك لم يستطع قومه أن ينكروا علو نسبه ولا أن يطعنوا فيه، وعندما سأل هرقل أبا سفيان عن نسب النبي ﷺ اعترف مضطراً وقال: هو فينا ذو نسب.
لقد كانت حادثة الفيل العجيبة بهذه الأفواج من الطيور والأسراب المتعاقبة ذات الأحجار التي تضرب وترجم في جند أبرهة والفيل الذي معه، كان ذلك تسليطاً للأضواء على ذلك المكان الذي أهلك الله فيه أبرهة ومن معه، ولأجل من؟ لأجل البيت العتيق، ولأجل قريش التي كانت في ذلك البلد الأمين، وهذا هو الارتباط بين سورة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ، والسورة التي تليها لإيلاف قريش، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍسورة الفيل1- 5، لماذا حصل ذلك؟ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍسورة قريش1لاجتماعها وائتلافها، وحمايتها، حصل ذلك لإيلاف قريش، في هذا العام الذي سلطت الأضواء فيه على مكة بهذه الحادثة العجيبة التي سمع عنها العالم في ذلك الوقت، الفرس والروم والعرب والعجم، واتجهت أنظار العرب إلى قريش ودانت لها بالفضل، وصارت مكانة قريش بسبب حادثة الفيل وسط العرب عالية جداً، ولذلك كان القرشي له ميزة وفضل، فبعث محمد ﷺ في هذه القبيلة في هذا البلد الذي سلطت عليه الأضواء، وولد في ذلك العام التي حدثت فيه تلك الحادثة العجيبة، إنها مقدمات من الله لنبيه ﷺ، وكان العام الذي ولد فيه فيه البشارة بإهلاك الطاغوت والطغاة وولادة لفجر نور الحياة، وهكذا كان فيما حصل من النعم الظاهرة والباطنة أمر عجيب، قال ﷺ: بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى كنت من القرن الذي كنت فيه.[رواه البخاري3557]رواه البخاري.
والقرن: هو الطبقة من الناس المجتمعين في عصر واحد.
وقد ولد ﷺ وتوفي أبوه قبل أن يولد فكان يتيماً وكان اليتيم في غاية الإرهاف في الحس والعاطفة، كانت تربية إلهية للنبي الكريم، وعندما استرضعت له أمه في بادية بني سعد وكان من عادة العرب أن تسترضع للأطفال في البادية رغبة في تقوية أجسادهم وتقويم ألسنتهم، أقام عليه الصلاة والسلام وهو طفل صغير أربع سنوات رأت مرضعته من ألوان البركة ما أدهشها.
درت على ضئريه من بركاته | بمقدمه أنواع بر وأنعم |
وحدثت تلك الحادثة العجيبة وهو في بادية بني سعد، فروى مسلم [رواه مسلم162]عن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، أضجعه وشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه - خاطه- ثم أعاده في مكانه، فسبحان الله الذي أرسل أعظم ملائكته ليجري هذه العملية لأعظم أنبيائه في الصغر،كانت هنالك مقدمات للنبوة، كانت هنالك موطآت أحداث قبل أن يبعث، لقد جرت هذه العملية في استخراج قلب النبي ﷺ شق الصدر واستخراج القلب، واستخراج تلك العلقة السوداء حظ الشيطان، كل هذا لكي يهيئ نبيه منذ الصغر لما سينزل عليه بعد ذلك من الوحي والنبوة، لقد غسل القلب الشريف بماء زمزم، ذلك الماء المبارك، قال أنس في تلك الرواية: ثم لأمه ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه – أي المرضعة – فقالوا: إن محمداً قد قتل؛ لأنهم رأوا شق صدر واستخراج قلب وهو مصروع، ملقىً على الأرض فقالوا: إن محمداً قد قتل فاستقبلوه، ذهبوا لانتظاره وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرئي أثر ذلك المخيط أي الإبرة التي لؤم بها صدره بعد العملية، وقد كنت أرئي أثر ذلك المخيط الإبرة في صدره، ثم عاد للرواية عن الماضي فقال: فخشيت عليه حليمة السعدية فردت إلى أمه آمنة بنت وهب فأقام معها حتى ماتت بالأبواء أمه، منطقة بين مكة والمدينة، وكان عمره حينئذ ست سنين ﷺ، انتقل من أمه إلى جده الذي كفله بحنان بلا شك ومعلوم حنو الجد على حفيده، ثم توفي جده بمكة وكان عمره ﷺثماني سنين وجدك يتيماً، هكذا ﷺ ينقله ربه في الكفالات إلى من يهتم به واحداً بعد واحد بحسب السن، في البداية مع أم ولا يصلح في هذا السن إلا أن يكون في حضانتها، ثم إلى جده ثم إلى عمه أبي طالب، فضمه إلى ولده بل قدمه عليهم، وظل عمه يحنو عليه ويرعاه، وفي ذلك الوقت لما بلغ اثنتي عشرة سنة في كفالة عمه أبي طالب ارتحل به إلى الشام في تجارة، والله يقدر لنبيه الأمور في مصلحته تتابع واحداً بعد واحد، رآه بحيرا الراهب، كان راهباً صالحاً، كان راهباً يعرف علامات النبوة وأنه سيظهر نبي، وعندما رأى رسول الله ﷺوهو ابن اثنتي عشرة سنة أخذ بيده وقال ذلك الراهب النصراني شاهداً قال بصوت: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين، فلما قيل له: كيف عرفت ذلك؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة – يعني يا أيها الوفد من قريش لما أشرفتم علينا من بعد – لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجداً، سبحان الله الذي أرى ذلك الراهب هذه الآية، لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجداً، الأشجار نزلت على الأرض خرت ساجدة، فرأى ذلك الراهب هذا المنظر قال: ولا يسجدان إلا لنبي، فكان هذا دافعاً لمزيد اهتمام وعناية بالغة من عمه، وخاف عليه فبعثه مع بعض غلمانه إلى مكة وأعاده.
لما رأى بحيرا قال نعرفه | بما حفظنا من الأسماء والسيم |
صفاته مكتوبة في التوراة والإنجيل، فكيف لا يعرفه من اطلع عليهما؟.
ثم هيأ الله لنبيه أمراً فيه تعويد على القيادة وعلى مراعاة الآخرين، وعلى السعي في إصلاح أحوال الآخرين، وكانت هذه التربية عن طريق رعي الغنم، راعي الغنم يقودها، راعي الغنم يرعاها يحافظ عليها من الذئاب، إنه يذهب بها إلى المرعى الحسن، ويختار لها أحسن الأراضي ترعى فيها، إنه يعالجها إذا مرضت، ويعزل هذه، ويعالج ويداوي الأخرى، وهكذا كانت رعاية الغنم في حياة جميع الأنبياء، فقال ﷺ: ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، هذا تمهيد للرعاية الكبرى، هذا الرعي في الصغر تمهيد لرعاية البشر بعد ذلك، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة[رواه البخاري2262]رواه البخاري.
ومن طبيعة الغنم يا عباد الله السكينة والوقار، ولذلك قال ﷺ: السكينة في أهل الغنم وأخبر أن الفخر والخيلاءيعني: الكبر في الفدَّادين أهل الوبر[رواه البخاري3499 ومسلم52]. الفدَّاد راعي الإبل الذي يصيح صياحاً عظيماً، فهؤلاء في القلوب أقسى من أولئك بلا شك، والإنسان يتطبع بطباع من يعايشه ويخالطه، وفي الغنم لمن تأملها سكينة ووقار فينتقل من هذه السكينة إلى نفس الراعي؛ ولذلك تجده أهدأ بالاً وأسكن نفساً وأوقر من ذاك.
كسب الرزق الحلال بعرق الجبين، إنه أمر عرفه النبي ﷺ جيداً من خلال رعي الغنم على قراريط لأهل مكة، كان في قريش امرأة تاجرة ذات شرف ومال فأراد الله لنبيه أمراً آخر من أمور التكريم وسد الحاجة، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىسورة الضحى6-8، فكيف أغناه؟ كانت امرأة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، فلما بلغها عن محمد ﷺ ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكريم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له: ميسرة، فقبله رسول الله ﷺ وخرج في مالها على ذلك، ولما رجع وقد كسب خبرة في التجارة، وذهب إلى بلاد الشام، فالنبي ﷺ هيأ الله له من الاطلاع على الأحوال الأخرى والبلدان الأخرى،
فذهب إلى الشام مرتين، مرة في هذه التجارة ومرة في رحلة الإسراء إلى بيت المقدس جسداً وروحاً ﷺ، وهكذا إذا قيل: هل خرج محمد ﷺ من جزيرة العرب؟ فيقال: نعم، إلى بلاد الشام التي تلي أرض الحجاز في البركة، التي دعا النبي ﷺ لها بالبركة ثلاثاً: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في شامنا[رواه البخاري7094]، فكان في تلك الرحلة من الخبرات والتجارب والإطلاع على أحوال الناس في ذلك المكان، ولما رجع إلى مكة فرأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تر قبل ذلك، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى من النبي ﷺ من الشمائل الكريمة والأخلاق الفاضلة والنهج الأمين مما دفعها إلى الزواج منه فحدثت نفيسة بنت منبه التي ذهبت إلى النبي ﷺ تفاتحه أن يتزوج خديجة، وتلك المرأة عاقلة إذا رأت الرجل بهذه الأخلاق شيء يدفعه إلى زواجها، ولذلك رضي بهذا الأمر وتم الزواج، ولم يتزوج رسول الله ﷺ على خديجة حتى ماتت.[رواه الطبراني1093]رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
وهكذا صار مع امرأة يتاجر لها في مالها، فأكسبه الله بهذا ما أغناه من فقره، نعم على نبيه تتوالى، وإرادة الخير والبركة بهذا النبي الكريم، ثم حصلت الحادثة التي رفعت شأن النبي ﷺ في نظر قريش جميعاً بعدما شهدوا بأمانته شهدوا بعقله الراجح، كل هذا توطئة للنبوة ليعرفوا أن هذا الرجل هو أفضلهم فعلاً عقلاً وأمانة، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر بعدما هدم السيل البيت واختصموا من يرفع الحجر، وقريش بطون تتنافس في هذه القبيلة، فقالوا: يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة، فقدر الله أن يخرج النبي ﷺ ولم يخرج غيره من هذا الطريق، قدر أن يهدم البيت بالسيل وأن تعمره قريش، وأن يختلفوا في رفع الحجر، وأن يتفقوا على أن يحكم بينهم أول خارج من هذا الطريق، وأن يكون أول خارج هو محمد ﷺ، ما هذا؟ قدر عجيب من الله ، والله يقدم لنبيه بالمقدمات، ويهيئه للنبوة، والله إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه، فكان رسول الله ﷺ، فلما دخل عليهم قالوا: قد جاء الأمين، كانوا يعرفونه بالأمانة، وهكذا قام بتلك الحادثة المشهورة بما رزقه الله من العقل الراجح فعرفت قريش عقله بعدما عرفت أمانته.
لقد كان من الموطئات قبل البعثة النبوية أشياء عجيبة قد حصلت، عرف أناس ببعثته قبل أن يبعث، بحيرا الراهب صرح بذلك، وروى محمد بن إسحاق بإسناد حسن عن حسان بن ثابت، حسان بن ثابت كان بيثرب في المدينة، قبل الإسلام بمدة، يقول حسان: والله إني لغلام يفعه ابن سبع سنين أو ثمان أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهودياً يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب: يا معشر يهود، حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك مالك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به، سبحان الله، اليهودي يجمع اليهود في المدينة في يوم ولادة النبي ﷺليقول لليهود: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به.
وروى أبو نعيم بسند حسن عن زيد بن عمرو بن نفيل: قال لي حبر من أحبار الشام: قد خرج في بلدك نبي أو هو خارج، قد خرج نجمه فارجع فصدقه واتبعه.
ومما حصل أيضاً ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم بعاث يوم قدمه الله لرسوله ﷺ، فقدم رسول الله ﷺ المدينة وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم، وجرحوا، تهيئة لأن يأتي رسول الله ﷺ بعد ذلك ليلم شتاتهم ويكون له ذلك الموقع فيهم، وأيضاً: لقد شهد النبي ﷺ حلف المطيبين، حلف كان فيه عدل رغم أن الذين عقدوه من المشركين في الجاهلية، وقال ﷺ: شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه[رواه أحمد1655]ولم يصب الإسلام حلفاً إلا زاده شدة، يعني: إذا كان حلفاً صحيحاً جاء الشرع به من الدفاع عن المظلومين ونحو ذلك، غمسوا أيديهم في الطيب فسمي بحلف المطيبين، وكان حلف المطيبين قبل ميلاد النبي ﷺ بعد وفاة جده قصي، وحصل بعده حلف الفضول فسمي بحلف المطيبين؛ لأن الذين عقدوه هم الذين عقدوا الأول، يعني: العشائر التي عقدته والنبي ﷺ شهد الثاني ولم يشهد الأول، فكان هذا الحلف أيضاً مما شهده ﷺ من إقرار العدل ونصرة المظلوم، فكان محبباً إليه جداً.
كان ﷺ قبل بعثته يعرف حجراً بمكة جيداً، ما شأن هذا الحجر؟
روى مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ قال: إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن[رواه مسلم2277]، سبحان الله حجر يسلم عليه فيسمع تسليمه قبل البعثة، والله يهيئ لنبيه ويوطئ له، حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، لم يكن هناك طريقة معينة للتعبد قد نزلت عليه فلم يكن قد أوحي إليه بعد، حبب إليه الخلاء يصفو ذهنه وفكره في ذلك الغار، ويأخذ معه السويق تزوده به خديجة، وتعينه وهي تعلم وتلاحظ ما كان في ذلك الاعتكاف وتلك الخلوة من الآثار على نفسه الشريفة، شهد الرهبان من النصارى والأحبار من اليهود والكهان من العرب بشأنه، ولذلك فإن ذلك النور الذي خرج من أمه أضاءت له قصور الشام عند ولادته قد أتبعته تلك الشهادات التي حصلت من هؤلاء، فمن مشركي العرب كان ذلك الصحابي الجليل سواد بن قارب فسأله عمر، وكان سواد في الجاهلية يتصل بالشياطين، كان كاهناً، فقال له عمر: ما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ حدثني يا سواد وأنت كنت كاهناً تتصل بالجن والشياطين حدثني عن أعجب ما جاءتك به جنيتك؟
فقال سواد : بينما أنا في السوق يوماً جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها، ويأسها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها.
ألم تر الجن وإبلاسها، أسقط في أيديهم، ويأسها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص – الإبل- وأحلاسها، فقال عمر: صدق، بينا أنا عند آلهتهم جاء رجل بعجل فذبحه، تذكر عمر في الجاهلية شيئاً آخر، رجلاً جاء بعجل فذبحه عند الآلهة كعادة المشركين، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه، هذا الصارخ من الجن، يسمع عمر صوته ولا يرى شخصه، يقول: يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله، فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله، فقمت فما نشبنا أن قيل: هذا نبي.
فهكذا إذن حصلت تلك الشهادات من الجن أيضاً قبل البعثة.
وروى أبو نعيم عن جابر قال: إن أول خبر كان بالمدينة بمبعث رسول الله ﷺ أن امرأة بالمدينة كان لها تابع من الجن، فجاء في صورة طائر أبيض وقع على حائط لهم، فقالت له: ألا تنزل إلينا فتحدثنا ونحدثك، وتخبرنا ونخبرك؟ فقال له: إنه قد بعث نبي بمكة حرم الزنا ومنع منا القرار، يعني الاستماع لخبر السماء.
رمت الشياطينَ الرجوم لبثه | وتنكس الأصنام للأذقان |
والجن تهتف في الظلام بسجعها | بنبوة المبعوث بالخيران |
سبحان الله، شهد به إذن الجن والإنس واليهود والنصارى والمشركون شهدوا أيضاً قبل البعثة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد إمام الهدى، اللهم صل وسلم عليه، اللهم نسألك له الوسيلة والدرجة العالية الرفيعة، اللهم اجعلنا من أهل سنته ومن أتباعه، اللهم اجعلنا معه يوم الدين الله احشرنا في زمرته وأوردنا حوضه، وارزقنا الجنة معه يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأولين والآخرين، خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ويشركون، وأشهد أن محمداً رسول الله بعثه الله رحمة للعالمين، أشهد أنه رسول الله خاتم النبيين، أشهد أنه رسول الله المبعوث إلى الجن والإنس أجمعين، اللهم صل وسلم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه وذريته وأزواجه، وخلفائه وأتباعه إلى يوم الدين.
حمى الأسهم
عباد الله: إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَسورة المعارج19-22، الصلاة تطهر القلوب إذا كانت بحق وخشوع فلا بد أن يكون لها تأثير، وهناك كلام لو قيل للناس وهم في سكرة وحمى ارتفاع الأسهم ما سمعوا، فإذا انخفضت وانهارت أسعارها والسوق والمؤشرات قد اكتست باللون الأحمر ربما فهموا ذلك وسمعوه، فيقال في هذا الوقت من الكلام ما لا يقال في ذاك.
أيها الإخوة: إن هذه السوق المليئة بالتلاعب والغش والتدليس والكذب والحيل إنها سوق ملوثة، والتلويث في كثير من الشركات المحرمة أصلاً بالإضافة إلى التلاعبات الموجودة في هذه السوق، ومن الأمور المهمة التي ينبغي أن تتضح أولاً: الحكمة من رزقها فقد رزق خيراً كثيراً، الحكمة وضع الأشياء في مواضعها، قد نفهم أيها الإخوة أن يشتري شخص أسهم شركة في التأسيس ليكون مشاركاً فيها من البداية، وهي شركة في أمور مباحة، تعمل في مجال مباح، وسهمها عند التأسيس سعره منخفض، والتوقعات الصحيحة تشير إلى ارتفاعه بعد ذلك، فيبقيه عنده حتى إذا قامت هذه الشركة وارتفع سعر السهم باعه فكسب، هذا التصرف مفهوم وفيه انتهاز للفرصة واستثمار لها، وفيه فرصة تجارية جيدة، لكن أن يبيع بعض الناس بيوتهم وسيارتهم وتبيع بعض النساء ذهبها، بناء على طلب زوجها أو على رغبتها؛ لأن النساء أيضاً قد شملتهن حمى الأسهم هذه، ثم يبقى الإنسان بلا بيت قد كان يملكه، ويتحمل عناءً بلا مركب ربما، يبيع أموراً من حاجاته الأساسية ليدخل في سوق هذا حال اضطرابها، إنه ليس من الحكمة في شيء، ثم إذا وصل الأمر إلى درجة الاقتراض الربوي للدخول في الأسهم، يقترضون بالحرام ليدخلوا في السوق الملوثة، فما هو الحكم هنا؟ هذا حرام، الاقتراض بالربا حرام، والدخول في تجارة كهذه بأموال أخذت من الحرام لا يبارك الله فيها، ولذلك تسارع إلى كثير منهم الخسارة، فبعد أن تآكلت الأرباح وصل التآكل إلى رأس المال، فالآن سيعاني من الخسارة بالإضافة للمال الذي يجب أن يسدده للمصرف الربوي الذي اقترض منه، فتصبح الخسارة مضاعفة، خسر رأس المال، ويجب أن يسدد فوق رأس المال الذي اقترضه، ليته سلم رأس ماله في حالات لرده، لكن عليه أن يرد الزيادة أيضاً، ولذلك من فعل هذا فعليه أن يتوب إلى الله فوراً ويخرج من السوق فوراً ليعيد المال الذي اقترضه بالربا فوراً؛ لأن هذا عقد باطل محرم لا يجوز المضي فيه، عقد الربا المحرم لا يجوز المضي فيه، وحتى لا تزداد الأمور سوءاً في سوق الأسهم وربما تذهب عليه الأموال، بقي بعضها الآن، فليعد المال الذي اقترضه بالربا فوراً؛ لأنه يجب عليه إيقاف العقد المحرم والتخلص من آثاره فوراً، وليس أن يقول: أبقيها حتى تربح لعل السوق تنتعش، ولعلها ترتفع، يجب أن يعيده فوراً، وأن يعالج آثار القضية، ثم هنالك شركات في سوق الأسهم هي شركات خاسرة أصلاً، شركة زراعية لم يعد عندها زراعة ولا أشجار ولا ثمار، لم يعد عندها إلا التنك الذي كانت تعبئ فيه التمر، فكانوا يصنعون التنك، فهم لا يزالون يصنعون التنك، ويبيعون التنك، هذا كل ما تبقى من الشركة الزراعية، التنك، وشركة أخرى عندها كم رشاش من الماء، لا يصح أن تسمى شركة أصلاً، متخلفة وبدائية جداً، محصورة وهزيلة، كيف يمكن أن تنمو أسعار أسهم هذه الشركات لتصل المئات أو تتعدى الألف، كيف؟ إذن يتبين لنا أن التعامل في أسهم الشركات الخاسرة أو شبه المقفلة التي ترتفع أسعار أسهمها ارتفاعات غير مبررة أبداً، أن التعامل في هذا النوع من الشركات هو قمار وميسر، وهذا هو الذي خلصنا إليه بعد المداولة والمناقشة مع بعض أهل الخبرة والعلم في مجال الأسهم، أن التداول في الشركات الخاسرة التي أسعار أسهمها في العلو بغير مبرر إطلاقاً أن المضاربة في أسهم هذه الشركات نوع من الميسر والمقامرة، هذا تجلى بوضوح الآن، وإذا انخسفت هذه الأسعار تبينت حقيقة هذه الشركات، إذا أرادت الشركة التصفية الآن ما هو سعرها الحقيقي في السوق، وبكم سيشتريها التجار، لو باعوها صفوها، عند ذلك يتبين أن كل هذه الارتفاعات وهمية، فما حكم الدخول في الأوهام والشراء والبيع في الأوهام؟ الجواب: ميسر وقمار، نفهم أن شركة قوية لها خدمات ومنتجات وتربح أرباحاً، وكلما زادت أرباحها وخرجت ميزانيتها ربع السنوية أو السنوية وقد ازدادت أرباحها ارتفعت أسهمها هذا شيء مفهوم، والتجارة فيها على أساس، أما تلك فالتجارة فيها ميسر ومقامرة، وكذلك فإن هذه الحمى التي حصلت فلم يبق خارجاً عنها إلا القليل ودخل فيها الذي يفهم والذي لا يفهم والذي عنده خبرة والذي ليس عنده خبرة قد كشفت معادن الناس، هذه جلطات، وهذه مستشفيات الآن ازدهر سوقها ضغط، سكر، إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًاسورة المعارج19-21، إنها عبارة ظاهرة في سوق الأسهم اليوم، غم ونكد، طلاق حصل، جلطات، ثلاثة عشر جلطة، كذا وكذا، تسمع أخباراً عجيبة من أحوال الناس.
وهذه المرأة المسكينة تقول: حالي مع زوجي وحال زوجي بالبيت وحاله مع أولاده بحسب المؤشر، فإذا كان أخضر فإن العلاقة حسنة، وإذا كان أحمر فالعلاقة في غاية السوء، والأخلاق في غاية السوء سب وشتم ولعن وهكذا، اصطبغت الحياة بألوان المؤشرات وانعكست تلك الألوان على هذه الأمزجة والعقول والنفوس فصار التعامل عليها، وبناء على ذلك صار طلاق وفرقة ومشكلات بين الناس بهذا السبب، فالقضية كارثة خطيرة، لا بد أن يتصدى لها أهل العلم والدعوة والأخصائيون الاجتماعيون والنفسيون وعقلاء الناس؛ لأن المسألة ليست بهذه السهولة، والناس يقولون: قد تعاود الارتفاع وقد تنخفض زيادة، وقد نلحق بالذين خسروا في البلدان الأخرى، وانهارت أسواق الأسهم فيها، وآخرون يقولون: لا، إنها سترتفع، هذا خرج وهؤلاء باعوا فجأة، وهكذا أشياء وإشاعات، بيع أخبار، موظفون يخونون الأمانة في حفظ أسرار المصارف والشركات فيبيعون وعصابات دخلت في الموضوع، بيع المعلومات التي ينبغي أن تكون أسراراً محفوظة، بل إشاعات تتعمد لكي ترتفع الأسعار، فيجتنى من وراء ذلك أشياء وناس باعوا دينهم وباعوا أخلاقهم وباعوا أشياء كثيرة جداً فيما باعوه.
عباد الله المسألة كبيرة جداً وتحتاج إلى تأملات واستيضاح الأحكام في هذه المسائل وهذه القضايا العامة التي تؤثر في الناس.
حادثة التفجير في بقيق
عباد الله: ونحن في هذا أيضاً تفاجئنا تلك الحادثة الأليمة التي حصلت في بلدة أبقيق من تلك المحاولة لتفجير ذلك المصنع الذي هو أكبر تجمع في العالم في الزيت والغاز، نحو من سبع ملايين برميل تمثل 70% من إنتاج البلد و8% من الإنتاج العالمي، والإنسان والله العظيم يعجب ويحتار ويدهش ما هو الهدف من هذا؟ لو حصل هذا التفجير في ذلك المجمع وأصاب هدفه كم من المسلمين سيموت؟ الناس أصحاب الأمن الصناعي أصحاب الخبرة والتقديرات عندما يقول لك: إن انفجار مكان كهذا يمكن أن يدمر مساحة أربعين كيلو في أربعين كيلو دائرة نصف قطرها هكذا، وتلوث، يلوث البحر ويلوث الجو، ويذهب من المسلمين عشرات الآلاف، الآلاف المؤلفة يمكن أن يقتلوا ويموتوا، وهذه الأموال فيها من بيت مال المسلمين، ومرتبات المسلمين، ودخول المسلمين، واقتصاد المسلمين، وتجارة المسلمين، بالإضافة لما يتعلق بذلك من مصالح أخرى في العالم، ولذلك فإنها جريمة عظيمة جداً جداً، سبحان الله يستغرب الإنسان كيف يمكن أن تصل بعض العقول إلى عمل جريمة كهذه، جريمة تطال آلاف الناس، حياة البشر، هذه المقومات، اقتصاد الناس.
فنسأل الله أن يحفظ بلدنا وبلاد المسلمين بحفظه، اللهم احفظنا من كل سوء يا رب العالمين، اللهم من أراد بنا شراً فامكر به، اللهم من أراد بنا سوءاً فكده وخذه، اللهم ادفع عنا البلاء يا رب العالمين، اللهم احفظنا بحفظك إنك أنت خير حافظاً وأنت أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، اللهم إنا نسألك أن توسع لنا في أرزاقنا، وأن تبارك لنا في أعمارنا، وأن تهب لنا من أولادنا وذرياتنا قرة أعين وأن تجعلنا للمتقين إماماً، اللهم ارزقنا الحلال يا رب العالمين، وجنبنا الحرام يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.