الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
طريق الدنيا والآخرة طريق واحد، ولا تعارض بينهما
مع عودة كثير من الناس إلى أعمالهم، ودراساتهم، ننبه ونعرض في هذه الخطبة أيها المسلمون: إلى مفهوم إسلامي أصيل، وتصور جاء به هذا الدين العظيم، وهو أن طريق الدنيا والآخرة طريق واحد، وأن طريق العبد في هذه الحياة حتى ولو كان يعمل للدنيا فإنما هو ينظر إلى الآخرة، إذ أن التعارض بين الدنيا والآخرة، والفصل بينهما صار عند كثير من الناس بأسباب متعددة، إذا نظروا في أمر الإسلام والدين، ثم التفتوا إلى أمر دنياهم وأعمالهم ووظائفهم وتجارتهم ودراستهم وجدوا تناقضاً وأحسوا بالإثم، ورأوا تعارضاً بين ما هم فيه من أمور الدنيا وبين القرآن والسنة، وهذا الشعور له مصادر متعددة، فقد يكون نتيجة لتصور خاطئ، وقد يكون نتيجة لممارسة خاطئة وعمل محرم، فالذين يعملون في المحرمات وظيفة وتجارة وتدراسة، شعورهم بالتعارض بين دنياهم وآخرتهم شعور حقيقي وصحيح، ويجب أن يحصل، أن يشعروا أن ما هم فيه من عمل الدنيا يتعارض مع الآخرة تعارضاً واضحاً، لماذا؟ لأنهم يعملون في مجالات محرمة، منافية للدين، وتصير أمور دنياهم في هذه الحالة مخالفة لأحكام دينهم، فيجب على هؤلاء ترك المحرمات التي هم فيها واقعون.
ومن المسلمين طائفة ثانية، تشعر بالتعارض، يشعر بالتعارض لأنه غلَّب جانب الدنيا على جانب الآخرة في الاهتمام والعمل، فشعوره أيضاً شعور صحيح؛ لأنه غبن نفسه وفوت عليها حسنات كثيرة، لو حصلها لارتفع عند الله في الآخرة، ولأنه انشغل بالفاني عن العمل للباقي، وركز جهده في هذه الحياة التي تنتهي، ركز فيها جهده وعمله وجعل الفتات والفضلة من وقته لأمر الآخرة التي لا تنتهي، والتي حياتها في خلود دائم، فهذا مغبون ومسكين؛ لأنه انشغل بما ينتهي عما لا ينتهي، وبالفاني عن الباقي، فينبغي أن يعود ويعدل الميزان وأن يجعل عمله للآخرة هو الأكثر.
ومن المسلمين من يرى تعارضاً بين الدنيا والآخرة لخطأ في تصور القضية، طريق الدنيا وطريق الدين، فهؤلاء ينبغي أن يبصروا ويفقهوا ليزول اللبس فلا يتعذبون، وليعملوا وهم في راحة.
يصر البعض على زعم أن العبادة تتعارض مع الكسب والعمل في الصناعة والتجارة والزراعة وغيرها، وأن من أراد الآخرة فلا بد أن يطلق الدنيا طلاقاً باتاً حتى يصلح قلبه.
توفيق الصحابة بين العمل الدنيوي والعمل الاخروي
ويقول بعض هؤلاء من الصوفية وغيرهم: إن الصحابة لم يفتحوا البلدان، ولم يصبحوا في المنزلة العالية من الدين إلا بعد أن تركوا الدنيا وتفرغوا تماماً للعبادة والجهاد. فما صحة هذا الكلام؟
الجواب: إن هذا الكلام فيه تعسف ومنافاة لمصلحة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها، وبعيد عن الحكمة والعقل السليم والواقع، وهو مغاير قبل ذلك كله لحال الصحابة رضوان الله عليهم، وللرد على تلك المزاعم نريد إلقاء الضوء على النظرة الشرعية للعمل الدنيوي والكسب أولاً، وكيف طبق الصحابة ذلك في حياتهم ثانياً.
أما المسألة الأولى: فقد قال الله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ سورة القصص77. قال ابن كثير رحمه الله: "أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة، وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَهذه فيها تفسيران، الثاني: أي لا تنسى ما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزورك أي: ضيوفك وزائريك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه[رواه البخاري1968، ومسلم بلفظ: ولزورك عليك حقا1159].
وقال الحسن وقتادة: "أي لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه".
وهذا مثل قول ابن عمر : "احرث لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً".
وقال الحسن: "قدَّم الفضل وأمسك ما يبلغ".
وقال مالك: "هو الأكل والشرب بلا سرف".
هذا معنى: وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَاسورة القصص77. لا تنس الحلال، فهو نصيبك من الدنيا.
ومسألة الكسب أيها الإخوة مسألة شرعية، تحصيل المال لإنفاقه على النفس وسد الحاجة مطلب شرعي، وليست قضية دنيوية بحتة، يرتبط بتحصيل الكسب للإنفاق على النفس وسد الحاجة يرتبط بها أجر وثواب في الآخرة، فهي ليست قضية دنيوية مجردة، وهذا من الفروق بين المسلمين وبين الكفار، فالكفار لا يحتسبون في عملهم للدنيا في وظائفهم ودراساتهم وأبحاثهم لا يحتسبون أجراً عند الله، وإن كانوا يقولون: إن ذهابهم إلى الكنيسة من أجل أن يجدوا فائدة ذلك بعد الموت، لكنهم لا يحتسبون في أعمالهم الدنيوية أي نوع من أنواع الأجر، وأما المسلمون فانظر في هذا الحديث الصحيح، قال ﷺ في الخارج من بيته: إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيل الشيطان[رواه الطبراني في الكبير282، وصححه الالباني في الجامع الصغير1428].
ومسألة الغرس التي يغرسها الإنسان في الأرض، يغرسه الإنسان في الأرض، مع أن ظاهرها قضية دنيوية ولكن لها بالآخرة اتصال وثيق، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة[رواه البخاري2320، ومسلم1553]. رواه البخاري.
قال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث فضل الغرس، والزرع، والحض على عمارة الأرض، ويستنبط منه اتخاذ الضيعة – وهي التي يسميها الأولون بهذا الاسم كالمزرعة وغيرها – والقيام عليها، وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة – من الصوفية وغيرهم – فأما ما ورد من النهي عن ذلك فإنه يحمل على من استكثر بها واشتغل عن أمر الدين".
وقوله: إلا كان له صدقة إلا يوم القيامة[رواه مسلم1552]. مقتضاه أن أجر ذلك الغرس يستمر حتى لو مات الزارع والغارس وانتقل ملكية الزرع انتقلت إلى غيره.
وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كلهوالحرة: الأرض الملبسة حجارة سوداء، والشرجة: مفرد شراج وهي: مسائل الماء، الطرق التي يسيل فيها الماء وينحدر، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله الذي نزل من السماء فتتبع الماءهذا الرجل الذي سمع الصوت من السحابة تتبع الماء إلى أين ينتهي، فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابةطابق الاسم الذي قاله له الرجل الاسم الذي سمعه في السحابة قبل قليل اسق حديقة فلان، قال: فما تصنع فيها؟ ما شأنك في هذه الحديقة والمزرعة، قال: أما إذا قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلته، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأرد فيها ثلثه، وفي رواية: وأجعل ثلثه في المساكين والسائل وابن السبيل [رواه مسلم2984]. رواه مسلم.
إذاً هذا الحديث يدل على أن الاشتغال بالزرع لحاجة الإنسان وأهله، وحاجة الأرض والمشروع الأساسي، ثلثان الذي يتصور الناس أنه من الدنيا، ولكن ذلك الرجل بصلاح نيته وصدقته، الثلث من الدخل صدقة، قد بلغ به هذا الحال عند الله أنه أكرمه بهذه الكرامة العظيمة.
وحتى يكون لدينا مثال آخر في قضية دخول الدنيا في الآخرة لنتأمل في مسألة التجارة في الحج، هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، أباح الشارع الحكيم التجارة فيه لعلمه بحاجات الناس وما يصلحهم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها، هذه أسواق في موسم الحج، تأثموا من التجارة فيها، فأنزل الله:لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْسورة البقرة. يعني: في موسم الحج. رواه البخاري.
فكيف إذاً سمح لنا بالتجارة في موسم الحج؟ أعمال الحج ماشية، والحاج يسير في نسكه، ويجوز له أن يتاجر، نعم، لو تفرغ للعبادة كان أفضل، ولكن لا يمنع أن يتاجر في ذلك الموسم، وأن يبيع ويشتري، ماذا يعني هذا؟ مراعاة الشريعة لحال الناس، أن هذا دين يلبي طلبات الناس، وأن من ابتغى بعمله الله ولو كان عمله دنيوياً أنه يؤجر على ذلك.
كيف طبَّق الصحابة مسائل الكسب وهم يعيشون في طلب العلم والجهاد والعبادة بأنواعها؟ كيف طبَّق الصحابة ذلك؟ يشتكي الآن عدد من المخلصين يقولون: لا نستطيع أن نوفق بين الدنيا وطلب العلم، وبين الدنيا والعبادة، كيف نفعل؟ صحيح أن المجتمع قد تعقد كثيراً وأنه قد صارت هناك متطلبات لا توجد في العصر الأول، لكن هناك شيء أساسي مشترك وهو الحاجة الشخصية إلى المال والكسب، ماذا قال عمر ؟ يعلم ابن عباس قصة المرأتين، قال: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهو من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي ﷺ، فينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك". رواه البخاري.
عمر يحتاج إلى العمل، يحتاج لكسب قوته، الصحابة ما كانوا يمدون أيديهم للناس، وهم يستطيعون كسب أقواتهم، عندهم عزة، فهم يعملون لأجل كسبهم، كان بين عمر وشخص آخر صداقة أدت إلى عمل مشترك في زراعة، عمر يعمل يوماً وينزل ذلك الرجل لطلب العلم، والرجل يعمل في اليوم التالي، وعمر ينزل في ذلك اليوم لطلب العلم، ثم يخبر كل واحد منهما الآخر بما حصل في ذلك اليوم من خبر الوحي أو غيره، كما قال عمر، لا يسمع شيئاً إلا حدثه به، ولا يسمع عمر شيئاً إلا حدثه به.
وفي رواية: "يحضر رسول الله ﷺ إذا غبت وأحضره إذا غاب، ويخبرني وأخبره".
قال ابن حجر رحمه الله: "وفيه: أن طالب العلم يجعل لنفسه وقتاً يتفرغ فيه لأمر معاشه وحال أهله".
العظمة أيها الإخوة: كيف استطاع ذلك الجيل أن يجمع بين تحصيل الكسب الدنيوي وبين تحصيل العلم؟ إنه لم يطلب العمل يوماً ويتفرغ للدنيا يوماً، ثم يفوت العلم الذي كان في اليوم الذي عمل فيه للدنيا، كلا، إنه كان يحصل العلم بنفسه يوماً، ثم يسمعه من غيره عن اليوم الآخر، من ناحية الفائدة والمعلومات لا يفوته شيء، ولكن لا بد من عمل قد يفوت شيئاً من الفضل والأجر كحضور مجلس العلم، والجلوس عند العلماء، ولكن هكذا فعلوا، هكذا وفقوا بين طلبات الدنيا والطلبات الدينية، بين الحاجات الدينية والحاجات الدنيوية، ما كان الصحابة ممتنعين عن الكسب، هذا أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه خدم النبي ﷺ عشر سنين، يقول أبو العالية: "وكان له – أي لأنس – بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان كان يجيء منه ريح المسك". رواه الترمذي وحسنه.
وكذلك رعوا الغنم، مع أن رعي الغنم عمل دنيوي، وهكذا حصل لسعد في غنم له، فر من الفتن اتخذه خارج المدينة، وقال ﷺ: يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله : انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة.[رواه النسائي666، وصححه الالباني في صحيح الجامع8102]. رواه النسائي.
إذاً العلم الدنيوي مستمر، لكن إذا جاء وقت الصلاة، أذان وصلاة، ولو كان وحيداً في فلاة من الأرض، وكذلك المؤمن يرعى حق الله وهو في الوظيفة والدراسة، لكن عندما يقول: الحصة أهم من الصلاة، ولو ضاع وقتها، والتجارة والوظيفة لا تنقطع لأجل العمل، لا تنقطع لأجل الصلاة. فهذا هو المسكين.
إذاً أيها الإخوة: التوفيق ممكن، والطريقان واحد، إذا ابتغى الإنسان وجه الله ، هذا البيع قد أحله الله تعالى، وقال عن التجارة العالمية والنقل البحري: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَسورة البقرة164. الآية، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ سورة النحل14. رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ سورة الإسراء66. ومعنى يزجي أي: يجري وييسر، أكثر البضائع في العالم الآن تنقل عبر الشحن البحري، هذه منة من الله،وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَسورة فاطر12. أي: السفن العظيمة تجري في البحار بما ينفع الناس من البضائع والتجاراة، لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ، فأشار إلى التجارة والابتغاء.
وقال النبي ﷺ لما سئل عن أفضل الكسب: بيع مبرور، وعمل الرجل بيده[رواه أحمد15836، وصححه الالباني في صحيح الجامع1033]. رواه الإمام أحمد.
وقال عبد الرحمن بن عوف: "دلوني على السوق. متى قالها؟ جاء المهاجرون فقراء إلى المدينة، سعد بن الربيع الأنصارى من أخوته ودينه قال لعبد الرحمن بن عوف: انظر شطر مالي فخذه، أعطيك نصف المال، قال عبد الرحمن: بارك الله لك في مالك، دلوني على السوق، فدلوه على السوق، فذهب فاشترى وباع وربح فجاء بشيء من أقط وسمن، وفي رواية البخاري: ثم تابع الغدو – أي داوم الذهاب للتجارة – ثم تزوج، حصل الزواج، وجاء إلى النبي ﷺ، فإذاً تاجروا.
وقال أبو هريرة: "إن إخوانه المهاجرين كانوا يذهبون إلى الأسواق، والأنصار يعملون في النخل"، إنها حركة عجيبة حركة المجتمع المدني في عهد النبوة، حركة عجيبة، الجهاد قائم، وطلب العلم قائمة، والعبادة قائمة، والتجارة قائمة، ورعي الغنم قائم، والزراعة قائمة، المجتمع يعمل للدنيا والآخرة.
لقد قدم لنا الصحابة نموذجاً عملياً لقضية الجمع بين الدنيا والآخرة، كانوا في قمة الدين، وكانوا يحصلون الدنيا أيضاً.
وقال صخر الغامدي: قال رسول الله ﷺ: اللهم بارك لأمتي في بكورها[رواه أبو داود2606، وصححه الالباني في صحيح أبي داود2345]، وكان صخر رجلاً تاجراً صحابي فاضلاً، وكان إذا بعث تجارة بعثهم من أول النهار، فأثرى وكثر ماله. رواه الترمذي وحسنه.
أيها الإخوة: إن هذه القضية تدل بجلاء على أن الطريقين واحد، وأنه ينبغي علينا أن نبتغي بأعمالنا الحلال وجه الله.
نسأل الله أن يوفقنا لأرشد أمرنا، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم ارزقنا من فضلك، واعف عنا واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأسبغ عليهم رضوانه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، آمين.
الشريعة تحث على العمل والتكسب
عباد الله: لقد حثت الشريعة على العمل، وذمت البطالة والكسل، وكثير من المسلمين اليوم ما بين انغماس في الدنيا بالكلية، أو بطالة عمياء، يقع شبابهم البطالون يقعون في المعاصي، وهم في الغي سادرون، وقليل منهم من المسلمين من توسط في الأمر وعرف كيف ينتهج النهج الصحيح في هذه الحياة.
لقد باشر الصحابة الأعمال وتاجروا حتى ألصق الناس بالنبي ﷺ وهو أبو بكر الصديق، ما منعه حبه للنبي ﷺ من الكسب والتجارة والسفر، فقد سافر إلى بصرى في عهد النبي ﷺ، ولا منع النبي ﷺ حبه لقرب أبي بكر ما منعه من التجارة مع حبه له.
لقد عملوا في الكسب مع أنه قد عرضت عليهم هبات، لكن الكسب من التجارة أولى من الكسب من الهبة، وهذه المسألة التي دل عليها حديث النبي ﷺ: لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه[رواه البخاري2074]. رواه البخاري، تدل على أن قضية الشحاذة والسؤال والطلب مذمومة، ما دام الإنسان قادراً على العلم، ولم توصد في وجهه الأبواب، ولم تسد السبل، فإنه ينبغي أن يعمل وأن ينوي بعمله هذا وجه الله .
ضوابط التوفيق بين العمل الدنيوي والعمل الأخروي
ولكن حتى لا يتصور البعض أن القضية إمضاء الوقت في الكسب، والتجارة، والوظائف، والدراسة، لا بد أن نعلم بأن الشريعة قد جعلت ضوابط حتى لا يحصل طغيان ولا اختلال في الميزان، فما هي هذه الضوابط؟
أولاً: ينبغي أن يعمل الإنسان أو يدرس في مجال مباح، فإذا عمل في مجال محرم أو دراسة محرمة، أو إجارة محرمة، أو وظيفة محرمة، أو تجارة محرمة، فهو خارج عن هذه المسألة التي ذكرناها خروجاً كلياً، وطريق دنياه توصله إلى جهنم، والأمر واضح وجلي.
المكاسب المحرمة والأعمال المحرمة طريق دنيوي لا يتحد مع طريق الآخرة بل يؤدي إلى جهنم وبئس المصير.
ثانياً: إنه لا بد من تطبيق أحكام الشريعة في الأمور الدنيوية، وهذه مسألة ملفتة للنظر حقاً في هذه الشريعة، أن الشريعة ما جاءت بأحكام في الصلاة والصيام والحج والذكر والدعاء وتلاوة القرآن فقط، وإنما قد جاءت بأحكام متعددة في النكاح والطلاق والحضانة والرضاع والبيع والشراء والوكالة والكفالة والرهن والإجارة والحوالة، وغير ذلك والبناء وأحكام البناء والطرقات في الشريعة الإسلامية، فهذه أمور دنيوية، ولكن جاءت فيها أحكام شرعية؛ لأن الله أعلم بما يصلح الخلق، ليس في آخرتهم فقط، وإنما في دنياهم أيضاً، ولأن الخلق يظلمون، والإنسان ظلوم جهول، فإذا أوكل إلى الإنسان أمر دنياه يشرِّع فيه ما يشاء من القوانين ظلم وبغى، ولذلك جاءت الشريعة بأمور محددة، وتدخلت الشريعة في الأمور الدنيوية، وصار البيع والشراء والاقتصاد والعلاقات منضبطة بالشريعة، في الإسلام الشريعة تضبط هذه الأشياء، فمن عمل في الدنيا، فلا يجوز له أن يعمل في محرم، ولا يبيع محرماً كخمر وخنزير، ولا يغش ولا يحتكر.
وكذلك فإن من الشروط والضوابط: أن يؤمن الإنسان بحقارة الدنيا وتفاهتها مع عمله فيها وسعيه فيها، ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم[رواه الترمذي2322، وصححه الالباني في السلسلة الصحيحة2797]. رواه الترمذي وحسنه. ملعونة: أي مبغوضة من الله، استثنى إلا ذكر الله وما والاه وما كان في معناه من أعمال البر والخير، ويدخل في ذلك التكسب للإنفاق على النفس والأولاد، والصدقة من المال المكتسب.
قال: كأنه قيل: الدنيا مذمومة لا يحمد فيها إلا ذكر الله وعالم أو متعلم وما كان يخدم قضية الآخرة، مما جاءت الشريعة بالأمر به من وجوب النفقة على النفس والأهل، وأداء الحقوق الشرعية.
تدخلت الشريعة في أمور اللباس مع أنه أمر دنيوي، في لبس الحرير والذهب محرم على الرجال، في النفقة أوجبتها حتى على البهائم، فإذا كان عند الإنسان بهائم فيجب عليه شرعاً أن ينفق عليها، وإذا كان لا يريد أو قصرت النفقة فليطلقها ولا يتركها عنده، فكل إنسان مسئول عن نفقة البهائم التي عنده، حتى العصافير في أقفاصها.
أيها الإخوة: لقد سئل الإمام أحمد رحمه الله أيكون الرجل زاهداً في الدنيا وعنده مائة ألف؟ قال: "نعم، إذا لم يفرح"، بشرط أن لا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت. إذاً يمكن أن يكون زاهداً ولو كان عنده الملايين، وإذا وصل الإنسان وهو يتعامل بالأموال في الدنيا والوظائف لدرجة أن يكون المال عنده بمثابة الحمار الذي يركبه في تنقله، والكنيف الذي يدخل فيه لقضاء حاجته فليس على هذا خوف من التعلق بالدنيا.
فهو يحصل المال للحاجة، مثل اتخاذ المرحاض للحاجة، لا بد من المرحاض، ولكن القلب ليس متعلق بالمرحاض، لا بد من اتخاذ وسيلة نقل، كانت عند الأولين وكثير من الآخرين الدواب الحمير، ولكن القلب ليس متعلقاً بالحمار، ولا محباً له، وغالياً فيه، وينام على ذكره، ويصحو عليه، ويراه في منامة، كلا، فإذا كان الإنسان يعمل في الدنيا وقلبه ليست متعلقاً فيها، وإنما يعمل لأنه لا بد من تحصيلها لنفقاته وعياله فعند ذلك لا خوف عليه.
ومن الشروط والضوابط: عدم الانشغال بالدنيا عن الآخرة، قال الله تعالى: رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِسورة النور37. لم يحرم التجارة ولم يحرم البيع، بل قال: وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ سورة البقرة275. لكن ما الذي ذمه؟ ذم الإلهاء ولم يذم التجارة، ذم الإلهاء، وأثنى على عباده الذين رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِسورة النور37. ليس فقط أن يغلق الدكان للصلاة فقط، لا، عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وذكر الله أشياء كثيرة، وطلب العلم من ذكر الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَسورة الجمعة9. فهؤلاء لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم الذي خالقهم ورازقهم.
عن ابن مسعود أنه رأى قوم من أهل السوق أقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم، ودخلوا المسجد، تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة، قال ابن مسعود: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه، رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ.
وكذلك قال ابن عمر : فيهم نزلت رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ.
قال مطر الوراق: كانوا يبيعون ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة، وإذا رفع أحدهم المطرقة فأذن ألقاها خلف ظهره ولم يطرق بها.
إذاً هذا ضابط مهم جداً في الانشغال بالدنيا، وقد قيل في قوله تعالى: وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَاسورة القصص77. قيل: المراد بالنصيب الكفن، كأنه قال: لا تنس أن تترك جميع مالك إلا نصيب الذي هو الكفن.
قال الشاعر:
نصيبك مما تجمع الدهر كله | رداءان تلوى فيهما وحنوط |
وقال آخر:
وهي القناعة لا تبغي بها بدلاً | فيها النعيم وفيها راحة البدن |
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها | هل راح منها بغير القطن والكفن |
إذاً القناعة من الضوابط المهمة في الموضوع.
وكذلك من الضوابط في الانشغال بالدنيا: إخراج حقوق الله من ممتلكاتها، تسليم حق المال، زكاة المال، حق الزرع، وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِسورة الأنعام141. إخراج النفقات الواجبة على الزوجة والأولاد والوالدين المحتاجين، والصدقة، مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًاسورة البقرة245. ثم الالتزام بالأحكام الشرعية في العمل الدنيوي على النحو المتقدم بيانه.
وحسن القصد أن يقصد بتجارته أو عمله وجه الله، لا الأشر ولا البطر، ولا التفاخر، ولا التكاثر، وأن يقصد إعفاف نفسه عن سؤال الناس، والاستغناء عن الخلق، والإنفاق على الأهل، وصلة الرحم، وابتغاء الأجر من الله .
إذاً أيها الإخوة: إذا نوى التاجر بهذا هذا، ونوى الطالب بدراسته قوة المسلمين ونفعهم، وأردنا بأعمالنا الدنيوية وجه الله، والتزمنا بالضوابط استطعنا التوفيق ولم نظلم طرفاً من الأطراف، هذه القضية الحساسة والمهمة، التوفيق بين العمل الدنيوي والعمل الأخروي، هذه المسألة الكبيرة من فقهها والتزم بها سعد في الدنيا وسعد في الآخرة.
اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك، اللهم اجعلنا نخشاك كأنا نراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تذلنا بمعصيتك إنك سميع مجيب، انصر المجاهدين، انصر من نصر الدين، أيدهم بملائكة من عندك.