الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني: أحييكم في هذه الليلة تحية طيبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علمًا، هو العليم علام الغيوب، يعلم ما في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، هو العليم الخبير ، هو الذي شرف هذا الأمة بالعلم، وأثنى على أهل العلم، وأوجب الأجر لمن طلب العلم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد أعلم الناس بالله، وأشدهم له خشية، علمنا فأحسن تعليمنا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وعلى من تبعه من أهل العلم والذين ساروا بالعلم واهتدوا بالعلم إلى يوم الدين.
أهمية العلم الشرعي
أيها الإخوة: لا شك أن العلم الشرعي أهم مقومات هذه الأمة.
والعلم الشرعي أهم معالم الشخصية الإسلامية ولا شك.
أهم معالم الشخصية الإسلامية اتصافها بالعلم الشرعي.
ولولا العلم ما رحنا ولا جئنا.
لولا العلم ما كنا نساوي شيئًا.
ولذلك كان الجهل من الأمور التي تردي الإنسان في أسفل سافلين.
ولما صارت المسألة بهذه الأهمية، ورأينا في هذا الزمان ندرة العلماء، وقلة الطلبة الذين يطلبون العلم بجدية، والإعراض عن دراسة العلم الشرعي، الدراسة المطلوبة رغم حاجة الأمة إلى أهل العلم، كان لابد من دراسة الأسباب التي أوصلت الناس إلى الإعراض عن علم الشريعة، وعدم الرغبة فيه، وعدم الحماس لدراسته، والمباحثة في مسائله، وتعلم أنواعه ومراتبه، فضلا عن معرفته آدابه، وما يترتب على ذلك من المسائل الكثيرة.
أيها الإخوة: إننا نحتاج حقًا لمعرفة الأسباب التي تحمسنا لطلب العلم، وتشجعنا على ذلك، وتقودنا إليه.
إننا نعيش نوعًا من الدعة والكسل في طلب العلم، نحتاج معها إلى قشع لهذا الغبار وإزالة لآثار النوم الذي نغُط فيه عن أمور كثيرة من الكتاب والسنة.
إن بين أيدينا كنوزًا لا يعلمها إلا الله.
إننا في غفلة عن القرآن العظيم وما فيه، ومعاني آياته، والمراد منها، وعن معاني كثير من أحاديث رسول الله ﷺ التي تمر كلماتها علينا في غاية الغرابة، ونواجه مسائل في الحياة من أمور الفقه وغيره ما لا نجد له حلاً وتضطرب وتلتبس الأمور علينا في كثير من المسائل، والسبب الجهل بالعلم الشرعي.
انصرف الناس في هذا الزمان لدراسة العلوم الدنيوية لما فتنتنا به حضارة الغرب في هذه العلوم، ولأنها هي العلوم التي تقود إلى جمع الأموال، وتحصيل المكاسب والمناصب، وبقيت علوم الشريعة في منأى عن أهل الإسلام إلا من رحم الله .
أسباب التحمس لطلب العلم
فما أسباب هذا العزوف؟ ولماذا هذا الركود العلمي؟ وإذا كان من أشراط الساعة: أن يقل العلم فهل نرضى نحن أن نكون هذا الجيل الذي يتحقق فيه هذا الشرط من أشراط الساعة؟
معرفة فضل العلم وشرف العلماء
إن الأسباب التي تحمس لطلب العلم اتجاهات كثيرة؛ فمن ذلك مثلاً: معرفة فضل العلم، وشرف العلماء، وأجر طلب العلم، وحاجة الناس إلى أهل العلم والدعوة إلى الله .
من الوسائل التي تحمس لطلب العلم معرفة الجهل وآثاره، وقراءة سير العلماء الذين طلبوا العلم كيف فعلوا وماذا صنعوا، ومزيد من التعاون في أعمال البر والتقوى، والتي منها: إقامة حلق العلم وحضورها والتشجيع عليها، وغشيان مجالس العلماء، وإجادة قدر من التفرغ لنيل هذه الفريضة العظيمة، والإحساس بلذة الطلب، إلى غير ذلك من الأسباب التي سنتطرق إليها في محاضرة هذه الليلة.
أيها الإخوة: أولاً: إن للعلماء في هذه الأمة منزلة عظيمة ومكانة سامية، بسبب عدم معرفتها أُهمل العلماء، وانفض الناس عن التحلق حولهم، والاهتمام بالذهاب إليهم.
ولا شك أننا نعيش عصر يقظة إسلامية مباركة أوجدت نوعًا من الاتجاه للعلم الشرعي، والسعي لتلقي العلم، ولكن هذا التلقي لا بد له من أصول وطرق، وليقتصر كلامنا في هذه الليلة كما ذكرنا عن النقاط التي تحمس لطلب العلم، ولعله تتاح الفرصة للكلام مستقبلاً عن أشياء تتعلق بمنهجية طلب العلم.
أما العلماء فإن الله قد جعلهم أولي الأمر الذين تجب طاعتهم والرجوع إليهم، قال الله: أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ[النساء: 59] جاء عن كثير من المفسرين مثل ابن عباس وجابر وعطاء والحسن وغيرهم: أن المقصود بأولي الأمر هم العلماء والفقهاء، أولو العلم وأولو الفقه.
وهؤلاء بجانب الأمراء الذين يأمرون الناس بطاعة الله مستندين إلى العلماء أولاً وأخيرًا هم أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم.
فالمرجع إذًا إلى أولي العلم، هم أولو الأمر.
وقال الله : فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ[الأنبياء: 7] فأوجب علينا الرجوع إليه في المسائل، وأوجب علينا اللجوء إليهم في النوازل والحوادث، فقال: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء: 83].
وأخبر اللهأن الذين يخشونه حقًا هم العلماء، فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر : 28].
وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته على أعظم حقيقة وهي التوحيد، فقال: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ[آل عمران: 18] فأشهدهم على هذه الحقيقة العظيمة.
وأخبر عن الفرق بينهم وبين الجُهال فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9].
هؤلاء الفقهاء ألزمهم دراسة شريعته والتفقه في دينه.
وأمرهم فقال: كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ[آل عمران: 79].
وقد أمر الله عباده بأن ينقسموا إلى قسمين، فقال : وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[التوبة: 122].
فأوجب على إحدى الطائفتين الجهاد في سبيل الله لئلا يغلب الكفار المسلمين، وأوجب على الطائفة الأخرى التفقّه في الدين لئلا تندرس الشريعة، فحرس بيضة الإسلام بالمجاهدين، وحفظ شريعة الإيمان بالمتعلمين.
هؤلاء العلماء يأتون يوم القيامة طائفة من الناس بين يدي الله كما قال عليه الصلاة والسلام: إذا حضر العلماء ربهم يوم القيامة كان معاذ بن جبل بين أيديهم بقذفة حجر [صححه الألباني في الصحيحة: 109].
وفي رواية: إن العلماء إذا حضروا ربهم كان معاذ بين أيديهم رتوة بحجر" [رواه أحمد في فضائل الصحابة: 1287، وأبو نعيم في الحلية: 1/228، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1091].
فهؤلاء إذًا يأتون الله يوم القيامة مكرّمين بين يدي ربهم بسبب أنهم أوصلوا إلى الناس شريعته، ودرسوا وحيه.
وقال ﷺ مبينًا فضلهم: فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب[رواه أبو داود: 3641، وابن ماجه: 223، وأحمد: 21715، وقال محققو المسند: "حسن لغيره"].
وقال: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، وقال عليه الصلاة والسلام: إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير [رواه الترمذي: 2685، وقال الألباني: "حسن لغيره"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب: 81].
وقال ﷺ: معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر[رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: 26113، والدارمي في سننه: 355، وقال حسين سليم: "إسناده جيد، وهو موقوف على ابن عباس"].
فكفى بهذا شرفًا وكفى بهذه الرتبة أجرًا عظيمًا لمن صار من أهلها؛ كما جاء في هذه الأحاديث الصحيحة التي سقناها، وحتى الأشياء التي قد يظنها بعض الناس سهلة يتراجعون فيها إلى من هب ودب أمر ﷺ بالرجوع في شأنها إلى أهل العلم، فقال: لا تقص الرؤيا إلا على عالم أو ناصح[رواه الترمذي: 2280، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 119].
قال أبو مسلم الخولاني -رحمه الله-: "مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء، إذا بدت لهم اهتدوا، وإذا خفيت عليهم تحيروا" [تاريخ دمشق: 27/226] ولم يعودوا يدرون أين الطريق.
أما فضل أهل العلم فإنه كثير، وقد يتصور بعض الناس أن الفضل فقط للعلماء، لكن الحقيقة أن كل من يتعلم مسألة واحدة من المسائل ويعلمها لغيره فإنه ينال أجرًا عظيمًا، ولذلك لا ينبغي احتقار تعلم مسألة واحدة أي مسألة من مسائل العلم، وتبليغها للناس.
وإذا كان المسلم عندما يرى الآيات والأحاديث في فضل العلم وأهله تترا لا يتحمس بعد ذلك لطلب العلم، ولا تندفع همته ونفسه ترتفع من أجل تحصيله، فإن إحساسه في غاية التبلد.
إن المسلم إذا سمع قول الله: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11] وكم بين الدرجة والتي تليها؟ الله أعلم.
عندما يسمع قول الله وهو لم يأمر نبيه أن يزداد من شيء إلا من العلم في قوله: وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طـه: 114] فهو يسأل الله في دعائه أن يزداد من العلم.
وعندما يسمع حديث رسول اللهﷺ الذي يخبر به أنه لا حسد إلا في اثنتين ذكر منهما رجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها[رواه البخاري: 73، ومسلم: 816] هذا يغبط ويتمنى مثل حاله يقضي بالحكمة يقضي بالعلم ويعلمه الناس.
لو لم يكن في طلب العلم وتحصيله وتعليمه إلا مثل الأجر الوارد في حديثه عليه الصلاة والسلام لكفى، وهو الحديث الذي يقول فيه لعلي : لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم[رواه البخاري: 2942، ومسلم: 2406].
كيف تستطيع أن تُحصَّل هذا الأجر وهذه الهداية إلا بالعلم الذي تحصله وتكتسبه ليقودك إلى هداية الناس.
وقال ﷺ مبينًا فضل تعليم الناس: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجوره من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا[رواه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه: 2674].
إذا أراد الله بك خيرًا يا عبد الله فسيفقهك في الدين كما قال الرسول ﷺ: من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين [رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037].
يا عبد الله يا أيها المسلم يا أيها الأخ والصاحب: إذا كان الإنسان يبعث على ما مات عليه يوم القيامة كما أخبر رسول الله ﷺ فيما رواه الإمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه: يبعث كل عبد على ما مات عليه[رواه مسلم: 2878] فما ظنك بالحال التي سيبعث عليها طالب العلم أو العالم يوم القيامة، وعلى أي منزلة يكون بين الخلائق؟
وقد ذكر الخطيب البغدادي -رحمه الله- في كتابه: "الفقيه والمتفقه" فصلاً بعنوان: ذكر إن الله يبعث يوم القيامة كل عبد على مرتبته التي مات عليها، ثم قال: ذكر الرواية أن الله -تعالى- لا يخلي الوقت من فقيه أو متفقه، وساق بإسناده حديثه عليه الصلاة والسلام: لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعمله فيه بطاعته إلى يوم القيامة[الفقيه والمتفقه: 1/137، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2442].
وذكر ابن القيم -رحمه الله- في "مفتاح دار السعادة": أن هذا الغرس هم أهل العلم الذين يغرسهم الله في أرضه يعلمون الناس الخير [ينظر: مفتاح دار السعادة: 1/144] لولا هؤلاء لصارت الأرض صحراء قاحلة لأنه ليس فيها خير، ليس فيها علم، ليس فيها دين، فلا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسه، يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة حديث حسن في صحيح الجامع.
إذًا -أيها الإخوة- يتبين مكانة هؤلاء الناس وعظمهم، وخصوصًا عندما تتأمل في مدحه عليه الصلاة والسلام لحال العصابة الذين هم على الحق من أهل العلم كما قال: لا يزال في هذه الأمة عصابة على الحق[رواه أحمد: 8274، وابن حبان: 6835، وقال محققو المسند: "إسناده قوي"].
وفي رواية: قائمة بأمر الله[رواه البخاري: 3641، ومسلم: 16932].
وأخرى: قوامة على أمر الله لا يضرهم خلاف من خالفهم حتى يأتهم أمر الله وهم على ذلك، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون[رواه البخاري: 3640، ومسلم: 1921] من هم هؤلاء؟ أهل العلم والذين يجاهدون على نور من الله .
تجدون الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا[رواه البخاري: 3493، ومسلم: 2526] إذا تعلموا وفهموا.
ويكفيك في معرفة فضل صاحب العلم أنه يؤجر وهو جالس في مكانه بعلمه وتفكيره في هذا العلم؛ كما قال ﷺ: ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيَّته فأجرهما سواء[رواه الترمذي: 2325، وأحمد: 18031، وقال محققو المسند: "حديث حسن"].
فتأمل كيف أوصل العلم الأول أن يستعمل المال في طاعة الله فصار بأفضل المنازل.
وتأمل كيف أوصل العلم الثاني وهو فقير ليس عنده شيء إلى منزلة يؤجر عليها دون أن يتصدق بشي من المال ليس عنده، لكن يأخذ الأجر أجر النية المتأتية من التفكير الناتج من العلم المخزون بين جوانح هذا الشخص.
بينا أنا نائم إذا أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى لأرى الرِيَّ يجري في أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم[رواه البخاري: 82، ومسلم: 2391].
العلم -أيها المسلمون-.
وإذا ما أردت معرفة أهمية العلم وفضل العلم ورتبة العلم فتأمل معي هذه العبارات التي قالها أحد السلف: "تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة، ودراسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو منار سبيل أهل الجنة، والأنس في الوحدة، والصاحب في الغربة، والدليل في الظلمة، والمحدث في الخلوة، والسنان على الأعداء، يرفع الله به أقوامًا فيجعلهم في الخير قادة، وفي الهدى أئمة يقتدى بهم، وترمق أعمالهم، وترغب إليهم الملائكة بأجنحتها، وكل رطب ويابس يستغفر لهم حتى حيتان البحر وهوام الأرض وسباع الرمل ونجوم السماء، ألا إن العلم حياة القلوب من العمى، ونور البصر من الظلم، به يطاع الله، وبه يعبد، وبه يحمد الله، وبه يُوحَّد، وبه توصل الأرحام، ويُعرف الحلال من الحرام، هو أمام العقل، وهو إمام العقل، والعمل تابعه، يلهمه الله السعداء، ويحرمه الأشقياء، ولا خير في عبادة بغير تفقه، ولا خير في قراءة بغير تدبر" [الفقيه والمتفقه: 1/100، وأخلاق العلماء، للآجري: 34 - 35].
هذا العلم وكل آية وحديث في فضل العلم فالمقصود به علم الشريعة، لا علم الذرة ولا الطب ولا الفيزياء ولا علم الكيمياء، ولا علم الأحياء، وإنما هو العلم الذي يحيي الله به القلوب، علم الشريعة.
كل آية في فضل العلم وكل حديث في فضل العلم فهو في علم الشريعة، وليس في العلوم الدنيوية، تلك العلوم الدنيوية أقل رتبة، وأدنى منزلة، وهيهات أن يصل صاحب العلم الدنيوي إلى ما يصل إليه صاحب العلم الشرعي.
ولكن هذه العلوم الدنيوية تحصيلها بالنسبة للمسلمين فرض على الكفاية إذا احتاجوا إلى شيء منها وجب أن يكون فيهم من يتعلم هذه العلوم الدنيوية لكي تتحصل بها المصالح وتتسهل بها حياة المسلمين، قال أبو الأسود الدؤلي -رحمه الله- في فضل العلم وشرفه.
العلم زين وتشريف لصاحبه | فاطلبه هديت فنون العلم والأدب |
العلم كنز ذخر لا نفاد له | نعم القرين إذا ما صاحب صحب |
قد يجمع المرء مالاً ثم يحرمه | عما قليل فيلق الذل والحربا |
وجامع العلم مغبوط به أبداً | ولا يحاذر منه الفوت والسلب |
يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه | لا تعدلن به درًا ولا ذهبًا |
[نشر طيّ التعريف في فضل حملة العلم الشريف، ص: 163].
مَا الْفَخر إِلَّا لأهل الْعلم إِنَّهُم | على الْهدى لمن استهدى أدلاء |
وَقِيمَة الْمَرْء مَا قد كَانَ يُحسنهُ | والجاهلون لأهل الْعلم أَعدَاء |
[الفقيه والمتفقه: 2/150].
معرفة فضل وأجر طالب العلم
ومن الأمور المهمة التي تحمس في طلب العلم -أيها الإخوة-: معرفة فضل الطلب والأجر الذي يكون لصاحب العلم إذا طلبه، ولا شك أن النفوس تتشوف لمعرفة الأجر، ولا شك أن معرفة الأجر والثواب مما يحمس في الطلب ولا شك، قال ﷺ: من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء ولم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر[رواه أبو داود: 3641، والترمذي: 2682، وابن ماجه: 223، وأحمد: 21715، وقال محققو المسند: "حسن لغيره"].
وقال ﷺ: من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة[رواه مسلم: 2699].
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-: فكل طريق حسي أو معنوي يسلكه أهل العلم يعين على العلم أو يحصله فإنه داخل في قوله ﷺ: من سلك طريقًاأي طريقة توصل للعلم سهل الله له طريقًا إلى الجنة أي طريقة، سؤال بالهاتف، سماع شريط، قراءة كتاب، تفكير في مسألة، مدارسة مع طلبة العلم، بحث وتنقيب في الكتب، أي طريقة تحصل بها العلم يسهل الله لك بها طريقاً إلى الجنة.
وقال ﷺ: إن الله أوحى إليّ أنه من سلك مسلكًا في طلب العلم سهلت له طريق الجنة، وقصد في علم خير من فضل في عباده[رواه البيهقي في شعب الإيمان: 5367، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 255].
وقال: ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم، إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع[رواه ابن ماجه: 226، وأحمد: 18093، وابن خزيمة: 193، وابن حبان: 85، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 85] حتى يرجع، يعني ذاهبًا وراجعًا، حتى يرجع، تذهب إلى حلقة علم في بيت من بيوت الله تحيي قلبك، وتعرف الحلال من الحرام، تفتح كتابًا، تتصل بشيخ أو عالم تسأله.
ومعنى: تضع الملائكة أجنحتها قال الخطابي -رحمه الله-: يحتمل ثلاثة معاني:
الأول: أنه بسط الأجنحة.
الثاني: أنه بمعنى التواضع تعظيمًا لطالب العلم، تصور ملائكة الله بأجنحتها، ملائكة الرحمن بأجنحتها الهائلة العظيمة تتواضع لطالب العلم رضا بما يصنع.
الثالث: أن المراد به النزول عند مجالس العلماء وترك الطيران [معالم السنن: 1/61]؛ لأن الملائكة تطير ولها أجنحة مثنى وثلاث ورباع، فتترك الطيران، وتنزل تحف الحلق بأجنحتها فيما بين السماء والأرض، كل هذا لطالب العلم، تسهيل الطرق إلى الجنة، وإنزال الملائكة، ووضع الأجنحة له رضا بما يصنع، من الذي يستطيع أن يحصل فضيلة مثل هذه الفضيلة، وأي عمل يكون له من الفضل والأجر مثل هذا العمل؟ طلب العلم.
هذه الآيات والأحاديث تحمس وتدفع إلى الطلب، ويكون الإنسان مغبونًا أي غبن إذا ترك العلم وطلب العلم وهذه الآيات والأحاديث تدل على فضل الطلب وأجر الطلب.
ثم تأمل حديثهﷺ: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس شربوا وسقوا ورعوا، شربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به[رواه البخاري: 79، ومسلم: 2282].
فهذا العلم إما أن يكون عند شخص يفقه فيعرف المعاني ويعلم ويفتي، وإما أن يكون عند شخص يحفظ لكن لا يفقه ولكن يؤدي ما حفظ، رب حامل علم ليس بفقيه، ورب حامل علم إلى من هو أفقه منه.
نظر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأدها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه.
فإذًا، لا يخلو طالب العلم أن يكون فقهيًا مجتهدًا مفتيًا يبين للناس، أو يحفظ أشياء فيبلغها لمن يفقهها ويستفيد منها.
معرفة حكم طلب العلم
ومن الأمور التي تحمس على طلب العلم: معرفة حكم طلب العلم، وهو الوارد في حديثه عليه الصلاة والسلام: طلب العلم فريضة على كل مسلم [رواه ابن ماجة: 224، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 72]
وما معنى كلمة: فريضة؟
واجب، يجب أن تطلب، لا خيار لك.
طلب العلم فريضة على كل مسلم والمسلم يشمل الذكر والأنثى.
ومن العلم ما يكون فرض عين لابد لكل شخص من تعلمه كعلم التوحيد، وما يكون العامل به مؤمنًا، معرفة الله وصفاته، وصدق رسله، واليوم الآخر، والبعث والنشور، لابد من كل إنسان أن يتعلم هذا، يأثم لو لم يتعلمه.
وكذلك ما لا يسعى أحداً جهله.
وكذلك معرفة كل مسألة يتعرض لها الإنسان، ويحتاج إلى معرفتها، فيجب عليه أن يتعلمها، ولذلك بعض المسائل يكون تعلمها فرض عين، وبعض المسائل تعلمها فرض كفاية.
وبعض المسائل يكون تعلمها مستحب في وقت وواجب في وقت آخر، فرض العين بينا مثاله، وفرض الكفاية مثل تعلم الأحكام الفقهية المتعلقة بفروع الدين، فهذه إذا ما وجد في البلد أحد يدل الناس عليها يأثم أهل البلد كلهم، كلهم يأثمون إذا لم يوجد فيهم من يبين لهم الأحكام الشرعية ويفتيهم، ولذلك طالب العلم والعالم يسدوا مسد الأمة، ويرفع الإثم عن عموم الأمة بسبب طلبه للعلم؛ لأنه يعلم الناس، يكشف لهم، هذا العلم خطير، الدين خطير، لابد أن يكون له أناس يقومون بشأنه لا يمكن أن ينزل الله دينًا خاتمًا للأديان ومهيمنًا على الأديان ورسالة عامة للبشر، ثم لا يكون هناك في الأمة من يحمل هذه الرسالة، ويعلم هذا الدين.
فإذا لم يقم به من كل صقع وناحية من فيه الكفاية يجب على من يستطيع أن يندب نفسه لتعلم العلم الشرعي.
وبعض المسائل التي يكون تعلمها مستحباً في وقت وواجباً في وقت آخر، مثل ما قال ابن المبارك -رحمه الله-: "لو أن رجلاً ليس له مال لم يكن عليه واجباً أن يتعلم الزكاة، فإذا كان له مائتا درهم وجب عليه أن يتعلم كم يخرج، ومتى يخرج، وأين يضع، وسائر الأشياء على هذا" [الفقيه والمتفقه: 1/173].
المرأة قبل الحيض قد لا يجب عليها أن تتعلم أحكام الحيض لكن إذا حاضت وجب عليه أن تتعلم أحكام الحيض؛ لأنها لا تقيم العبادة إلا بذلك.
وهكذا قل في أحكام الصيام والحج، وغيرها من أحكام الدين يحتاج الإنسان في بعض المواقف أن يعلم الحكم الشرعي.
الآن الناس في هذه الأيام يريدون الاشتراك في الشركات والمساهمة في الشركات، تعلم حكم المساهمة في الشركات قد لا يكون واجبًا، فإذا أراد شخص أن يساهم يجب عليه أن يتعلم الأحكام الشرعية المتعلقة بالمساهمة، ما حكم المساهمة؟ ومتى تكون مباحة؟ احتاج الآن يجب عليه أن يتعلمها، صار فرضًا عينيًا عليه أن يتعلم.
فإذا أراد أن يلبس خفًا أو جوربًا يجب أن يتعلم أحكام المسح على الجوربين.
إذا أراد أن يسافر ويقصر الصلاة يجب عليه أن يتعلم متى يكون سفرًا تقصر به الصلاة؟ ومتى يجمع الصلاة؟
أما أن يغط في جهل عميق.
المرأة إذا توفي زوجها يجب أن تتعلم أحكام الحداد في تلك اللحظة.
ولذلك -أيها الإخوة- يجب أن نحتاط؛ لأن أحيانًا تحصل للإنسان حالة طارئة ليس عنده وقت أن يتعلم الأحكام في تلك اللحظة، قد يدهم العدو المسلمين، قد تحدث فتنة، قد تحدث حرب، هناك أشياء يجب أن يتعلم لها الأحكام، إذا دوهمنا وفوجئنا كان عندنا علم؛ لأنه قد يحدث عندك ظرف لا مجال لك أن تفتح كتاباً أو تتصل بعالم، وما لم يكن عندك العلم بهذه المسائل تتورط وتندم، ولات ساعة مندم.
وعن علي بن أبي طالب: أنه جاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أريد أن أتَّجِر، فقال له: "الفقه قبل التجارة، إنه من تجر قبل أن يفقه ارتطم في الربا ثم ارتطم.
قال الخطيب -رحمه الله -: فواجب على كل أحد طلب ما تلزمه معرفته مما فرض الله عليه على حسب ما يقدر عليه من الاجتهاد لنفسه [الفقيه والمتفقه: 1/176] ثم قال مثلاً: تلزمه الطهارة والصلاة والصيام.
وهكذا يجب على كل مسلم أن يعرف ما يحل له وما يحرم عليه من المآكل والمشارب والملابس والفروج، معرفة من التي يجوز لك أن تتزوج بها، والتي لا يجوز لك أن تتزوج، من التي تكشف عليها والتي لا تكشف عليها، من هم المحارم؟ كثير من الناس لا يعرفون محارمهم.
والأموال، فجميع هذا لا يسع أحد جهله.
معرفة المنزلة التي يضع فيها العلم صاحبه
ومن الأمور التي تحمس لطلب العلم: معرفة المنزلة التي يضع فيها العلم صاحبه، العلم يرفع المنزلة، يكون الواحد بين الناس في أسفل سافلين في أردأ مكانة، محتقرًا مقبوحًا من الخلق، فإذا طلب العلم صار له شأن عظيم، ومكانة سامية، جاء في صحيح الإمام مسلم عن أبي الطفيل: أن نافع بن عبد الحارث أتى عمر بن الخطاب بعُسفان، وكان عمر استعمله على أهل مكة، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ لما جئتني الآن من استخلفت وراءك نائباً، قال: استخلفت عليهم ابن أبزى، فقال له: من ابن أبزى هذا، فقال رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ استخلفت على أهل مكة مولى، فقال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم ﷺ قد قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين [رواه مسلم: 817].
لو تأملت -يا أخي الكريم- المنزلة التي يرتفع إليها طالب العلم بتعلم العلم لتحمست للطلب ولا شك، جاء وقت على المسلمين كان يفتي أربعة، أمسكوا بزمام الفتوى في أشهر ممالك المسلمين وأقطارهم، أربعة أصلاً من العبيد، صارت إليهم الفتوى، كان من ضمن هؤلاء الموالي: أبو العالية، وكان مولى لابن عباس، قال: كنت آتي ابن عباس وهو على سريره وحوله قريش، فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير، فتغامزني قريش، مولى على سرير ابن عباس؟ ففطن لهم ابن عباس فقال: كذاك هذا العلم يزيد الشريف شرفًا، ويجلس المملوك على الأسرة.
وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: كان عطاء بن أبي رباح عبدًا أسود لامرأة من أهل مكة، كان أنفه كأنه باقلاء، هذا الرجل الدميم، دميم الخلقة، الأسود، الذي ربما كان أشلاً أفطس، أنفه كأنه باقلاء، هذا رجع إليه أهل مكة بأكملهم في الفتوى، مفتي البلد، مفتى من؟ مفتي مكة البلد الحرام التي يفد إليها الناس والحجاج، دار الإسلام، جاء سليمان بن عبد الملك إلى عطاء بن أبي رباح وابناه معه فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما صلى انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج، وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه: قوما، فقاما فقال: يا بني لا تنيا في طلب العلم فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود [نشر طيّ التعريف في فضل حملة العلم الشريف، ص: 168].
لكن رغمًا عن أنف الخليفة لابد يسأل الخليفة، الخليفة جاهل، لابد يسأل، ومن يسأل؟ العبد الأسود؛ لأنه عالم.
وقال الأعمش: "لولا القرآن لكان على رقبتي دن من صحناه أبيعه" يعني صينية إدام يصنع من السمك الصغار، قال: لولا العلم كان على ظهري الآن صينية أبيع.
وقال مرة: لولا أني تعلمت العلم لكنت بقالاً يقذرني الناس أن يشتروا مني.
وكان عطاء الذي تقدمت قصته قبل قليل عبدًا أسود ، قال أحدهم: كنا إذا جئناه نهاب أن نسأله حتى يتنحنح، فكان ذلك إذنه في السؤال إذا تنحنح [الحث على طلب العلم، ص: 52] يعني ابدؤوا في السؤال.
وكان مجاهد من سودان مكة مولى لابن عباس يأخذون له الركاب، ويسوون عليه ثيابه، يدعون له، يسألونه ويأتون إليه.
وكان محمد بن عبد الرحمن الأوقص عنقه داخل في بدنه، خلقته دميمة، وكانت رقبته داخلة في بدنه، طبعاً كل خلق الله حسن، لكن بالنسبة للناس خلقه دميم، ما له رقبة، وكان منكباه خارجين كأنهما زوجان، هذه عظامه بهذا الشكل، فقالت له أمه، والأم دائمًا ترحم ولدها، وتعطف عليه، وتشفق عليه، رأت ولدها بهذه الصورة في هذه الخلقة، والأم لا شك أنه يؤثر فيها أن يكون ولدها دميمًا مشوهًا بهذه الصورة، وترغب أن ولدها يتبوأ مكانة بين الناس، مهما كان، نصحت هذه الأم ولدها نصيحة غالية، قالت: يا بني لا تكون في قومك إلا المضحوك منه المسخور به، ما له رقبة، فعليك بطلب العلم فإنه يرفعك، امرأة عاقلة، قال: فطلب العلم فولي قضاء مكة عشرين سنة، وكان الخصم إذا جلس بين يديه يرتعد حتى يقوم.
ومرت به امرأة يومًا وهو يقول: اللهم أعتق رقبتي من النار، فقالت له: يا ابن أخي فأي رقبة لك؟
هذا الرجل يقول عنه محمد بن القاسم بن خلاد: كان الأوقص قصيرًا دميمًا قبيحًا قال: فقالت لي أمي وكانت عاقلة: يا بني إنك خلقت خلقة لا تصلح لمعاشرة الفتيان.
لو نزلت في الشارع تلعب مع الفتيان يضحكون عليك.
فعليك بالدين فإنه يتمم النقيصة، ويرفع الخسيسة، فنفعني الله بقولها، وتعلمت الفقه، فصرت قاضيًا [تاريخ دمشق: 54/ 105- 106].
وتأمل في حال كثير من العلماء تجد الضرير والكسيح والمشلول والأسود ودميم الخلقة، ومع ذلك الناس يغشوهم من كل فج عميق ليسألوهم، رغمًا عنهم، هذا العلم سلطان أكبر من سلطان الملوك والأمراء، سلطان العلم، ترغم أنوف الناس لطالب العلم، وللعالم يسألونه رغمًا عنهم، غنيهم وفقيرهم، عظيمهم وحقيرهم، كبيرهم وصغيرهم، لابد أن يحتاجوا للعلم، والعلماء هم النبراس فيأتي الناس إليهم، لما خرج أسد بن الفرات -رحمه الله- من سوس إلى صقلية خرج معه وجوه البلد والناس يشيعونه، فلما نظر أسد الناس من حوله من كل جهة، قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والله يا معشر المسلمين ما ولي لي أب، أبي ليس أمير ولا والي، ما ولي أب ولا جد، ولا رأى أحد من سلفي مثل هذا، ولا بلغت ما ترون إلا بالأقلام، الكتابة والقراءة والتسطير والنسخ، فاجتهدوا أنفسكم فيها، وثابروا على تدوين العلم تنالوا الدنيا والآخرة [ترتيب المدارك وتقريب المسالك، لأبي الفضل اليحصبي: 3/305].
وأي واحد إذا فشل في شيء من أمور الدنيا فطلب العلم يحتاج إليه الناس أهله جيرانه جماعة مسجده أهل الحي، وإذا اتسع علمه صار يحتاج إليه أهل البلد، يستشار ويسأل، يستفتى، تتجه إليه الأنظار.
وليس المقصود من هذا الكلام أن يكون الدافع لك يا أيها الأخ المسلم لطلب العلم تبوء المكانة الدنيوية، لكن أنت تعرف أن الله يعز طالب العلم في الدنيا، بأي شيء؟ بعلم الشريعة الذي بين جنبيه.
معرفة الحاجة إلى العلماء
ومن الأمور المحمسة لطلب العلم كذلك: معرفة الحاجة إلى العلماء، عندما نرى -أيها الإخوة- الآن واقعنا الذي نعيش فيه، هذا الواقع المأساوي من ضمن المآسي الموجودة فيه ندرة العلماء، كم واحد يصلح أن يقال له الآن في هؤلاء الملايين من المسلمين، مئات الملايين المتكاثرة من المسلمين كم واحد منهم يصلح أن يقال عنه: إنه عالم يجتهد ويفتي؟ كم واحد من الأمة يقابلهم عالم بالحسابات؟ فيه بلدان ما فيها علماء، ملايين المسلمين ما عندهم عالم واحد، ونحن ربما نكون في هذا المكان في هذا البلد قد يوجد من نستفتيه، في بلاد أخرى لا يوجد علماء، فيه بعض الناس المضلين وبعض الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال، والجهلة الذين تبوؤوا مناصب يقال: المفتي فلان، وهو لا يعرف مما أنزل الله على رسوله ما يصحح به أدنى عبادة من العبادات لديه، وهو يفتي الناس بالجهل، مراكز إسلامية في أصقاع الأرض ما في أحد، يحتاجون السؤال ما يجدون أحداً يفتيهم، مساكين فعلاً، ما يجدون أحداً يفتيهم، أنت ينبغي أن تتخيل الحالة الموجودة في المسلمين اليوم لما ذهب العلم ولم يوجد هناك من أهل العلم إلا القلة القليلة النادرة من الناس، فكيف عيشهم؟ وكيف حالهم؟ كيف يصلون؟ كيف يزكون؟ كيف يصومون؟ كيف ينكحون؟ كيف يطلقون؟ ما حكم مطعامهم ومشاربهم وتجاراتهم وأنكحتهم؟
هذا والله الهم العظيم الذي ينبغي أن يشغل الأذكياء من المسلمين في هذا الزمان.
ينبغي على الأذكياء من المسلمين في هذا الزمان أن يستشعروا فعلاً حاجة الأمة للعلماء.
كثر الكلام عن حاجة الأمة إلى أصحاب الكفاءات الدنيوية لكن -والله يا جماعة- إن حاجة المسلمين إلى العلماء أكثر من حاجتهم إلى الأطباء والمهندسين والتقنيين والفنيين وأصحاب رؤوس الأموال، العلم أهم بكثير من كل هذه الأشياء، ومع ذلك الآن الأمة، الآن تعلم كثير من أبناء المسلمين وذهبوا إلى الخارج ورجعوا وشهادات عليا في كل شيء، في الطب في الهندسة في الأجهزة في التخطيط، في كل حاجة من الحاجات التي تخطر في بالك في الزراعة والحيوانات وجميع النواحي، لكن العلم الشرعي ليس له الاهتمام إلا الشيء النادر والقليل، مع أن الأمة تحتاج من الذي يفصل بينهم في الخصومات، من الذي يفتيهم، من الذي يرد على أعداء الإسلام الشبهات، من الذي يجادل النصارى والكفار، من الذي يكافح الأعداء بالقرآن وهو يفقه معناه، والله يقول: وجهادهم به جهادًا كبيرًا.
قيل: هذه حكاية إن الشياطين قالوا لإبليس: يا سيدنا ما لك تفرح بموت العالم ما لا تفرح بموت العابد؟ قال: انطلقوا، فانطلقوا إلى عابد فأتوه، فقالوا: إنا نريد أن نسألك فقال له إبليس: هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في جوف بيضة؟ فقال العابد فكر قال: لا أدري، ظن أنه ورع، يتورع الآن عن الفتيا، فقال إبليس لجنده: أترونه كفر في ساعة؟ ثم جاؤوا إلى عالم في حلقته يحدث أصحابه فقال له: إنا نريد أن نسألك فقال: سل؟ فقال: هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في جوف بيضة؟ قال: نعم، قال: وكيف؟ قال: يقول كن فيكون، فقال: أترون ذلك لا يعدو نفسه، وهذا يفسد عليّ عالمًا كثيرًا.
قال الحسن: "لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم" [صيد الخاطر، ص: 193].
فالأمة تحتاج إلى العلماء، إذا ما وجد علماء كثيرون على الأقل يوجد طلبة علم، يوجد أنصاف علماء وأرباع علماء ينقلون إلى الناس ما يمكن نقله من العلم، من أقوال العلماء المتقدمين، إذا ما وجد علماء مجتهدين على الأقل يوجد طلبة علم يحفظون أقوال العلماء، يحفظون فتاوى العلماء، إذا قال واحد من الناس: ما حكم كذا؟ يقول له طالب العلم: أفتى فيها بفلان بكذا، وقال فلان في كتابه كذا، على الأقل لا بدّ يوجد.
أما أن توجد اليوم محلات وبلدان وأماكن للمسلمين وأحياء ومساجد ما فيها من يصحح عبادات الناس، ولا من يعلم جاهلهم، ولا من يرشد ضالهم، ولا من يجيب على أسئلتهم، هذا من البلاء العظيم، والشر الوخيم الذي بلينا به.
التفكر في ذهاب العلماء وموتهم
ومن الأمور التي تحمس إلى طلب العلم كذلك: التفكر في ذهاب العلماء وموت العلماء، قال الله : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الرعد: 41] ورد عن ابن عباس وغيره: ذهاب فقهائها وخيار أهلها، هو نقص الأرض من أطرافها، وعنه موت العلماء والفقهاء [الفقيه والمتفقه، ص: 167].
قال ابن مسعود: "عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه أن يذهب أصحابه" [الفقيه والمتفقه: 2/169] وإدبار الدين موت العلماء.
وأنت الآن ترى بين فترة وأخرى يموت عالم من العلماء، بين فترة وأخرى تسمع أن فقيهًا من الفقهاء وعالما من العلماء قد مات على ندرتهم وقلتهم، فما الذي يجعل في نفسك أيها المسلم؟
إذا كنت غيورًا صادقًا والله ليحدثن في نفسك من الحسرة أنك ما تلقيت عنهم ولا سألتهم ولا طلبت العلم على أيديهم، طبعاً يحدث ذلك عندما تتفكر في موت العلماء، ولذلك فإن بعض أهل العلم كانوا يرحلون في طلب العلم، ويدخل البلد على أساس أن يلاقي فلاناً من العلماء فإذا بهذا العالم قد مات، فكم ينغم؟ وكم يصاب بالحزن والحسرة؟
رحل الحافظ أحمد بن محمد بن الحسن الأصبهاني إلى بغداد وهو ابن ست عشرة سنة مسارعًا لإدراك أبي نصر الزينبي، أبو نصر الزينبي هو حامل حديث علي بن الجعد عن شعبة، من تلاميذ علي بن الجعد الذي يحدث عن شعبة، رحل إلى أبي نصر الزينبي لكي يدرك هذا السند العالي، فلما وصل تلقاه نعيه، وإذا بالعالم هذا المحدث قد مات، فبكى الرجل وصاح، وقال: من أين لي علي بن الجعد عن شعبة؟ [سير أعلام النبلاء: 18/444] كيف أحصل الآن حديث علي بن الجعد عن شعبة؟ راح عليه حديث علي بن الجعد عن شعبة.
وقال أحدهم: مرة ذهبت إلى فلان، رحل إليه، فدخل البلد سأل عنه، فقال له السائل: هذا مات ودفناه قبل هنيهة، قال: كادت مرارتي تنشق، حسرة وحزنا أنه مات العالم وما أخذ عنه شيئًا، ولا حصله.
بعض التابعين وصل المدينة بعد موت الرسول ﷺ بليال بسيطة كان سيكون صحابياً لكن ما قدر الله ذلك، دخل المدينة وقد توفي ﷺ وهو قد رحل إليه أيامًا طويلة.
فأيها الإخوة: إذا كنا نسمع ونسمع عن فقد العلماء ما حصلناهم ولا جلسناهم ولا أخذنا عنهم، وسيموت العلماء، كل عالم الآن موجود سيموت، وبعد فترة من الزمن ستسمع: مات فلان الفلاني! مات فلان الفلاني! مات الشيخ فلان! توفي الشيخ فلان! هذا المشهور بالعلم سيأتي علينا فترة بعد فترة لا نعلم طويلة أم قصيرة وإذا بهؤلاء العلماء المشهورين المعروفين الفقهاء المحدثين سيبلغك نعيهم، سيتصل الناس على بعضهم بالهاتف سمعت الشيخ فلان مات، لا، صحيح والله، ويرحل الناس بعضهم إلى ذلك البلد ليشارك في الصلاة عليه، وتشييع جنازته، سيبلغنا نعي العلماء، ويقال: فلان توفي، فلان مات، فماذا صنعنا؟ إن الله لا ينزع العلم منكم بعدما أعطاكموه انتزاعًا، ولكن يقبض العلماء بعلمهم، ويبقى جهال فيسألون فيفتون فيضلون ويضلون.
إن الله -تعالى- لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
الحق نفسك، الحق نفسك يا أخي المسلم والله الآن ربما لا تكون مجتهدًا في الطلب، غدًا تجتهد في طلب الحديث مثلاً تواجهك معضلة في الحديث في سند من الأسانيد تقول: أتصل على الشيخ فلان، ولكنك تتذكر أنه قد توفي فتتندم وتتحسر إن كنت فعلاً من الموقنين الصادقين أنك ما لحقت عليه وسألته هذا السؤال، تواجهك مسألة فقهية ولا تعرف الراجح وتقرأ هنا وهنا، لا تعرف الراجح، وتشكل عليك أشياء، وتندب من تتصل به، فإذا هو قد توفي، ويقال: ذهب الذي كان يجمع بين الأثر والفقه، وبين الدليل والفهم، قد ذهب فتتحسر، ذهب فلان، الحق نفسك، قال البخاري -رحمه الله تعالى- في أول كتابه الفرائض من صحيحه، قال عقبة بن عامر : تعلموا العلم قبل الظانين، قال البخاري: يعني الذين يتكلمون بالظن [صحيح البخاري: 8/148] بدون علم، يتكلمون بالظن.
ومعنى الكلام: تعلموا العلم من أهله المحققين الورعين قبل ذهابهم ومجيء قوم يتكلمون في العلم بمثل نفوسهم وظنونهم التي ليس لها مستند شرعي.
الحق نفسك على الثقات من العلماء.
والعالم إذا مات ليس بالسهل أن يخلفه مثله أبدًا.
تلاميذه قد لا يكونون مثل شيخهم، وتأمل في حال من مضى كيف صار، قال بعض السلف: "العالم مثل الحمى، والحمى هي عين الماء الحار الذي يستشفى به بالاغتسال فيه، يأتيه البعداء ويتركها الأقرباء، فبينما هي كذلك إذا غار ماؤها، يعني مات العالم، وقد انتفع بها، وبقي قوم يتفكنون، يتندمون: يا ليتنا لحقنا على فلان، يا ليتنا أتينا فلانا!
فضل العلم أحسن من فضل العبادة
ومن الأمور المحمسة لطلب العلم: أن تعلم أن فضل العلم أحسن من فضل العبادة، وأحب إلى الله، نوافل العلم أحب إلى الله من نوافل العبادة، والدليل قوله ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه الحاكم وغيره: فضل العلم أحب إليّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع[رواه الحاكم: 314، وأبو نعيم في الحلية: 2/211].
مجالس الذكر هذه، قال عطاء: "مجالسُ الذِّكر هي مجالسُ الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيعُ وتصلّي وتصومُ وتنكحُ وتطلّق وتحجّ، وأشباه هذا" [الأذكار للنووي، ص: 10].
قال الحسن: "لأن أتعلم باباً من العلم فأعلمه مسلماً أحب إلي من أن تكون لي الدنيا كلها, أجعلها في سبيل الله -تعالى-" [الفقيه والمتفقه: 1/102].
لاحظ: الدنيا كلها في سبيل الله، نوافل العلم أحب إليّ من أن أتصدق بالدنيا.
قال النووي في كتابه: "المجموع" في المقدمة: "والحاصل أنهم متفقون" يعني علماء السلف "على أن الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الصوم والصلاة والتسبيح، ونحو ذلك، فإن نوافل البدن هذه، نوافل الصلاة والصيام والصدقة هذه نفعها لصاحبها فقط، ولكن نفع العلم ينفع صاحبه والمسلمين".
ثم إن العلم يصحح العبادات لكن لو أنه عبد وعبد لا يزداد علمًا إلا إذا تعلم، والعابد تابع للعالم مقلد له في عبادته ولا عكس.
أما العالم ما يقلد العابد في العلم، يقول النووي مواصلاً تفضيل نوافل العلم على نوافل العبادة: "ولأن العلم تبقى فائدته وأثره بعد صاحبه" [المجموع: 1/21 - 22 ] الكتب والتلاميذ هذه آثار العلماء بعد موتهم.
ولذلك قال بعضهم: فإن تصنيف العالم ولده المخلد؛ لأنك لو كان عندك ولد سيموت الولد بعد فترة، انتفعت بالولد دعا لك عشرين سنة ثلاثين أربعين سنة، لكن الكتاب يبقى أجيالاً وعصوراً، كم من الناس الآن انتفعوا بكتاب الإمام البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وأحمد، وكتب الإمام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم -رحمهم الله تعالى-؟ كم انتفعوا الآن؟ كم نسخة طبعت؟ ما لهم فيها حقوق طبع ولا شيء، تصل الأجور إلى قبورهم وهم فيها، قال: "ولأن العلم تبقى فائدته وأثره بعد صاحبه، والنوافل قد تنقطع بموت صاحبها" [المجموع: 1/22].
ولأن العلم يوجب تقوى الله -تعالى-، وفرض الكفاية بالتعلم أفضل من فروض العين من حيث أن فاعله يسد مسد الأمة ويسقط الحرج عن الأمة، من هذه الجهة طبعاً، طبعًا هذا الكلام ليس للتهوين من النوافل، العبادات تزكي النفس ولا بدّ منها، لا بدّ للشخصية الإسلامية من عبادات تزكي النفس، لكن لو واحد خير بين أن يقوم في الليل يكتب مسألة وإلا يصلي ركعتين، فاسمع ماذا يقول الإمام أحمد عن ابن هانئ قال: قلت لأحمد بن حنبل: أي شيء أحب إليك أجلس بالليل أنسخ، أكتب العلم ومسائل العلم والأحاديث أو أصلي تطوعًا؟ فقال: إذا كنت تنسخ فأنت تعلم به أمر دينك، فهو أحب إليّ، ولذلك قيل: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد [صيد الخاطر، ص: 48].
قال ضرار بن عمرو: "إن قوماً تركوا العلم ومجالسة أهل العلم واتخذوا محاريب فصلوا وصاموا حتى يبس جلد أحدهم عَلَى عظمه وخالفوا السنة فهلكوا فوالله الذي لا إله غيره مَا عمل عامل قط عَلَى جهل إلا كان مَا يفسد أكثر مما يصلح" [تلبيس إبليس، ص: 287].
وقال مكحول: ما عبد الله بشيء أفضل من الفقه [الفقيه والمتفقه: 1/119].
إذًا، العبادة بدون علم بدعة تنقلب إلى بدع، العبادات بدون علم، هؤلاء المبتدعة يعبدون ويعلمون، حلق ذكر جماعي، وأشياء من البدع ما أنزل الله بها من سلطان، وما يقبل منهم، وعملهم مردود عليهم.
معرفة المقارنة بين الأمور الدنيوية والعلم الشرعي
ومن الأمور التي تحمسك لطلب العلم: معرفة المقارنة بين الأمور الدنيوية والعلم الشرعي، كما قال ﷺ: الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله، وما والاه، أو عالماً، أو متعلماً حديث حسن [رواه ابن ماجه: 4112، وقال الألباني: "حسن" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 74].
كل الدنيا ملعونة، كل ما فيها من الأموال والأنفس والثمرات هذه الأشياء زينة الدنيا والأولاد كل شيء إلا إذا كان يؤدي إلى طاعة الله، إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلمًا.
فكر الآن في المقارنة بين العلم والمال، لتجد يا أيها المسلم الذي ربما تكدح في جمع المال وتضن على نفسك بساعة بدل ما تجلس فيها تجمع أموالاً تتعلم فيها مسائل من العلم فكر في المقارنة بين العلم والمال.
العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الملوك والأغنياء.
العلم يحرس صاحبه، والمال صاحبه يحرسه.
المال تذهبه النفقات، والعلم يزكو ويكثر كلما أنفقت منه.
صاحب المال إذا مات فارقه ماله ولا يدخل معه القبر أبدًا، وصاحب العلم علمه في صدره يدخل معه قبره.
العلم حاكم على المال، كيف؟ في الميراث والنفقات والزكاة وغيرها، العلم يحكم في المال، العلم هو الحاكم، والمال محكوم عليه، والمال لا يحكم في العلم، ادفع ملايين تشتري صحيح البخاري محفوظًا في صدرك، ما يمكن، تشتري كتباً يعلوها الغبار ولا تستفيد منها شيئاً، إذا لم تطلب العلم وتقرأ فيها.
المال يحصل للمؤمن والكافر والبر والفاجر، والعلم النافع لا يحصل إلا للمؤمن.
العالم يحتاج إليه الملوك ومن دونهم وصاحب المال لا يحتاج إليه إلا الفقراء.
العلم يزكي النفس، والمال يزيدها شحًا.
العلم يدعوها إلى التواضع، والمال يدعوها إلى الكبر والغرور والفخر والخيلاء.
المال قد يذهب في ليلة صفقة في البورصة تنهي المال من أصله، فيصبح صاحبه فقيرًا معدمًا في لحظة، والعالم لا يخشى عليه الفقر من علمه فهو في زيادة.
قيمة الغني في ماله، والناس يجلونه لأجل ماله، فإذا ذهب ذهبته قيمته، والعالم قيمته فيه ومعه لا تفارقه.
ما أطاع الله أحد قط إلا بالعلم وعامة من يعصيه من الخلق بالمال.
العالم يدعو الناس إلى الله بحاله، والغني يدعوهم إلى الدنيا ببطره.
لذة المال لذة وهمية فهو زائل وذاهب، ولذة العلم حقيقية.
صاحب المال خائف ومحزون، محزون قبل أن يأتيه المال، لماذا لم يأته؟ لماذا ما حصلت؟ يحزن، وبعد حصوله يخاف أن يذهب منه يسرق فهو دائمًا في غم وهم، ولا تظن أن أصحاب الملايين في سعادة، فهم دائمًا في خوف وترقب، والعالم في أمن وفرح وسرور.
الأغنياء يموت ذكرهم بموتهم، والعلماء باقية آثارهم ومآثرهم.
قد مات قوم وما مات مكارمهم | .............................. |
يعني العلماء
.............................. | وعاش قوم وهم في الناس أموات |
[السلوك في طبقات العلماء والملوك، محمد بن يوسف اليمني: 1/420].
كل الهمل هؤلاء في الدنيا الآن من غير أصحاب ذكر الله همل، عايشين في الدنيا لكنهم في الحقيقة أموات، عاش قومهم وهم في الناس أموات.
التفكر في الجهل وعاقبته ومغبته
من الأمور المحمسة لطلب العلم: التفكر في الجهل وعاقبة الجهل ومغبة الجهل، قال الله : أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا [الأنعام: 122].
الجهل ماذا يورث؟ البدعة والضلال والتحير والتخبط.
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله | وأجسامهم قبل القبور قبور |
أجسام الجهلة قبل أن يدفنوا في القبور أجسامهم بحد ذاتها هي قبور
فأراوحهم في وحشة من جسومهم | وليس لهم حتى النشور نشور |
[طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي: 5/348].
قال عروة لبنيه: يا بني تعلموا العلم فإنكم إن تكونوا صغار قوم فعسى أن تكونوا كبارهم، واسوأتاه ماذا أقبح من شيخ جاهل!"[صفة الصفوة: 1/349].
فعلاً فكر شيخ جاهل يعني كبر في السن جداً وجاهل، ما في أقبح منها، ما استفاد من عمره، ولا حصل ولا جمع مالاً، ولا تعلم، واسوأتاه ما أقبح من شيخ جاهل.
وقد قال ﷺ: إن بين يدي الساعة لأياماً، ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم[رواه البخاري: 7062، ومسلم: 2672].
وقال: يتقارب الزمان، ويقبض العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح [رواه مسلم: 157].
وقال: إن من أشراط الساعة: أن يرفع العلم، ويظهر الجهل [رواه البخاري: 6808، ومسلم: 2671].
إن من أشراط الساعة: أن يلتمس العلم عند الأصاغر [رواه ابن المبارك في الزهد: 61، والطبراني في الكبير: 908، والقرطبي في جامع بيان العلم وفضله: 1051، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 695].
إن من ورائكم أيامًا ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم[رواه ابن ماجه: 4051، وأحمد: 19630، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"].
فسارع وبادر -يا عبد الله- وتعلم الآن قبل أن يفوتك سبيل التعلم.
وكلما كان العلم في الصغر كان أثبت.
معرفة المنهجية الصحيحة لطلب العلم
ومن الأمور التي تعين وتحمس في طلب العلم: معرفة الطريقة الصحيحة في الطلب، الطريقة المنهجية، تعرف العلم النافع من العلم الذي لا ينفع، ولا بد من الكلام عن أنواع العلوم.
تعرف الطريقة المنهجية التي تطلب فيها العلم بالتدرج تبتدئ بالأشياء المهمة تقدمها على الأشياء الأقل أهمية، تبدأ بالأشياء الأسهل قبل الأصعب، حتى لا تنفر نفسك، هذه القضايا لا بد لها من بحث.
ولكن الآن نشير إشارة، ولعل في وقت آخر -إن شاء الله- نتكلم عن المنهجية في طلب العلم؛ لأنك إذا طرقت باب العلم بطريقة صحيحة تسهل عليك الأمور، وتأخذ بالتدريج وتتحمس.
وإذا طرقت باب العلم أو تسورت حائط العلم بطريقة غير صحيحة تتعب نفسك، وتمل وتصطدم بأشياء صعبة، غير مفهومة، وأشياء لا تستفيد منها، فتمل وتترك العلم.
لزوم حلق العلم
أسباب الحماس لطلب العلم: لزوم حلق العلم: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ[الكهف: 28].
قال بعض أهل العلم: المقصود بالآية مجالس الفقه والعلم.
أما تتنقل عشوائيًا في الحلق تظن نفسك ستحصل العلم كله، ولست من أصحاب ذلك الجهد، ولا من أصحاب تلك الهمة فستشتت نفسك.
العلم يعصم من الفتن
ومن الأشياء التي تعين وتحمس أيضاً في طلب العلم: التدبر في أن العلم يعصم من الفتن.
أيها الإخوة: كل فترة تنزل بالمسلمين نازلة، وتحل بهم قارعة، وتغشاهم فتنة، ومن الذي يثبت في الفتنة؟ أهل العلم، طلبة العلم، يثبتون ويثبتون الناس، وتأكد من ذلك في الحال، فكر فيها الآن أنت في الحال الذي أنت فيه، فكر في الحال الذي أنت فيه، كم مرة جاءتنا مشكلة وجاءتنا مصيبة وحدثت حادثة ونزل بنا كرب وخطب وحرب وهرب وفتن -نسأل الله السلامة- من الذي ثبت في الفتن؟ أخبار وأحداث ويتناقل الناس وهرج ومرج، ولكن من الثابت فيها الذي يعرف طريقه ودربه بشكل صحيح؟ أهل العلم، أهل المنهج الصحيح، يثبتون الناس ويثبتون، أهل الوعي العلم بالشرع والعلم بالواقع، العلم بأنواعه.
التعاون في حضور حلقات العلم
تفكر أيضاً في مسألة من المسائل التي تحمس على طلب العلم: التعاون بين الإخوة في الله في عقد الحلق، وتطبيق المناهج العلمية، والمواظبة على الحضور فيها، والتنافس في الحفظ والقراءة والبحث، هذه الأمور الجماعية، والإسلام دين الجماعة، هذه مهمة جداً في التحميس لطلب العلم.
لا شك أن الإنسان يتحمس للمجموعة أكثر مما يتحمس لوحده، ولذلك كان السلف -رحمهم الله- يطلبون العلم فرادى وجماعات، ويرحلون فرادى وجماعات، كما نزل المحاميد الأربعة في بلد مع بعضهم يطلبون العلم، كل منهم اسمه: محمد، كل واحد منهم يوم يعمل ليأتي بالطعام للباقين والثلاثة يطلبون، كل يوم على واحد، يتوزعون فيما بينهم، يطلبون العلم مجموعة مع بعض.
وهل حلق الفقهاء والعلماء في القديم والحديث إلا مجموعات يجتمع فيها الطلاب حول الشيخ؟ وإن لم يحصل عالم في حلقتك فتعاون مع إخوانك، فإن الخطأ في الفهم الجماعي أقل بكثير من الخطأ في فهم الفرد، ولذلك هنا تنبع أهمية المدارسة والمباحثة، وإن لله ملائكة سيارين يلتمسون مجالس الذكر إذا وجدوا قومًا يذكرون الله حطوا رحالهم عندهم، وأناخوا ركائبهم ببابهم، وأحاطوهم بأجنحتهم، وتنزل الرحمات والسكينة تغشى، فلا تتوانى عن حضور حلق العلم، ادرس فيه الفقه، التفسير، معاني كلام الله ومعاني حديث الرسول ﷺ، والأحكام الشرعية.
وكذلك أن يكون هناك واقعية في الطلب، وكما ذكرنا هذا يتبع المنهجية.
وقدر من التفرغ هذا مهم جداً.
الإقلال من مصاحبة الفارغين
وكذلك من الوسائل المهمة في التحميس: الإقلال من مصاحبة من لا يهتم بالعلم، فإن أكثر الناس لهم أصحاب ولهم شلل، ولهم جماعات يتجمعون معهم فيها، فلا خير في جماعة لا يطلبون العلم.
إذا وجدت نفسك بين جماعة كل همهم التسالي والترفيهيات فلا خير فيهم، وأنصحك لوجه الله أن تخرج منهم وتبتعد عنهم، وتحافظ على علاقات طيبة من بعد، ولكن أن تلتمس الناس الذين يطلبون العلم تدخل معهم، تقول: علموني، أدبوني، لا بد لك من ذلك وإلا فلن تتقدم خطوة، وكم من أناس أمضوا سنين من دهورهم في أمور يظنونها من الطاعة والعبادة، ما فيها علم، ثم ندموا بعد سنوات، فعليك بحلق العلم وأهل العلم، اقصدهم وادخل في مجالسهم، وانضم إليهم، لعل الله يرحمك بسببهم.
وكم من الجماعات اليوم الذين ينتسبون إلى العمل الإسلامي يتركون العلم والاهتمام به، وربما درسوا بعض الأشياء من باب رفع العتب، وإلا ما هنا فقه، ولا تعمق، وإنما جل الأوقات تصرف في التسالي والترفيه، وأشياء يحسبونها من الإخوة في الله، وهي في الحقيقة من ضياع الوقت، فعليك بعدم نسيان هذه المسألة.
الإحساس بلذة طلب العلم
من الأسباب التي تحمس في طلب العلم كذلك: الإحساس بلذة الطلب، صدقني أيها الأخ المسلم مسألة تبحث تبحث ثم تجد جوابها تحس بلذة لا يشعر بها من كسب ملايين، معضلة في ذهنك في فهم آية أو حديث، أو جمع بين حديثين ظاهرهما التعارض، أو.. أو.. ثم تجد حل هذه المعضلة تجد لها لذة لا يجدها أهل الدنيا في ملذاتهم وأهوائهم.
رجل في إسناد فقدت ترجمته ودرجته تجده بعد ذلك مسطرًا في بطن أحد الكتب تطير به فرحًا لا يفرح به أعظم ملوك الدنيا، أعظم من قول القائل في مكتشف من المكتشفات: وجدتها، وجدتها.
إن قولك لنفسك: وجدتها، وجدتها، في حل مسألة، أو مرت عليك مسألة مررت بها سابقًا ثم الآن وجدتها في كتاب من الكتب تفرح فرحًا شديدًا.
الإحساس باللذة، طلب العلم له لذة لا يعرفها إلا من ذاقها، وهو يبحث ويقرأ.
الدعوة إلى الله
وكذلك فإن من الأسباب التي تحمس في طلب العلم: الدعوة إلى الله، لماذا؟ لأنك إذا انشغلت بالدعوة إلى الله سيسألك الناس المدعوون، ما حكم كذا؟ وما حكم كذا؟ وماذا نفعل الآن؟ لأنك داعية، وعيب عليك أن تقول: لا أدري ولا أعلم دائمًا، فيجب أن تبحث، فتتحمس لطلب العلم، فلا تنس الدعوة إلى الله فهي من الأسباب الكبيرة الداعية إلى طلب العلم.
قراءة سير العلماء السابقين
ومن الأمور المهمة التي تحمس في طلب العلم كذلك: قراءة سير العلماء من قبلنا، كيف كانوا يطلبون؟ وكيف كانوا يرحلون؟ أليس هذا ابن عباس كان يأتي الرجل من الصحابة يسمع أن عنده علمًا فيأتيه يتوسد ببابه، يسفي الغبار على وجهه وهو جالس مصابر محتسب لكي يخرج إليه الشخص الآخر من بيته فيتلقفه فيسأله، ولذلك جاء في هذه الرواية المهمة جداً: لما قبض رسول الله ﷺ قلت لرجل من الأنصار يقول ابن عباس: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله ﷺ فإنهم اليوم كثير؟ هذا التخطيط، قال: واعجبًا لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب النبي ﷺ من فيهم؟ يسألونك وفيهم فلان وفلان وفلان من كبار الصحابة؟ قال: فتركت هذا الرجل، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله ﷺ عن الحديث، فإن كان لا يبلغني الحديث عن رجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح عليّ من التراب فيخرج فيقول: يا ابن عم رسول اللهﷺ ما جاء بك؟ ألا أرسلت إليّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك فاسأله عن الحديث، قال: فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني قد اجتمع الناس حولي، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني [سنن الدارمي: 1/467، ومستدرك الحاكم: 3/619، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه"].
هذا الرجل ابن القاسم من تلاميذ الإمام مالك الذي كان يأتي بيت الإمام مالك يسأله عن المسألتين والثلاث والأربع، ويأتيه في وقت الإمام مالك يكون فيه نائماً، فمر جاء وجلس عند الباب، ومن التعب نام التلميذ على باب الإمام مالك، فخرجت الجارية في الصباح فشاهدته نائمًا فضربته برجله، وقالت: إن مولاك قد خرج، تظنه من كثرة ترداده إلى الإمام مالك أنه عبد عنده، فتقول الجارية لهذا الرجل ضربته، وتقول: إن مولاك قد خرج.
والبخاري -رحمه الله تعالى- يوضع له الطعام ويرفع ولم يمس وهو منشغل بطلب العلم، وتوضع له الوجبة الأخرى وترفع ولم تمس.
قال يوسف المغامي: طرقت عبد الملك بن حبيب يومًا بغلس حرصًا على الاقتباس منه فدخلت فإذا به جالس في مجلسه عاكف على الكتب قد أحاطت به كتبه ينظر فيها، والشمعة بين يديه تتقد [تدريب المدارك: 4/138] على الشموع ما كان عندهم مثلما عندنا الآن من الإمكانيات، ومع ذلك جادين أكثر منا بما لا يوصف، قيل لابن المبارك: إلى كم تكتب الحديث؟ قال: لعل الكلمة التي انتفع بها لم أكتبها بعد [سير أعلام النبلاء: 8/407].
كان أبو بكر الخياط يدرس جميع أوقاته حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جرف أو خبطته دابة.
وكان الخطيب البغدادي يمشي وفي يده جزء يطالعه [سير أعلام النبلاء: 18/281، وتذكرة الحفاظ: 3/224].
وحدثني بعضهم عن تاجر خضرة، يبيع الخضرة على حمار في أحد البلدان الآن ، الحمد لله الأمة هذه باقي فيها خير، يبيع الخضرة على حمار وميزانه فوق دابته، يمشي الحمار أمامه وهو فاتح الكتاب يمشي في مؤخرة الحمار يمشي ويقرأ، حتى يجيء واحد يقول: هيه هات اعطنا طماطم، الناس في الطماطم والخيار، وهذا الرجل في الأحاديث يقرأ.
وقال إبراهيم الحربي -رحمه الله-: ربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال فأضعها في موضعها من الكتاب فأبيت ساهرًا فرحًا مني بتلك الفائدة [سير أعلام النبلاء: 10/496]. فرحان من الفائدة.
والبخاري يشعل السراج ويكتب الفائدة ويهم بالنوم ويرجع يشعل السراج ويكتب الفائدة عشرين مرة، يهم بالنوم وتخطر له فائدة، فيقوم فيدونها رحمه الله تعالى.
اشترى الشافعي جارية فمضى بها فلما كان الليل أقبل يدرس على عادته، والجارية تتنظر أن يجتمع بها، فلما أصبحت وما حصل شيء سارت إلى النخاس، بائع الرقيق، قالت: حبستموني مع مجنون.
وقال بعضهم: أثقل الساعات عليّ ساعات الأكل.
وبات بعضهم ليلة قلقًا من الفقر والحاجة فعرضت له مسألة في فرع من فروع الفقه كانت أشكلت عليه فانفتحت له، وتجلت المسألة، فقام فرحًا يقول: أين الملوك؟ أين الملوك؟ فسألته امرأته عن خبره، فأعلمها بما حصل له، فتعجبت من حاله وشأنه رحمه الله تعالى.
وهذا جابر بن عبد الله الأنصاري يرحل في طلب الحديث الواحد شهرًا كاملاً، يقول: "بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله ﷺ فاشتريت بعيراً، ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهراً، حتى قدمت عليه الشام فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني، واعتنقته، فقلت: حديثاً بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله ﷺ في القصاص، فخشيت أن تموت، أو أموت قبل أن أسمعه" [رواه أحمد: 16042، وقال محققو المسند: "إسناده حسن"].
وبعضهم كان يسافر ماشيًا وكتبه على ظهره فراسخ كثيرة جداً لتحصيل العلم، يقول بعضهم: "مشيت بسبب نسخة مفضل بن فضالة سبعين مرحلة، ولو عرضت على خباز برغيف لم يقبلها" [سير أعلام النبلاء: 16/400].
وبعضهم كان يطلب العلم مع رفقة له يدورون على الشيوخ وبالليل ينسخون، فصار إلى بيت جياع فوجدوا في الطريق سمكة فاشتروها، ولكنهم ما وجدوا وقتًا يأكلونها حتى خشوا عليها من التعفن فأكلوها نيئة [سير أعلام النبلاء: 13/266] كذلك العلم لا يستطاع براحة الجسد.
وهذا رجل جمعت له أمه مائة رغيف، ذهب يطلب العلم كل يوم رغيف يبله بماء نهر دجلة، فلما انتهت الأرغفة رجع إلى بلده [سير أعلام النبلاء: 12/302].
وهكذا من القصص الكثيرة التي تنبئك عن رحلاتهم في طلب العلم، وعن طلبهم في حال الفقر والشدة: سفيان الثوري في حال الهرب مطلوب من الحاكم، مستخف يرسل إلى واحد عنده حديثاً يقول: أنا لا أستطيع أن أظهر لأني متخف ممكن تأتي أنت تحدثني بحديث.
وإذا أعددت دروسهم، النووي يقرأ في كل يوم اثني عشر درسًا، درسين في الوسيط وثالثاً في المهذب، ورابعاً في الجمع بين الصحيحين، وخامساً في صحيح مسلم، وسادساً في اللمع لابن جني في النحو، وسابعاً في إصلاح المنطق لابن السكيت، وثامناً في التصريف، وتاسعاً في أصول الفقه، وعاشراً في اللمع لأبي إسحاق، والحادي عشر في المنتخب للرازي، والثاني عشر في أسماء الرجال، والثالث عشر في التوحيد، وهكذا يقول: كنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل، وإيضاح عبارة، إلخ...
وإذا جلسنا نستقصي أحوالهم وأخبارهم لطال بنا المقام.
معرفة أجر العلم بعد الموت
وأخيرًا: يا أخي المسلم فإن مما يحمسنا جميعًا: أن نعلم أن أجر العلم بعد الموت عظيم، قالﷺ: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به[رواه البخاري: 1631].
وقال: سبعة يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علم علمًا أو أجرى نهرًا أو حفر بئرًا..إلخ [رواه البيهقي في شعب الإيمان: 3175، وقال الألباني: "حسن لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 73].
وقال: أربع من عمل الأحياء تجري للأموات ذكر منها ورجل علم علمًا فعمل به من بعده[رواه الطبراني في الكبير: 6181، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 3984].
تصور لو أنك تعلمت مسألة وعلمتها لواحد ومت، والواحد علمها لواحد، والواحد علمها لواحد، أجيال، وأجر المسألة تأتيك في قبرك من جراء تعليمك للناس.
اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا وعملاً صالحًا.
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يرفع.
اللهم علمنا ما ينفعنا واجعلنا من العلماء العاملين.
اللهم اجعلنا ممن تعلموا العلم وعملوا به يا رب العالمين، ولا تجعلنا ممن فرطوا في العلم والتعليم والعمل إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمته الله وبركاته.