الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَآل عمران: 102، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاالنساء: 1، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاالأحزاب: 70، 71.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
حال كثير من الصداقات اليوم
عباد الله: لقد ابتدأ هذا العام الدراسي ورجع الطلاب، أبناؤنا وبناتنا إلى مقاعد الدراسة، وهكذا رجع الموظفون من إجازاتهم، وتوظف عدد ممن لم يكن صاحب وظيفة فيما مضى، فصار في وسط جديد، وانتقل آخرون من مكان إلى آخر، ليبدأوا أيضاً مشواراً جديداً.
وفي هذه الأماكن للمكاتب والمباني الدراسية تنشأ علاقات، وتتكون صداقات، وهؤلاء الذين ينضمون أيضاً إلى الشركات والمؤسسات يدخلون في أوساط وبيئات وعوالم جديدة، والعلاقات من طبيعة البشر، وقد خلق الله الإنسان مدنياً بطبعه، يألف ويؤلف، لكن هذه العلاقات قضية خطيرة جداً لها شأن عظيم، وعليها مدار صلاح وفساد.
ويقلق المخلص الذي يفكر جيداً في مصلحة أولاده وإخوانه، من يصادقون؟ مع من يقيمون العلاقات؟ من هم الزملاء هؤلاء؟ من الذي يجلس بجانبه؟ من الذي يحبه ويألفه؟ من الذي يؤاخيه ويمشي معه؟
لأن نشوء العلاقة يترتب عليها تأثر الطرفين ببعضهما البعض، وعندما نرى كثيراً من المآسي في الواقع سواء كان الأمر في ترك واجبات، أو وقوع في محرمات كالمخدرات وغيرها، واقتباس أخلاق سيئة.
تجد أن من وراء ذلك هذه المخالطة والمعاشرة، وهذه العلاقات التي نشأت، شخص بريء، وخامة لم يكن له أي تفتح على أنواع الشر، وإذا به يتوجه إليه ويغوص فيه، ما هو السبب؟ لقد عاشر فلاناً وفلاناً، الشلة، هؤلاء الذين أحاطوا به، فلان صاحبه الذي سحبه، والصاحب ساحب، ومن جالس جانس، وصار من جنس صاحبه.
ويقول هذا الأب: لقد نشأت ولدي على معاني فاضلة، إنه لا يعرف عندي هذه الأنواع من الفسوق والعصيان، فلما ذهب إلى هؤلاء، لما ارتبط بهؤلاء، لما صار يزور هؤلاء، لما مشى مع هؤلاء لقد تغير علينا بالكلية، صار بعد البر عاقاً، وبعد الطاعة عاصياً، وبعد حسن الخلق سيء الطبع، فاحش اللسان.
الدين أساس العلاقات
عباد الله: هذه المسألة التي أودت بكثيرين إلى عالم الفواحش أيضاً، وإقامة العلاقات المحرمة ما نشأت ولا حدثت إلا بسبب هذه العلاقات، ونحن يجب أن نؤسس في نفوس أبنائنا وبناتنا معنى العلاقة، وكيف يختار صاحبه؟ وكيف تؤسس هذه العلاقة على أي شيء؟
فمما نقول في هذا المجال:
أولاً: إن المسألة مسألة دين وإيمان، وليست قضية إلف وصحبة، وأن الشخص لا بد أن يكون له أصحاب فهو لذلك، صار مع هؤلاء، وهذا هو الموجود، ونحو ذلك، كلا، فالمسألة أصلاً مسألة دين وإيمان، ألم ترَ أن النبي ﷺ أخبر أنه لا يجد عبد حلاوة الإيمان إلا إذا أحب في الله، وأبغض في الله.
وكذلك فإن القضية أيضاً قضية نجاة يوم القيامة، على هذه المسألة تنعقد مصائر يوم الدين، قال -تعالى-: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَفصلت: 25، وكذلك فإن كل العلاقات والصداقات هذه والزمالات ستنقلب عداوات يوم القيامة إلا نوعاً واحداً، قال : الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّالزخرف: 67 الأخلاء: هؤلاء الذين يحب الواحد منهم الآخر حباً جماً حتى تخلل حبه شغاف قلبه، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، تنقلب الصداقات والعلاقات والزمالات إلى عداوات يوم القيامة إِلَّا الْمُتَّقِينَالزخرف: 67، فإذاً التقوى هي أساس بناء العلاقة لينجو في ذلك اليوم، لا بد أن يفهم الأولاد هذا جيداً.
ثم يقول تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْالتكوير: 7، يعني: اقترن كل إنسان بمن شاكله، وقال -تعالى-: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ الصافات: 22، ما معنى قوله -تعالى-: وَأَزْوَاجَهُمْ؟ قال المفسرون: أشباههم ونظراءهم، فهكذا يحشر المصلي مع المصلين، والصائم مع الصائمين، والذاكر مع الذكرين، والمستغفر مع المستغفرين، والعفيف مع أهل العفاف، ويحشر كذلك المرابي مع المرابين، والسارق مع السراق، وصاحب الفحش مع أهل الفحش، وأرباب الخنا والفجور والزناة مع الزناة، وأهل الفاحشة مع أهل الفاحشة.
وهكذا عباد الأصنام مع عباد الأصنام، ويزوج كل واحد بمن شاكله، يعني: يكون معه، ويكون في فريقه ومجموعته؛ لأن الناس ينقسمون إلى مجموعات يوم الدين،احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْالصافات: 22، يعني: نظراءهم وأشباههم، ومن هو على شاكلتهم، ولا بد أن يعلموا جيداً أن هنالك تبرؤات، يلعن بعضهم بعضاً يوم القيامة، ويتبرأ بعضهم من بعض، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَفصلت: 29.
هكذا كما قال : قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَالصافات: 51-53، هكذا كان يقول له قرينه: أتصدق بالبعث؟ هذا كلام غير معقول ولا مقبول.
وإذا نجَّى الله القرين من قرينه الفاسق، نجَّى مما يزين له ويسول له، فهذه النجاة العظيمة يوم الدين؛ ولذلك قال في الآيات: قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَالصافات:54-57.
أنت صاحبي الفاسد، أنت صاحبي الذي كنت تلقي الشبهات علي، كنا في ضلال فهداني الله وبقيت على ضلالتك، أدعوك إلى الهداية، وأنت تجادلني، وتقول: لا بعث ولا حياة بعد الموت، أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَالصافات: 58، 59، فلما نجا من صاحبه فهدى الله هذا وبقي الآخر على كفره، كانت النهاية السعيدة للمهتدي والعقوبة الشنيعة لذلك الضال، وذهب المهتدي للجنة إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَالصافات: 60، 61، يوم القيامة وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّامريم: 81، 82.
وينبغي أيضاً: أن يعلم أبناؤنا وبناتنا أن الدين هو الأساس لإقامة العلاقات، المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخاللرواه أبو داوود: ، وهو حديث حسن عن النبي ﷺ.
وضرب لنا الأمثلة ﷺ في الجليس الصالح كحامل المسك، والجليس السوء كنافخ الكير.. لا بد أن يتعدى الأثر إلى صاحبه، لا تصدق أحداً يقول لك: أصادق فلاناً ولا أتأثر به أبداً لا يمكن.
قال أحد الصالحين: يا بني، لا تصاحب ثلاثة، قال: من هم يا أبتاه؟، قال: لا تصاحب الفاجر؛ لأن الفاجر ملعون في السماء ملعون في الأرض، فكيف تصاحب الملعون؟ ولا تصاحب عاق الوالدين؛ لأن عقوق الوالدين يدخل معه قبره، ولا تصاحب الكذاب؛ لأن الكذاب يقرب لك البعيد، ويبعد عليك القريب.
إذاً نبحث عن صاحب التقوى ومن يخاف الله، نبحث عن صاحب التقوى ومن يخاف الله.
تفحص علاقات الأبناء من الواجبات على الآباء
عباد الله: إن تفحص علاقات الأبناء والبنات من الواجبات على الآباء والأمهات، إن تشجيع العلاقات الطيبة، والتحفيز عليها، وتهيئة الأجواء لها، والدلالة عليها حتى من طرف خفي حتى لا يشعر الولد أنه مساق، وأنه يسير، وأنه غير مختار، ونحو ذلك مما ينفخ الشيطان في نفسه، أنت صاحب القرار، ولا تجعل لوالدك عليك سبيلاً، ولا تمكنه من الاختيار، وأنت تختار.
وبعض هؤلاء الأولاد يكون غضاً لم يعرف الشر بعد، لم يدخل في معترك هذه الحياة وما فيها، الآن نحن في عالم المفاجئات، تظن فلاناً من الطيبين، تظن فلاناً مستور الحال، فتفاجأ أن من وراء ذلك أنواعاً من الشرور لم تكن تحتسب لها؛ ولذلك لا يكتشف في كثير من الأحيان الصديق ماذا وراء صديقه، عالم المفاجآت.
وهكذا يحسن بعضهم أن يسوق الغر ليس صاحب الخبرة، يسوقه إلى الشر رويداً رويداً شياطين الإنس، إنهم الذين يستدرجون هؤلاء الغافلين المساكين إلى سبل الشر، عندما تؤسس العلاقة في نفوس أولادنا على ذوق حلاوة الإيمان من خلال إقامة العلاقات، ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوبه أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله.
إذاً نعلمه أنك تحبه لا لشكله، ولا لنسبه، ولا لماله، ولا لأن معه سيارة، أنت تحبه لسبب واحد أنه يحب الله ورسوله، أنه صاحب دين، أنه من المتقين، ثم إن الإنسان إذا ابتغى الأتقياء انتفع، هم المرء لا يشقى بهم جليسهم، فيهم فلان؟ ليس منهم، لكن:
أحب الصالحين ولست منهم | لعلي أن أنال بهم شفاعة |
لأن الصالحين يوم الدين حتى لو دخل من كان معهم النار يناشدون الله مناشدة عظيمة، يقولون: ربنا هؤلاء إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، يحجون معنا، فلا يزالون يلحون على الله حتى يأذن لهم بإخراج هؤلاء الذين كانوا معهم في الدنيا ولو جزئياً، يخرجونهم من النار، فتنفعهم شفاعة الشافعين، بخلاف من لا تنفعهم شفاعة الشافعين.
فإذاً إذا نال الإنسان شفاعة هؤلاء يوم الدين بالمخالطة، بالصحبة، بالمحبة لا شك أنه يكون قد فاز فوزاً عظيما.
عباد الله: نحن في عالم عجيب يدخل هؤلاء إلى المدارس والكليات، يتغربون عن أهليهم ويسافرون، تنشأ أشياء لم تكن بالحسبان، إنه يذهب إلى عالم المجهول، ويكون قلب الأب وقلب الأم من وراء ذلك في قلق عظيم، مع من يمشي يا ترى؟ مع من يسكن يا ترى؟ مع من يذهب يا ترى؟ من هو صاحبه؟ من هو جليسه؟ ماذا يفعلون الآن؟ في أي شيء يشتركون؟
وخصوصاً عندما تأتي الأخبار في عالم الفضائح اليوم بالأشياء العظيمة بالعظائم الوبيلة، وعندما يفاجأ الأب بتغيرات في ولده، دخول في عالم من الجرائم، من العصابات، من السرقات، من المخدرات، ومن السبب؟ يفحص القضية فإذا وراء ذلك فلان وفلان، لقد ماشى هؤلاء فسرى إليه العطب، وأنت ترى التفاحة الواحدة إذا فسدت في الصندوق أفسدت الصندوق كله، إنه مرض معدي.
أيها المسلمون: وقد يقول قائل: هناك علاقات تكونت ويصعب الآن التفريق بين هؤلاء ومهما استخدمنا من المواعظ، سيقول: كان معي من المرحلة الابتدائية، تغير هذا بعد حين، ويريد أن يسحب صاحبه إلى هذا التغير، المدرسون، المربون، أولياء الأمور يجب قيام الجميع بالواجب، ومن الأمور المهمة في هذا دفع الجميع إلى المشاركة في الطاعات، ما دامت العلاقات تكونت فليوجه هؤلاء إلى الاشتراك في طاعة الله .
نماذج من علاقات السلف الصالح
كان بين عمر وأنصاري في بني أمية بن زيد أخوة في الله أثمرت تناوباً في الجمع بين مصالح الدنيا والدين، فهذا يمكث في الزرع، والآخر ينزل إلى المسجد، وفي اليوم التالي بالعكس.
لقد تعاقد أحمد بن حنبل ويحيى بن معين على طلب العلم، فرحلا في سماع الحديث.
ولما قدم سليمان الشاذكوني بغداد، قال أحمد لعمر الناقد: "اذهب بنا إلى سليمان نتعلم منه النقد" أي في الجرح والتعذيب.
وكان علقمة والأسود يبلغهما الحديث عن عمر، فلا يقنعهما حتى يخرجا إلى المدينة ليسمعا منه الحديث.
وأيضاً كان التعاون على القيام لصلاة الفجر، وأداء العبادات، كان التعاون على حفظ القرآن، فهذا يحفظ وهذا يحفظ، ثم يسرد الأول ثمناً ويسمع له الآخر، ثم يعكسان القضية، فهذا يسرد والآخر يضبط له، هذا يحفظ والثاني يستمع لمحفوظاته.
كانت المراسلات العلمية، المراسلات الطيبة بين أهل العلم لها فوائد عظيمة.
لقد أثمرت العلاقات بين محمد البشير الإبراهيمي وعبد الحميد بن باديس إصلاحات عظيمة في المغرب العربي.
لقد كان بين ابن عتيق وصديق حسن خان من المناصحات والمراسلات ما أثمر مؤلفات.
لقد كان المسلمون يتعاونون فيطاعات كثيرة حتى في شدائد العيش، وكان بعضهم إذا أرملوا جمعوا ما عندهم جميعاً القليل والكثير ثم قسموه بينهم بالتساوي.
قال الحسن: كان أحدهم يشق إزاره بينه وبين أخيه.
قال مساور: ما كنت أقول لرجل إني أحبك في الله فأمنعه شيئاً من الدنيا.
وكان من السلف من لا يصحب من يقول: نعلي، ثوبي وإنما يقول: هات النعل، هات الثوب حتى لا ينسبه إلى نفسه؛ لأن له شركاء في ذلك وإخوة يرى أن حقهم فيه ليس بأقل من حقه فيه، مع أنه ثوبه ونعله، وكذلك كانت المشاركة في المشروعات الخيرية، في التعاون على البر والتقوى كما أمر الله .
وكان من السلف من يتفقد عيال أخيه وأولاده بعد موته بسنوات طويلة، وكان كالأب لهم، كان على مسروق دين وعلى خيثم دين، فذهب مسروق فقضى دين خيثم وهو لا يعلم، وذهب خيثم وقضى دين مسروق.
أيها المسلمون: يا عباد الله: عندما يكون الاجتماع على الطاعات، عندما يكون الاجتماع على كتب الله على العلم، على الدعوة إلى الله ، على إطعام الطعام، على بذل المعروف على إعانة المحتاجين، توجه العلاقة، يملأ الفراغ، ونعلمهم فيما نعلمهم آداب الأخوة، لا جدل، لا مخاصمات.
قال ابن عباس: "ثلاثة لا أكافئهم: رجل يبدأني بالسلام، ورجل وسع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدامه بالمشي إلي يريد السلام علي، وأما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله، قيل: من هو؟ قال: رجل نزل به أمر، فبات ليله يفكر بمن ينزله، نزلت به ضائقة، فبات يفكر بمن يخبر، ثم رآني أهلا لحاجته أنزلها بي"، فهو ينظر إلى باب الأجر الذي فتحه له ذاك، واليوم يتبرأ الكثيرون من الكثيرين.
اللهم اجعلنا من أهل الطاعة والدين، اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إليك، اللهم ارزقنا فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
وأشهد أن محمداً رسول الله، صاحب لواء الحمد يوم الدين، الشافع المشفع، صاحب المقام المحمود، هو الحاشر الذي يحشر الناس بعده، والعاقب فلا نفي بعده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين وزوجاته وخلفائه الميامين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبنا وإمامنا محمد بن عبد الله، صلاةً وسلاماً تامين، وعلى من نهج نهجه، واقتفى أثره، واتبع سنته إلى يوم الدين.
عباد الله: إن جمع هؤلاء الأصحاب على الطاعات من أحسن ما عمل فيه المربون، وقام به المعلمون، وأنجزه الآباء والأمهات، وحقيقة إن الاشتراك في الطاعات هو الذي يملأ الأوقات بدلاً من تتسلل المعاصي إلى هؤلاء، ولتكن المسألة حباً في الله ليست تعلقاً، ولا عشقاً كما تتحول إليه كثير من العلاقات عندما تغيب قضية إقامة العلاقة لوجه الله، وعلى أساس من تقوى من الله ورضوان.
روى غني وفقير قد تصاحبا مدة طويلة، فسأل أحد الناس عن ذلك، فقيل: كلاهما يحتاج إلى الآخر، هذا يحتاج إليه في ضيق الحال، وذاك يحتاج إليه ليكون باب الأجر لعله يدخل بذلك الجنة.
وسائل تفعيل الصداقات
أيها المسلمون: إن الأخوة في الله من أسباب الثبات في عالم التغيرات اليوم، هذا عالم الفتن، عالم الانفتاح على الشر، عولمة تعلم الشر وتنشره، فكيف الثبات أمامها؟ كيف الثبات أمامها؟ لا بد أن تكون العلاقات هذه التي تؤسس على الدين هي الجدار أمام التسلل الذي يحصل في هذا الزمن.
لا بد أن تكون العلاقات هذه التي تؤسس على الدين هي الجدار أمام التسلل الذي يحصل في هذا الزمن.
إن أثر رسالة الجوال التثبيتية، الإيمانية، الوعظية، العلمية التي فيها نصيحة وتسديد وتنبيه بين الإخوة لها أثر عظيم، وإن هذا التلاقي على البعد بما يكون من وسائل الاتصال عبر الشبكة للدلالة على الخير.
إرسال فتوى، إرسال نصيحة بالبريد الإلكتروني، ونحو ذلك إن لها آثار طيبة، لقد تكونت مجموعات كثيرة في هذه الشبكة، تكونت مجموعات في الشر، مجموعات في مراسلة الصور العارية، ومقاطع الأفلام الخبيثة، تكونت مجموعات على ألعاب ومضيعات للأوقات، تكونت مجموعات عبر الشبكة للهوايات الفارغة، وتكونت في المقابل مجموعات أيضاً عبر الشبكة لنصرة الله ورسوله، وعن هذا نتحدث، ولهذا نقصد.
وإذا كان اتجاه الأبناء اليوم والبنات إلى هذه التقنيات الحديثة، إذاً فلتوجه هذه العلاقات عبر هذه الشبكة لنصرة الله ورسوله.
كم سيكون من الأجر العظيم عندما يشارك هؤلاء في نشر دين الله، والدعوة إلى الله، والبحث عن الحجج في مقارعة أعداء الله، إن عالم الانفتاح اليوم لا يخلق شبهة ولا شهوة إلا غزانا بها، فما هو الصد والرد؟ لا يكون إلا بجدار الأخوة هذا، إذا كانت الشريعة قد صانت العلاقات الأخوية عن كل ما يفسدها حتى هذه النجوى لا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن لك يحزنه، فما بالك بما هو أشد من النجوى مما يعكر صفو العلاقات.
إن الوفاء قليل في هذه الأيام، ولكن إذا نماه المسلم نما، وعندما ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً كما جاء في الحديث، ولا يهجره فوق ثلاث، يقع ما يقع من أنواع التغير بسبب تصرفات وكلمات، ومن الذي لا يخطئ، ومن الذي لا يزل، ومن الناس من يغفر، ومنهم من لا يغفر.
وينبغي على المسلم أن ينظر في صفات ربه وأسمائه، فمن أسماء الله الغفور والتواب، فإذا كان ربك كذلك فلماذا لا تعفو وتصفح؟ لقد كان البائع الذي يؤاخي صاحبه في دكانه المجاور إذا جاء من اشترى منه في الصباح ثم جاءه زبون آخر يقول اذهب إلى جاري فأنا قد استفتحت، استفتحت بزبون، وجاري لم يستفتح، فيحول الزبون على جاره.
لقد كانت أخلاق الأخوة حتى بين الباعة من العجب، وينبغي إحياء هذه الروح، إن تعاوناً على ترتيب أمور الإفطار في المساجد، ورمضان قادم نسأل الله أن يبلغناه، وإقامة حلقات العلم الشرعي، ودروسه، ومحاضراته في المساجد، وتحفيظ القرآن الكريم، إن التعاقد على النصح لهؤلاء الذين يضيعون أوقاتهم في المقاهي، والقنوات، والمواقع وغيرها.
إن التواصي عبر الرسائل بأنواعها المختلفة، والاجتماع قرباً وبعداً، ويحصل الاجتماع اليوم بالوسائل الحديثة والإلكترونية التي تقربهم إلى بعضهم صوتاً وصورة، فتبنى فرق فعالة لنصرة الدين، وما أشد حاجتنا نحن إلى نصرة ديننا في هذا الزمان الذي يهاجم فيه الدين من القريب، والبعيد، والمحلي، والأجنبي في الصحف، والمقالات، والقنوات؟
فمن لله ورسوله؟ ومن لدينه يا عباد الله؟ وهذا نشر لخير، ورفع لمقال جميل، وتشجيع لكاتب متميز، وجمع لمقالات، ونشر لملفات في العلم الشرعي والخيري.
إن الدلالة على الخير اليوم، ونجدة من يحتاج إلى نجدة، وهؤلاء إخواننا اليوم في النيجر يتضورون جوعاً، يتضورون جوعاً، فماذا قام المسلمون فبماذا قاموا من أجلهم؟
عباد الله: هؤلاء إحدى عشر مليوناً من البشر يعيش ثلاثة ملايين منهم اليوم في مجاعة، هل يتركون لأصحاب الصليب؟ أو يتركون ليموتوا جوعاً؟ ونحن نعلم أن الأخوة الإسلامية هي تتعدى الحدود، وترفض أن تقتصر على إقليم معين، أو مكان معين، قلت لديهم الأمطار، وعم القحط، وانتشر الجراد، وهذه الرياح الرملية التي غطت زراعاتهم، فابتلاهم الله فيما ابتلاهم به حتى صاروا قبل آخر دولة في الفقر في العالم، فيواجهون الجوع وربما بحثوا عن الطعام في جحور النمل.
وقد تحركت الأخوة الإسلامية عند بعض المسلمين فقاموا بزيارة إخوانهم هناك، وذهبوا إليهم لينظروا في حاجتهم، وإن تعاون المسلمين مع بعضهم البعض في معرفة أحوال إخوانهم، وأسباب نجدتهم، وكيف يسعى بمفهوم الجسد الواحد، هذا تأصيل وتجسيد لمعنى الأخوة الإسلامية، وهكذا يجب أن نكون فلا فرق بين أبيض وأسود بين المسلمين.
عباد الله: إن القرية الآمنة المطمئنة التي تعيش رغداً لا تترك القرية المسلمة الأخرى التي تعاني من الخوف والجوع والنقص في الأموال والأنفس والثمرات.
نحن لا زلنا في شهر شعبان يا عباد الله، شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله، والعمل الصالح فيه عظيم، ويغفل الناس عن هذا الشهر، والأعمال الصالحة كثيرة، فلنشجع بعضنا البعض للقيام بها، ولنجتنب البدع في دين الله، وبعض الناس يظن أن لليلة النصف من شعبان ميزة خاصة في قيام ليلها أو صيام نهارها، وليس الأمر كذلك أبداً.
وقد سرت بين الناس أحاديث موضوعة وضعيفة في ذلك، فهي كغيرها من الليالي في القيام، وهي كيوم من أيام البيض كغيرها من أيام البيض في الشهر في الشهور في الصيام.
قال النووي -رحمه الله-: "الصلاة، صلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة بدعة منكرة، ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب، واحياء علوم الدين"، ونحو ذلك.
إذن فلا بد من التمسك بالسنه وترك البدع مهما دعا اليها الداعون، ومهما تخرص المتخرصون.
ولله الأيام والليالي هو الذي يميز ويفضل ما يشاء على ما يشاء ونحن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا.
اللهم إنا نسألك التقوى، ومن العمل ما ترضى، والتمسك بالعروة الوثقى، أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين، اللهم إنا نسألك في بلادنا الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام يا رحيم يا رحمن، من أراد ببلدنا سوءً وبلاد المسلمين فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم انصر المجاهدين، وأعل كلمة الدين، وأذل أهل الصليب والمشركين، وارزق أهل الإسلام النصر عليهم يا رب العالمين، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الصافات: 180 - 182