الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
أهمية الهدية
فإن الإسلام قد جاء بكل حسن مما فيه تزداد علاقات الأخوة ببعضهم، وتتقارب نفوس المسلمين، ومن ذلك الهدية، فهي أدب حسن، وخلق جميل، هذه الهدية التي تهدي القلب، وترشده إلى سبيل المودة والتآلف، وتولد الود والمحبة، هذه الهدية التي تجتذب القلوب.
هدايا الناس بعضهم لبعض | تولد في قلوبهم الوصالا |
وتزرع في الضمير هوى ووداً | وتكسوهم إذا حضروا جمالا |
إن الهدايا لها حظ إذا وردت | أحظى من الابن عند الوالد الحدب |
إنها تستخرج ما في الصدور من الوحر، والغيظ، والبغضاء، فتخلصه من ذلك.
إن الهدية حلوة كالسحر تجتذب القلوبا | تدني البغيض من الهوى حتى تصيره قريباً |
خلل في الصوت
إليه إناء اللبن، أو شيء من الطعام، فيدعو من أهل الصفة من فقراء المسلمين، وغيرهم، فيشركهم في هديته.
وكان ﷺ لا يرد الطيب، وقال: من عرض عليه ريحان فلا يرده فإنه خفيف المحمل طيب الريح[رواه مسلم2253]، وهكذا الأشياء اليسيرة التي لا تكلف فيها، فإنها تقبل على الرأس والعين، وهذه الهدايا منها ما يكون لتأليف القلوب على الإسلام، ومنها ما يكون لإزالة ما في النفس من الوحشة، والعداوة، والغيرة، قيل: إن أبا حنيفة رحمه الله وقع فيه بعض الناس، فبعث إليه بهدية، فلما قبضها القائل، كتب إليه:
إذا ما الناس يوماً قايسونا | بآوبة من الفتيا طريفة |
أتيناهم بمقياس صحيح | مصيب من طراز أبي حنيفة |
إذا سمع الفقيه بها وعاها | وأثبتها بحبر في صحيفة |
فانقلب ما في نفس الرجل من ذم إلى مدح، ومن سوء إلى ثناء، وهكذا أثرها.
وكان التابعون يرسلون بهداياهم، يقول الواحد لأخيه: نحن نعلم غناك عن مثل ذلك، وإنك لتعلم أنك منا على بال. أي: نعلم استغناءك عن هديتنا، لكن لتعلم أن لك في النفس مكانة.
وكان العلماء يهدون طلبة العلم فيرغبونهم في العلم، ورحل الشافعي إلى مالك فأخذ عنه الموطأ، فأثنى مالك على فهمه وحفظه، ووصله بهدية جزيلة لما أراد أن يرحل عنه، وكان الشافعي يقول: مالك معلمي وأستاذي، ومنه تعلمنا العلم، وما أحد أمنَّ عليَّ من مالك.
كان العلماء يهدون طلبة العلم فيرغبونهم في العلم، ورحل الشافعي إلى مالك فأخذ عنه الموطأ، فأثنى مالك على فهمه وحفظه، ووصله بهدية جزيلة لما أراد أن يرحل عنه، وكان الشافعي يقول: مالك معلمي وأستاذي، ومنه تعلمنا العلم، وما أحد أمنَّ عليَّ من مالك.
وكان ابن المبارك رحمه الله يهدي أصحابه كثيراً، وكان يأخذهم معه في رحلة الحج، فيعطونه نفقاتهم، أي الاشتراكات في مصاريف الرحلة، فيضع كلاً منها في صرة يكتب عليها اسم صاحبها، ثم يخرج بهم، فيوسع عليهم في النفقات والركوب، وحسن الخلق، فإذا جاؤوا حجهم وقضوه، قال: هل أوصاكم أهلوكم بهدية، فيشتري لكل واحد منهم ما أوصاه أهله من الهدايا، ثم إذا ذهبوا المدينة اشترى لهم من الهدايا المدنية، ثم إذا اقتربوا راجعين إلى بلدهم أرسل بمن يصلح أبوابها، ويرمم شعثها، فإذا وصلوا إلى البلد عمل لهم وليمة ودعاهم، فإذا أكلوا كساهم، ثم دعا بالصندوق ففتحه فأخرج منه تلك الصرر التي دفعوها إليه، وحلف عليهم أن يأخذ كل واحد منهم صرته، وهكذا لا زال ينشر لواء جميله عليهم، وربما أطعم الناس اللحم، والدجاج، والحلوى، وهو صائم في الحر الشديد، رحمه الله تعالى.
من أحكام الهدية
عباد الله: هكذا كانت هدايا السلف رحمهم الله، ومن حسن ما فعله بعضهم في الدعوة من أحد مسلمي اليابان، أنه لما رجع إليهم من بلاد المسلمين قال لهم: إنهم يشكرونكم على حسن بضاعتكم، وقد حملوني هدية إليكم إذا أخذتموها انتهت كل مشاكلكم، يقولون: ألحقنا بها، فيقول: إنها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وهكذا كان حسن عرضه سبباً في دخول عدد من دكاترة الجامعات في دين الله.
إن الهدية تسموا بحسب الهدف منها، وكلما كان الهدف أسمى كان أجرها أعظم بصاحبها، وتكون الهدايا للوالدين عظيمة؛ لأجل أن صلة الرحم عظيمة، وهكذا تكون للأخ في الله إذا صدق في مودته لله، ومحبته لله، أجر على ذلك أجراً عظيماً، وتكون أيضاً للزوجة تقرباً إليها، وشكراً على بعض عملها، ووفائها، فيزيل ذلك كثيراً مما في نفسها من العناء، تكون الهدية لمن شاحنك، أو عاملك بسوء فتستخرج ما في نفسه من البغضاء، تكون الهدية للمخطوبة مرغبة في النكاح، وهكذا تنزل، ولا بد أن يخشى المسلم من أن يهدي شيئاً يؤدي به إلى حرام، ومن ذلك ما يهدى للسكوت عن الحق والإقرار على الباطل، ولأجل ذلك رد سليمان هدية بلقيس ملكة سبأ، فلما أرسلت هديتها إليه تقصد استمالة قلبه، ومصانعته لتسكيته، ولتثنيه على الإتيان إليهم، لم يقبل تلك الهدية؛ لأنها ثمن للسكوت عن الحق، وترك الدعوة إلى الله، وترك جهادهم في سبيل الله، بل قال: بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ سورة النمل36-37.
ومن ذلك ما رده النجاشي رحمه الله وأرضاه ورفع منزلته وقدره، وجزاه عن المسلمين خيراً، رد هدية كفار قريش، لما أرسلوا إليه باثنين معهما هدايا للبطارقة من جلساء النجاشي، وهدية خاصة مما كان يحبه النجاشي من منتوجات مكة، واتفقوا على أن يأتيا للبطارقة كلاً بهديته، ففعلا ذلك، وكلما قدم على بطريق قدما إليه هديته وقالا: إنما قدمنا على هذا الملك في سفهائنا، الذين هاجروا إلى الحبشة من المسلمين ، فكانت تلك الهدية لاسترداد من سموهم بالمجرمين اللاجئين، الهاربين، إنما قدمنا على هذا الملك في سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدخلوا في دينكم، فإذا قدمنا على الملك وكلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل، فقالوا: نفعل، ثم قدموا على النجاشي فسلماه تلك الهدية، فأعجب بها، ثم كلماه في أمر المسلمين أن يعيدهم معهم، فأيدهما على ذلك البطارقة، فانتبه النجاشي رحمه الله، قال: والله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، وكان هناك من نازع النجاشي في ملكه ثم نصره الله عليه، والله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه، ردوا عليهما هداياهم فلا حاجة لي بها، واخرجا من بلادي. فخرجا مقبوحين مردود عليهما ما جاءا به.
وهكذا تحرم الهدية أيضاً إذا كانت للعمال، أي: موظفو الدولة الذين يقومون بخدمة الناس وإنجاز أعمالهم، ويأخذون الرواتب على ذلك، فلا يحق لهم شيء من هدايا الناس، وهذا معنى قول النبي ﷺ: هدايا العمال غلول[رواه أحمد23601]، وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سورة آل عمران161، فهذه إذن خيانة ومال حرام وسحت، ولما أرسل النبي ﷺ رجلاً يجمع الزكوات، ومعلوم أن له نصيب لقوله تعالى: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا سورة التوبة60، فصار بعضهم يعطيه هدية، فرجع يقول للنبي ﷺ: هذا لكم وهذا أهدي إلي. فغضب النبي ﷺ غضباً شديداً، وصعد المنبر، وجمع الناس، وقال: أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته يعني: لو كان صادقاً، والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطه قال: اللهم هل بلغت، وقال لذلك الرجل: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً[رواه البخاري6979].
فإذا أراد الموظف أن يعرف هل هذه هدية أو رشوة، فالميزان سهل، لو لم يكن في هذا المنصب وعلى هذا الكرسي، ووراء هذه الطاولة، وخلف هذه اللافتة، لو لم يكن في هذا المكان هل كان سيهدى إليه أم لا؟ فإذا كان الجواب: لا، فليعلم أنها رشوة محرمة، وسحت يطعمه لنفسه وأهله، وأما إذا كانت هدية من أخ له جرت العادة بالتهادي بينهما من قبل الوظيفة ومن بعد فهذه لا حرج عليه في أخذها.
وهكذا القضاة لا يجوز للقاضي أن يقبل هدية من أحد إلا ممن كان يهاديه قبل أن يتولى القضاء بشرط أن لا يكون له قضية عنده.
قال النووي رحمه الله: إن كان المهدى إليه ممن لم تجر له العادة بالهدية إليه قبل الولاية حرم عليه قبول الهدية، فإن كان ليس له حكومة. يعني: قضية يحتكم بها إليه عند القاضي جاز قبولها، وإن كان له حكومة أو قضية عند القاضي لم يجز للقاضي أن يقبلها، ولو كان للمهدي سابق عهد بالهدية قبل أن يتولى القاضي القضاء، فهما شرطان إذن.
جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز وقال: يا أمير المؤمنين ما لك لا تقبل الهدية، وقد كان رسول الله ﷺ يقبلها؟ قال عمر رحمه الله: إنها كانت على عهد رسول الله ﷺ هدية، وإنها اليوم رشوة، كانوا يهدونه لنبوته، أما نحن فتهدوننا على ماذا؟
وكذلك فإن لولي الأمر أن يستخرج ما أعطي هؤلاء ويعيده في بيت المال.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وما أخذه ولاة الأمور وغيرهم من مال المسلمين بغير حق فلولي الأمر العادل استخراجه منهم كالهدايا التي يأخذها بسبب العمل، أي الوظيفة والمنصب.
وهذه الهدية التي يأخذها هؤلاء أو تعطى للموظفين وخصوصاً في قطاعات الخدمات لها أشكال كثيرة، فقد تكون خدمة كإصلاح سيارة، وقد تكون تخفيضاً على سلعة معينة، نسبة مئوية، يدفع لكن أقل، الرشوة هي التخفيض والتنزيل، وقد تكون مباشرة بشيء يعطى إليه، وقد تكون تذاكر سفر، وإقامة فندقية، وقد تكون سيارة يستعملها مؤقتاً حتى يصلحوا سيارته ونحو ذلك من أنواع الرشوة، فهي رشوة ولا شك، وأعمال محرمة، حتى لو درج عليها الناس واعتادوها.
عباد الله: إن بعض العلماء لم يكن ليرضى بأن يعطى هدية على التعليم، ذهب أحد تلاميذ حماد بن سلمة إلى الصين، فلما رجع رجع بهدية إلى حماد، وحماد كان من المحدثين يحدث، فقال له حماد: إني إن قبلتها لم أحدثك بحديث، وإن لم أقبلها حدثتك، ولما كان الطالب يعرف قدر العلم قال: لا تقبلها وحدثني.
وهكذا أيضاً كانوا لا يمكن أن يقبلوا الهدية على الفتيا لأن الفتيا لا يجوز أخذ المقابل عليها، لا يجوز أخذ المقابل على الفتيا، وأما الشفاعة أن يتوسط في الخير والمباح فلا يجوز أخذ الهدية على الوساطة أيضاً، الوساطة زكاة جاه، الشفاعة زكاة جاه يبذل مجاناً، وقد قال ﷺ: من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من الربا[رواه الطبراني في الكبير7928]حديث حسن.
قال ابن رجب رحمه الله: الهدية لمن يشفع له بشفاعة عند السلطان ونحوه، لا يجوز أخذ الأجرة عليها، وقال بعض الفقهاء: لا يجوز أخذ العوض في مقابلة الدفع عن مظلوم وإنما يجب أن تقضى له الحاجة مجاناً.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن أخذ العوض أو الهدية على قضاء الحاجة؟ فقال: أفتي بعدم الجواز. وهذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار.
ولما سئل ابن مسعود عن السحت قال: إنما السحت أن يستعينك على مظلمة فيهدي لك، فلا تقبل.
وكلم مسروق رحمه الله أن يتوسط عند ابن زياد في مظلمة، فكلمه فردها، رد الحق لصاحبه، فأهدى صاحب المظلمة لمسروق رحمه الله عبداً وصيفاً، فرده ولم يقبله، وقال: سمعت ابن مسعود يقول: من رد عن مسلم مظلمة فأعطاه على ذلك قليلاً أو كثيراً فهذا سحت.
إذن هذا سحت يا عباد الله، لا يجوز قبوله، هذه من الأشياء التي تهدى مجاناً، هذه من الأشياء التي يفعلها الإنسان لوجه الله ، لا يريد عليها جزاءً ولا شكوراً، أن تنصر مظلوماً، أو تتوسط في الخير فلا تأخذ على ذلك شيئاً، واليوم يقولون: أتوسط لك في الوظيفة وتعطيني خمسة عشر ألفاً، وأتوسط لك في النقل من مكان إلى آخر فتعطيني كذا، وأتوسط لك في استخراج أرض فتعطيني كذا، وأتوسط لك بكذا وكذا فتعطيني كذا، إذا كنت ستستعمل جاهك، ومكانتك، وصلاتك، وعلاقاتك، فاعلم أن لهذه العلاقات زكاة، وأن هذه الصلات نعمة من الله، وأن هذا الجاه فضل من الله، فلا بد أن تستعمله في المباح ونفع الآخرين مجاناً، وإلا ربما نزعه الله منك، وأسقطك من منصبك، وأغضب عليك من لك علاقات معهم، فسلبك تلك الصلات فبقيت بلا شيء.
عباد الله: إن هذه من المسائل العظيمة التي انتشرت بين الناس، فلا بد من الانتباه إليها لئلا يقع المسلم في الحرام.
اللهم اجعل رزقنا حلالاً، وسعينا مشكوراً، وذنبنا مغفوراً، إنك أنت الغفور الرحيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو البر الرءوف الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
عباد الله: إن الناس لا يزالون يذكرون بخير صاحب المنصب والوظيفة إذا ساعدهم مجاناً، وسعى معهم في الخير بلا مقابل، فأما لو ترك منصبه ووظيفته وهو يأخذ منهم المقابل، فمن ذا الذي يذكره بالخير؟
إن الناس لا يزالون يذكرون بخير صاحب المنصب والوظيفة إذا ساعدهم مجاناً، وسعى معهم في الخير بلا مقابل، فأما لو ترك منصبه ووظيفته وهو يأخذ منهم المقابل، فمن ذا الذي يذكره بالخير؟
عباد الله: أين بذل الفضل والمعروف، ضاع المعروف بين الناس لما صاروا يأخذون عليه المقابل، لا يكاد أحد يساعد أحداً إلا بمقابل، هات، ادفع، كم تدفع.
بعث النبي ﷺ عبد الله بن رواحة يخرص على أهل خيبر، أن يحسب عليهم النسبة التي سيؤدونها من ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، يخفف عليهم من النسبة، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه أي النبي ﷺ وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، أي: سأعدل فيكم مع حبي لنبي وبغضي لكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.[رواه بمعناه مالك2595].
ومن الهدايا المحرمة يا عباد الله هدية المقترض للمقرض، فلا يجوز للمقترض أن يهدي شيئاً للمقرض قبل أن يوفيه دينه؛ لأن كل قرض جر نفعاً فهو ربا، وقد نهى النبي ﷺ عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء؛ لأنه ربما يؤدي إلى تأخير المدة فيكون هذا المال مقابل التأخير.
عباد الله: كان النبي ﷺ يثيب على القرض، لكن بعدما يوفيه، بعد أن يوفيه يثيب عليه، أما أثناء المدة، أثناء مدة القرض فلا يهدي إليه شيئاً، إلا إن جرت عادة من قبل القرض، فأما ما لم تجر به العادة فلا هدية في أثناء المدة.
وكذلك فإن مما ينبغي أن يتورع عنه أخذ الهدية مقابل حفظ الأمانة، لكي يبقى الأجر عند الله، وأيضاً فإن بعض السلف رحمهم الله وعائشة رضي الله عنها كانت إذا أهدت إلى فقيراً شيئاً صدقة، ورجع الرسول قالت له: ماذا قالوا؟ قال الرسول: قالوا: بارك الله فيكم، فتقول عائشة رضي الله عنها: وفيهم بارك الله، ندعو لهم بمثل ما دعوا لنا به ويبقى لنا أجرنا، فحتى الدعاء الذي يدعو به الآخر لا ينتظرونه، وإذا دعا لهم به دعوا لهم بمثله، حتى لا يكون هناك شيء ينقص من الأجر.
أيها المسلمون: ينبغي أن تكون هدايانا إذن حلالاً، فلا يجوز أن يهدى مثلاً ذهب يلبس للرجال، خاتم ذهب، قلم ذهب، ساعة ذهب، ونحو ذلك من الأوسمة والميداليات التي تلبس في الصدر ذهباً، كل ذلك لا يجوز، وملابس الحرير للرجال، الحرير الطبيعي، وكذلك الهدايا المحرمة من هذه اللواقط التي تلتقط بها موجات الفجور والإباحية، ونفقات الرحلات إلى أماكن الكفر والمعصية، والهدايا التي فيها التشبه بالكفار حتى إهداء المرضى الورود، لما كان من عادات الكفار يترك، ويهدى للمرضى أي شيء آخر من المباحات.
وكذلك فإن بعض الناس يهدون اسطوانات الموسيقى، والصور المحرمة، وما كان فيه تمجيد للكفار، ومن أقبح الهدايا ما يطلبه المستمعون الذين يهدون الأغاني المحرمة إلى أقاربهم وأصدقائهم في أنحاء العالم، فتلك هدايا محرمة أيضاً، والخمر والخنزير، والمأكولات المحشوة بالخمر، وتهادي البيض الملون في أعياد النصارى، ونحو ذلك من الهدايا، والهدايا التي تعطى للكفار في مناسباتهم، وهدايا عيد الحب، كل ذلك حرام ولا شك، وهدايا مجسمات ذوات الأرواح، بل ربما يكون بعضها تماثيل عارية، وكذلك تبادل الأغاني بواسطة خدمات سبع مائة ونحوها من أنواع وسائل الإهداء، وأيضاً تلك التحف من شكل الشركيات التي يؤتى بها على معبودات الكفار، ويهدى الأطفال ما يخرب أخلاقهم، ويفسد نفوسهم بالميوعة، بالألعاب الموسيقية وغيرها، وتهدى الفتيات أنواعاً من الملابس شبه العارية، فلنتق الله في هدايانا، ولنكن متقيدين بضوابط الشريعة فيها، والهدايا المباحة كثيرة، فلماذا الوقوع في الأمور المحرمة، ولماذا إهداء الكفار الهدايا المحرمة في مناسباتهم المحرمة، أما هدية للكافر غير المحارب في غير وقت عيده لاستجلاب قلبه، وتأليف نفسه على الإسلام فإنها أمر طيب، وصلة رحم القريب المشرك غير المحارب كذلك مما سمحت به الشريعة، وربما يكون في ذلك تأليف لقلبه على الإسلام، ومن أعظم الهدايا يا عباد الله هدايا العلم والنصيحة، أن يهديك علماً، يهديك نصيحة، يهديك حديثاً، يهديك آية، يهديك فائدة، هذا من أعظم الهدايا، إن لم يكن أعظمها على الإطلاق، هذا من أعظم ما يهدى لما فيه من حياة القلوب، إذا كان أجر الهدية على حسب ما تبقى، فتكون مثلاً أجر هدية الهاتف والساعة ربما أعظم من هدية الأكلة التي تذهب بسرعة، فما بالك بهدية العلم الذي يبقى متوارثاً في الأجيال، يعلمه السابق للاحق، والأب للابن، والمدرس للتلميذ، والأخ لأخيه، ونحو ذلك، هدية العلم فاحفظوها عباد الله.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم إنا نسألك الأمن والإيمان لبلادنا وبلاد المسلمين، اللهم انشر رحمتك علينا، اللهم انشر رحمتك علينا، اللهم انصر المجاهدين، واحم حوزة الدين، واغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، يا سميع الدعوات.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءوَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.