الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا سورة النساء1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً سورة الأحزاب70-71.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله:
أسباب تأثر نفوس الصحابة بالوحي
في وسط هذه الجاهلية التي يعشيها المسلمون اليوم، ضاعت هوية الشخصية الإسلامية، وانعدمت ميزاتها إلا من رحم ربي ، والبحث عن سمات الشخصية الإسلامية من الأمور المطلوبة لكل مسلم يريد أن يسير إلى ربه على نور من الله في صراط مستقيم، وللشخصية الإسلامية أيها الإخوة سمات بارزة، وعلامات مميزة، ونحن في هذه الخطبة سنتعرض لواحد من سمات هذه الشخصية.
إن الشخصية المسلمة سريعة التأثر والانفعال مع أدلة القرآن والسنة، سريعة التأثر مع المواقف التي جاء في القرآن والسنة ذكر لها، سريعة التأثر والانفعال إذا ما حدث خطأ من الأخطاء، سريعة التأثر والانفعال إذا ما وقع المسلم في ذنب من الذنوب، سريعة التأثر والانفعال عند رؤية أحوال المسلمين، سريعة التأثر والانفعال لمواعظ الله ورسوله، ونحن اليوم نذكر أمثلة لهذا التأثر والانفعال في عصر صحابة رسول الله ﷺ، تلك الشخصيات التي رباها رسول الله ﷺ على منهج الله، فمشت بخطى ثابتة مستقيمة على منهج الله ورسوله، نذكر هذه الأمثلة في وقت تبلدت فيه إحساسات المسلمين، وانعدم التأثر والانفعال لكثير من المواقف الذي ينبغي أن يقف المسلم حيالها وقفة التأثر والانفعال الدافعة إلى العمل، لا عند حدود البكاء وذرف العين فقط، كان أول تأثر صحابة رسول الله ، أول ما تأثروا عندما عرض عليهم رسول الله ﷺ الدعوة، عندما عرض عليهم نصوص القرآن، ونصوص السنة، ولذلك كانت الصفوة المختارة عندما تسمع كلام الله تتأثر مباشرة، فترق القلوب، وتدخل تلك النفوس في دين الله، وهذه الأحاديث التي سأتلوها الآن هي في الصحيحين أو أحدهما:
صور من تأثر الصحابة بالوحي
عن ابن عباس: أن ضماداً قدم مكة، فقيل لضماد: إن رسول الله ﷺ مجنون أو دخل فيه جن، أو مصاب بمرض، وكان هذا الرجل طبيباً يداوي الناس من الأمراض، فقال: لعل الله يشفيه على يدي، فلما جاء إلى رسول الله ﷺقرأ عليه رسول الله ﷺ هذه الكلمات الجامعات: إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد، فقال ضماد: أعد كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله ﷺ ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر – يعني وسط البحر وعمق البحر من شدة تأثيرهن- فقال: هات يدك أبايعك، فبايعه، ثم قال له : وعلى قومك[رواه مسلم868]. قال: وعلى قومي، يذهب إليهم داعية إلى الله.
أيها الإخوة: تأثر هذا الصحابي من أي شيء؟ من أي شيء تأثر؟ ما هي الكلمات التي نقلته من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلامية؟ إنها كلمات جامعات، لكنها وجدت في قلبه مكاناً فتأثر لها، فدخل في دين الله، اعتنق الإسلام بعد الكفر.
عتاة اليوم من الكفرة والمرتدين المتسمين بالإسلام، الذين يتسمون بالإسلام، لو عرضت عليهم مثل هذه الكلمات، يا ترى هل سيستجيبون ويتأثرون أدنى تأثر؟
وعند سماع المواعظ كانت نفوس صحابة رسول الله ﷺ، كانت ترق رقة عجيبة لكلمات يسمعونها من رسول الله على المنبر مثلاً: عن أنس قال: خطب رسول الله ﷺ خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، لو تعلمون ما أعلم من عذاب الله وتفاصيل العذاب، كيف يعذب أهل النار، وكيف يحرقون، لو تعلمون ما أعلم من أهوال المحشر، ومن شدة الحساب، لو تعلمون ما أعلم من عظمة الصراط، وشدة المشي عليه، والكلاليب التي تتخطف الناس، فيهوون في جهنم، لو تعلمون ما أعلم يقول ﷺ: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، الرسول ﷺ رأى بعينه، أراه الله جهنم بعينه، رأى بعينه، ما اطلع على هذا من الصحابة أحد، فقال لهم هذه الكلمات التي يعبر بها عما رآه: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ماذا فعل الصحابة؟ هل قالوا: ما دمنا لم نر ما رآه فلماذا نتأثر كما تأثر؟ لا، هذه الكلمة دفعتهم إلى التأثر حالاً، فقال أنس : فغطى أصحاب رسول الله ﷺ وجوههم لهم خنين[رواه البخاري4621]. ذلك الأزيز: الصوت الذي يرتفع من الصدر بالبكاء، غطى أصحاب رسول الله ﷺ وجوههم لهم خنين. صوت يتأزز من الصدر من البكاء؛ لهذه الكلمة التي أخبرهم بها .
يا إخواني: عندما نسمع المواعظ اليوم هل نتأثر لها كما كان صحابة رسول الله يتأثرون؟ هل نغطي وجوهنا كما غطى أصحاب رسول الله ﷺ وجوههم؟ هل تنخنق العبرات، وتذرف الدموع، وتخرج الأصوات كالأزيز يغلي به المرجل من الصدور للتأثر من هذه المواعظ، لقد تبلدت إحساساتنا والله، إن على قلوبنا غلافاً سميكاً لا تنفذ من خلاله آيات الله وأحاديث رسوله في المواعظ، يجب أن نرقق هذه القلوب أيها الإخوة بشتى أنواع المرققات حتى نصل إلى الدرجة التي إذا سمعنا فيها المواعظ تأثرنا.
كان أصحاب رسول الله إذا سمع أحدهم دعاءً طيباً ولو على ميت، ولو لميت تأثر به، صلى رسول الله ﷺعلى جنازة، فحفظت من دعائه – يقول الراوي- فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، وأوسع مدخله، وأغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، أو من عذاب النار، ماذا قال الصحابي لما سمع هذه الدعوات، هي لميت مات، ماذا قال الصحابي؟ حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت[رواه مسلم963]. تمنيت أنا – يقول الصحابي – تمنيت أن أكون ذلك الميت، لماذا تمنى أن يكون ذلك الميت؟ لأنه تأثر أيها الإخوة من هذه الأدعية، التي دعا بها رسول الله ﷺ لذلك الميت، يتأثرون حتى من الدعاء، ولو لميت، يتمنى أن يكون مكانه؛ لهذه الأدعية التي دعا بها ﷺ.
الصحابة يتأثرون عند الحث على فعل الخير ولا يجدون ما يتصدقون به
الصحابة رضوان الله عليهم كثير منهم كانوا فقراء، لا يملكون شيئاً، خصوصاً في بداية الدعوة، عندما يسمع الصحابة الأوامر التي تحث على أفعال الخير، وهم لا يملكون شيئاً، عندما يسمعون الأحاديث تحث على الصدقة، لا يملكون دنانير يتصدقون بها، كيف كانوا يتصدقون، كان تأثرهم يا إخواني من الأحاديث وهذه الكلمات التي تحث على الصدقة، تحملهم على فعل أمر عجيب حتى يدركوها، ماذا كانوا يفعلون؟ قال الصحابي: أمرنا بالصدقة، قال: كنا نحامل، يعني: يؤجر أحدنا نفسه عنده متاع ليحمله له، فإذا حمله له أخذ أجرة التحميل فتصدق بها، ما عنده دنانير، ماذا يفعل؟ يذهب يؤجر نفسه، فيحمل هذه الأحمال، يأخذ أجرة التحميل فيتصدق به، أناس تأثروا من هذه، هذه الأحاديث التي تدفع إلى الصدقة، ما عنده شيء، هكذا كانوا يفعلون.
وإذا اعتدى أحدهم على مسلم ضعفت نفسه في موقف، عن معاوية بن الحكم السلمي قال، في حديث طويل يرويه الإمام مسلم، منه: وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، عدا الذئب على شاة فأخذها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، ضربها بكفه على صفحة وجهها، تأثر كيف يذهب الذئب بغنمه، بشاة، كيف يذهب بها، أين أنتِ؟ أين حراستكِ؟ أين رعايتكِ للغنم؟ تأثر فضربها بيده على صفحة وجهها، فماذا كان موقف الصحابي لما أخطأ، لما أخطأ في حق هذه المرأة المسلمة، فأتيت رسول الله ﷺ؛ لينظر ماذا عليه، هذه الضربة، كما أثرت في وجه المرأة أثرت في نفس الضارب، أثرت في نفسه، فأتيت رسول الله ﷺ فعظَّم ذلك علي، كيف تفعل هذا الفعل، كيف تفعل، كيف تضرب على الوجه، كيف تضرب أصلاً، ماذا فعل الصحابي عندما عظم رسول الله ﷺ هذا الأمر؟ قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ أيهما أغلى الشاة أم المرأة، الراعية، الأمة عند الرجل؟ الأمة عند الرجل أغلى، وفائدتها عنده عظيمة، لكن لما تأثر ما صار عنده مانع أن يعتقها، قال: أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة[رواه مسلم537].
كثير من المسلمين اليوم يعتدون بالضرب على إخوانهم المسلمين الآخرين، المستضعفين، من الخدم، وحتى إخوانهم الصغار، يا ترى هل إذا أخطؤوا يتأثرون مثلما تأثر هذا الصحابي؟ هل إذا أخطؤوا تنطلق منهم كلمات الأسف حتى، الأسف، التأسف، الاعتذار، أم إن أحدهم تأخذه العزة بالإثم، فيرفض أن يتفوه بكلمة واحدة يعتذر بها عما فعله.
صور من تأثر الصحابيات بالوحي
الصحابة حتى النساء كانوا يتأثرون إذا خافوا أن تفوتهم الطاعة، يتأثرون، عن جابر بن عبد الله قال، في الحديث الطويل في الحج: ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله ﷺ على عائشة، فوجدها تبكي، فقال: ما شأنكِ؟ قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، الناس يذهبون إلى الحج، أنا لا أستطيع أن أذهب، أنا حائض، هذا الحيض، خوف فوات العبادة، خوف فوات موسم الحج، موسم الفضل العظيم، عائشة رضي الله عنها تبكي في بيتها، تخاف أن يفوتها هذا الموسم، ماذا تفعل؟ حاضت لا تعلم الحكم، فبكت، بكت، بكت تأثراً خوفاً من فوات الطاعة، فدخل عليها رسول الله ﷺ فقال بكلمات المربي الذي يعالج الحرج في نفوس أتباعه، قال لها: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج [رواه مسلم1213]. أعطاها الحكم، فرّج الهم الذي كان بها، خافت عائشة، اليوم أيها الإخوة كم من مواسم الطاعات تفوتنا، صغيرها وكبيرها، تفوتنا مواسم الطاعات، هل نحدث أي نوع من الأسف، هل نبكي على فوات صلاة الجماعة؟
قصة أسامة بن زيد وتأثره عندما قتل من نطق بالشهادتين
وعندما كان رسول الله ﷺ يعاتب أصحابه على الخطأ كانوا يتأثرون من المعاتبة أشد التأثر، لدرجة عظيمة، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله ﷺ في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، قوم من الكفار، فأدركت رجلاً، فلما رفع أسامة عليه السيف قال: لا إله إلا الله، فطعنته، أسامة يظن أن الرجل قال: لا إله إلا الله اتقاء السيف، فقال: وماذا تنفع، فطعنه فقتله، فوقع في نفسي من ذلك، هذا الفرق أيها الإخوة بين كثير من المسلمين اليوم وبين الصحابة، فوقع في نفسي من ذلك، كانوا إذا صار له أمر، شك أنه خطأ يأتي فوراً، ويعاتب نفسه، إذا ظن أن في الأمر شيء، الناس اليوم تمر عليهم أمور متأكد من تحريمها، ولا يحدث في نفسهم شيء مطلقاً، وقع في نفسه شيء، ربما أنه أخطأ، ماذا يعمل؟ إلى المرجع مباشرة، فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ سورة النحل43. فذكرته للنبي ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: قال: لا إله إلا الله وقتلته؟ قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها.. أم لا، أقالها خوف السلاح أم لشيء آخر، فما زال يكرر ذلك، وفي رواية قال رسول الله ﷺ: أقتلته؟ قال: نعم، قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة، فيقول أسامة: يا رسول الله استغفر لي، قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة، فيقول أسامة: يا رسول الله استغفر لي، فجعل لا يزيده على أن يقول: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة[رواه مسلم97].
ماذا حدث -أيها الإخوة- في هذا الموقف؟ لما عاتبه على خطئه وبخه توبيخاً شديداً، وذكره بالحساب، ماذا تمنى الصحابي، ماذا قال؟ ما هي الكلمات التي عبر بها عن الحرج العظيم في نفسه؟ قال: فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ، تمنيت أني ما دخلت في الإسلام إلا بعد هذه الجريمة؛ لأن الإسلام يجب ما كان قبله، تمنيت أني ما أسلمت إلا في ذلك اليوم؛ لأنه عظم عليه الإثم جداً، اليوم كثير من المجرمين يفعلون جرائم متعددة، وكبائر كبيرة جداً، لو سمعوا وعظم ذلك عليهم وقرعوا على أفعالهم، وأقيمت عليهم الأدلة على شناعة ما فعلوا، ماذا يحدث لديهم من التأثر؟ أي تأثر يحدث في نفوسهم؟ فرق أيها الإخوة، هذه النفسيات اختلفت، الناس نفوسهم اختلفت تماماً.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم واجعلنا من أهل العزة والبصيرة، من الذين يتأثرون إذا تليت عليهم آيات الله وتزيدهم إيماناً، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وأكبره تكبيراً، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ووعظ الأمة، فأثر فيها، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه.
تأثر بعض أهل البدع والشبهات ورجعوهم إلى الحق
وعندما تقام الحجة على أناس ممن أخطؤوا في تصوراتهم، وتقام الحجة على أهل الشبهات، كانوا يرجعون، وكانوا يفيؤون، حتى أهل البدع منهم، من أراد الله به خيراً كان يتأثر من كلام الصحابة، ورجوع ثمانية آلاف من الخوارج لما بيّن لهم ابن عباس الحجة دليل على هذا.
وروى مسلم رحمه الله عن يزيد الفقير قال: "كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد، نريد أن نحج ثم نخرج على الناس، هذا هو منطوق الخوارج، ومفهوم الخوارج، نريد أن نحج، نأتي بالعبادة، ثم نخرج على الناس بالسيف، ونقتل المؤمن والصالح والمسلم، هذا المنطق الأعوج، قال: فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم جالس على سارية، فقال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين، قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله! ما هذا الذي تحدثون؟ والله يقول: إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ سورة آل عمران192. وكُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَاسورة السجدة20؛ لأن الجهنميين قوم يخرجون من النار بشفاعة رسول الله ﷺ، فما هذا الذي تقولون؟ قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: فهل سمعت بمقام محمد الذي يبعثه الله فيه، المقام المحمود؟ قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمد المحمود، الذي يخرج الله به من يخرج، يعني: من النار، قال: ثم نعت وضع الصراط، ومر الناس عليه، إلى أن قال: فرجعنا فقلنا: ويحكم، أترون الشيخ يكذب على رسول الله، فرجعنا عن رأينا الفاسد، ورجعنا عن تلك المصيبة العظيمة التي وقعنا فيها، فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد"، أو كما قال أبو نعيم.
فإذن كان هؤلاء إذا أقيمت عليهم الحجة وأزيلت الشبهة، من أراد الله به الخير منهم كانوا يرجعون، وكثير منهم رجعوا، الأكثرية رجعوا، اليوم المسلمين، اليوم هؤلاء من ينتسبون إلى الإسلام من أصحاب الشبهات لو أقيمت عليهم الحجة هل يرجعون؟ الأكثرية رجعوا في عهد الصحابة، اليوم القلة جداً، قلة جداً هي التي ترجع، وتتأثر من الحجة عندما تقام عليها، عندما تسمع يا أخي الحجة أقيمت عليك، ماذا يبقى لك بعد ذلك؟
تأثر من يحصل له موقف مع رسول الله ﷺ ولم يكن يعرفه
وعندما كانت المرأة تجهل شخصية الرسول ﷺ، ثم تعرف تلك الشخصية، وقد أخطأت في حقها، كانت تتأثر تأثراً عظيماً، أتى رسول الله ﷺ على امرأة تبكي على صبي لها، فقال لها: اتقِ الله، واصبري[رواه مسلم926]. فقالت: وما تبالي بمصيبتي، فلما ذهب قيل لها إنه رسول الله، ما كانت تعلم أنه رسول الله، فألقت كلمة: وما تبالي بمصيبتي، فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله، فأخذها مثل الموت، كيف تكون علامات الميت، من الاصفرار والذبول، هذه العلامات أخذت المرأة، أخذها مثل الموت، لماذا أخذها مثل الموت؟ لأنها عرفت هذه الكلمة العظيمة أمام من ألقتها، استعظمت الكلمة التي ألقتها، اليوم تقول للناس شيئاً فيستهزئون به وينكرونه، فإذا قلت: يا جماعة! إن هذا حديث صحيح عن رسول الله ﷺ، ماذا يحدث لهم، هل يتأسفون، هل يأخذهم من الموت أو أدنى من ذلك؟ إذا عرفوا كلام من الذي استهزؤوا به.
التأثر بالفرحة
ولا نقول -أيها الإخوة- إن الفرح يقتصر، إن التأثر يقتصر على الحزن وذرف الدموع فقط، بل كان تأثرهم في أحيانٍ فرحاً، يتأثرون من الفرحة، والحديث الصحيح لما جاء رسول اللهﷺ المدينة فرح الناس بمقدمه فرحاً عظيماً حتى جعلت الولائد والإماء يقلن: جاء رسول الله، جاء رسول الله. جاء المربي، جاء المعلم، جاء صاحب الوحي الذي سيقول لهم مباشرة وحي الله ، فرحوا بمجيء المعلم، فرحوا بمجيء الواعظ، اليوم الناس في مجالسهم لو جاءهم واعظ أو معلم هل يفرحون بمقدمه، هل يفرحون بمجيئه، هل تشتعل أنفسهم سروراً وغبطة ويقولون في أنفسهم: الحمد لله، جاء من يرشدنا ويعلمنا، أم أنهم أم تعلوا وجوههم قترة وغبرة، ويتوارون من المجلس من سوء ما رأى، ويريدون اللهو.
إذًا: -أيها الإخوة- التأثر من سمات، الانفعال من سمات الشخصية الإسلامية، هذه الإحساس المرهب، هذه النفسية الرقيقة التي تتأثر لأدنى المواقف وأدنى الكلمات، حال إخواننا المسلمين اليوم في العالم يرثى له من التشريد والتقتيل والسجن والمجاعات وأنواع الأوبئة والأمراض والاضطهاد، وأحوال الأقليات الإسلامية في العالم، من الذي يتأثر لها التأثر العملي أيها الإخوة الذي يؤدي إلى الدعم، وإلى الإنفاق في سبيل الله، أشياء وأمور كثيرة جداً.
نسأل الله بأسمائه الحسنى أن يجعلنا وإياكم ممن يتأثرون بالوحي، وممن يندفعون بهذا التأثر إلى أعمال البر وأعمال الخير بجميع أنواعها، وصلوا على نبيكم ﷺ، فإن الله تعالى أخبر بأن من صلى عليه فإنه يصلي عليه بتلك الصلاة عشر مرات، وأخبر أن من صلى عليه في يوم الجمعة وليلة الجمعة فله أجر عظيم، فصلوا عليه أيها الإخوة سائر هذا اليوم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.