الأربعاء 10 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 11 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

12- سنة الزبد


عناصر المادة
ضرب المثل في القرآن ومعناه وفوائده
المثل المائي
المثل الناري
العلاقة بين المثل الناري والمائي
بعض سنن الله في الحق والباطل

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

ضرب المثل في القرآن ومعناه وفوائده

00:00:16

فإن من سنن الله : زوال الزبد وعلو الحق، فالزبد يعلو مدة ثم يزول، ثم يخلفه الحق فيمكث في الأرض، وهذا مصداقًا لقول الله في كتابه العزيز: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ  [الرعد: 17].

فمن سنة الله -تعالى-: أن يقذف زبد الباطل الضار ويمحوه، ويبقى الحق النافع الذي ينمو به العالم، ويُحفظ به الخلق، فيتغلب الخير على الشر والحق على الباطل، ولا يزال هذا سنة في الوجود، يرتفع الزبد ويعلو ويظهر ينتفش، ثم يزول ويخلفه الحق ظهورًا وبقاء، ويزيد عليه بقاء في الأرض.

فإذن، ظهور الحق أعلى من ظهور الزبد، وبقاء الحق، ولا يبقى الزبد.

والله -تعالى- يضرب الأمثال لتفهيم العباد: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ  [العنكبوت: 43].

وكان بعض السلف إذا سمع بمثل فلم يفهمه من أمثال القرآن بكى، وتلا هذه الآية؛ وقال: "لست من العالمين".

وأصل المثل النظير المشابه، والله يضرب الأمثال للبيان: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ  [الزمر: 27].

ومن فوائد ضرب الأمثال: التذكير، والوعظ، والزجر، والاعتبار، والتقرير، والتقريب.

والأمثال تريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد.

المثل المائي

00:02:48

فما معنى المثل في الآية؟

ضرب الله في الآية في الحقيقة مثلين للناس في الحق والباطل: مثلًا مائيًّا، ومثلًا ناريًّا، فأما المثل المائي فهو المذكور في قوله تعالى: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ، وأهل الجبال والوديان والصحاري والبادية يدركون معنى ذلك.

في هذه الآية يشبه الله -تعالى- القرآن والوحي الذي أنزله لحياة القلوب وهداية الناس بالماء الذي تحيا به الأجساد، وتحيا به الأرض، ولا يختص أحد بالانتفاع منه دون أحد.

وشبه القلوب التي نزل عليها الوحي بالأودية التي ينزل عليها ماء المطر، فقلبٌ كبير واسع يتسع علمًا كثيرًا، كما هذا الوادي الكبير الذي يسع ماءً كثيرًا، وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير.

فالأودية يسكن فيها الماء، وكذلك القلوب يسكن فيها القرآن؛ بحسب القلوب.

وقوله: فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا الوادي: هو المنخفض بين جبلين، وساعة ينزل المطر على الجبال فهو يسيل إلى الأودية، وكل واد يستوعب من المياه النازلة من أعلى بحسب اتساعه؛ وهذا يشبه استقبال القلوب للعلم والإيمان.

وقوله: بِقَدَرِهَا : يشير إلى اختلاف الناس في قبول الحق، والعمل به، وفهمه، وجمعه، ووعيه، وحفظه، فالأودية متنوعة فيها كبير وصغير، والقلب يشبه الإناء؛ لأن القلب وعاء للخير والشر.

وعن أبي عنبة الخولاني  أن النبي ﷺ قال:  إن لله آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ‌ألينها ‌وأرقها [رواه الطبراني في مسند الشاميين: 840، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 2163].

والقلوب مع الوحي كالغيث مع الأرض، فعن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ قال: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا؛ فكان منها نقية : يعني طيبة،  قبلت الماء فأنبتت الكلأ : وهو العشب الذي تأكله الأنعام طريًّا كان أو يابسًا، والعشب الكثير ، فهذا مثل قلب العالم المعلم الداعي إلى الله، الذي يعي العلم، ويحفظ العلم، ويفقه العلم، ويبلغ العلم، ويشرح العلم للناس.

قال: وكانت منها أجادب : من أنواع الأراضي أجادب، وهي الصلاب التي تمسك الماء فلا تشربه سريعًا، ولكنه يبقى فيها، فينفع الله به من يحفر ليستقي ويرتوي ويزرع، أمسكت الماء الأجادب، هي ما تشرب سريعًا ولا تنبت، لكن تحفظ تمسك تُبقي لغيرها، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وهذا مثل قلب الحافظ الذي ليس عنده علم، لكنه يؤدي ما يحفظه لمن عنده علم، ويحمله لغيره فيستفيد المحمول إليه، ويستثمره.

قال:  وأصابت منها طائفة إنما هي قيعان  هذه الثالثة؛ لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ : فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم والفقه والدراية، ولا يحفظ ولا يعي، فلا ينتفع، ولا ينفع، قال:  فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا : وهو الأخير ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به  [رواه البخاري: 79، ومسلم: ٢٢٨٢].

طيب هذا المثل النبوي له علاقة بالمثل القرآني في قضية: فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ.. بقوله: فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا .

قوله: فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا الزبد من الماء والبحر واللبن، بل حتى يظهر على البعير الزبد، هذا الزبد هو: الرغوة، فالزبد غثاء يعلو السيل، وهو خليط غير متماسك من أوراق وتراب وعيدان يعلو على السطح، ويحركه التيار من أسفل، هذا الزبد ليس فيه تماسك ولا تجانس، مجموعة أخلاط متناثرة، ولا تجاذب مع بعضه البعض، تفريقه سهل جدًا؛ ما يصمد، ويتمزق ويتصدع عند أول عائق يعترضه، فيطرحه الوادي إذا زاد ماؤه، وكل ما علا وجه الماء من رغوة وغيرها من فقاقيع الهواء التي تجعل حجمه أكبر من وزنه وكثافته أقل من الماء، فالغثاء إنما يطفو لخفته.

فإذن، كل ما علا على وجه الماء من رغوة وغيرها من فقاقيع الهواء التي حجمها أكبر من وزنها، والكثافة أقل من كثافة الماء، ولذلك يرتفع، فالغثاء إنما يطفو لخفته، قال تعالى:زَبَدًا رَّابِيًا  يعني عاليًا منتفخًا مرتفعًا فوق الماء؛ لأن المطر لما نزل كنس القش والقاذورات، وجرف ما في طريقه فاجتمعت وطفت فوق سطح الماء، لها رغوة، وكما يضمحل هذا الزبد، ويصير جفاء لا ينتفع به، ولا ترجى بركته، كذلك يضمحل الباطل ويزول.

وكما مكث الماء في الأرض فأمرعت هذه الأرض، ماذا يعني أمرعت؟ أخرجت المرعى، وأخرجت نباتها كما بقي الماء في الأرض فأمرعت كذلك يبقى الحق لأهله فينبت، وتخرج الثمار من هذا الصلاح العظيم الذي يرى.

فإذن، الباطل وإن علا فإنه ولا ريب سيعود إلى ما كان عليه من الصغار، فهذه سنة الله الماضية،  بَلْ ‌نَقْذِفُ ‌بِالْحَقِّ ‌عَلَى ‌الْبَاطِلِ ‌فَيَدْمَغُهُ ‌فَإِذَا ‌هُوَ ‌زَاهِقٌ [الأنبياء: 18]، وقال تعالى في آية أخرى:  إِنَّ ‌الْبَاطِلَ ‌كَانَ ‌زَهُوقًا [الإسراء: 81]، صحيح زهوقًا، وأما الذي يمكث ويبقى فهو ما ينفع الناس، فَأَمَّا ‌الزَّبَدُ ‌فَيَذْهَبُ ‌جُفَاءً ‌وَأَمَّا ‌مَا ‌يَنْفَعُ ‌النَّاسَ ‌فَيَمْكُثُ ‌فِي ‌الْأَرْضِ  [الرعد: 17].

والحق منصور وممتحن فل تعجب فهذه سنة الرحمن

 فهذا أحد مثلي الحق والباطل ضرب الله للحق مثلًا بالماء، وللباطل مثلًا بالزبد.

المثل الناري

00:11:12

طيب هذا المثل المائي؛ فما هو المثل الناري؟

فهو قوله تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ .

إذا كان المثال الأول مناسبًا لأهل البوادي، فالمثل الناري مناسب لأهل الحاضر والبلد؛ لأنه عندهم الصناعة والمعادن، وأهل البادية عندهم الطبيعة، ويرون الماء والسيل والوادي، فضرب الله مثلًا لأهل الحاضرة ولأهل البادية، ضرب لأهل البادية المثل المائي، وضرب لأهل الحاضرة المثل الناري، حتى يستوعب كل واحد المقصود من خلال بيئته وطبيعته، يعني ما في شيء اسمه يعني ما أحد يفهم والا هذا لا يلامس أحدًا، لكن يفهم الذي يريد أن يفهم، ويفقه الذي يريد أن يفقه.

فالمثل الناري مناسب لأهل الحضر أهل الصناعة، فيدخلون المعادن في النار لتصنيعها حُليًّا وزينة، ولاتخاذ المتاع، والقدور، والأواني، وآلات الحرث والحرب، وإلى آخر المصنوعات.

فماذا يحدث إذا أُدخل المعدن النار؟

الشوائب التي فيه والخبث الذي فيه يطفو ويعلو، والخلاصة المعدن الأصلي يبقى في الأسفل؛ فإذا أردت تنقية المعدن تضعه في النار فتعلو الفقاقيع التي فيها خبث المعدن والأخلاط والشوائب؛ فتذهب ويؤخذ المعدن الصافي النقي الأصلي لينتفع به في صياغة حاجات الناس.

العلاقة بين المثل الناري والمائي

00:13:27

العلاقة بين المثل الناري والمائي واحدة؛ من جهة ارتفاع الزبد وعلوه على السطح، ثم يُطرح ويذهب ويُنفى، فالزبد يذهب جفاء عندما يسيل الوادي بالماء، فالزبد يعلق بجنبات الوادي غصن شجرة، أي شيء يعترض الزبد سيعلق به ويتفرق، فيذهب الزبد ويكون ما بقي من الماء صافيًا نقيًّا ينفع الناس.

وكذلك ما يرمي به القِدر والفرن من الزبد تجده على جنباته، ويجمع ويرمى، يذهب جفاء، ما معنى جفاء؟ باطلًا ضائعًا مطروحًا منبوذًا تافهًا ملقى، فيحصل الصفاء للوادي بعد ذهاب الزبد، ويحصل الصفاء للمعدن بعد ذهاب الزبد أيضًا، ويصبح المنظر جميلًا، والمعدن صافيًا، والماء أصفى.

قال تعالى: وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ، أما ما ينفع الناس من الماء الصافي والمعدن الخالص يمكث ويثبت، هذا مثل الحق والباطل، كَذَلِكَ ‌يَضْرِبُ ‌اللَّهُ ‌الْحَقَّ ‌وَالْبَاطِلَ  [الرعد: 17]، فإنهما يجتمعان ويتقابلان، فلا يثبت الباطل؛ ولو انتفش ولو ارتفع، هذا ارتفاع وهمي مؤقت، لا لصلابة الباطل، ولا لجودة الباطل، ولا لمنفعة الباطل.

كذا الطبيعة فقاقيع أشياء من هذه النفايات تعلو وترتفع، لكنها لا تدوم ولا تبقى، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة، بل يذهب ويضمحل.

إذن، الباطل هل يعلو على الحق في الظاهر أحيانًا؟  نعم.

هل يبدو الباطل أحيانًا منتشيًا منتفشًا منتفخًا له حجم ولو غير حقيقته، وفي منظر فيما يشاهده الناس يجدونه فوق، هذا حقيقي؟ نعم.

كذلك اليوم نحن نرى مذاهب فاسدة ذهب بعضها وسيذهب الآخر، لها نوع علو في الأرض وسيطرة وهيمنة وانتفاش وانتفاخ، فنحن رأينا مثلًا: الشيوعية والاشتراكية والبعثية والقومية والناصرية، وكذلك الرأسمالية والديمقراطية وغيرها، هذه باطل قطعًا، باطل مخالف للحق الذي أنزله الله، والعلو الذي له مؤقت، علو وانتفاش وانتفاخ هذا مصيره إلى الزوال قطعًا؛ لكن الناس عليهم أن يدركوا هذا.

فمشكلة كثير من الناس أنهم ينخدعون بالظاهر، ويقولون لك: هم فوقنا، هم الأعلون، هم يقودون، هم غالبون مهيمنون مسيطرون، هم قادة العالم، هم لهم الرئاسة، لهم القوة، لهم السيطرة الغلبة؛ هذا مؤقت وسيذهب قطعًا، وسيعقبه جولة للحق مهيمنة، وَتِلْكَ ‌الْأَيَّامُ ‌نُدَاوِلُهَا ‌بَيْنَ ‌النَّاسِ  [آل عمران: 140].

والحق منصور؛ لكنه ممتحن؛ ممتحن بهذه الزبديات، لكن الناس كثير منهم نفسه قصير، ونظره قصير، فلا يرى المعدن الصافي تحت، لكنه يرى الزبد الذي علاه وارتفع عليه.

وكثير من الناس نفسه قصير فهو يحكم فقط على المدة القصيرة التي سيطر فيها هذا الباطل، ويقول: خلاص يعني أنا متى ندرك انتصار الحق يعني في أحفادنا وإلا أحفاد أحفادنا ما ندري، لك الساعة التي أنت فيها، ما هو مستعد يوسع يعني نظره وصدره لكي يستطيع أن يحكم حكمًا أعدل وأقوم وأصح.

ولذلك الأمور عند الله ليست يعني خلاص بين عشية وضحاها سيذهب الزبد وينتهي، وَإِنَّ ‌يَوْمًا ‌عِنْدَ ‌رَبِّكَ ‌كَأَلْفِ ‌سَنَةٍ ‌مِمَّا ‌تَعُدُّونَ  [الحج: 47].

ثم لله حكم في قضية علو هذا الزبد، لله حكم فيها، والمطلوب من العباد أن يوسعوا النظر، ولا يضيقوا لا نظرًا ولا صدرًا في قضية إدراك الحقيقة، ولولا هذا الاستعجال من العباد لكان صبر المسلمين مختلفًا، ولكن من طبيعة الناس الاستعجال، ويريدون أن يروا بسرعة، تقول لهم: هناك نصر قادم، فيقولون: أين؟ تقول لهم: الزبد سيذهب، يقولون: متى؟ ما جاء، ما في شيء ما حصل شيء إلى الآن.

والزبد في المثل واضح أنه متفرق غير متجانس، فلو نظرت اليوم في عقائد ومبادئ ونظريات أصحاب العلو في الأرض اليوم لن تجد تجانسًا، يعني مثلًا الرأسمالية عدوة الاشتراكية مثلًا، ما ينادي به القوم الفلانيون ضد وعكس الذي عند الآخرين.

وستجد مثلًا حريات مطلقة إلى درجة الحيوانية البهيمية، ودكتاتوريات استعبادية لدرجة الاضطهاد والقمع والظلم الواسع، كلاهما ظلم، كلاهما باطل.

وأيضًا فإن الله لما ضرب مثل للحق في المعدن والماء الصافي والمعدن النقي وما سيبقى فإنه يعني أن دين الله باق، ومنهج الله ثابت، والحق منصور، والدعوة إليه ستعلو، وأن الحق قد يمر بمرحلة فيها نوع من الكمون، لكنه لا يموت.

الحق يمر بمرحلة فيها كمون مثل المعدن لما يدخل الفرن الزبد يعلو والمعدن تحت، الناظر قد يرى الزبد ولا يرى المعدن، المعدن موجود لم يختف لم يضمحل لم يذهب بالكلية هو كامن، وهذا الكمون قبل مرحلة الظهور؛ فالحق قد يبقى هادئًا ساكنًا حتى يحسب بعض الناس أنه مات، ضاع، ولكن في الحقيقة هو موجود.

وفي هذا المثل أنه لا يتأثر بالزبد إلا أصحاب القلوب الخاوية، الخالية من الإيمان، أهل الدنيا، أصحاب النظر القصير، وأهل العجلة.

وكذلك يتأثر بالزبد الذين ليس في قلوبهم خشية لله، وهم مع الغالب أيًّا كان ينساقون، أصحاب انسياق، ما هم أصحاب مبادئ راسخة.

المثل هذا فيه درس في عدم الاغترار بالباطل، وعدم الاستسلام له، وعدم الخوف منه.

المثل هذا فيه تسلية للمؤمنين وتثبيت، وأنه يقول لهم: إن الحق الذي أنتم عليه ظاهر، انتظروا واصبروا فإن العاقبة لكم والباطل سيتلاشى.

فيه بشارة للمؤمنين أن الباطل وإن صال وجال وارتفع وعلا؛ لكنه سيتفرق وسيتبدد وسيضمحل وسيعود إلى الصغار والبوار وأن هذه سنة إلهية.

كذلك المثل هذا فيه تحقيق لقاعدة البقاء للأصلح والأنفع، وأن الأمثل هو الأحق بالاستمرار.

بعض سنن الله في الحق والباطل

00:24:19

من سنة الله في الحق والباطل: أن أعمال أهل الكفر والنفاق تطفو لكنها تتلاشى، تنتفخ وتربو ثم يلقي بها الناس وإلى المزبلة.

من سنة الله -تعالى-: أن الله هو الحق، وينزل الحق، ويثبت الحق، ويمحو الباطل: أَمْ ‌يَقُولُونَ ‌افْتَرَى ‌عَلَى ‌اللَّهِ ‌كَذِبًا ‌فَإِنْ ‌يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ  [الشورى: 24].

من سنة الله -تعالى-: أن ظهور الباطل مؤقت، وليس له أساس يثبته للمستقبل، فإذا تواجه مع حق صريح أعد أهله العدة فإن الباطل مهزوم قطعًا،  بَلْ ‌نَقْذِفُ ‌بِالْحَقِّ ‌عَلَى ‌الْبَاطِلِ ‌فَيَدْمَغُهُ  [الأنبياء: 18]، ويبطل الله الباطل بالحق، ويسلط الله رسله وأولياءه وجنوده على الباطل فيستأصلونه فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء: 18] إذا للمفاجأة فإذا هو زاهق، إذا للمفاجأة تدل على سرعة المحق، وأن الحق مفعوله سريع إذا جاء ما يقوى ما يقف أمامه الباطل.

وفي عصرنا كم حاول أهل الشيوعية تثبيت الشيوعية؟ أقاموا أحزابًا وجيوشًا ودولة وإدارة وتمويلاً وإعلامًا واحتلوا بلدانا؛ الشيوعية وصلت في الخمسينات والستينات إلى مراحل قالوا: إنه حتى أمريكا وأوروبا ستكتسحها الشيوعية خلاص يعني، كانت الشيوعية أقوى من الرأسمالية في وقت من الأوقات، حتى وصلوا القمر قبلهم، أين الشيوعية الآن؟ أين هي؟ أين منظروها؟ أين كتبها؟ أين برامجها؟ أين دولها؟ أين إعلامها؟ أين مبادؤها؟ أين هي؟

ذهبت إلى المزبلة، وستلحق بها الرأسمالية في أمريكا وأوروبا ستسقط قطعًا، هذا باطل وهذا باطل، أَكُفَّارُكُمْ ‌خَيْرٌ ‌مِنْ ‌أُولَئِكُمْ ‌أَمْ ‌لَكُمْ ‌بَرَاءَةٌ ‌فِي ‌الزُّبُرِ [القمر: 43]، ما هذا؟ حرية بهيمية قائمة على الإباحية، والربا الذي يمحقه الله، رأسمالية فيها ظلم واضح.

فإذن، هذه ستسقط كما سقطت تلك، والمسألة مسألة وقت، والإسلام منصور وعائد إلى قيادة العالم، وهذه  وَتِلْكَ ‌الْأَيَّامُ ‌نُدَاوِلُهَا ‌بَيْنَ ‌النَّاسِ  [آل عمران: 140].

دول؛ مرة الغلبة لهؤلاء، ومرة لهؤلاء، لقد سقطت الإشتراكية، ومنيت بالفشل الذريع، والإخفاق الكامل، لقد تساقطت الأصنام، وهوت الرايات، وبادت الشعارات.

ومن سنن الله -تعالى- في الحق والباطل: أن الباطل لا ينفع بل يضر، وَقُلْ ‌جَاءَ ‌الْحَقُّ ‌وَزَهَقَ ‌الْبَاطِلُ ‌إِنَّ ‌الْبَاطِلَ ‌كَانَ ‌زَهُوقًا  [الإسراء: 81]، يضمحل ويتلاشى.

قد يكون له صولة وروجان وخصوصًا عندما لا يكون هناك حق يقابله، يعني أصحاب الحق يضمرون يضعفون يكسلون ينامون يسكتون.

متى ينتشر الباطل؟ متى يعلو؟ متى يكتسح الإعلام؟ ومتى يكتسح يعني عسكريًّا؟ ومتى يكتسح في الظاهر؟

لما أهل الحق يضعفون عن المواجهة به، فعند ذلك يروج، وهناك أماكن خالية ما فيها من أهل الحق أو إلا القليل، أو قد يكونون في ضعف هم أنفسهم، فلذلك يرتفع الباطل، لا لأن الباطل عنده مؤهلات البقاء، ولا لأن الباطل هذا ينفع، ولا لأن الباطل هو الأمثل للعالم، ولا لأن الباطل هو الأرجح في الكفة والأحسن في المذهب والمبدأ، لا، ولكن لا يوجد حق يقابله.

بقي المسلمون في مكة ممتحنون ثلاثة عشر عامًا، وأصنام قريش تعانق الكعبة، وتتحداها في الطول، موزعة وعلى الصفا وعلى المروة، كم صنمًا حول الكعبة؟ ثلاثمائة وستين صنمًا غير الأصنام الأخرى المبثوثة.

كان  بمقدور الله أن يُذهب أصنام قريش في لحظة، فبقي النبي ﷺ وأصحابه على ثباتهم على الحق ويدعون إلى الله، حتى أمكنهم الله من هذه الأصنام، هي بقيت ثلاث عشرة سنة، زائد ثمانية يعني حتى فتح مكة يعني قرابة عشرين سنة من البعثة النبوية من عمر النبي ﷺ عشرين سنة من البعثة من بعد عمره أربعين، عشرين سنة الأصنام حول الكعبة.

هل لأن الأصنام هذه يعني تنفع الناس؟ مبدأ عبادة الأصنام مبدأ قوي وجيه صحيح؟

كلا، لكن لله حكم؛ يريد أن يصطفي شهداء، ويعلم ما أنتم عليه، الصادق من الكاذب، المنافق من المؤمن، الذي يريد أن يقدم، الذي يجبن، الذي يبخل، الذي يعطي، الذي من أجل الإسلام يعمل، الذي يكسل، من الذي يتأثر بدعاية الباطل يمشي مع الباطل، ومن الذي إذا عرف الحق اتبعه حتى ولو كان هناك صعوبات، عشرين سنة من الدعوة النبوية التي هي كلها ثلاثة وعشرين سنة، عشرين سنة منها أصنام قريش عند الكعبة، أحب البقاع إلى الله.

عن عبد الله بن مسعود قال: "دخل النبي ﷺ مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد". [رواه البخاري: ٢٤٧٨، ومسلم: 1781].

ظل المسلمون يعملون عشرين سنة ليأتي هذا اليوم الذي يزيلون فيه الأصنام ويزيلون فيه الباطل من عند الكعبة، لكن شوف الحق لما جاء كم استمر؟ كم استمر؟

إلى الآن لم ترجع الأصنام إلى الكعبة؛ لأن الشغل صح، أزيلت على أساس، جاء الحق الذي هو الحق، فبقي أثره إلى الآن الأصنام ما رجعت حول الكعبة، وهي بقيت عشرات السنين من قبل، ومن عمر نبينا في الدعوة عشرين سنة، لكن لما جاء الحق زهق الباطل وسقطت الأصنام وجعل يطعنها بعود في يده، لماذا يطعنها بعود في يده؟ إذلالًا لها وتحقيرًا لها ولعابديها، وبيان أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تدافع عن نفسها، ولا تدفع.

لو قد رأيت محمدًا وقبيله بالفتح يوم تكسّر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بيننا والشرك يغشى وجهه الإظلام

هذا يوم الفتح، هذا اليوم الذي محق الله فيه الباطل، وعلا فيه الحق، وبقي الحق، هذه هي السنة الربانية التي نحتاج أن نفهمها اليوم.

الباطل اليوم يعلو بجيوشه العسكرية، وأنظمته السياسية، واستيلائه على الأمم المتحدة، يعلو بنظمه الإلكترونية وشبكاته التي يهيمنون عليها، ويتحكمون بها في محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي وشبكة نسيج العنكبوت.

الباطل يعلو اليوم بقنواته وبرامجه الإعلامية وإنتاجه السينمائي وأفلامه التي تنتج بالطرق المبهرة الأخّاذة الخدّاعة، واضح.

الباطل اليوم يعلو بنظمه البنكية المصرفية وهيمنتها على العالم وتحكمها في مصارف الناس وبنوكهم، وهكذا..

لكن هذا مثل أصنام قريش هي موجودة مدة إلى أن يشاء الله السقوط؛ وسيكون سقوطًا مدويًا، سيكون سقوطًا رهيبًا، سيكون سقوطًا هائلًا، كما سقطت الأصنام عند الكعبة، فالعرب يعني كان وقع سقوط الأصنام عليهم رهيب؛ لأن هذه أصنام عبدوها مدة طويلة، كانوا يأتون إلى مكة يطوفون بالكعبة وفيها أصنام، لكن لما سقطت الأصنام آثارها في أحياء العرب وقبائلهم كان مدويًا يعني هذه الأصنام التي عبدناها وعظمناها وصرفنا لها أنواع القرابين وفعلنا... وفعلنا.. وفي الأخير تحطمت كذا وصارت فتاتًا تكسرت كذا، وذهبت هباء منثورًا، أين كانت عقولنا؟ لماذا كنا مخدوعين؟ كم كنا أذلاء لهذه التي لا تضر ولا تنفع؟

هذا الشعور الذي سيحدث عند سقوط الباطل اليوم، فسيقول عندها من كان متعلقًا به: وي كأن الله، وي سيقولون: وي هذه التي كنا نسير وراءها ونتشبه بها ونعظمها، ونرى لهم العلو، وأنهم هم الذين يفهمون، ومتقدمين، هم أصحاب الحضارة، وأصحاب القوة، وكنا مستسلمين، وكنا نتشبه بهم، وهذه النهاية هكذا يتوقع أن يحدث عند سقوط المعسكر الآخر.

لقد بقي ما يسمى بالاستعمار؛ وهو تخريب طبعًا، جاثمًا على صدور بلاد المسلمين والعرب مدة طويلة من الزمن، لكن ماذا حصل بعد ذلك؟

ذهب راح طفا انسحب.

التنصير دخل بعض بلاد المسلمين وعاث فيها فسادًا، وحتى دخل بعض بلاد الوثنيين، ولكن جاء الإسلام بعده وانتشر ومسح التنصير وأثر التنصير.

كان المخططون في الكنيسة يقسمون أن قارة أفريقيا بحلول عام ألفين ستكون كلها نصرانية، صارت لا.

كانوا يقسمون على أن عام ألفين ستكون إندونيسيا نصرانية الأغلبية، صارت لا.

ولذلك فإن الباطل حتى لو هدد وتوعد، وحتى لو كان عنده وسائل كبيرة وضخمة ما هو ضروري ينجح ولا يحصل له ما يريد: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ: 48-49]،  جَاءَ الْحَقُّ : ظهر وبان بمنزلة الشمس في السطوع واندحر الباطل،  وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ  يعني: لا يتكلم ببادئة ولا عائدة، لا يرتجل ولا يجيب، لا هو يتكلم صادر عنه كلام ولا يرد على كلام غيره.

من سنة الله في الحق والباطل: أن الحق بطيء؛ ولكنه سيأتي يومًا، الحق بطيء لكنه يأتي يومًا ولا بد: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ  [البقرة: 214].

الناس يستعجلون، الناس من طبيعتهم العجلة يقولون: أين؟ ما صار؟ ما سقطت الرأسمالية؟ ما انتصر المسلمون؟ ما رجع الإسلام إلى الانتصار على كل القوى العالمية الموجودة في الأرض؟

نقول: اصبروا، اصبروا، اصبروا وعد الله قادم، وعد الله قادم، ثم لا تكونوا أنتم جزءًا من المشكلة.

قلنا: إن الباطل متى يرتفع، ومتى الباطل ينتفش؟

إذا ما في أهل حق يواجهونه، تأخر مجيء الحق بحسب حال أهله، يعني أنتم الحق يأتي يعني على إي شيء؟ ملائكة تأتي به وأهله نائمون، ما يمكن، وفرعون مكث طويلًا، مكث طويلًا له القوة والملك ظاهرين في الأرض:  وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَت [يونس : 88-89] هي أجيبت لكن متى جاء النصر؟ يعني خلاص أرسل موسى اليوم غدًا غرق فرعون؟ موسى أرسل اليوم غدًا غرق فرعون؟

لا، لا.

في سنوات من المجاهدة والمصابرة وموسى وهارون يعملان و تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس: 87] وتربية وصلاة وإقامة ما يمكن من الدين، فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُم [يونس: 83].

وهؤلاء يقولون لموسى: ما في فائدة يعني  قَالُوا ‌أُوذِينَا ‌مِنْ ‌قَبْلِ ‌أَنْ ‌تَأْتِيَنَا ‌وَمِنْ ‌بَعْدِ ‌مَا ‌جِئْتَنَا ‌قَالَ ‌عَسَى ‌رَبُّكُمْ ‌أَنْ ‌يُهْلِكَ ‌عَدُوَّكُمْ  اصبروا اصبروا، عَسَى ‌رَبُّكُمْ ‌أَنْ ‌يُهْلِكَ ‌عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ  [الأعراف: 129]، وحصل والا ما حصل؟  حصل.

إذن، هذه دائرة تدور وهذه موجات: وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ  [آل عمران: 140].

الآن يعني يوسف قال لأبيه:  إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ  [يوسف: 4] ثاني يوم سجدوا له؟ لا؛ فيها سنوات، سبعة في العبودية والقصر، وسبعة في السجن، وسبعة في الوزارة، وسبعة ... حتى قدم يعقوب وأهله ودخلوا مصر، وقال يوسف:  رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ [يوسف: 101]، لما آلت الأمور إلى يوسف، ما ثاني يوم رأى الرؤيا ثاني يوم صار الملك ليوسف ودخلوا عليه وسجدوا له سجود التحية؟ لا؛ الناس يستعجلون لكن وعد الله محقق، وعد الله قادم.

في الحديبية يعني جاء عمر يقول: ألست نبي الله حقًا؟ قال: بلى ، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى ، قال: فلما نعطي الدنية؟ قال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي بالبيت فنطوف به، قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ ، هل قلت لك هذا العام ستدخل مكة تطوف؟ أنا قلت أنك ستدخل مكة وستطوف، لكن قلت لك هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به [رواه البخاري: ٢٧٣١، ومسلم: ١٧٨٥].

سيأتي، وأتى والا ما أتى؟ أتى.

والله كل شيء عنده بمقدار، ونحن مقصرون، قال لنا : وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ  [الأنفال: 60]، أعددنا لهم ما استطعنا من قوة؟ في تقصير.

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ  [محمد: 7]، هل نصرنا الله حقًا؟

لا زال كثير منا يتشبهون بالكفار الذين أمرنا بأن نعد لهم القوة، لا زال هناك في الأمة استسلام كثير للغرب الذي أمرت الأمة بإعداد القوة لمواجهته، ثم بعد ذلك يقولون: لما الكفار في انتصار ونحن في ذل وهزيمة؟ ولماذا وأين الموعود الإلهي؟

الموعود الإلهي سيأتي الموعود الإلهي والقوم قد بذلوا قد فعلوا، وإذا كانوا غير مستعدين يبذلوا؛ الله عنده حل، وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ  [محمد: 38].

إذا كان الجيل الذي مع موسى في الأول ما كان عنده استعداد يدخل الأرض المقدسة، ومرة يقولوا: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة: 24]، ومرة استهزاء وسخرية:  فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا [المائدة: 22]؛ خلهم يطلعوا أول، ونحن ندخل، خلاص عند الله يعني يسير الأمر: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة: 26]، أربعين سنة يتيهون.

إذن، هذا الجيل ما يصلح للنصر، بسيطة؛ يذهب الله بهم، ويأتي بجيل بعدهم يصلحون للنصر، وجاء الجيل الذي بعدهم ودخلوا بيت المقدس، موسى مات في التيه، موسى مات ما دخل مع بني إسرائيل بيت المقدس.

ما هو شرط كل واحد يكون عاش في الجيل لازم يرى النصر قد يموت الواحد في مرحلة استضعاف.

مات من الصحابة في مكة قبل الهجرة من مات، ما رأى شيئا ما رأى النصر المبين ما رآه.

وخباب لما جاء للنبي ﷺ قال له:  ولكنكم تستعجلون  [رواه البخاري: ٣٦١٢].

وإذا كنا أصحاب حق وأصحاب شجرة ثابتة في الأرض، وأهل الباطل زبد، أفلا نقدّر هذه النعمة؛ وأن الله أعطانا منهجًا ودينًا قويمًا، وأعطانا هذه المبادئ العظيمة، جعلنا على الملة والحنيفية وعلى التوحيد، نعبد الله لا نشرك به؟

مرت على الأمة الإسلامية طوائف كثيرة على الباطل؛ من المعتزلة، والخوارج، والقدرية، والأزارقة، والنجدات، والصالحية، والسبأية، والكيسانية، والمغيرية، طيب أين العبيديون؟ أين البويهيون؟ أين الحمدانيون؟ أين الصفويون؟

كلها دول زالت وبادت، وفرق اضمحلت وذهبت.

كان لهم في بعض المناطق والبلدان صولة وجولة، لكن ذهبوا دخل صلاح الدين أسقط العبيديين، أسقط دولة الفاطمية المشركية في مصر، انتهت خلاص.

فإذن، الزبد يذهب.

النمرود كان له صولة وجولة ذهب.

في كتب لأهل الباطل كانت تدرس وكان لها صولة وجولة وكان لها شأن؛ ذهبت، حتى في العصر هذا ألفوا كتبًا كثيرة، ألفوا كتبًا كثيرة في الآيات الشيطانية وفي أشياء خلاص بعدين الناس يعني بعدين نسيت، الزبد يذهب، لكن كتاب الله القرآن باق، القرآن باق، وشروح القرآن وشروح السنة باقية، والناس يعودون إليها.

إن اللآلئ تبقى وهي غالية وإنما تعصف الأمواج بالزبد

 في فتاوى باطلة ضالة أين هي؟ نسيت راحت ذهبت بقي الحق؛ ففتاوى الزبد، ومذاهب الزبد، وفرق الزبد، ودول الزبد، وأنظمة الزبد؛ كلها زائلة، وسيبقى الحق، لا يضيع.

شوف مصنفات العلماء: موطأ مالك، صحيح البخاري، كم مضى على هذه المصنفات العظيمة؟

مئات السنين، وأكثر من ألف سنة، الكتب الستة أكثر من ألف سنة، والعلماء يشرحونها، ويرجعون إليها، وطلاب العلم والحفاظ صغار يحفظون القرآن، يحفظون الصحيحين، يحفظون الكتب الستة.

مالك عزم على تصنيف الموطأ فصنفه، فعمل من كان في المدينة يومئذ موطآت، فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل الكتاب وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثالك؟ فقال: ائتوني بما علموا، فأتي به فنظر فيه ثم نبذه، وقال: لتعلمن أنه لا يرتفع من هذا إلا ما أريد به وجه الله.

فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار وما سمع لشيء بعدها من ذكر؛ لأنهم قالوا نقلد ماذا فعل؟ نعمل مثله بسيطة، كانوا يسهرون الليالي، يؤلف الكتاب في عشرين سنة، أربعين سنة أحيانًا الكتاب، وما في حديث يوضع إلا استخارة وصلاة ركعتين، وانتقاء من أحاديث كثيرة جدًا.

على أية حال: في المسائل العلمية، وفي باب الفرق، وفي باب المذاهب، وفي باب الدول؛ يذهب الزبد ويبقى الحق في النهاية.

قارون كان لكن انتهى، عاد وثمود كانت حضارات انتهت راحت، فرعون كان وكان صولة وجولة ذهب راح.

سفينة الحق يا تاريخ قادمة لا ترهب الموج والطوفان والثبجا
والليل مهما عتا واسود جانبه فلن يقر أمام الصبح إن ولجا

والآن يقولون: هذه الغنائيات، وهذه المطربة المغنية الفلانية، وهذا .. كذا، خلاص، كله سيذهب لن يبقى لا شهرة ممثل ولا مطرب ولا مطربة ولا ... كله سيذهب لن يبقى:  لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ  [آل عمران: 196- 197].

إذن، في النهاية سيبقى الحق ويذهب الزبد، ويذهب الباطل.

فنسأل الله أن يجعلنا من أهل الحق القائمين به، اللهم اجعلنا ممن يحكمون بالعدل، ويقضون بالحق، ويثبتون عليه، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الإخلاص في الغضب والرضا، كلمة الحق يا رب العالمين، إنك سميع مجيب، وبالإجابة جدير.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.