الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
معنى اللهو واللعب
قال تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُأي: الحياة الحقيقية الدائمة، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَسورة العنكبوت64.
واللهو: ما كان من الأعمال غير الجادة، وغير مقصودة لغاية بذاتها، وما شغلك فقد ألهاك. واللعب: ما لا ينتفع به.
وذم رجل الدنيا عند علي فقال: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنىً لمن تزود منها.
واللهو واللعب غرور؛ ولذلك كان الكفار في حياتهم يتفرغون لهذا؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة فليس عندهم إلا هذه الدنيا فهي فرصتهم الوحيدة في اعتقادهم، فلذلك يلهون فيها ويلعبون، بالنسبة لهم هذا هو الأمل.
عباد الله: اللعب واللهو كثر اقترانه في الكتاب العزيز، واللعب زمن الصبا، واللهو زمن الشباب، كما قال بعضهم، وتفاخر وتكاثر هكذا تلهي الدنيا من فيها، الدنيا بزخرفها تلهي عن الآخرة، وفرق بين هذا، وبين ما يحتاجه الأولاد من اللعب، فإن من جعل الدنيا كلها لهواً ولعباً، فهو مذموم مغرور، وأما من خص هؤلاء الأولاد بالمباح من اللعب المناسب لسنهم وحالهم فإنه محمود حكيم.
والترويح: الفسحة والانبساط، وإزالة التعب والمشقة، ويحتاجه الناس إذا كثرت الهموم والأعمال عليهم، والمسلم وإن كان جاداً لا يعرف الكسل والإهمال، ولا يؤثر الراحة والدعة، ويكون مجتهداً في طاعة الله؛ فإنه يحتاج إلى فترات استرواح.
قال ابن القيم رحمه الله: "وعمارة الوقت الاشتغال في جميع آنائه بما يقرب إلى الله، أو يعين على ذلك من مأكل، أو مشرب، أو منكح، أو منام، أو راحة، فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله، وتجنب ما يسخطه كانت من عمارة الوقت، وإن كان له فيها أتم لذة فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات، فأوقات المسلم عبادة إلى عبادة، ومن طاعة إلى أخرى".
مشروعية اللهو واللعب
أيها المسلمون: هذه الإجازة وما فيها يقبل كثير من الناس على الترويح وأنواع اللعب، ويعدونها فرصة لكي ينتقلوا بالأولاد من مكان إلى مكان ترويحاً وتسلية، ولا شك أن من قصد وجه الله تعالى بهذا في إدخال السرور على من يرعى من المسلمين من هؤلاء الأولاد المحتاجين إلى ذلك؛ لأن أسنانهم تدعو الحاجة فيها إلى إشباع غريزة اللعب لديهم، وإلى أن يكون لهم أنواع من الترفيه والتسلية، فإنه يكون حين ذاك مأجور على فعله، ولا شك أن المسلم إذا كان في مسجده، وفي حلقة درسه، وفي الدعوة مع إخوانه له شأن وحال تختلف عما يكون بين أولاده وأهله، ولقد لقي أبو بكر حنظلة، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة، فقال أبو بكر: سبحان الله، ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله ﷺ يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله ﷺعافسنا الأزواج، والأولاد، والضيعات، فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، وهكذا اشتكيا إلى النبي ﷺ حالهما، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً، فقال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات.[رواه مسلم2750].
قال الأُبي رحمه الله: "سنة الله تعالى في عالم الإنسان أن جعله متوسطاً بين عالم الملائكة وعالم الشياطين، فمكّن الملائكة في الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، ومكَّن الشياطين في الشر والإغواء بحيث لا يغفلون، وجعل عالم الإنسان متلوناً".
ومعنى قوله: يا حنظلة ساعة وساعة [رواه مسلم2750] قال العلماء: يعني لا يكون الرجل منافقاً بأن يكون في وقت على الحضور، وفي وقت على الفتور، ففي ساعة الحضور تؤدون حقوق ربكم، وفي ساعة الفتور تقضون حظوظ أنفسكم. يعني في المباحات.
فليس العتب إذن على من أراح نفسه وأجمها بالمباح لتنشط للعبادة، لتنشط للدعوة، لتنشط لطلب العلم، لتنشط لصلة الرحم، لتنشط في القيام بخدمة الشريعة والدعوة للإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونفع المسلمين، والاشتغال بسد حاجاتهم، لكن العتب، على من يجهل اللهو واللعب هو الأساس، هو الأساس في حياته فعلاً، وإليه تنصرف مجمل أوقاته، وغالب حياته على هذه التسليات والترفيهات، ثم يكون للعبادة شيء يسير، أو للدعوة شيء يسير، هذا إذا كان، أو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيء لا يذكر، أو لطلب العلم كذلك، فلا شك أنه مفرط ومضيع؛ لأنه جعل الأصل طارئاً، والطارئ أصلاً، وجعل التسلية والترفيه في المباح لكي تنشط النفس للطاعة، جعله هو الأكثر، وجعل الطاعة هي الأقل، وأما بالنسبة للعيال، للأطفال، فإن الأمر مختلف، فإن الله خلقهم على هذا، على محبة اللعب، وليس عندهم من العقل ما يدركون به الأمور الكبار لينشغلوا فيها، ليس عند الطفل من العقل ما يقوم به بالدعوة وطلب العلم، والجهاد، والقيام بأمور الدين، والسعي في حاجات المسلمين، ونحو ذلك، ولذلك كان من السنة أن يجعل لهؤلاء من الألعاب ما يناسبهم، فتقول عائشة رضي الله عنها، وهي بنت ست سنين: وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي. وذكرت القصة، وهذا هو الشاهد منها، أنه كانت لها أرجوحة وصواحب وهي بنت سنين، وهذا شأن طبيعي للفتاة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي ﷺ، وكانت لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله ﷺ إذا دخل يتقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي.
وهكذا أبيحت العرائس في لعب البنات بالشروط الشرعية، كعرائس العهن – الصوف – ونحو ذلك مما ليست فيه هذه التفصيلات الدقيقة، ولكنه الهيكل العام الذي تكون به لعبة تتدرب بها هذه الفتاة على مشاعر الأمومة ورعايتها، وقد أجاز العلماء للبنات اللعب بهذه العرائس لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن.
ولما كبرت عائشة رضي الله عنها عند النبي ﷺ سابقها أيضاً، دليلاً على الترويح المباح للأهل، وخصوصاً في السفر الذي يحصل فيه ملل للنفوس، فسابقها في السفر، وهكذا سابقها مرة أخرى.
وكان من الأدلة على أن هذه الألعاب تتخذ للتصبير على العبادة ما روته الرُبيِّع بنت معوِذ قالت: أرسل النبي ﷺ غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتم بقية صومه ، قالت: فكنا نصومه ونصُّوم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار. [رواه البخاري1960].
قال علي : "روحوا القلوب ساعة فإنها إذا أكرهت عميت".
وقال: "روحوا القلوب وابتغوا لها طرف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان".
فإذن للكبار ترويح أيضاً يناسب حالهم، كما أن للصغار ترويح يناسبهم، فإذا كان ترويح عائشة باللعب والأرجوحة، فإن ترويح العلماء عن أنفسهم كان بالشعر والقصص، هذا مما كان يجمهم لكي يشرعوا في الأمور العظيمة بعد ذلك من العلم.
كان أصحاب النبي ﷺ لهم مزاح أيضاً مع بعضهم وخصوصاً في الأسفار، وكانوا يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال. والتبادح: الترامي بشيء رخوٍ.
وهكذا طلب عمر من ابن عباس في طريق السفر لما مر على عين ماء، قال: تعال أباقيك أينا أطول نفساً، يعني يغطسان في الماء معاً لينظر كل واحد منهما من الأطول نفساً من الآخر يستطيع أن يلبث مدة أطول تحت الماء، وكان عمر شيخاً، وكان ابن عباس شاباً حدثاً، هذا المعاني التربوية التي كانت على عهد صحابة رسول الله ﷺ.
وكان ابن سيرين يداعب أصحابه، وكذلك كان الأعمش يمازحهم، فهكذا كان المزاح المباح بينهم لكي ينشطوا في العلم، ولكي يسهروا في طلبه وتحصيله، وحفظه، وسماعه، وروايته وهكذا، فللكبار إذن أيضاً شيئاً يسليهم، ويروح عنهم، يناسبهم.
مفهوم الترفيه والترويح في هذا الزمن
فماذا حصل في مفهوم الترفيه والترويح في هذا الزمن؟
عباد الله: لقد صار أصلاً بعد أن كان شيئاً يؤخذ منه بقدر، صار التفنن والتنوع فيها أمراً عجيباً، ونظراً لمذهب الكفار في هذا، عندهم الحياة الدنيا لعب ولهو، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، هذه الدنيا بالنسبة لهم، فهم نوعوا فيها وتفننوا في صناعة الترفيه بناءً على مذهبهم، وصدروا إلينا كل ذلك، ونحن أمة لنا رسالة، وناس لنا هدف، ونسعى لطاعة الله، فلا يليق بنا أن نسير مسار الكفار في هذا، وليس كل ما أنتجوه مناسب لنا، وليست الساعات الطويلة التي يستغرقونها هم في اللهو واللعب تناسبنا، والعجيب أنهم قوم في أمور الدنيا ينشطون، يتعبون، وهكذا يخلصون في الأعمال، في الوظائف، في المصانع، في المكاتب، ثم بعد ذلك يقضون بقيت يومهم في لعب ولهو ونوم وشهوات، ونحن عند بعضنا كسل وسوء عمل في نهاره في الوظائف، وأنواع الأشغال التي يكسب منها رزقه، أو يدرس فيها، ثم بقية اليوم نشابههم في اللعب، واللهو، والنوم، والاشتغال بالشهوات، فلا نحن أخذنا جدهم في الدنيا ولا نحن أخذنا جد أسلافنا في الآخرة. فكروا -أيها الإخوة- في هذا الأمر الذي صار في كثير من المسلمين، لا هم أخذوا بجد الغرب في العمل، ولا هم أخذ بجد أسلافهم في أمور الآخرة، فماذا صارت حالهم؟ فلا تعجب بعد ذلك من حصول التخلف عند كثير من المسلمين.
عباد الله: نعود إلى قضية اللعب المباح للأطفال والأولاد، هذا اللعب الذي يفرغ الطاقة التي تكون حبيسة في أجسامهم، ومن المناسب لاستقرار نفوسهم أن تنطلق في هذه الألعاب المباحة المناسبة، ونطرد عنهم الملل والضجر وضيق الصدر، بل أحياناً يكون بعض العمال في حاجة إلى هذا.
قال ابن الجوزي رحمه الله: "مر بي حمالان تحت جذع ثقيل، وهما يتجاوبان بإنشاد الشعر وكلمات الاستراحة، فأحدهما يصغي إلى ما يقوله الآخر ثم يعيده أو يجيء بمثله، وهكذا، فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت المشقة عليهما وثقل الأمر، فتأملت السبب في ذلك فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما بما يقوله الآخر، وإجالة فكره في الجواب بمثل ذلك فينقطع الطريق وينسى ثقل المحمول، وهكذا التكاليف الصعبة تحتاج إلى شيء يرافقها".
قال صاحب الفنون رحمه الله، يرد على من زعم أن الدين ليس فيه مجال للترفيه المباح: "ما أدري ما أقول في هؤلاء المتشدقين بما لا يقتضيه شرع ولا عقل، يقبحون أكثر المباحات، ويبجلون تاركها، حتى تارك التأهل والنكاح، والعبرة في العقل والشرع إعطاء العقل حقه، من التدبر والتفكر والاستدلال، والنظر، والإعداد للعواقب، وكان ﷺ يلاعب الحسن والحسين، ويداعبهما، وسابق عائشة، ويداري زوجاته، إلى أن قال: "والعاقل إذا خلى بزوجاته وإمائه ترك العقل في زاوية، وداعب ومازح وهازل ليعطي الزوجة، فليس العالم في المسجد كالعالم عند زوجته.
عباد الله: لقد ورد في حديث النبي ﷺ: كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله فإنهن من الحق [رواه الترمذي1637]. وليس المراد بقوله: باطليعني: أنه حرام، وإنما المقصود أنه عارٍ عن الثواب، وأطلق البطلان على ما عدا هذه الأشياء ليبين فضل هذه الأشياء؛ لأن الرماية وتأديب الفرس هذا مما يعين على الجهاد، وملاعبة الأهل مما يعين على استدامة العشرة بين الزوجين، والإنسان يحتاج إلى هذا في الجبهة الداخلية، وللآخر في الجبهة الخارجية؛ ولذلك جاء التأكيد عليهما كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق[رواه الترمذي1637].
أيها المسلمون: إن من العجائب في هذا الزمان ما ينفق على الترويح، تصل مرتبات بعض مهندسي الترفيه وصانعي الألعاب في العالم في السنة، إلى نحو من خمسين مليون دولار للواحد، هؤلاء الذين يخترعون بلاي ستشن وستار بوكس وغيرها يتقاضون مرتبات سنوية تصل إلى خمسين مليون من الدولارات، بينما أكبر الأطباء في المستشفيات وأعظم المهندسين في التخصصات المختلفة، بل والمفكرين، والمخترعين، والباحثين، والعلماء، والقضاة في الغرب، لا يصل مرتبهم السنوي إلى نحو 1% من هذا في العادة.
وفي عام 1999 بلغت مرتبات العاملين في مجال الترفيه، والتسلية، والفنون في الولايات المتحدة 40 بليون دولار، وبلغ عدد الموظفين مليون ونصف المليون.
صناعة الترفيه في عالمنا صارت عالماً قائماً بذاته، وصار فيها أمور ضخمة كثيرة، وأنواع منوعة، فما هو الضوابط الشرعية بعد هذا التنوع؟ وما الذي يجوز مما لا يجوز من هذا الكم الهائل المتراكم من هذه الألعاب والتسالي وأنواع الترفيه؟ يحتاج إلى المسلم إلى معرفة الضوابط الشرعية في هذا؛ لكثرة هذه الألعاب وما يتناول منها ويتداول بين الأيدي، وفي البيوت، وخارج البيوت.
نسأل الله أن يفقهنا في دينه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا إنه هو العليم الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد ألا إله إلا هو وحده لا شريك له وأكبره تكبيراً، وأشهد أن محمداً رسول الله الرحمة المهداة، البشير والنذير، والداعي إلى الله بإذنه، جعله الله سراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين، وخلفائه، وأزواجه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: قامت هذه الشركات العالمية بإنتاج هذه الأشياء التي تشغل الكبير والصغير، ووسعت دائرة المتعاملين بها، والموجهة إليهم لتكون في كل الأعمار كما يقولون: وقد علمنا أن الشريعة قد راعت الصغار في هذا الجانب بشكل أساس، وللكبار شيء يناسبهم، والكبار كانوا يشاركون الصغار في بعض ألعابهم من باب إدخال السرور عليهم، وكان النبي ﷺ يمهل للحسن أو الحسين ليركبه ويرتحله، فإذا قضى وطره ونزل عن ظهر جده قام النبي ﷺ.
الضوابط الشرعية للألعاب
عباد الله: وجهت الشريعة ما يتعلق بممارسة بعض هذه الألعاب توجيهاً معيناً في مسألة القوس والفرس، وأرادت بالتأكيد أمراً معيناً في هذا، وأما بالنسبة للضوابط الشرعية، فإن الأصل في الأشياء الإباحة كما نعلم، إلا ما دل الدليل على تحريمه؛ ولذلك فإنه لا يمكن أن نحصر المباحات في الألعاب، وأن نكرر، أو نسرد سرداً طويلاً جداً هذه المباحات، ولكن طريقة الشريعة في مثل هذا أن تبين المحظورات، وتقول للناس: إذن الباقي مباح. هذه طريقة الشريعة، فتزوج من شئت من النساء ما عدا الأمهات، والبنات، والخالات، والعمات، والأخوات، وهكذا. وكل ما شئت من الأطعمة ما عدا: الخنزير، والميتة، وما أهل لغير الله به، والدم المسفوح، وغير ذلك، وهكذا، واشرب ما شئت من الأشربة إلا ما أسكر فإنه محرم، وما ضر كالسموم ونحوها وهكذا. هذه طريقة الشريعة تفصل في المحرمات، وتجمل في المباحات؛ لأن هذا قابل للتعديد، وهذا غير قابل للتعديد من كثرته، فمما جاء من المحرمات في الشريعة في الألعاب ما اشتمل على النرد، وهذا حجر الزهر المكعب المعروف، وقد قال ﷺ: من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه[رواه مسلم2260]. رواه مسلم.
حرمت الشريعة مثلاً ضرب الوجه، ففي الألعاب التي تمارس من ألعاب القوى وغيرها، يجتنب الإنسان وجه أخيه المسلم؛ لأن الشرع كرَّم الوجه، ولذلك لا يجوز ضربه، لا في الملاكمة ولا في غيرها، وكذلك فإن الألعاب المشتملة على صور ذوات الأرواح، أو المصحوبة بالموسيقى، أو التي تؤدي إلى الشجار، والنزاع، والأحقاد، وإثارة الضغائن كذلك محرمة، وأيضاً فإن القمار محرم، فلا تجوز المراهنة بين اللاعبين، وكذلك أن يجعل الجعل للمتسابقين إلا ما ورد الدليل فيه من نصل، أو خف، أو حافر، وأن لا يكون اللعب صاداً عن ذكر الله وعن الصلاة، ومضيعاً للفرائض، وأن لا يستغرق الوقت، أو أكثر الوقت؛ لأن الكفار هم الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، وغرتهم الحياة الدنيا، وهذا ضابط مهم؛ لأن كثيراً من الذين يلعبون اليوم من الكبار يستغرق لعبهم في كثير من الأحيان أغلب الوقت، بل منهم من يسهر في لعب الورق، ويذهب متأخراً إلى عمله الذي منه كسبه ورزق أهله وأولاده، وكذلك يشترط أن لا يكون في اللعب شيء من السحر، وبعض الألعاب اليوم فيها هذا، ويشترط أن لا يكون فيها صلبان، فإن النبي ﷺ كان يكسر الصليب ويزيله، وكان ينقض التصاليب، وأن لا يكون فيه إشغال عن واجب شرعي كبر الوالدين مثلاً، وكم من الأولاد اليوم يشتغلون بالألعاب عن سماع أوامر الوالدين، وحق الوالدين.
ويشترط أن لا يكون فيها أضرار على النفس أو الغير، كما يكون في بعض الألعاب النارية، وكما يحدث في الركوب الجنوني لهذه الآلات ذات الإطارات على الرمال، كما يحدث، وبالأمس زالت فقرة من العمود الفقري لشخص كان يركبها، وما أكثر الذين انقلبوا بما يسمى بهذه الدبابات على الشواطئ، وبجانب الطرقات، وكانت وسيلة للإجرام، ومثاراً للفساد، وملاحقة الفتيات ونحو ذلك، مما هو معلوم مشاهد، فإن بعض الناس قلبوا الألعاب البريئة إلى وسائل أخرى، وكم فر بعضهم بها سرقة لهذه الآلات من أصحابها.
وكذلك فإنه يشترط أن لا يتعلق القلب بها، بحيث تصبح هي الشغل الشاغل فكأنه صار منشغلاً بها تمام الانشغال، فبدلاً من أن يتعلق القلب بالله تعلق باللعبة.
وكذلك فإنه لا بد من الانتباه لبعض الأفكار الخطيرة التي تقف وراء بعض الألعاب، وخصوصاً الألعاب الإلكترونية، فإن فيها، أو في بعضها ما يغرز حب الكفار، بل ومحاربة المسلمين، وقد وجدت ألعاب قائمة على هذا خصوصاً في هذه السنين المتأخرة، وفيما يسمى بتدمير الأهداف وقتال الأعداء بالأسماء واضح أنها موجهة ضد المسلمين في بعضها.
وكذلك فإن بعضها تقوم على أفكار كفرية، كالمواجهة بين أهل السماء وأهل الأرض، وأن أهل السماء الأشرار، وأهل الأرض الأخيار، ونحو ذلك، وبعضها يقوم على تقديس الصليب، وأنه يعيد الروح ويعطي الصحة والقوة، وبعضها تقوم على العقائد الباطلة مثل تناسخ الأرواح أو عودة الناس بعد الموت مرة أخرى، فيموت ويحيى، ويموت ويحيى وهكذا.
وبعضها تفسد عقائد الأطفال في هذا فتغرز في نفوسهم أن بمقدور بوتر أو غيره أن يعيد شخصاً إلى الحياة بعد الموت.
وبعضها فيه تقرير للسحر وتمجيد للسحرة، وفي بعضها كذلك اشتمال على عورات مكشوفة، وتكون جائزة الفائز صورة عارية، وهذا كثير، قد سمعنا عنه، بل وتواتر في عدد من هذه الألعاب.
ويشترط كذلك: أن لا يكون فيها إضرار بالجسد، كالعينين والأعصاب، والإدمان، وما أكثر هذا.
وأيضاً يشترط: أن لا يكون فيها تربية على الإجرام والقتل كما في عدد من هذه الألعاب وقد ثبتت خطورتها على الأطفال من هذه الجهة.
وأيضاً: فإنها لا بد أن لا تخالف الشرع في قضية التستر، وعدم التعري، وأن لا تغرس حب تقليد الكفار في نفوس الأولاد.
وأن لا يكون فيها اعتداء على شيء من خصائص الله تعالى، كما تقدم من إحياء الموتى وإنزال المطر، ونحو ذلك من إبراء المرضى، وهذا كثير في الأفلام، بل وفيها غرس حب الصليب وأنه يفعل ذلك كله، وبركة الصليب ونحوها.
وأيضاً: فإنه يشترط أن لا تصل إلى حد الإسراف، وتجاوز الحد الوسط في الإنفاق فيها، فإن بعضها تذهب فيه أموال عظيمة، ويشترط في الألعاب أن لا يكون فيها سخرية، ولا تنابز بالألقاب، ولا إضرار بالبهائم؛ كألعاب التحريش بين الديكة، وصراع الأكباش، ومصارعة الثيران، فكل ذلك تعذيب للحيوان.
ويشترط: أن لا يكون في اللعب ببعضها إيذاء للجيران، كما يفعله بعض اللاعبين بالحمام من الإشراف على عورات الجيران بسبب صعودهم للأسطحة.
وكذلك: يشترط أن لا يكون فيها إيذاء لبدن الشخص أو خطورة على نفسه، كما يفعله بعضهم من القفز من الارتفاعات العالية بدون ضوابط كافية، أو يتحدى في البقاء مع الأفاعي والعقارب ونحو ذلك، وهذه الألعاب الخطيرة، الألعاب التي يمكن أن يحصل لصاحبها شلل كامل في لحظة وطرفة عين، ويكون مكسبه منها شد أنظار الناس ونفوسهم لهذه الحركات الخطيرة التي يؤديها.
واليوم صباحاً حدثنا بعض الشباب الثقات عن منظر شاهدوه على شاطئ البحر، سيارة سوبر فيها خمسة من الشباب يمارسون التفحيط، والحركات الطائشة التي أرعبت من كانوا في المكان، في طيش وتهور، وما هي إلا لحظات حتى تقلبت في الهواء وتطاير الأشخاص من السيارة لكي تستقر بعد ذلك على ظهرها مضغوطة، قد وصل سقفها إلى حد الزجاج الأسفل، كان منظراً رهيباً في هؤلاء المتناثرين بين الحياة والموت، وهذا مرفقه خارج عن اليد، هذا عظمه بائن، وهذا ينزف من أذنيه، ومعنى ذلك نزيف دماغي، وهذا وهذا، حركات طائشة يمارسها هؤلاء الشباب برياضة التفحيط، التي يسمونها تفحيطاً، فيا لله كم من جريمة قاموا بها في إزهاق الأرواح، وترويع الآمنين، وجرح المسلمين، وإثارة الغبار على المساكين، ويا لله كم أتلفوا من إطارات، وأسرفوا في أموال سيسألون عنها يوم الدين، ويا لله كم جعلوا في أجسادهم من الجراحات والعاهات المستديمة التي ستبقى معهم حتى الممات.
عباد الله: ينبغي أن نكون منضبطين بالشرع وعقلاء، وهذه هي الخلاصة، أن ننضبط بالشرع فيما نقوم به.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، اللهم إنا نسألك حبك وحب ما تحب يا رب العالمين، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ، أحينا مسلمين وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، آمنا في البلاد، وأصلح الأئمة وولاة العباد، اللهم اجعلنا من الآمنين يوم المعاد، اللهم اجعلنا شاكرين لنعمائك، يا أرحم الراحمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.