الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أشهد أن محمد عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران:102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء:1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب:70-71.
أما بعد:
غض البصر شرعه الله وفيه مصلحة للعباد
فإن هذا الدين متين، شرع الله فيه ما يصلح العباد -عباد الله- فارعوا سمعكم لما يخبرنا عنه ، وما يأمرنا به في كتابه العزيز: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّسورة النــور:30-31، توجيهات عُلوية من الله لما فيه صلاحنا وفلاحنا، وطهارتنا وعفتنا، جاء بها الله العليم الخبير ببواطن العباد، البصير بهم، وبما يصلح لهم ، هذه التوجيهات ينبغي أن يكون لها في نفوسنا الأثر العظيم.
أيها المسلمون: إن هذا البصر سنسأل عنه يوم القيامة، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاًسورة الإسراء:36، هذا البصر نعمة من الله، وفقده قد يكون بعقوبة: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْسورة الأنعام:46، فقد يكون فقده بعقوبة من الله على ما أحدث العباد، وقد يكون نعمة من الله سبحانه يبتلي بها من يشاء، فمن يصبر فله الجنة، قال الله تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْسورة النــور:30، ولم يقل: يغضوا أبصارهم؛ لأن هناك نظراً جائزاً، كنظر الرجل إلى زوجته، ونظر القاضي إلى الشاهد، ونظر الخاطب إلى المخطوبة، ونظر الطبيب إلى المريضة عند الحاجة، فهذا من النظر الجائز المباح، استثناه الله تعالى، وقال: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ، وليس الرجال فقط مأمورون بغض النظر، وإنما النساء أيضاً، فقال: وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ سورة النــور:31، وذلك عند خشية الفتنة، وثوران الشهوة، فلا يجوز لها حتى هي النظر إلى الرجال، أدب نفسي، واستعلاء على الشهوات، واستعلاء على النفس التي تريد الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام، ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْأطهر لمشاعرهم، ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ حتى لا تتلوث نفوسهم بالانفعالات الشهوانية المحرمة، ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ، أطهر للجماعة والمجتمع عموماً، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ سورة النــور:30،هو العليم بحركات النفوس والجوارح.
النظر المحرم بريد الزنا
وتأمل -يا عبد الله- لماذا قدم غض البصر على حفظ الفرج، فقال في الآية: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ سورة النــور:30؛ ذلك لأن النظر بريد الزنا، وهو الذي يوصل إليه، ولذلك أمر بغضه أولاً، والعين تزني وزناها النظر إلى ما حرم الله، وقد قال الله تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُسورة غافر:19، وخائنة الأعين اختلاس النظر إلى المحرم من غير أن يفطن إليه أحد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في هذه الآية: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِهو الرجل يكون في القوم، فتمر بهم المرأة، فيريهم أنه يغض بصره عنها، فإن رأى منهم غفلة نظر إليها، فإن خاف أن يفطنوا إليه غض بصره، وقد اطلع الله من قلبه أنه يود لو نظر إلى عورتها، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِفيه وعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له، وقد جاءت الأحاديث موافقة للكتاب العزيز، ومؤكدة لما اشتمل عليه من غض البصر، فعن جرير قال: "سألت رسول الله ﷺ عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري" [رواه مسلم (2159)]رواه مسلم.
وفي رواية "نظر الفجاءة"، وهو أن يقع البصر على الأجنبية بغير قصد، فإذا جاءت فجأة أمام ناظريه؛ فعليه أن يغض بصره، ولا يديم النظر، ولا ينظر مرة أخرى، وهذا معنى حديث ابن بريدة عن أ بيه قال: قال رسول الله ﷺ: لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة[رواه أبو داود (2149)] رواه أبو داود هو حديث حسن، لا تتبعها يعني لا تعقبها، ولا تجعلها تأتي بعد الأولى، لك الأولى لأنها بغير قصد، وليست لك الآخرة، والثانية والثالثة؛ لأنها باختيارك، فتكتب عليك.
قال قيس بن حازم رحمه الله: النظرة الأولى لا يملكها صاحبها، ولكن الذي يدس النظر دساً.
هدف الإسلام من غض البصر
أيها المسلمون: إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار هذه الأمور المحرمة، ولذلك جاء بأمور وتوجيهات، فمنها قوله ﷺ: إياكم والجلوس على الطرقات، "فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها" كانت البيوت ضيقة، غرفة للرجل وزوجته، غرفة وحجرة، ليس كل البيوت كانت متسعة، لا يجدون مكاناً واسعاً للجلوس إلا على حافة الطريق، قال: فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها، "قالوا: وما حق الطريق؟" قال: غض البصر ، فبدأ به أولاً، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر [رواه البخاري (2465)]،إذن غض البصر لمن يكون في الطريق، وكذلك جعل الله الاستئذان إجراءاً احتياطاً، وأمراً احترازياً من أجل عدم النظر إلى العورة، ولذلك فإنه ﷺ كان إذا جاء باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، وذلك لأن الدور لم يكن عليها ستور، وحتى لو كان لها أبواب فإن الباب إذا فُتح فجأة قد يقع النظر على شيء من عورات أهل البيت، ولذلك يكون من طرف الباب الذي إذا فُتح لم يقع النظر على شيء، ولا يواجه الباب مباشرة، إجراء احترازي من أجل عدم وقوع البصر على الحرام.
أيها المسلمون: إن الاستئذان يكون حتى داخل البيوت، وقد علمنا الله في كتابه أن نؤدب أولادنا بأن لا نجعلهم يداهمون غرفة نوم الأبوين مداهمة، وإنما لا بد من الاستئذان، في الأوقات التي يغلب فيها كشف العورة، ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْسورة النــور:58، وحتى المحارم في البيوت؛ الأم في حجرتها، والأخت في غرفتها، لا بد من الاستئذان عليهن قبل الدخول، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن نافع: كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم عزله، فلم يدخله عليه إلا بإذن، وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: ما على كل أحيانها تريد أن تراها.
وكذلك سأل رجل حذيفة: أستأذن على أمي؟ فقال: إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره، ومن طريق ابن طلحة، دخلت مع أبي على أمي، فدخل واتبعته، فدفع في صدري، وقال: تدخل بغير إذن!.
ومن طريق عطاء سألت ابن عباس: أستأذن على أختي؟ قال: نعم، قلت: إنها في حجري، قال: أتحب أن تراها عريانة.
فحتى المحارم في البيوت، وفي غرف النوم، كل ذلك من أجل أن لا يقع البصر على شيء لا يجوز أن يقع عليه، وأن لا تكون اللقطات والمناظر محفوظة في الأذهان، وإنما ينشأ الأطفال منذ نعومة أظفارهم على النظافة والسلامة، وليس على الصور العريانة.
وقد شاع في وقت من الأوقات أن النظر المباح والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة بين الجنسين، وإقامة العلاقات والتعارف أمور تزيل الكبت، وتجنب العقد النفسية، وتخفف من الضغط الجنسي، ونحو ذلك، ولكن الناظر إلى مجتمعات الانحلال، وما عند الغربيين الذين غرقوا في هذه الشهوات حتى الثمالة، رشقوا من كأسها، هؤلاء الذين ليس عندهم حجاب، ولا غض بصر، ما عندهم إلا الانحلال، ومطلق الحرية في إقامة العلاقات، هل حصل عندهم تهذيب الدوافع الجنسية؟ ما حصل عندهم إلا السعار المجنون الذي لا يرتوي ولا يهدأ، وإنما يعود إلى الظمأ والاندفاع، وعندهم الأمراض النفسية والبدنية من البرود وغيره، وأنواع العقد والشذوذ الجنسي، والتلاهف على الجنس الآخر، وشيوع الاغتصاب بالرغم من كافة أنواع الحريات المطلقة في تلك المجتمعات، مما يدل دلالة واضحة على أن الله حكيم خبير، وأنه لما شرع غض البصر، وأمر بالحجاب، ونهى عن الخلوة وسائر الإجراءات والاحترازات إنما هو لمصلحة الناس أجمعين.
إن الإسلام يهمه أن يمنع المنكر من جميع جهاته، ليست القضية في غض البصر فقط، وإنما أيضاً في تغطية العورة، ولذلك قال النبي ﷺ: المرأة عورة؛ فإذا خرجت استشرفها الشيطان[رواه الترمذي (1173)]يعني: زينها في أعين الناظرين، ولذلك كانت عورة كلها، من أعلى شيء في رأسها إلى أخمص قدميها، كلها عورة، المرأة عورة بنص حديث النبي ﷺ، فإذا احتجبت المرأة وراء الثياب أو الجدران، فإلى أي شيء ينظر الناس؟! ولو كان عند بعضهم رغبة في النظر! إجراءات متكاملة، واحترازات عظيمة من الشارع ، وحتى الرجال لهم عورات يجب عليهم تغطيتها، وكذلك قال ﷺ: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة [رواه مسلم (338)]،مما يدل على أن لكل من الجنسين أمام بني جنسه عورة لا يجوز النظر إليها، وكذلك أمر بالزواج، ورغب في الصيام لمن لم يستطعه، وحتى المتزوج له إجراء إذا وقع على شيء مما يثير الشهوة في نفسه، ولذلك "كان ﷺ مرة جالساً في أصحابه، فدخل ثم خرج، وقد اغتسل، فقلنا: يا رسول الله قد كان شيء؟ قال: أجل؛ مرت بي فلانة، فوقع في قلبي شهوة النساء، فأتيت بعض أزواجي، فأصبتها، فكذلك فافعلوا، فإن من أماثل أعمالكم إتيان الحلال[رواه أحمد (17567)]، وللحديث شاهد من حديث أبي زبير عن جابر: "أن رسول الله ﷺ رأى امرأة، فأتى زينب وهي تمعس منيئة" يعني تدبغ أديماً، أو جلداً، "فقضى حاجته، وقال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة؛ فليأت أهله؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه " [رواه مسلم (1403)].
ونظره ﷺ لم يكن عمداً إلى حرام أبداً، وإنما حصل فجأة، ثم إنه ﷺ أنزه من أن تثور في نفسه شهوة لأمر محرم، وإنما فعل ذلك لكمال إعفاف نفسه، وتعليم الأمة، ماذا يفعل أحدهم إذا وقع بصره فجأة على امرأة فأعجبته؟ أو رأى منظراً فجأة؛ فثارت في نفسه شهوة؟ فعلم الأمة.
ضرورة غض البصر هذه الأيام
ثم أيها الإخوة، إن الشارع قد منع إتيان وغشيان أماكن الفساد والمحرمات بالإضافة إلى ذلك، وأمر بغض البصر عند دخول الأسواق وغيرها من المجامع التي فيها مظنة النظر إلى ما حرم الله، أو شيء من انكشاف العورات، ونحن اليوم ما أحوجنا إلى غض البصر أمام هذا الكم الهائل من الأجساد التي تعرت، وأظهرت ما أوجب الله ستره، والتي كشفت بقصير أو ضيق أو شفاف، أو برقع فاتن، أو نقاب واسع، أو عيون قد غشاها الكحل، ونحو ذلك من وسائل الفتنة، ما أحوجنا إلى غض البصر في هذا العصر الذي شاعت فيه الصور في المجلات، ادخل أي مكان فيه مجلات، فإذا نظرت إلى رفوفها هل تكاد تجد مجلة ليس على غلافها صورة امرأة؟! إنه أمر من الصعوبة بمكان، وهذه الدعايات التي تعرض فيها صور النساء للجذب بزعمهم، حتى لو لم يكن هناك علاقة بين المنتج والمرأة، حتى في المبيدات الحشرية، وغير ذلك، وقد بغلت بهم الدناءات أنهم يضعون صور الرجال في المنتجات الخاصة بالنساء عند الدعاية لها، وعكس ذلك، وصورة المرأة طاغية غالباً، وربما وقفت ساعات تتثاءب أمام سيارة ونحوها، لعرض السيارات لا بد من النساء، وهكذا تقوم الدعاية المحرمة أكثر من تسعين في المائة من أنواع الدعاية والإعلان في هذا الزمان محرمة، ومن أسباب التحريم غير الكذب والغش والتدليس أنهم يجعلون صور النساء فيها.
ما أحوجنا إلى غض البصر في هذا العصر الذي انتشرت فيه هذه الصور الفاتنة، التي تُنتقى فيها أجمل النساء للعرض، وتوضع في المجلات والدعايات، وهذه الأفلام والشاشات، ولذلك كانت فتاوى العلماء واضحة جداً في قضية النظر إلى صور النساء في المجلات، أو في الأفلام، ولو قال من قال: إن هذه الصور ليست حقيقية، إنما هي صور، ليست المرأة التي نراها امرأة تلمس، أو يُذهب معها، نقول: إن ذلك وسيلة للفتنة، وثوران الشهوة، وقد أتى هذا الصحن الذي يلتقط الموجات ليُكمل ما نقص من المسلسل، مسلسل إثارة الغرائز!.
يا عباد الله، يا أمة الإسلام، يا أيها العقلاء، يا معشر المسلمين، يا أصحاب الغيرة: انظروا ماذا حصل في حالنا، وكيف تبدلت الأمور؟ منذ سنتين كان يقال: في بيت فلان دش؛ لقلته، يشير الناس إلى بيته من بين البيوت في الحارة أو الشارع، الآن يدخل بعضهم إلى بيت أناس، فيقول لهم: هل ما زلتم لا تملكون دشاً؟! ألم تقتنوا الدش بعد، مع أنه قبل فترة يسيرة كان نادراً قليلاً، ولكن الآن صار من النقص في البيت ألا يكون فيه هذا الصحن، وصار أهل العمارة يشتركون في دفع المبالغ لشرائه، ويصطحب في المخيمات، وتجد صندقة من الصنادق التي يسكن فيها الفقراء الدش الذي فوقه أغلى منها، ماذا يعني ذلك؟ بيوت كالخرابات فيها هذه الصحون، بأي شيء تأتي؟.
عباد الله: لا بد من إعادة النظر في البيوت، وإخراج المنكرات منها، وسائر المحلات والشركات والمستشفيات، غض البصر أمر مهم جداً، وإلا فالهلاك والدمار والله، وشيوع الفاحشة والانحلال، هذه هي العاقبة التي لا بد منها للمجتمع إذا انحرف عن شريعة الله، وبعض الناس يستحي أن يغض البصر عندما يكلم امرأة، أو ممرضة، ويرى أن ذلك من العيب أن لا ينظر إليها، ومن قلة الأدب ألا ينظر إليها وهو يكلمها، لو فرضنا أن الكلام للحاجة، فأي حاجة في رفع البصر إليها؟ وهل قلة الأدب إلا في النظر إلى المرأة المتبرجة، ووضعت الأحاديث منذ القديم: "ثلاثة يجلون البصر: الماء والخضرة والشكل الحسن"، فإذا قُصد به النظر إلى الصورة الجميلة المحرمة؛ فلا شك أنه حرام، يستدل به الذين لا أدب عندهم اليوم في المجالس يتفكهون، وينقلونه ويقولونه.
نسأل الله السلامة والعافية، اللهم حصن فروجنا، وطهر قلوبنا، وارزقنا غض الأبصار، والبعد عن الحرام، أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب الأولين والآخرين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض بالحق، وجعل الظلمات والنور، الحمد لله الذي استوى على عرشه، الحمد لله كما ينبغي له ، له الحمد في الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أجمعين، صلى الله عليه وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
عاقبة إطلاق البصر في الحرام
عباد الله: إن العاقل يناظر الشيطان، ويقول: لماذا أنظر؟ فإن كان قبيحاً، أو كانت قبيحة أغتنم وأتأسف، وآثم بالقصد إلى النظر؛ لأنه قد اتضح أن المسألة لا تساوي، وإن كانت حسنة جميلة، فكيف أنظر وليس بحلال؟! فأبوء بعاجل الإثم والحسرة.
وكذلك فإن كل نظرة يهواها القلب لا خير فيها، ولنعلم بأن النظرة سهم مسموم، فيسري السم إلى القلب، فيعمل في الباطن قبل أن يُرى عمله في الظاهر، فاحذر -يا عبد الله- من النظر؛ فإنه سبب الآفات، وعلاجه سهل في أول الأمر صعب جداً في منتهاه، وخذ هذا المثل، لو كنت على دابة، فدخلت في زقاق ضيق، دخلت الدابة في زقاق ضيق لا تتمكن من الدوران فيه، فإن صِحْتَ بها في أول الأمر وزجرها رجعت بسهولة قبل أن تكمل الدخول، وأما إذا أكملت دخولها، وصارت داخل السرداب والزقاق الضيق، فكيف تخرجها؟! لا يمكن الاستدارة ولا الرجوع، ولا شدها من ذنبها، فكيف الخروج؟! كيف الخروج؟! وهكذا الأمر إذا غض الإنسان البصر من أول أمره، أما إذا تساهل وأطلق وكرر، فعند ذلك الهلاك ولا بد.
أيها المسلمون: إن النظر أصل لعامة المصائب التي تصيب الإنسان من هذه الشهوات المحرمة، فالنظرة تولد الخطرة، والخطرة تولد الفكرة، والفكرة تولد الشهوة، والشهوة تولد الإرادة، والإرادة تصبح عزيمة، والعزيمة تولد الفعل، وتجعله واقعاً.
يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً | أنت القتيل بما ترمي فلا تصب |
يا باعث الطرف يرتاد الشفاء له | احبس رسولك لا يأتيك بالعطب |
كم ممن أرسل لحظاته فما أقلعت إلا وهو يتشحط بينهن قتيلاً، النظر يورث الحسرات؛ لأن الإنسان يرى ما ليس قادراً عليه، ولا صابراً عنه، وهذا من أعظم العذاب، أن ينظر إلى صورة امرأة ليس قادراً عليها؛ قد تكون متزوجة، قد لا يمكنه أن يقربها، ولا أن يخطبها، ثم بعد ذلك لا يصبر عنها، فأي عذاب أعظم من هذا؟.
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً | لقلبك يوماً أتعبتك المناظر |
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه | ولا عن بعضه أنت صابر |
لا قادر، ولا صابر، وهذا هو العذاب الذي يأتي به النظر إلى الصور المحرمة، ولذلك يتعب القلب من كثرة النظر، واسأل المجربين في هذا المجال لتستمع إلى قصص عجيبة من العذاب الذي ابتلوا به نتيجة عدم غض البصر، وقد يعاقب الله عليه في الدنيا، وهذا أسهل، جاء رجل إلى أحد الصالحين، وفي وجهه جرح، فقال: ما لك؟ قال: مرت بي امرأة، فنظرت إليها، فلم أزل أتبعها بصري، فاستقبلني جدار فضربي، فصنع بي ما ترى، فقال: إن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً عجَّل له العقوبة في الدنيا.
ثمرات غض البصر
أيها المسلمون: إن الله تعالى إذا حرم أمراً فامتنع العبد عنه، فلا بد أن يأتيه الله تعالى بخير منه، فما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه، خيراً منه بسعادة في القلب، خيراً منه بأجر يوم القيامة، خيراً منه بأن يكون من أصحاب الفراسة؛ لأن إصابة الحق لا تكون للواقعين في المعاصي، و اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِسورة النــور:35يعني: في قلب عبده المؤمن كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌسورة النــور:35، يورثه الله تعالى، ويعوضه عن غض بصره بشجاعة قلبه وقوة قلبه، ويجمع الله عليه أمره، وينور له بصيرته، ويسد عليه طرق الشيطان، فإن الشيطان يزين الصورة في القلب، ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب، ثم يعده ويمنيه، ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقي عليه حطب المعاصي، فيصير القلب في اللهب، فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار، اسأل العشاق، اسأل الذين وقعوا في عشق الصور، اسأل الذين ابتلوا بهذه الأدواء، وهج كوهج النار، وتلك الزفرات والحرقات، فإن القلب قد أحاطت به نيران من كل جانب، فهو وسطها كالشاة في وسط التنور، ولهذا كان عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة أن جُعل لهم في البرزخ تنور من نار تودع فيه أرواحهم إلى حين حشر أجسادهم، يعذبون في ذلك، كما جاء في الحديث الصحيح [رواه البخاري (1386)].
القلب الذي فيه خواطر حسنة، القلب الذي فيه استنباطات فقهية، القلب الذي يعرف المصلحة، القلب الذي يختار الحق ليس قلباً مليئاً بالصور المحرمة الناتجة عن النظر إلى الحرام.
يا عباد الله: لا تجتمع الصور المحرمة والفراسة الصادقة في قلب عبد مسلم، ولذلك لا بد أن نحذر من هذه الأمور، وأن نغض البصر في الطائرات والمطارات، والفنادق والأسواق، والمستشفيات والمنتزهات، والمجمعات السكنية والعمارات، والشواطئ ومدارس البنات، والبيوت المختلطة، وأسوار البيوت، والشبابيك المطلة، والصور والمجلات، والأفلام والمسلسلات، وحتى عند الكعبة في الحج والعمرة، في أشرف مكان وأقدسه لا بد من غض البصر، وحتى الأقارب، وكثير من الناس من يبتلى بالنظر إلى وجوه بعض الأقارب من غير المحارم، فيفتن أيضاً، لا بد من حفظ البصر، وكثير ممن وقع في الحرام بسبب ذلك.
السلف الصالح وغضهم للبصر
لنتذكر حال سلفنا الصالح رحمهم الله، فقد جاء الربيع بن خثيم إلى علقمة، فوجد الباب مغلقاً، فجلس في المسجد، فمرت نسوة؛ فغمض عينيه، ليس الواجب تغميض العينين، إنما الواجب غض البصر.
وعن سفيان قال: كان الربيع بن خثيم يغض بصره، فمر به نسوة، فأطرق، وغمض عينيه حتى ظن النسوة أنه أعمى، فجعلن يتعوذن بالله من العمى، ويحمدن الله على البصر.
وخرج حسان رحمه الله إلى صلاة العيد، فقيل له لما رجع: يا أبا عبد الله، ما رأينا عيداً أكثر نساءً منه، قال: ما تلقتني امرأة حتى رجعت! ما وقع بصري على امرأة، ولا نظرت إلى امرأة، فجعل يتعجب من كلامهم.
وقال سفيان الثوري لما خرج لصلاة العيد: أول ما نبدأ به في يومنا هذا غض أبصارنا، غض البصر عن كل صورة جميلة محرمة، فإن الشخص قد يُفتن بصورة امرأة، أو أمرد جميل، ولذلك لما رأى بعضهم إنساناً يقرئ غلاماً جميلاً، وهو يضحك إليه، فقام إليه، وجلس إلى جنبه، فقال: يا أخي، أما سمعت الله تعالى يقول: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّسورة الحديد:16، قال: بلى، قال: أفما سمعته تعالى ذكره يحذر من فعل قوم اغتروا بحلمه، وأنسوا إلى كرمه، فقال: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَسورة الحديد:16؟ قال: بلى، قال: فما بالك لا تخشع عند قوله تعالى، ولا ترجع عند تحذيره، وما نزل في كتابه، إني رأيتك مغرقاً في الضحك إلى هذا الذي يقرأ عليك، كأنك لا تسأل عن ضحكك، ولا توقف على فعلك، وبالله الذي لا يحلف المؤمنون إلا به لئن أخذك على ريب يكرهه ليجعلنك عبرة للعاقل، ومثلة للجاهل، فنكس الرجل رأسه، وأقبل يبكي، وقام وتركه.
وهكذا ينبغي الحذر من أي صورة جميلة، ومن أي شخص يُفتن به، فإن العاقبة شنيعة، ولا بد أن يكون العاقل وقافاً عند حدود الله، متفكراً في العاقبة الدنيا والآخرة، هذا الإجراء البسيط غض البصر سبب للسلامة العظيمة، وما أكثر الحاجة إليه في هذا الزمان.
نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يجنبنا مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم جنبنا الهوى، اللهم جنبنا النظر على الحرام، اللهم جنبنا المعاصي، اللهم جنبنا الفتن يا رب العالمين.
اللهم ارزقنا العفة والعفاف، ارزقنا العفة والعفاف، ارزقنا العفة والعفاف، إنك أنت السميع البصير.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم من أراد خدمة دينك، والسعي إلى الدعوة في سبيلك، فوفقه يا رب العالمين، وافتح له قلوب العباد، ونور بصيرته، وأجزل له الأجر الكثير، إنك أنت الكريم.
اللهم من أراد ديننا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم من أراد بلدنا هذا أو بلاد المسلمين بسوء فاجعله عبرة للمعتبرين يا رب العالمين، وفق من ولي من أمور هذه الأمة شيئاً للعمل بكتابك وسنة نبيك ﷺ.
اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين، ارحم موتانا، واشف مرضانا، واقض ديوننا، واستر عيوبنا يا أرحم الراحمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.