الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
القرآن يتحدث عن المنافقين
فثلاثمائة وأربعون آية من آيات الكتاب العزيز في البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والحج، والنور، والعنكبوت، والأحزاب، ومحمد ﷺ، والفتح، والحديد، والمجادلة، والحشر، والمنافقين، والتحريم، وغيرها في هؤلاء الخلق العجيب، في المنافقين، حتى قال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم"، خطورة النفاق والمنافقين في الصف الإسلامي، العدو المتربص الخفي، حذر الله من العدو الظاهر في سورة البقرة في مطلعها في آيتين، ومن العدو الخفي في ثلاث عشرة آية؛ لصعوبة التحرز منه، ووصفهم الله أوصافاً ثم قال: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ سورة المنافقون4.
هؤلاء يعاني منهم الإسلام اليوم أشد المعاناة، هؤلاء الذين ذكرهم الله في كتابه في الفاضحة والمقشقشة هذه السورة، سورة التوبة التي هتك الله بها أستارهم، وكشف أسرارهم، هؤلاء الذين مردوا على النفاق، إنهم ليسوا من أهل النفاق العملي ممن كذب في حديثه بعض المرات، أو أنه خالف وعده بعض المرات، أو فجر في خصومته بعض المرات، وإنما هم أناس مردوا على النفاق، وإذا خفي شأنهم أحياناً على النبي ﷺ فكيف سيكون الأمر على غيره؟
وقال الله لنبيه ﷺ: وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ سورة محمد30؛ لأنه قال له أيضاً: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْسورة التوبة101. كانوا معه في المدينة سنوات، وقال له: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ، قال شيخ الإسلام رحمه الله: فمعرفة المنافقين من خلال لحن القول كما قال سبحانه: وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِسورة محمد30. قال: فمعرفة المنافقين في لحن القول ثابتة مقسم عليها، لكن هذا يكون إذا تكلموا، وأما معرفتهم بالسيما – بالشكل- فهو موقوف على مشيئة الله.
صفات يعرف بها المنافقون
إذاً أرشدنا الله إلى المكمن الذي نعرف من خلاله هؤلاء المنافقين، في لحن القول، وهذه قضية ثابتة مقسم عليها، ولهذا قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان : "ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على وجهه وفلتات لسانه". فلا بد أن تصدر منهم تصرفات قولية أو فعلية تدل على نفاقهم، لا بد، وأن الله يفضحهم بما يجريه على ألسنتهم عندما يتركون الحذر، متى ينطلقون بالكلام؟ عندما يقوى الكفار، إذا اشتدت قوة الكفار اشتدت ألسنة المنافقين، سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍسورة الأحزاب19. لما حاصر الكفار المدينة انطلق المنافقون بكلام لم يكونوا ينطلقون به عندما كانت المدينة بمأمن عن الكفار، إذاً عندما تحاصر قوات الكفار بلاد المسلمين وتصبح على مقربة منها، فإن ألسنة المنافقين تنطلق، والقلم أحد اللسانين، فتنطلق أقلامهم كذلك، ولذلك تجد بكلام من كلام المنافقين المندسين بيننا الآن في هذه الأيام من التصريحات في لقاءات القنوات الفضائية، وفي مقالات الجرائد والصحف ما لم تكن تجده من قبل، لماذا؟ لقوة الكفار واشتدادهم، ومحاصرتهم وقربهم من المسلمين، عند ذلك تنطلق هذه الألسن، وينتهزون أي فرصة تحصل فيخرجون ما في قلوبهم من الكفر والضغينة، لا يستطيعون أن يحبسوها إلى الأبد، ولذلك قال الله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْسورة محمد29. ولذلك ترى ألسنتهم وأقلامهم تنطلق عندما يقوى الكفار أو يظهر في المسلمين من الأخطاء المنسوبة إلى أهل الدين ما يظهر، فعند ذلك تنطلق أعنتهم، ويتكلمون ويصرحون.
وهؤلاء لا يطيقون أبداً قضية الجهاد في سبيل الله، ولذلك قال الله: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ سورة محمد20. فتظهر أحوالهم في مسألة الجهاد وعرضه، وهذه السور التي تدعو إليه.
وفي غزوة الأحزاب لما اشتد الأمر على المؤمنين لم يستطع المنافقون أن يخفوا نفاقهم، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا سورة الأحزاب12. وقال عنهم: وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ سورة التوبة46.
وأتى الجد بن قيس – أحد المنافقين – يستأذن رسول الله ﷺ في عدم الخروج، فيقول: إني مغرم بالنساء، وإني أخشى إن رأيت بني الأصفر – أي الروم – أن لا أصبر عنهن، فلا تفتني وأذن لي في القعود وأعينك بمالي، قال تعالى: أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْسورة التوبة49. وتوعدهم فقال: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَسورة التوبة49.
عباد الله: هؤلاء في قلوبهم مرض الشبهة، ومرض الشهوة، ولذلك تراهم في قضية المرأة يريدون إخراجها بأي وسيلة، ويريدون اختلاطها بكل طريقة، ويريدون نزع حجابها تدريجياً، وفجأة إن استطاعوا، ولذلك فهم لا يزالون يقيمون المناسبات التي يقولون فيها بأن موعد التحرير قد حان، وأن هذه هي الانطلاقة، وما علاقة التطور بنزع الحجاب، إن نزع الحجاب يمكن أن يتم في ثوانٍ، وأما تحصيل أسباب القوة للمسلمين والتطور حتى نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع، ونأخذ بأسباب القوة في السلاح وغيره، إن ذلك لا يتم في ثوانٍ، لا يتم إلا بعملية صادقة من الأخذ بأسباب القوة المبنية على الإيمان، وإذا دفع بعض الأقوام كاليابانيين وغيرهم الإخلاص لبلدهم وحضارتهم الدنيوية في الأخذ بأسباب القوة من الصناعة وغيرها، فإن ما يدفع المؤمنين من الإيمان بالله واليوم الآخر واحتساب الأجر في نصرة الدين، وتقوية الأمة، هو أضعاف أضعاف ما يوجد عند الكفار من الأسباب، لكن لو صدقنا.
ماذا يريد المنافقون؟
أيها المسلمون: إن هذه الحركة النفاقية تريد اليوم بخطاباتها الصحفية ومؤتمراتها، ولقاءاتها، وتصريحاتها، ومقابلاتها الفضائية، أن تعلن أو تخفي أنه لا علاقة بين الدين والحياة، لا علاقة للدين بالاقتصاد، لا علاقة للدين بالاجتماع، لا علاقة للدين بطريقة الحياة.
ومن مكرهم وخبثهم أنهم لا يسبون الدين ويشتمونه، بل يؤكدون على أهميته، بل ويثنون عليه، بل ويظهرون له التقديس، لكنهم يقولون: الدين في القلب، علاقة بين العبد والرب، الدين هذا شيء في النفس، الدين يمكن أن يظهر في المسجد، وفي رمضان، وفي أيام الحج، لكنهم لا يمكن أن يحكموه في حياتهم، فما علاقة الدين بالشركات، وبالعمل والعمال، وبالأنظمة الدولية، وبالاقتصاد، ونحو ذلك.
ثم إنه دين مطاط، إنهم يدعون إلى دين معين، إنه دين مرن، إنه دين فيه قبول الثقافات الأخرى، والتعايش مع الملل الأخرى، إنه دين احترام الرأي والنشر وحرية التعبير، فلو نشر الآخرون كفراً أو أقاموا شركاً، أو كتبوا ردة، فإن الدين يجب أن يتسامح معهم؛ لأنه دين تسامح؛ لأنه دين رحمة؛ لأنه دين انفتاح، لأنه دين يتعايش مع الآخر ويتسامح مع الآخر، ويتقبل الآخر، والآخر، والآخر، حتى يكون الدين متعايشاً سلمياً مع إبليس؛ لأن إبليس أحد هؤلاء الآخر.
فإذاً يريدونه ديناً محصوراً في بعض الشعائر التعبدية، يريدونه ديناً سلمياً تماماً لا سل فيه للسلاح على الكفار، ولا جهاد فيه للكفار، ولو جاء الكفار إلى بلاد المسلمين فحي وهلا فإنهم سينشرون الديمقراطية، ويقيمون الصناعات، ويطورون البلد، ويبنون البنية التحتية، وسيحلون لنا مشاكل الجمرات، هكذا إذاً دين التسامح، ودين التعايش السلمي، ودين التعرف على الثقافات الأخرى، وإبداء الإعجاب بما عند الآخرين، وتقبل الآخرين، والرضا بما عند الآخرين، أفلو كان ما عند الآخرين سباً لله تعالى، وطعناً في الدين الإسلامي، وحرباً على رسول الله ﷺ، فماذا سيكون الجواب؟ لو كان الآخرون اليوم يتهمون نبينا ﷺ بالوحشية، وسفك الدماء، وقطع الطريق، والسلب والنهب والاعتداء، فماذا سيكون موقفنا مع هذا الآخر، والتعايش مع الآخر، ولو كان هؤلاء يقولون لا نريد صلاة ولا صياماً ولا زكاة ولا حجاً ولا نريد تشريعاً إلهياً، نريدها قوانين وضعية تحكم فينا، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَسورة المائدة50.
معنى كلمة التعددية
ما معنى كلمة التعددية؟
التعددية: الرضا بملل الكفر، السماح بأنواع الردة عن الدين، أن ترى الشرك يقام وأنت تسكت احتراماً للآخر ورضاً بما يفعله الآخر، وتسامحاً مع الآخر، وهكذا يكون التعايش!
إنه دين ليس فيه تكفير، إنه أي التكفير منبوذ، مرفوض تماماً.
فإذا قلت لهم: إن الله قال: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍسورة المائدة73. لقد قال الله في كتابه العزيز في وجوب الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وقدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله؛ لأهمية الكفر بالطاغوت، ووجوب الكفر بالطاغوت، فماذا ستقولون في هذا؟
إن هنالك آيات تنص على التكفير، تكفير المنافقين نفاقاً أكبر، قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ سورة التوبة65-66. وماذا سنقول في قوله تعالى: كفروا وارتدوا بعد إسلامهم؟ وماذا سنقول في كل الآيات التي فيها ذكر الكفر والكفار؟ وكيف لا يكون هنالك تكفير في الدين والله قد نص عليه في كتابه العزيز؟
نحن نحارب تكفير المسلم الذي ثبت إسلامه ولم يثبت كفره، ونمنع تكفير المسلم بغير برهان، هذا صحيح، وهذا واضح، ولا يجوز لمسلم أن يكفر مسلماً، لكن تكفير الكافر ما حكمه، وتكفير الذي كان مسلماً ثم ارتد بأي نوع من أنواع الردة ما حكمه، هل يوجد توحيد لله بلا كفر بالطاغوت، وعندما يقولون اليوم: التعددية ظاهرة محمودة، خطاب الولاء والبراء لا يخدم المرحلة، فهل يوجد إيمان وإسلام بغير الموالاة لله ورسوله والمؤمنين، والبراءة من الشرك والكفر والكافرين، وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ سورة الممتحنة4.
عباد الله: هكذا يريدونه إذاً ديناً مطاطاً، تسامحياً بزعمهم، ليس فيه مجال للصدام مع الآخرين البتة، الله قال في كتابه العزيز: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا سورة الحـج40. إذاً التدافع من سنن الله، المواجهة بين الحق والباطل من سنن الله، فكيف يريدون حياة بلا مواجهة بين الحق والباطل، إذا كان هذا من سنن الله فهل سيستطيعون تبديل سنة الله، هل سيستطيعون تغيير قوانين الله، إذا أراد الله وشاء وقدر وكتب أن المواجهة مستمرة بين الحق والباطل، وقال: لا يزال، النبي ﷺ يقول: لا يزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين[رواه البخاري7311]. يقاتلون على الحق، يجاهدون في سبيل الله، وإذا ما استطاعوا بالسنان فباللسان، يعلنون المخالفة للكفار باللسان، ويقيمون الحجة عليهم، ويجاهدونهم باللسان، وقد قال تعالى في كتابه العزيز عن القرآن: وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًاسورة الفرقان52. جاهدهم به بالقرآن، جاهد الكفار بالقرآن، وسماه جِهَادًا كَبِيرًا، فإذا قالوا: لا، هذا فيه عدم احترام للآخر، لا نريد مواجهة مع الآخر، كونوا مع الآخر مسالمين غاية المسالمة، إياك أن تقول لكافر في وجهه كلمة تغضبه؛ لأنك لا بد أن تراعي مشاعر الآخر، ما معنى مراعاة مشاعر الآخر، ولا تغضب الآخر، ولا تقول للآخر كلاماً يسوؤه، وماذا كان النبي ﷺ والمسلمون يقولون للكفار في مكة؟ ألم يكونوا يقولون لهم الكلام الذي آذى الكفار جداً في آلهتهم، ألم يأت الكفار إلى أبي طالب يطلبون منه أن يكف ابن أخيه محمداً ﷺ عن سب آلهتهم، ألم ينتقدوا المسلمين، وينتقدوا نبي الله ﷺ، سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، إذاً هم الكفار شعروا بوطأة الجهاد اللساني، هم قالوا: سب آلهتنا وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، معنى ذلك: أن النبي ﷺ والمسلمون معه كانوا يناقشون الكفار، ويقولون لهم كلاماً يوجعهم، ويؤذيهم في آلهتهم؛ لأنه لا يمكن للمسلم أن يرضى بالكفر وأن يرضى بالشرك، وهؤلاء المنافقون اليوم يريدون الرضا بجميع الأوضاع، وإقرار كل أنواع الشرك والكفر والردة، واتركوا كلاً ودينه، لا تتدخلوا في أديان الآخرين؛ لأن هذا يجرح مشاعر الآخر ويؤذي الآخر، ويقولون: الدين ليس نصاً، ويهاجمون النصوصيين، من هم النصوصيون؟ أتباع الكتاب والسنة؛ لأن الكتاب والسنة نصوص، والذي يسير على النصوص هذا نصوصي، ما معنى نصوصي عندهم؟ يعني: مغفل أعمى يسير على النصوص، ولذلك تقول نوال السعداوي: لا نتابع الرسول في الخطأ. وأنها تغضب إذا قيل لها: حج، وأنها لم تحج ولن تحج وأن حجها وصلاتها وصيامها بين الكتب وفي القلم والدفاتر والتأليف والتخريف.
المنافقون وطعنهم في الإسلام
عباد الله: القضية إذاً واضحة جداً، لما جاء رجل إلى النبي ﷺ يقول: اعدل يا محمد، فوالله هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، تغير وجه النبي ﷺ: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل أنا[رواه البخاري6933]. يقوم عمر: دعني أضرب عنقه، وتنزل آيات: وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِسورة التوبة58. وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ، مجرد سماع قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌسورة التوبة61.
أما الطعن في المؤمنين كثير، وهذه جرائدهم مليئة بالطعن في المؤمنين، والدعاة، وطلبة العلم، والمشايخ، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ويقولون: هيئة الأمر بالموت والنهي عن الحياة. قال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ سورة التوبة79. فهذا ديدنهم الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين، وهذه مقالاتهم طافحة بهذه الكتابات، وهؤلاء الذين يريدون نزع الحياء اليوم، سواءً عبر هذه البرامج التي يقيمونها في الفضائيات لنشر الفاحشة في بيوت المسلمين، وتسليط الأضواء على إقامة العلاقات بين الرجال والنساء الأجانب، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ سورة النور19. وظفوا المرأة، جدارة المرأة بين الرجال، لتخرج وتثبت نفسها، وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًاسورة النساء27. هؤلاء الذين بحجة الكبت والتخلف المزعوم يريدونها تحرراً من الشريعة، وخروجاً عن قوانين الدين، ويقولون: تحرير المرأة من كثير من قيود العادات والتقاليد وكثير منها جاءتنا من عهود السلاجقة والعثمانيين، وتضييق الخناق عليها بالحجب والقمع، تضييق الخناق بالحجب، ومتى نبقى ننظر إلى المرأة على أنها مصدر فتنة! سبحان الله، النبي ﷺ قال: إن المرأة مصدر فتنة. وفتنة بني إسرائيل بالنساء، النبي ﷺ حذرنا من فتنة النساء، وما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء[رواه البخاري5096، ومسلم2741]. فعندما يأتي هذا الدعي ويقول: متى نبقى ننظر للمرأة على أنها مصدر فتنة. ما معنى هذا الكلام، ما معناها؟ يعني معناه متى نبقى نؤمن بالحديث النبوي أن النساء فتنة للرجال، متى، إلى متى سنبقى نؤمن بهذه الأحاديث، إلى متى؟ هل يجد اليوم الشباب الذكور المكلفون بإقامة البيوت والمهر والنفقة، هل يجدون الوظائف الكثيرة المتنوعة التي تستوعبهم حتى نأتي ونوظف النساء في كل القطاعات، وهي المرأة المأمور بالإنفاق عليها، غير المكلفة بالإنفاق على الرجل، عجب، عجب.
فتح مجالات جديدة، يعني سكرتارية، يعني سكرتيرة لمن؟ مندوبة مبيعات، مع من، عند من؟ مضيفة، تضيف من؟ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا سورة النساء27. يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا سورة النساء28. لكن هؤلاء لا يريدون، يريدون شيئاً آخر، والكفرة يأزونهم وينصرونهم، والكلام واحد، والسياق واحد، والهدف واحد، يعضد بعضه بعضاً، ودائماً المنافقون أنصار الكفار، والكفار أنصار المنافقين.
اللهم إنا نسألك أن تحفظ بلاد المسلمين من الشر يا رب العالمين، اللهم اكبت المنافقين واقمع الكافرين، وأعل كلمة الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم من أراد ببلادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم امكر به يا رب العالمين، اللهم اجعلنا بشريعتك عاملين، وبدينك قائمين، واغفر لنا يا غفور يا رحيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو الملك الحق المبين وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وذريته وأزواجه الطيبين الطاهرين، وعلى خلفائه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المنبهرون بأفعال الكفار والمنافقين
عباد الله: إن هؤلاء الذين فتنوا بالكفار هل نظروا إلى عورات الكفار، إلى هؤلاء الذين يريدوننا أن نتبع الكفرة، وأن نأخذ بسنن الغرب بحلوها ومرها، وصحيحها وسقيمها، ولو تشدقوا وتفلسفوا أحياناً، وزخرفوا القول وطلوه بالحلويات، طبقة حلويات فوق السموم، فإنهم يقولون كلاماً يقصدون به كف الملامة عن أنفسهم، نأخذ ما يوافق الدين والعادات والتقاليد، نأخذ ما يوافق ديننا وعاداتنا وتقاليدنا.
عباد الله: المسألة مسألة مصير، قضية نلقى الله بها يوم نلقاه، قضية إيمان وكفر، إسلام وشرك، توحيد وشرك، صراع ممتد طويل، والذي يتصور أنه يمكن أن يحدث هذا التعايش لا مجال لكلامه البتة، ولا يزال الله يقيض لهذه الأمة من يقوم فيها ينافح عن دينها. هذا جهاد، جهاد المسلمين لغير المسلمين، باللسان والسنان والحجة والبيان، وجميع أنواع الجهاد.
ثم ماذا يوجد لدى القوم من القيم العظيمة، حتى نبهر بهم، يطالعنا خبر اليوم عما يفعله هؤلاء الكفار من الاهتمامات العظيمة التي تدل على التطور والرقي والنهضة والتمدن، الجمعية الأمريكية للطب سبع آلاف اختصاصي في تسعة وثلاثين حقلاً، تشمل أمراض القلب، والتصوير الشعاعي، وطب العيون والسرطان، ومركز لانجستون لغسيل الكلى بربع مليون دولار، هذا الكلام لمن؟ للقطط والكلاب، للقطط والكلاب، وكلفة الجراحة خمسة عشر ألف دولار، والمركز الطبي للحيوانات في بنسلفانيا يستقبل في عياداته خمسة وستين ألف مريض، ممن؟ القطط والكلام، في حقول طب الأسنان والأمراض الجلدية والجراحات العادية كالإخصاء وحقن منع الحمل، وقد تجاوز عدد المراجعين مائة وثلاثين مليوناً، وماذا أيضاً؟ الكنزات الشتوية المناسبة للكلب في عيد الميلاد، ملابس وحقائق متناسقة يرتديها الكلب وصاحبه، لأنه طقم واحد، وهكذا تصميم الأزياء، وكنزات كشمير لكلب تشارلز وأندرو، هذه حضارة، وهم يعلمون علماً أكيداً بالفقراء والجوعى، وهذه الأمراض الشنيعة التي تفتك بالبشر في أنحاء العالم، فأي حضارة هذه التي نريد أن ننخدع بها، وأن نمشي وراءها، والكارثة الكبيرة والمصيبة العظمى لديهم التي حدثت في الليلة الماضية في مكتبة سان بطرس بورج، في الحريق الذي دمر المجموعة النادرة من النوتات الموسيقية، وألحق الأضرار بسوناتات بتهوفن، فقامت الدنيا لأجل ذلك.
عباد الله: إذا كان القوم مجانين فهل نسير وراءهم؟ وعامنا هذا يوشك على الرحيل، وما أحرى المسلم أن يقف مع نفسه في هذه اللحظات ليذكرها ويحاسبها، ويقلع وينيب، ويستغفر ويتوب، ويحسن فيما بقي من العمر، وقد قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِسورة هود114. وقال النبي ﷺ: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها[رواه الترمذي1987]. نريد أن نفكر في مسيرة العمر.
نسير إلى الآجال في كل لحظة | وأيامنا تطوى وهن مراحل |
ولم أر مثل الموت حقاً كأنه | إذا ما تخطه الأماني باطل |
وما أقبح التفريط في زمن الصبا | فكيف به والشيب للرأس شاعل |
ترحل من الدنيا بزاد من التقى | فعمرك أيام وهن قلائل |
فالأيام إذاً مراحل، الأيام مثل الدواب التي يركبها المسافر، فتنتقل به من مكان إلى مكان، وأيامنا تطوى وهن مراحل، تنقلنا من حيث لا نشعر إلى الدار الآخرة.
وما أدري وإن أملت عمراً | لعلي حين أصبح لست أمسي |
ألم تر أن كل صباح يوم | وعمرك فيه أقصر منه أمس |
إنا لنفرح بالأيام نقطعها | وكل يوم مضى يدني من الأجل |
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً | فإنما الربح والخسران في العمل |
ماذا نفعل اذا استقبلنا عاما هجريا جديدا؟
ويسأل كثير من الناس إذا استقبلنا عاماً هجرياً جديداً ماذا نفعل فيه؟ والجواب: أننا لا نحتفل بعيد فيه ولله الحمد، فقد أغنانا الله بالعيدين، فليس هذا رأس السنة مما يحتفل به، ولا مما يقام فيه العيد، ولما سئل العلماء عن حكم التهنئة به أخذوا بقول الإمام أحمد رحمه الله: "لا أبتدئ أحداً ولكن من هنأني هنأته". لا أبتدئ أحداً، لماذا قال الإمام أحمد: "لا أبتدئ أحداً؟" لأنه لم تثبت فيه سنة، ليس فيه دليل على التهنئة به، ولماذا قال: "ولكن من هنأني هنأته؟" لأن من سنن الإسلام المبادلة بالكلام الطيب، أما إذا خرجت القضية عن حد الشرع، وصارت احتفالات وأعياد فهذا له شأن آخر من الإنكار.
اللهم أحيينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، اللهم إنا نسألك الهدى، والتقىن والعفاف، والغنى، اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.