الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
خطورة الفساد
فإن الله قد أمر بالإصلاح، وأرسل أنبياءه بذلك فقال قائلهم: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ سورة هود88، ونهى عن الفساد والإفساد في الأرض، وقال: وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ سورة الشعراء183، وأخبر أنه لا يحب الفساد، ولا يمكن أن يجتمع الصلاح والفساد معاً إلا أن يتدافعا ليظهر الصلاح من الفساد: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ سورة ص28 فسبيل المصلحين معروف، وسبيل المفسدين معروف، والإصلاح ضد الفساد، والفطر والعقول السليمة تميز ذلك، ولا يمكن أن يلبس على الناس في الإصلاح والإفساد أحد، ولا يروج ذلك إلا على الأغبياء، ولا عجب أن كان الإفساد في الأرض بعد إصلاحها أعظم الإفساد وأقبحه، والله قد بين أن أعظم إفساد في الأرض هو الشرك، قال العلامة ابن القيم رحمه الله في تعليقه على قوله تعالى: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا سورة الأعراف56 إن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره، وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله ﷺ هو أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المعبود، وأن تكون الدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا، والله سبحانه أصلح الأرض بالرسل وبالدين وبالأمر بالتوحيد، وكان أبو البشرية موحداً، ونهى سبحانه عن إفساد الأرض بالشرك وبمخالفة الرسل، ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض سببه التوحيد، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء سببه مخالفة الرسل والدعوة إلى غير الله ورسوله، ومن تدبر هذا حق التدبر وتأمل أحوال العالم منذ قام إلى الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه، وفي حق غيره عموماً وخصوصاً.
سبيل المصلحين معروف، وسبيل المفسدين معروف، والإصلاح ضد الفساد، والفطر والعقول السليمة تميز ذلك، ولا يمكن أن يلبس على الناس في الإصلاح والإفساد أحد، ولا يروج ذلك إلا على الأغبياء
عباد الله: إن الفساد في الأرض مرتعه وخيم وشأنه عظيم، وله صور كثيرة متعددة، وينبغي الانتباه له لئلا يخفى، فإن الله حذرنا من قوم وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ سورة البقرة11-12.
نماذج للإفساد
عباد الله: ومن الإفساد في الأرض ما يكون بنشر الكفر والشرك فيها كما تقدم.
ومن الإفساد في الأرض ما يكون بنشر الشهوات، وأنواع الانحرافات، والرذائل، والقبائح التي ينشأ عنها أولاد الحرام، وهتك الأعراض، وضياع الأسر، والأمراض الخبيثة.
ومن الفساد ما ينشأ عنه قتل الذرية، والأطفال، والنساء، وإفساد الزرع، والضرع، وقد قال الله عن فاعل هذه الجريمة: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ سورة البقرة205 فهؤلاء يتولون للإفساد في الأرض، وتخريب مصالحها على أهلها، والعمل على قتل الذرية، ووأدهم، وتشريد الناس، وخراب بيوتهم، وإفساد زروعهم، وصحتهم، وأجسادهم، الفساد العظيم في الأرض.
ومن الفساد ما يكون بسائر المعاصي كأكل الربا ونشره، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، والزنا، والخمر، وقطع الرحم، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْسورة محمد22، وكذلك إخافة السبيل، وقطع الطريق على الناس؛ ولذلك لما جاء العرنيون فاستوخموا المدينة وأمر النبي ﷺ لهم بإبل وراع يخدمهم ويسقيهم من ألبانها، فلما صحوا قتلوا الراعي، وأخذوا الإبل فنهبوها، أرسل النبي ﷺ جنود الإسلام في آثارهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وفقأ أعينهم كما فعلوا في عين الراعي، قال الله تعالى: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُسورة المائدة33 فهم يحاربون دين الإسلام، كفار، مشركون، مرتدون، أنواع الكفرة، يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُسورة المائدة33 ما هي عقوبتهم؟ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سورة المائدة33 قال ابن عباس: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض، ثم اختلف العلماء هل يصلب فاعل ذلك حياً ويترك حتى يموت بمنعه عن الطعام والشراب، أو يقتل برمح ونحوه، أو يقتل أولاً، ثم يصلب تنكيلاً وتشديداً لغيره من المفسدين؟ وهل يصلب ثلاثة أيام، ثم يترك أو يترك حتى يسيل صديده؟ في كل ذلك آراء لأهل العلم.
إن من عجائب هذا الزمان أيها الإخوة أن يقوم أصحاب بعض دعاة المذاهب الهدامة الذين يتشدقون بالحرية، بالإفساد في العالم، مع لبس ثياب المصلحين، فهم يزعمون الإصلاح والإطعام والمعونة من جهة، ويقتلون ويفسدون في الأرض من جهة أخرى، لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً سورة التوبة10 ولا يوفرون كبيراً شيخاً ولا عجوزاً ولا أرملة ولا يتيماً.
وكذلك فإن هؤلاء ورثة فرعون، الذي كان يفسد في الأرض، ولما أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وأرسل الله عليه وعلى جنوده الماء فأغرقهم، ماذا كان حالهم؟ عندما قال: آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَسورة يونس90، آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَسورة يونس91 فهذا هو سلفهم، والله تعالى قال: وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَسورة الشعراء183 وذم الذين يسعون في الأرض فساداً، وأنذر العاقبة فقال: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَسورة النمل14،وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَسورة يونس40، إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَسورة يونس81، كل ذلك قد جاء في كتاب الله: وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَسورة الشعراء183، والله يمهل ولا يهمل، ويأخذ المفسدين أخذ عزيز مقتدر، ولأن بعض الناس يلبس عليهم قال: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَسورة يونس40، وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِسورة البقرة220، وبعض الناس ربما يسعى في الإفساد بين شخصين خفية، ويوقع بين الزوج وزوجته مثلاً ويتظاهر بالإصلاح، فربك يعلم المفسد من المصلح، وكان فرعون لعنه الله يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَسورة القصص4 هكذا جاء في القرآن الكريم، يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ سورة القصص4 فيتسلط على الضعفة وعلى المساكين والأبرياء، وهكذا تظهر قوة الظالم على المظلوم الضعيف ولكن الله بالمرصاد: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِسورة الفجر14 وقد ذكر ربنا كيف انتقم من عاد، عاد كانوا أقوى قوم في الأرض وهم الذين اغتروا بقوتهم وقالوا:مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةًسورة فصلت15 فهم الذين بطروا في الأرض وأفسدوا فيها واغتروا بقوتهم، وقال النبي لقومه: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ سورة الشعراء130-131 الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ سورة الفجر8-12، ما هي النتيجة؟ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِسورة الفجر13-14، وبعض الناس مساكين لا يرون إلا الحالة الراهنة، فيرون الإفساد فيقولون: لا محيص ولا مخرج، وأنى تكون النهاية، ولكن إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ سورة الفجر14هؤلاء الذين يزعمون أنهم أصحاب رسالة رحمة، قال الله عنهم: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ سورة المؤمنون71.
عباد الله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْسورة القصص4 وقد قال مؤمن آل فرعون لقومه محذراً لهم ومبيناً لهم: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا سورة غافر29، وكذلك قال : وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ سورة غافر37، وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ سورة غافر37 فهذه نهاية كل مفسد، وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ سورة البقرة220، فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ سورة آل عمران63 فعليم بهم وبتدبيراتهم وسيبطلها عليهم، إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ سورة يونس81 كما قال : إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ سورة يونس81 فلذلك لا يدوم الأمر لهم وتنقلب القضية عليهم، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ سورة يونس40، وهكذا حذر موسى أخاه هارون قال لأخيه: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَسورة الأعراف142 ، فهذا سبيل لهم ولا يجوز اتباعهم فيه.
عباد الله: إن الله بيده الأمور يفعل ما يشاء ولا يفعل شيئاً سبحانه إلا لحكمة، وبعض الناس المصابون بقصر النظر وربما اعترض منهم وربما اعترض بعضهم على أفعال الواحد القهار وعلى أقدار العزيز الجبار، والله يبتلي عباده ويقدر أموراً من القتل وغيره ليتخذ شهداء من المسلمين، ويزيد الفاسدين عذاباً، ويزيد المفسدين عذاباً يوم الدين: زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِسورة النحل88 بأي شيء؟ قال تعالى في سورة النحل: زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَسورة النحل88 وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ سورة الرعد25، مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا سورة المائدة32.
أيها المسلمون: إن مذهب الذين يفسدون ويدعون أنهم مصلحون قد قاله فرعون متهماً بالإفساد موسى وفرعون رأس المفسدين، فقال: إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ سورة غافر26 هكذا إذن، والله جعل الآخرة للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، ومعنى ذلك: أن هناك من المجرمين من يريد علواً في الأرض وفساداً، وإذا كان سلفهم فرعون فخلفهم يأجوج ومأجوج، إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض، لا يبقون زرعاً ولا ولا ضرعاً فيقتلون وينهبون، والله عليم بالمفسدين.
أيها المسلمون: ينبغي علينا أن نعود إلى الله ، وأن نتفطن في أقداره وأفعاله، وأن نسلم له بالحكمة ولا نعترض على ما قدر، وأن نسعى إلى حمل دينه والدعوة إلى سبيله والدفاع عن المسلمين: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَسورة النحل90.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أشهد أنه الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى ذريته والآل وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم إنا نسألك أن ترفع شأن نبيك وأن تصلي عليه يا رب العالمين.
إفساد اليهود في الأرض
عباد الله: إن الله قد ذكر لنا في كتابه صنفاً خاصاً من المفسدين شهد الله بأنهم يفسدون في الأرض وهم اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، فقال تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا سورة الإسراء4، وقال عنهم أيضاً: كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ سورة المائدة64، وهكذا شهد الله بأن اليهود مفسدون في الأرض، وبأنهم يسعون في الأرض فساداً، ولا أدل على ذلك من الشواهد في هذا العصر الذي نعيش فيه وفي هذه الأيام التي نحياها، فماذا فعلوا في هذه الأيام الماضية؟ وأي مجزرة تلك التي شهدتها قرية بيت ريما؟ حدث رهيب لا يكاد يصدق، عندما استيقظ أهل القرية على قصف المروحيات واقتحام البيوت، دخل اليهود فحطموا كل ما وقف في طريقهم بأقدامهم، ووجهوا فهوات بنادقهم إلى صدور المسلمين العزل في بيوتهم، وأزيز الرصاص واصتكاك عجلات المجنزرات بالشوارع ونداءات بالعربية: الزموا المنازل وإلا سنطلق الرصاص عليكم، ثم سعوا في هذه القرية يفسدون ولا يصلحون، ويقتلون ويرهبون، ووضعوا ثلاثاً من الجثث فوق المجنزرات وطافوا بها في شوارع القرية لبث الرعب في القلوب، فوجئ القتلى بقصف المروحيات فوق رءوسهم في ساعة كان معظمهم فيها نياما، ومن تمكن من الهرب اصطدته النيران الجوية، تقول والدة أحد أبناء القرية: إن الجنود الذين هدموا منزلها أصروا أن ترى حجم المتفجرات التي سيستخدمونها في هدم المنزل، وأقسموا أنهم سيعيدون ابني إلي ملفوفاً بجلد خنزير، هكذا قالوا لهذه المرأة المسلمة، ورؤية بقايا السيارات التي داستها دبابات اليهود على جنبات الطرقات، وبدت علامات الحزن والذهول على المسلمين العزل الذين لم يفيقوا بعد من هول الصدمة وخاصة أصحاب المنازل التي نسفها هؤلاء اليهود المفسدون في الأرض، وظل المواطنون يرقبون جثث شهدائهم وجرحاهم تحت منازلهم ولا يستطيعون الخروج ليعملوا شيئاً لهم طيلة مدة الحصار والاحتلال، وأصابوا من أصابوا بالجراح الخطيرة ومنعوا دخول سيارات الإسعاف إلى القرية، وسقط العشرات من الجرحى بين الأشجار، وأمضوا وقتاً طويلاً وهم ينزفون، ودخل الجنود كالمجانين بمصفحاتهم ومدرعاتهم ألف من اليهود يختبئون خلف تلك المدرعات إلى قرية لا يتجاوز تعدادها أربعة آلاف نسمة، وبقي الرجال مستلقين على الأرض لساعات والأطفال يصرخون من هول الانفجارات، وأجساد بلا رؤوس وأشلاء الشهداء تطايرت إلى مسافات بعيدة، وهكذا وجد جزء دماغ شخص في الطريق في الشارع بجوار شجرة زيتون، وحولوا معاصر الزيتون إلى معاصر أجساد، وتم إحراق منزل بالكامل، وتكسير نوافذ خمسة وعشرين منزلاً بجواره، واستخدموا الرجال كدروع بشرية، ثم قاموا بتحطيم الأثاث والنوافذ ووضع أكياس الرمل فوق الأثاث.
هكذا إذن بدا لنا حال المسلمين في الأرض المنكوبة في الأيام الماضية، وهذا نزر يسير وغيض من فيض، وإلا فإن مسلسل الإذلال والإهانة والقتل والإفساد مستمر، مصداقاً لما قال الله : وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًاسورة المائدة33.
أحوال إخواننا في بلاد الأفعان
وهكذا نتفطر ألماً لحال إخواننا، ولا يقل حال إخواننا اللاجئين في بلاد الأفغان عن هؤلاء الذين يعانون المآسي والجوع، وهذه العائلات التي تتراكم عند الحدود بلا مأوى، وقد أخبر أحد الفارين أنه أحصى ثمانية وعشرين جثة لمدنيين على جانب الطريق، هؤلاء تقول أم لأيتام: حملت أبنائي الخمسة بعد قتل زوجي واستجديت لتأمين أجرة نقلنا حتى الحدود، واستغرقت رحلتي خمسة أيام.
أيها المسلمون: هؤلاء اللاجئون أيضاً في بلاد الأفغان الذين تقطعت بهم السبل فلا غذاء، ولا دواء، ولا لباس على أعتاب الشتاء، ونحن نعلم ونوقن والله العظيم الذي لا إله إلا هو أن المستقبل لهذا الدين، ونقسم بربنا تعالى أن نور الله لن ينطفئ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
اللهم إنا نسألك النصر للمسلمين يا رب العالمين، اللهم عاجل اليهود والصليبيين بنقمتك إنك على كل شيء قدير، اللهم فرق شملهم، وشتت جمعهم، واجعل دائرة السوء عليهم، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً، اللهم لا ترفع لهم راية واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم إنهم طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم سوط عذاب، اللهم خلص المسجد الأقصى من أيدي اليهود، اللهم ارزقنا فيه صلاة قبل الممات، اللهم إنا نسألك أن تطهر المسجد الأقصى من دنسهم، وأن ترد بلاد المسلمين إليهم يا رب العالمين.
اللهم من أراد بلدنا هذا بسوء فامكر به واجعل كيده في نحره، اللهم من أراد أن يمس أمن بلادنا وبلاد المسلمين فاجعل تدميره في تدبيره، اللهم إنا نسألك أن تجعل بلاد المسلمين آمنة بشرعك محكمة لدينك عامرة بذكرك مطمئنة بأمنك، يا رب العالمين آمنا في أوطاننا وسائر المسلمين، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم اجعلنا من المقيمين لشرعك في حياتنا، لا تردنا على أدبارنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم إنا نسألك الصبر في البأساء والشكر في النعماء يا سميع الدعاء، اللهم إنا نسألك أن تصلح أحوال المسلمين وولاة المسلمين وترزقهم العمل بكتابك يا رب العالمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.