الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
إبتلاء الأمة، وفتنتها
فإن الله خلق هذه الأمة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وجعلها رحمة للعالمين، فكانت فتوحاتها نشراً للعدل، وإقامة للشرع في الجملة، فرأى الناس من رحمة الإسلام وعدله ما جعلهم يحبونه فيدخلون فيه أفواجاً.
وقد شاء الله أن يبتلي هذه الأمة وأن يجعلها مفتنة عذابها في دنياها، بما يحدث بين بعضهم البعض، وبما يسلط عليهم من أعدائهم.
ومن رحمته تعالى أنه لم يجعل تسليط أعداء هذه الأمة عليها عاماً، وإنما يكون هذا في فترات لحكم يريدها ، وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِسورة آل عمران140. ولعل من ذلك أن لا يشعر المسلمون بالغرور لو كانوا دائماً في نصر من نصر إلى نصر، فيقدر الله تعالى عليهم من أنواع الابتلاء والهزيمة ما يصطفي به منهم شهداء، وما يردهم به إلى دين الحق، وأن يعرفوا الخلل فيصلحوا ما فسد، وأن يرجعوا إلى أنفسهم فينظروا في عيوبهم، وهكذا تكون مشيئة الرب نافعة دائماً ليس في أفعاله تعالى شر محض.
والله تعالى قضى وقدر أن يوجد الصراع بين الحق والباطل، وبين الإسلام والكفر، ووجود هذا مما يثير الهمم، ويحفز الدواعي للاستعداد والبذل في سبيل الله، ولو كان المسلمون دائماً في هيمنة وقهر لغيرهم؛ لم يوجد ذلك التحفز والاستعداد، ولكن وجود بعض فترات الهزيمة والقهر للمسلمين من قبل أعدائهم يجعل هذه الأمة تشحذ عزيمتها، وتستعد للعودة إلى ما كانت عليه من الغلبة والتمكين.
والله تعالى جعل لنا أعداءً لحكم يريدها، منهم المعلن بعداوته ومنهم المستسر، منهم من يظهرها ومنهم من يخفيها، وقال تعالى: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًاسورة النساء45.
وهدف أعدائنا قد أخبرنا عنه ربنا فقال: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ سورة التوبة32. وأخبرنا بأنهم سيسلكون في ذلك لإطفاء نور الله كل السبل، ومنها القتال، فقال: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، وقوله تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْسورة البقرة217. يدل هذا الفعل المضارع وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْعلى الاستمرارية في هذا الأمر من قبل الأعداء، وذلك مبعثه إلى أمية في نفوسهم، أخبرنا تعالى عنها في نفوس اليهود والصليبيين فقال: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم سورة البقرة109. وأخبرنا تعالى بأن اليهود والنصارى لا يزالون ساخطين علينا، فقال: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْسورة البقرة120. وأخبرنا أنهم إذا تمكنوا منا فلن يرحمونا فقال تعالى: إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ سورة الممتحنة2. وأخبرنا أنهم سيجمعون لنا الأموال لحربنا، وأنهم سينفقون الميزانيات الهائلة والكنوز الطائلة لأجلنا نحن، لأجل حربنا والقضاء علينا، فقال : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ سورة الأنفال36.
وأخبرنا تعالى بأنهم سيشنون علينا الحملات الإعلامية، ويهاجموننا في أقدس المقدسات عندنا، وأن هذا الذي يظهرونه شيء مما تخفيه صدورهم، فقال : قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَسورة آل عمران118. فلا تستعجب يا عبد الله: إذا سمعت بنصراني إنجليكاني يقول عن محمد ﷺ: إنه إرهابي، فإن الله قد أخبرنا بذلك، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، وقال: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًاسورة آل عمران186. فهذا من الأذى الكثير، وسيبسطوا إلينا ألسنتهم بالسوء عبر حملاتهم وخطبهم، وكلماتهم وتصريحاتهم، إنه شيء واضح جداً في الواقع، يصدق ذلك القرآن الكريم، عندما يخبرنا ربنا بكلامه تعالى أن ذلك سيحدث ويكون وأنه سيستمر.
ولقد حدثت في التاريخ الإسلامي حروب كثيرة وغارات على هذه الأمة، فأغار عليها أعداء كثيرون، وحمل عليها كفار متعددون، فاجتاحها المغول والتتر، وكذلك حمل عليهم أهل الصليب الحملات المتوالية.
وكان اجتياح المغول والتتر الوحشي الكفري من أولئك الوثنيين، كان له أثر ولا شك في تضعضع هذه الأمة، وحصول المقتلة العظيمة فيها، وتخريب بلدانها وحواضرها، وإتلاف ما أنتجته من الثروات العلمية، بتغريق الكتب والمخطوطات في الأنهار، ونحو ذلك من أعداء الدين وعلومه.
أسباب الحملات على الإسلام
وقامت الحملات الصليبية أيضاً بالإغارة على بلاد العالم الإسلامي الساحلية فأفسدوا فيها، وقتلوا وخربوا، وإذا تأملت فيما كان يدور عندهم، وأسباب هذه الحملات، لعلمت من الحقائق ما تقيس به الحاضر على الماضي، وكان من أسباب حملات أهل الصليب على المسلمين ما حصل من الضعف عند المسلمين أولاً، عندما صار هناك تفرق بين السلاجقة المسلمين الذين كانوا يحكمون كثيراً من بلاد المسلمين في تلك الآونة.
ومن الأسباب أيضاً: الحقد الذي كان ثائراً عند رجال دينهم، فهذا بطرس الناسك الذي حضر الحج في بيت المقدس حاقداً على المسلمين، وكيف يسيطرون على هذه المدينة لما عاد إلى أوروبا جعل يحرض الناس على قتال المسلمين، وذهب إلى البابا الكاثوليكي أوربان الثاني، فحرضه أيضاً فسر به البابا وحثه على مواصلة التحريض، وكان الحقد المتأصل في نفوس كثير من النصارى على الإسلام وأهله؛ لقوة هذا الدين، وسرعة انتشاره، وكيف اكتسح مملكتهم قيصرية الروم، وكيف انتشر في بلاد الشام، ووصل إلى الأنضول، حتى حاصروا القسطنطينية عدة مرات، وأوشكوا على اقتحامها، كان هذا الحقد مولداً وباعثاً لأولئك الصليبيين على الغزو.
ومن الأسباب التي لا يمكن أن تُخفى: السيطرة على موارد التجارة في بلاد المسلمين، ولذلك كان البابا عندما يحمس النصارى لغزو بلاد المسلمين، يقول لهم مرغباً: إن أرضهم تفيض لبناً وعسلاً، كانت تلك من الجمل التي يغري بها أتباعه لكي يتجمعوا للغزو والحملة، إذاً أولئك القوم أصحاب الشرك والكفر، ليس عندهم باعث ديني خالص، ولكنهم أهل دنيا، فلا بد أن يخلط بالدين المحرم دنيا جاذبة ومؤثرة كي تكتمل البواعث لديهم في القدوم.
وكانت رغبة التجار الأوربيين، لا سيما تجار المدن الإيطالية في البندقية وجنا وبيزا في الحصول على مواطئ قدم، ومستودعات تجارية في بلاد المسلمين من البواعث، ولذلك دعموا الحملة، وكان تردي الحالة الاقتصادية في أوروبا من المجاعات والفقر من البواعث أيضاً، ومما حرص أمراءهم على تحفيز الأحوال والنفوس والجمع والإعداد للخروج في تلك الحملات الرغبة في زيادة ممتلكاتهم وثرواتهم.
وكذلك فإن بعض العامة منهم كانوا يريدون التخلص من نظام الإقطاع والاحتكار، وأيضاً فإن لليهود دور في ذلك، فكانت مصالح أصحاب رؤوس الأموال من يهود أوروبا تتوافق مع مصالح الأمراء الإقطاعيين، الذين كانوا يطمعون في السيطرة على المشرق عنوة، ولهذا دعم اليهود فكرة توجيه حملة صليبية إلى الشرق بكل قواهم وإمكاناتهم المتاحة، فقاموا بالدعاية لها عن طريق إقناع المترددين بالاشتراك فيها، وفتحوا خزائنهم لتجنيد المحاربين، ورشوة المتخاذلين؛ لأنهم رأوا فيها الفرصة الذهبية المواتية لتقديم قروضهم الربوية إلى زعماء الحملات، وأمراء المقاطعات، والبارونات، حتى سلطات الكنيسة ذاتها بقصد إغراقهم بالديون، والمتاجرة بالعتاد.
وكذلك فإنهم كانوا يريدون إضعاف القوتين معاً الإسلام والنصرانية، فلذلك كانوا يعمدون إلى تحريك الأمور، لتحقيق الاصطدام بين هؤلاء وهؤلاء، فهذا من مصالحهم، فاجتمعت عدة أمور لقيام البواعث في تلك الحملات الصليبية، وكان الأمر يحوطه تضخيمات إعلامية، فيما أثاره الراهب بطرس الناسك الذي لما رجع من بيت المقدس زعم أن معاملته قد أسيت مع غيره من الزوار، ودعا أوربان الثاني إلى إنقاذ الأماكن المقدسة، وذهب يجوب ألمانيا وفرنسا وبلجيكا محرضاً الجماهير في خطبه، وبفصاحة على الزحف لإنقاذ قبر المسيح، فكان لتلك الخطب النارية، وتشجيع البابا لهذه الحركة أثر كبير في قلوب الناس، مما دعا القوم للقيام بالغزو والحملة على بلاد الشام واحتلال بيت المقدس.
وبالرغم من أن بعض النصارى قد شهدوا بأنه لم يكن هنالك ذلك الاضطهاد الذي يدفع لمثل تلك الحملة، نعم، لا تخلو الأمور من شيء من الحوادث التي حدثت لبعض النصارى في بلاد الشام، ولكن شهد المؤرخون بأن الحجاج من النصارى كانوا يدخلون الأماكن المقدسة بحرية، ومع ذلك فإن بعض الحوادث قد ضخمت جداً لأجل أن تكون حملة إعلامية تؤجج في الغزو، وقد اعترف أحد النصارى قي لي استرانق بقوله: يجدر بنا أن نعترف أن المسيحيين لم يكونوا بمضطهدين ذلك الاضطهاد الذي اتخذوه سبباً لحملاتهم الصليبية. لم يكونوا بمضطهدين ذلك الاضطهاد، إلى الدرجة التي اتخذواها سبباً لحملاتهم الصليبية.
وأنكروا فضل العهدة العمرية عليهم عندما أعطاهم عمر بن الخطاب الأمانة لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وأن لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، لكن عدل المسلمين لم يكن ليذهب ما في صدور الكافرين من الغيظ أبداً.
الخطب الحماسية للتحريض على الإسلام
وهكذا حصلت الخطب الحماسية والجولات التي كانت تلقى فيها الكلمات على الحاضرين بلغات مؤثرة تكسوها الحماسة لتخليص الأرض المقدسة من سيطرة المسلمين، وكي يقبل الناس في الاشتراك في هذه الحروب وعدهم البابا بمنح الغفران لكل من يشترك في تلك الحرب، وفي إحدى الخطب التي ألقاها أوربان الثاني حصلت استجابة هائلة على الفور من الحاضرين، وأيقظت في نفوسهم روح المغامرة والكسب حتى صاحوا بعد خطبته صيحة مدوية: هذه مشيئة الله.
وهكذا حصل أيضاً في خطب بطرس الناسك ما حصل من تفاعل الجماهير وخصوصاً الغوغاء الذين كانوا يريدون مالاً بأي وسيلة، وكانوا يقولون: هذه مشيئة الرب هذه مشيئة الرب، فتعالوا على الله، وحكموا عليه بزعمهم، بل قالوا: إن هذه المشيئة مشيئة الرب، فكذبوا على الله، وويل لمن يكذب على الله ، والله لا يحب الفحشاء ولا يريد الفساد في الأرض، ، إن الله لا يحب الفساد، إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَسورة الأعراف28.
وحصل تجميع الجموع وتجييش الجيوش، وإعداد الغزو لبلاد المسلمين، وهكذا اجتمعوا في كلير مونت وكانت نقطة البداية لتلك الحروب الصليبية، وجاءت الدعوة إلى أمراء أوروبا في شن الحرب المقدسة من أجل المسيح، وكذلك أعطيت التوجيهات للتجار والكبراء بأن يحيك كل محارب صليباً من القماش الأحمر على ردائه الخارجي من ناحية الكتب رمزاً لتلك الفكرة، وحدد عام ألف وسبعة وتسعين للميلاد موعداً للحملة الأولى، وتحرك بطرس ومن معه الفاسق الكافر قصير القامة أسمر اللون الذي كان يمشي حافي القدمين، الذي أنعم عليه بالألقاب من الباب لكي يكمل هذا المشوار، كان التحضير بخطب كثيرة، وفيها جولات في مدن أوروبا المختلفة، وحصل التحضير بعد حصد المحاصيل وتجميعها، ولاقت تلك الدعوة رواجاً وتحركت الجموع مع هذا الفاسق الكافر الذي كان يعدهم بأرض تفيض لبناً وعسلاً، ولاسترجاع قبر المسيح، وألهبت هذه الكلمات الحماسية نفوس أولئك الغوغاء، وقاموا معه، ومع ذلك كانوا لا يوفرون نهباً وسلباً حتى في بلاد من هم على دينهم أثناء الطريق، واستولوا على ما استولوا عليه، ومنه تعلم بأن دين أولئك القوم لا يردعهم عن سلب ولا نهب، فأي شيء في نفس ذلك النصراني الذي يمنعه من الظلم، حتى لبعض أبناء دينه، وهكذا حصل منهم أثناء الطريق.
من أساليب الغدر والخيانة عند الصليبيين
وكذلك: فإن من الأمور العجيبة التي كانت تحصل في وقت من الأوقات، ومن أساليب الغدر والخيانة، ما صرح به الرحالة الصليبي فاسكو ديجاما الذي استعان بالبحار المسلم ابن ماجد الذي أمده بالمعلومات والخارئط، وليته لم يمده، وقاد معه سفينته نحو جزر الهند الشرقية، فقال الصليبي فاسكو ديجاما بعد إتماما الرحلة: الآن طوقنا رقبة الإسلام، ولم يبق إلا جذب الحبل فيختنق ويموت.
ففكرة التطويق عبر السواحل فكرة صليبية قد قام بها ذلك المستكشف، ومع الأسف وجد من يعينه من المسلمين، التطويق، تطويق السواحل، ثم تتابعت الرحلات الأخرى التي قام بها الصليبيون في العالم الإسلامي في ذلك الوقت، يدرسون مداخله ومخارجه في الرحلات البحرية، وكانوا يجيئون إلى أرض ساحلية للمسلمين فيها سلطان من سلاطين المسلمين، يلجئون إلى كرمه أو إلى غفلته، فيطلبون منه مساعدة سفنهم التي كانت ترسو في مرافئه، فيساعدهم على ذلك، ويطلبون منه قطعة أرض على الساحل ليقوموا بخدمة سفنهم إذا جاءت، فيعطيهم ذلك بمقتضى الكرم، فإذا استولوا عليها، وصار لهم نقطة ارتكاز على الشاطئ جاؤوا بالسفن المحملة بالجنود والسلاح، وكانت هذه الفكرة من الأشياء التي استعملوها لإيجاد قواعد متقدمة في بلاد المسلمين تعينهم على الغزو إذا حصل، فلما عزم الفرج على قصد الشام صاروا إلى القسطنطينية ليعبروا المجاز إلى بلاد المسلمين ويسيروا إلى البر ليكون ذلك أسهل عليهم.
ومما حصل أيضاً أن هؤلاء النصارى الصليبين، لما وصلوا إلى بلاد الشام، وكان في دمشق حكم للمسلمين، وفي حمص أيضاً حاربوا أهلها ودخلوا معرة النعمان، ووصلوا إلى بيت المقدس، وكانوا ينتهزون الفرصة في خلافات بين المسلمين، يعينون واحداً على الآخر، ثم يأكلون الاثنين معاً، ومن دقق في التاريخ عرف هذه القضية التي كان الصليبون أثناء حلمتهم يدخلون في الخلافات التي كانت تحدث بين صاحب دمشق مثلاً وصاحب حلب، وبين صاحب عكا وصاحب الرها، وصاحب القدس وهكذا؛ لأنه كان في ذلك الوقت تفرق للمسلمين.
وتفرقوا شيعاً فكل مدينة | فيها أمير المؤمنين ومنبر |
الروافض والعبيديون وإعانتهم لليهود والنصارى على هدم الإسلام
ومما أعانهم كثيراً وجود أهل الرفض من العبيديين الذين كانوا قد استولوا على مصر ويحاربون المسلمين الموحدين في بلاد الشام، فحصلت تحالفات ما بين أهل الرفض من العبيديين وبين الصليبيين، واتفاقات جرى على إثرها تموين من هؤلاء العبيديين من أهل الرفض لأولئك الصليبيين، فاستغلوا تقدمهم وعمدوا إلى السلاجقة المسلمين فطردوهم من أماكنهم، وهكذا كان التحالف الباطني الصليبي من أعظم الأسباب في الاستيلاء على بلاد المسلمين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
اللهم احفظ بلاد المسلمين من كل سوء، وأدرأ عنها أهل الحقد والبغي والظلم والشرك يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأن العاقبة للمتقين، وأصلي وأسلم على محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ورضي الله عن أصحابه وخلفائه الراشدين، وعن آله وذريته وأزواجه الطيبين الطاهرين.
نتائج الحملات المتلاحقة على الإسلام
عباد الله: لقد كانت تلك الحملات المتعددة، الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، وهكذا تتوالى من يوم أن قام الصليب بحقده على المسلمين، تتداخل الدوافع المادية والاقتصادية مع الأحقاد الدينية في الحملة على أهل الإسلام، وكانت هناك أحداث كثيرة وعبر حصلت في تلك الحملات، وفقدت الحملة الأولى التي تلت حملة الرعاع، حملة الرعاع التي قادها بطرس الناسك، فشلت بحمد الله ، وتم كسرها من قبل السلاجقة المسلمين، ولما جاءت الحملة التي بعدها بنحو من ثلاثمائة مقاتل لم يدخل منهم القدس إلا أربعون ألفاً، وكذلك الرها لم يدخلها إلا نحو أربعون ألفاً أيضاً، وبذلك يكون عدد من بقي من الصليبيين الذين جاؤوا في الحملة ما يقرب من ثمانين ألفاً، ومعنى ذلك أنهم فقدوا مائتين وعشرين ألفاً قتلوا في المعارك التي حصلت مع المسلمين، وقتلوا على أيدي المسلمين الذين كانوا يثورون على تصرفات هؤلاء الكفرة عندما يرون درجة السوء والوقاحة والقبح والذل والخوف، فكان هنالك قيام من المسلمين متفرق على هؤلاء الصليبين، ورغم أن الذين كانوا يقومون عليهم من المسلمين يعلمون في النهاية أنهم مقتولون إلا أن ذلك كان أرحم عليهم من تحمل هذا الذل وهذا القهر، وهذا البغي والظلم، وهذا الاعتداء على الأموال وعلى الأعراض، وفوق ذلك كله عندما يرون أرضهم ومساجدهم تحت حكم الصليب، فكانت تلك من الدروس العظيمة، وبسيطرة الصليبين على بيت المقدس ارتفعت معنويات سكان الإمارات الإيطالية، فبدأت سفنهم تجوب أطراف البحر المتوسط، وتقدم المساعدات والدعم للصليبين، ولذلك استطاعوا أخذ حيفا وقيسارية عام 494، وأخذوا عكا 497، وأخذوا طرابلس عام 503 بعد حصار سنتين، وأخذوا صيدا 504، وطلب المسلمون هدنة فرفض أهل الصليب ثم وافقوا مقابل مبالغ عظيمة يدفعها المسلمون، إلا أنهم بعد استلام الأموال غدروا بهم وحاصروا صور وأخذوها في عام 505، وحاصروا صور فامتنعت عليهم، لكنهم بعد ذلك وصلوا إلى دمشق، وصلوا إلى مدن أخرى مثل ملاطية وغيرها، هؤلاء لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.
ومن العبر التي شهدها التاريخ أن سكان البلاد الشامية من النصارى والأرمن الصليبيين كانوا يستقبلون الحملات الصليبية استقبالاً حاراً ويرحبون بهم ترحيباً كبيراً، كما ظهر في أنطاكيا وبيت المقدس، وقدموا كل المساعدات، وقاتلوا مع إخوانهم في الدين ضد المسلمين، وكانوا عيوناً وجواسيس للصليبيين، ولكن هؤلاء بالرغم من احتلالهم لم يجدوا الأمن والاستقرار في بلاد الشام، فإن المسلمين كانوا يعقدون الألوية للغارات، وينالون منهم كلما سنحت لهم فرصة، ولذلك لم يستتب الأمر لهم فكانوا في قلق دائماً، كانت خطوط الإمداد تأتيهم من البحر كما كانت غارات المسلمين من أصحاب النجدات وأصحاب المروءة والشجاعة تأتيهم في مواقع متعددة تضربهم ضربات موجعة، إلى أن اتحد المسلمون تحت راية صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الذي قاد المسلمين لإخراج الصليبين من بيت المقدس، وكسر شوكتهم، بعد أن قضى على الباطنيين الذين كانوا يسمون زوراً بالفاطميين، هؤلاء العبيديون الذين كان لا بد من التخلص منهم قبل الاتجاه إلى العدو الصليبي؛ لأنهم كانوا ردءاً له، ومن الخائنين معه، والممدين له، والمتفقين معه لحرب المسلمين، وهكذا أذن الله تعالى بالخلاص من رجسهم في بيت المقدس، واستمر لهم موطن قدم في عكا حتى أخرجهم المماليك المسلمون منها بعد ذلك، وتخلص الإسلام من رجس الصليب لكن على مراحل، وقدم المسلمون شهداء وتضحيات كثيرة حتى حصل المقصود، والتاريخ فيه عبر كثيرة، ولا يمكن أن يقطع المسلم نفسه أبداً عن ماضي أمته وعن تاريخيه.
اللهم إنا سألك أن تخزي اليهود، اللهم اخز اليهود والصليبيين والمشركين، واجعل عليهم رجزك وعذابك يا رب العالمين، اللهم مزقهم كل ممزق، فرق شملهم، وشتت جمعهم، وخالف بين كلمتهم، اللهم ألق الرعب في قلوبهم، اللهم اجعل مكرهم وبالاً عليهم يا رب العالمين، رد كيدهم في نحورهم، واجعل تدميرهم في تدبيرهم، اللهم عاجلهم بالهزيمة يا ربنا، ووحد صفوفنا، اللهم ألف بين قلوبنا، اللهم اجعلنا ممن يريد الشهادة في سبيلك إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، اللهم احفظ بلدنا هذا من كل سوء، وسائر بلاد المسلمين، آمنا في الأوطان يا رب العالمين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على حرب المشركين، وطهر بلاد المسلمين من كل شرك ووثنية يا رب العالمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.