الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
أبواب الخير في الإجازة
فإن الله قد خلقنا لعبادته، وعبادة الله ذل وخضوع، خوف ورجاء ومحبة، وعمل باللسان والقلب والجوارح.
نسير إلى الآجال في كل لحظة | وأيامنا تطوى وهن مراحل |
وهكذا لا تزال هذه الأيام تحملنا إلى الله تعالى، وكل يوم نحن أقرب إلى لقاء الله من الذي قبله، وهنا ينبغي محاسبة النفس، والاستعداد ليوم الرحيل، وهذا الزمن الذي يمر علينا نعمة، ومستودع ينبغي ملؤه بالأعمال الصالحة: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا سورة الفرقان:62.
وهذه الإجازات التي تأتي اليوم فرصة عظيمة ينتهزها ويستثمرها أهل طاعة الله ، وينظرون ملياً بأي شيء يملئونها؟ وماذا يفعلون فيها؟ ومن ندم على ما فرط استعد للعمل وتحمس.
وما أقبح التفريط في زمن الصبا | فكيف به والشيب للرأس شاعل |
ترحل من الدنيا بزاد من التقى | فعمرك أيام وهن قلائقل |
فهذه هي الإجازة، فما هو مشروعك يا عبد الله؟ وبأي شيء ستنشغل فيها؟ هلا تأملت قليلاً، وفكرت بأي شيء ستنتهز أيامها؟ هل أعددت أموراً وفكرت فيها؟ هل لديك أعمال مشروعة تملأ بها هذه الأوقات؟ وهل لديك وضوح في الهدف؟ ومراعاة لأحوالك تأتي هذه الأعمال موافقة لما عندك من الظروف والإمكانات. إن الأفراد يقاسون بالمنجزات لا بالأعمار، فاترك آثاراً قبل رحيلك، واملأ وقت بطاعة الله: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ سورة يس:12، في كتاب عند الله لا يضل ربي ولا ينسى، نكتب ما قدموا من الأعمال، وآثارهم على الأرض، وأقدامهم تسير إلى تلك الأعمال، والأرض ستشهد بما عُمل عليها من خير أو شر: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَاسورة الزلزلة:4-5، فلينظر العبد في أي شيء سيعمل؟ فمن الناس من يُفتح عليه في ألوان الطاعات، وصنوف العبادات، وأنواع الاجتهادات، وطرق المسابقات إلى الخيرات، فهو في القرآن، والعناية به، وتلاوته قياماً وقعوداً وعلى جنبه، والصلاة به، وحفظه، ومنهم من يفتح الله عليه في تعليمه وإقرائه؛ لأنه ضبطه وأتقنه، وهذه هي الحكمة العظيمة، والغبطة الكبرى، رجل يقرأ القرآن ويعلمه آناء الليل وأطراف النهار.
ومنهم من يفتح الله عليه في أنواع العلم وفروعه ومجالاته من التوحيد والحديث، والفقه والتفسير، ومنهم من يُفتح عليه في علوم أخرى كاللغة والتاريخ، والسير والعلوم، ومنهم من يُحسن التدريس، ومنهم من يحسن الوعظ، ومنهم من يحسن التأليف والجمع، ومن عباد الله من يجعل الله لذته بالصلاة، وقرة عينه فيها ليلاً ونهاراً، وآخر يُفتح عليه بالصوم فهو يكثر من المستحبات بعد الواجبات، وأناس خصهم الله بمزيد من العناية بالصلة، فهو يتفقد أقاربه، ويزور أرحامه، يسأل عنهم، ويبرهم ويصلهم، ويحسن إليهم من غير انتظار مكافأة أو لوم، ومنهم من يفتح له في مساعدة المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، والسعي على الأرملة والمسكين، والغريب والفقير والأسير، ومنهم من يحسن أن يأخذ من الأغنياء لإعطاء الفقراء، ويشتغل في تفريج كربات العباد، وسد الديون، وكفالة الأيتام ورعايتهم، ومواساتهم وتعليهم، ويفتح الله على أقوام في إقامة المشروعات البنائية المختلفة من المساجد والأوقاف، ودور الخير، ونحو ذلك.
ومنهم من يفتح الله عليه في الاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في سبيل ذلك، ومنهم من يفتح عليه في باب الشفاعة والواسطة الحسنة، والإصلاح بين الناس، فيفك أسيراً، ويحقن دماً، ويُحق حقاً ويمنع باطلاً، ويحجز ظلماً، ويصلح بين المتخاصمين، ويعالج هذه المشكلات الزوجية بما يحاصرها، ويرد الزوج سالماً إلى زوجته، ومنهم من يفتح عليه بمراعاة أعمال القلوب والجوارح، فهو لا يزال يفتش عن عيوب نفسه، ويصلح حاله، يتأمل ويحاسب، ويتدبر ويعالج، ومنهم من يكون له في إكرام الضيف وعيادة المريض، ونصرة المظلوم، وإنظار المعسر، وإرشاد الضال، وسائر فرص العمل، حتى إن لنا في البهائم لأجراً حتى من زرع زرعاً، أو غرس غرساً، فأكل منه إنسان، أو طير، أو دابة كان له به أجر، وهكذا أبواب الطاعات وفروض الكافيات، وأنواع الواجبات والنوافل، وإذا كان ضارباً بسهم في كل واحد منها فهنيئاً له، فإن هنالك أناس يدعون من جميع أبواب الجنة.
فبادر إذا ما دام في العمر فسحة | وعدلك مقبول وصرفك قيم |
وجد وسارع واغتنم زمن الصبا | ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم |
ولا يخلو كل واحد أن يوجد فيه شيء من تميز وإبداع في جانب من الجوانب، فليستثمر ذلك في هذه الإجازة، ويبرز لله تعالى بما يحسنه، وأن يركِّز في عمله، ويختار ما يمكنه أن يقوم به، ولا يشتت نفسه.
ومشتت العزمات يقضي عمره | حيران لا ظفر ولا إخفاق |
ومشروعات دعوية تقام في هذه الإجازات تحتاج إلى همم الشباب وسواعدهم، ينبغي المشاركة فيها في هذه المراكز القرآن والخيرية، وهذه الأنشطة الصيفية، وقوافل الخير، إنها فعلاً مناسبات، وإنها مشروعات يستثمر فيها الإنسان طاقته وما وهبه الله.
والدين يحتاج إلى نصرة بالكتابة في هذه الصحف وغيرها من المواقع الإلكترونية، نصرة لله ورسوله، وذباً عن شرعه ودينه، ونشراً للحق، وإنكاراً للمنكر، وإسكاتاً لأهل الباطل، وصاحب ذلك لا يزال يدبج بيده مقالة لنصرة الحق، ويرد على باطل، ويرفع مقالاً، ويشجع كاتباً، ويجمع متفرقاً، ويذكر بعبادة، ورسائل الجوالات تسعى بالخير إلى الناس، وينبه على بدعة، أو منكر، أو خطأ؛ لئلا يقع فيه الناس، وكذلك عبارة وعظية تذكيرية، ودلالة على باب من الخير، وإفادة الناس بخبر وبشرى للمسلمين، أو تأكد من صحة خبر، ونفي إشاعة كاذبة، وأيضاً تعاون في مجال الدعوة، ونسخ المقالات المميزة ونشرها، واستعمال القوائم البريدية المختلفة لإرسال ليس ما يضحك فقط، وإنما ما يفيد أيضاً.
اترك الكسل ودع الفوضوية
وينبغي أن ينفى العجز والكسل، فإن النبي ﷺ كان يستعيذ منهما: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل[رواه البخاري (2893)]، وهكذا قال ﷺ: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز[رواه مسلم (2664)]، فهذا هو شعارنا.
الذل في دعة النفوس ولا أرى | عز المعيشة دون أن يشقى لها |
لا بد من التعب، الكسل مصيبة، التواني، النوم الكثير الذي يسعى إليه البعض في هذه الإجازات، لعباً بهذه الألعاب الإلكترونية، وسهراً على هذه القنوات الفضائحية، وهكذا لعبة الورق وغيرها مما يسمونه تسلية، وصفقاً بالأسواق، وإيذاءً لعباد الله وإماء الله، وسعياً في المحرم، ورقصاً على الأرصفة، وإضاعةً للوقت على الشواطئ بالمحرمات، وهكذا أذيةً عباد الله في الطرقات، فشتان شتان بين من وجهه الله للحق، وبين من جعله من جند إبليس، فاربأ لنفسك -يا عبد الله- أن تكون من جند إبليس.
ولا تكن إجازتك هذه نوماً بالنهار، وشغلاً بالمعصية في الليل، وقلباً لنظام الحياة بالمنكر.
عبد الله: من تعطل وتبطل انسلخ من الإنسانية، ومن تعود الكسل ومال إلى الراحة فقد الراحة، فحب الهوينى يكسب النصب، وقيل: إذا أردت أن لا تتعب فاتعب، يعني: إذا أردت أن لا تتعب مستقبلاً فاتعب الآن.
وهذا الكسل والضجر، والتأفف وقول: ماذا نقتل به الوقت؟ عبارات قد سئمناها.
إن التواني أنكح العجز بنته | وساق إليها حين أنكحها مهراً |
التواني زوج العجز، فماذا كانت النتيجة؟ وما هو المولود؟
فراشاً وطيئاً ثم قال لها اتك | فغايتكما لا شك أن تلد الفقر |
فقر في النفس، وفقر في المال، وفقر الدين قبل ذلك.
لا بد لنيل معالي الأمور من التعب والملاحقة، والعمل المتواصل الدؤوب، والإنسان لا يؤجل الأعمال، وإن "سوف" من جند إبليس.
ولا ترج فعل الخير إلى غد | لعل غد يأتي وأنت فقيد |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَسورة المنافقون:9-11.
وإيانا والفوضوية، وأن نفتح مشروعاً دون أن نكمله، وأن نقفز هنا وهنا دون أن نبلغ الهدف.
وعاجز الرأي مضياع لفرصته | حتى إذا فاته أمر عاتب القدر |
لا تنحل عزيمتك يا عبد الله، استمر وامض: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ سورة النحل:92، فهذه التي غزلت، ثم قاربت أن تنهي هذا النسج والغزل، فإذا بها تحله كله، وتفك هذه الخيطان، فذهب الأجر، ذهب العمل أدراج الرياح، ولا تستعجل بثمرة مشروعك قبل تمامه، واصبر: ولكنكم تستعجلون [رواه البخاري (3612)].
ومستعجل الشيء قبل الأوان | يصيب الخسار ويجني النصب |
لا بد من الجد، وأن يشجع بعضنا بعضنا، وأن يستشير بعضنا بعضاً، وأن لا نبالغ في الأهداف؛ فنعجز، فنصاب بالإحباط، أن يكون هنالك تشجيع، وترك للمزاجية، وثقة بالله تعالى، وتسابق في الخيرات.
الإجازة وطلب العلم
عباد الله: إن من أولى ما شُغلت به الإجازات طلب العلم؛ لأن المصائب التي ابتليت بها الأمة كثير منها بسبب الجهل، وإن الذين لا يؤسسون أنفسهم على قاعدة من الكتاب والسنة يضيعون، ولا يدرون ماذا يفعلون.
ومن أعظم ما تُعبد الله به تعلم دينه، فلماذا أنزل القرآن؟ ولماذا أوحى إلى نبيه بالسنة ﷺ؟ أليس لأجل الفهم والعلم؟ أليس لأجل الفقه والتدبر والتفكر؟ أليس في ذلك آيات لأولي الألباب، ولقوم يتفكرون، ولقوم يتدبرون، ولقوم يعقلون، ولماذا ختمت الآيات بهذه الخواتم: يعقلون، يتفكرون، أولي الألباب، أليس ليكون لنا نصيب من هذا في دراستنا لكتاب ربنا، وسنة نبينا ﷺ.
وإن من أعظم ما فتح الله به على المسلمين في هذه البلد قيام الدورات العلمية الشرعية التي يأتي إليها أهل العلم للتدريس فيها، متون وكتب، وشروح ومناقشات، وهكذا تفهم أموراً كثيرة مرتبة مسلسلة، وقواعد تبنى على أمور مضت، وهكذا تطلب العلم، إذا كان عون من الله لك فهنيئاً في هذا الطلب، وهذه العبادة العظيمة.
هدي السلف في طلب العلم
كان السلف رحمهم الله يبكرون للعلم، وكان الصحابة يغشون مجالس النبي عليه الصلاة والسلام صباح مساء، يذهبون إليه صباحاً ويعودون، ثم يذهبون إليه مساءاً، فأما من انشغل بجهاد، أو طلب رزق، فإنه يسأل بعد ذلك عما فاته كما سأل عمرَ الأنصاريَّ، وسأل الأنصاريُّ عمرَ، كانا يتناوبان على المزرعة، وعلى حضور الحلق، وعلى العلم.
قال أبو الحسن الكرخي رحمه الله: كنت أحضر مجلس أبي حازم يوم الجمعة بالغداء من غير أن يكون درس؛ لئلا أنقض عادتي بالحضور؛ لأجل أن يبقى التعود على ما هو عليه.
قال ﷺ: يا أيها الناس، إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما يخشى الله من عباده العلماء [رواه الطبراني في الكبير (929)].
يقول جرير: جلست إلى الحسن سبع سنين لم أخرم يوماً واحداً أصوم وأذهب إليه، وكان قتادة بن دعامة السدوسي يحضر حلقة أنس صباح مساء، وأنس يحدث من يأتيه بالمساء بحديث أهل الصباح، فيُعيد لهم الدرس، وذات مرة تأخر أنس عن أهل المساء، فحدثهم قتادة بكل حديث الصباح، وأنس يسمع، فلما رأى حفظه، وتعجب من فطنته لكزه بيده، وقال: قم يا أكمه، فقد أخذت علمي، وقال له سعيد: نزفتني يا أعمى، وكان قتادة رحمه الله ضريراً، قال: نزفتني -استخرجت ما بي من العلم-.
وهذه الحلق تحتاج إلى آداب ليستفاد منها، إنها تحتاج إلى صبر وتبكير، إنها تحتاج إلى مواظبة، وهكذا المواظب يُفتح عليه، أما الذي يساق إلى الحلق والدروس كأنما يساق إلى الموت وهو ينظر، فهو كاره قد أصابه الملل، فماذا عساه أن يحصل؟ فلا بد أن تكون النفس منشرحة لهذا العمل.
مذاكرة قبل الدرس، وحضور ذهن أثناء الدرس، ومراجعة بعد الدرس، واستدراك ما فات من الدرس من شريط، أو ملخص طالب، ونحو ذلك؛ لا بد من التقييد.
العلم صيد والكتابة قيده | قيد صيودك بالحبال الواثقة |
فمن الحماقة أن تصيد غزالة | وتتركها بين الخلائق طالقة |
أحسن الإنصات، وقاوم الشرود، وبكر، واسأل عما يشكل.
كان أحمد بن سنان لا يُتحدث في مجلسه، ولا يبرأ قلم، ولا يقوم أحد كأنما على رؤوسهم الطير، وأيضاً فإن الأدب في الحضور، أن يصون المجلس، ولا يرفع صوته، ولا يصيح، ولا يضحك، ولا يُكثر الكلام لغير حاجة، ولا يلتفت يميناً، ولا شمالاً، ولا يتكلم بسوء أو شر، وأيضاً فإن التعليق على حواشي الكتب، وعلى أطرافها مما يرسخ المعلومات التي سمعتها من الشيخ.
وكان النووي رحمه الله يحضر في اليوم اثني عشر درساً، وهذا من عجائب الدهر، ونحن لا نطالب هؤلاء الشباب بربع ذلك لعلهم يجتهدون ليزيدوا، وكانوا يمكثون على الأبواب حتى يفهموها.
وقال أحمد رحمه الله عن أيام الطلب: مكثت في كتاب الحيض تسع سنين حتى فهمته.
وقال بعض الطلاب: راجعت الشيخ فلم تتضح لي المسألة، فرجعت إلى منزلي، وبحثت، ولا زلت ابحث، والخادم قائم بالمصباح على رأسي أو بالشمعة حتى مر ثلاثة أرباع الليل، فلما طلع الفجر زال الإشكال، واكتفيت بفهم هذه المسألة، فنمت هانئاً.
لا يتعلم العلم مستح ولا مستكبر، الذي يأنف عن الحضور والانتظار والسؤال، وقد يجابه بما يؤذيه، فإذا تضايق من الوهلة الأولى فذهب فاته العلم، ولذلك قال بعض السلف -وهو أبو سلمة رحمه الله-: لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علماً كثيراً، لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علماً جماً، أي لو صبر على الشيخ لاستخرج منه شيئاً كثيراً، فأما أن يأتي أول ما يأتي فيجابه بشيء من شدة، أو تضيق أخلاق الشيخ عن استيعاب هؤلاء الحاضرين، فربما انصرف قبل أن يسأل الكل أو أن يفهمهم بالأسلوب الذي يتمنونه، فمن أصابه الغضب من أول مرة فذهب لم يحصل شيئاً، وقال النبي ﷺ: ليس منا من لم يوقر كبيرنا [رواه أحمد (27823)]، قال بعض العلماء: كبير القدر، وكبير السن أيضاً، ولذلك قال أهل العلم: على المستفتي أن يوقر المفتي في الخطاب، فلا يناديه باسمه مجرداً، ويقرن كلامه بالدعاء له، أو يقول: ما قولكم حفظكم الله، أو رحمكم الله، ولا يشير بيده في وجهه، ولا يقول إذا أجابه الشيخ: نعم، هكذا كان رأيي في هذه المسألة، أو يقول: فلان أفتى بخلاف قولك، فإن هذا ضرب من التعنت، والإضجار، وسوء الأدب.
وكذلك قال إسماعيل بن بنت السُّدي في قصته مع مالك: كنت في مجلس مالك، فسئل عن فريضة، فأجاب بقول زيد ، فقلت له: ما قال فيها علي؟ فأومأ إلى الحجبة، فلما هموا بي عدوت وأعجزتهم، قالوا: ما نصنع بكتبه ومحبرته؟ قال: اطلبوه برفق، فجاءوا إليَّ فجئت معهم، فقال مالك: من أين أنت؟ قلت: من الكوفة، قال: فأين خلَّفت الأدب، أين تركته وجئت إلى مجلسي؟ فقلت: إنما ذاكرتك لأستفيد، قال: إن علياً وعبد الله لا ينكر فضلهما، وأهل بلدنا على قول زيد بن ثابت، وإذا كنت بين قوم فلا تبدأهم بما لا يعرفون، فيبدؤك منهم ما تكره.
وهكذا ينبغي أن يكون السؤال بلا تنطع، وأن يُعرض عما يضيع الوقت بلا فائدة: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه[رواه الترمذي (2317)]، وفي البخاري: أن رجلاً عراقياً قال لعائشة: "أي الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرك؟" [رواه البخاري (4993)]ما يضرك لو كان من النوع الفلاني، أو النوع الفلاني، أنت ستموت.
ولا يستعجلن، فقد سأل رجل ابن عمر عن إطالة القراءة في سنة الفجر، فأحب ابن عمر أن يفيده، فأتاه بحديث فيه من قبل صلاة الفجر، قال: "كان رسول الله ﷺ يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة" [رواه البخاري (995)]، فقاطعه السائل، فقال: لست عن هذا أسألك، فقال له ابن عمر: إنك لضخم؛ ألا تدعني أستقرئ لك الحديث، أشار إلى غباوته وقلة أدبه بهذه الكلمة" إنك لضخم! وأيضاً فإن تعلم الأدب مع العلم، أما المعلومات فقط دون تعلم أدب فإنها قد تكون وبالاً على صاحبها.
كان يحضر مجلس الإمام أحمد رحمه الله خمسة آلاف، وكان خمسمائة يكتبون، والباقي يستمدون من سمته وخلقه وأدبه.
وقال ابن مسعود : ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم خشية الله تعالى.
ولذلك كانوا بالإضافة إلى الخشية والإخلاص يستحضرون الأدب، كان الشافعي إذا قرأ بين يدي مالك يتصفح الورقة صفحاً رقيقاً؛ كيلا يسمع وقعها، ويتردد مخافة أن يمل الأستاذ من طول ما يقرأ، وقال الربيع صاحب الشافعي: ما اجترأت أن أشرب الماء، والشافعي ينظر إلي هيبة له.
وعوتب الشافعي في زيارته أحمد، وهو تلميذ من تلاميذه، فقال:
قالوا يزورك أحمد وتزوره | قلت الفضائل لا تفارق منزله |
إن زارني فبفضله أو زرته | فلفضله فالفضل للحالين له |
اللهم إنا نسألك أن تفقهنا في ديننا، وأن تؤدبنا بأدب شريعتك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يا عليم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم ملك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، أشهد أن محمداً عبده رسوله، السراج المنير، البشير والنذير، وصاحب لواء الحمد، والحاشر الذي يحشر الناس على عقبه، والمقفى وصاحب الشفاعة والمقام المحمود، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه بما علمنا وأرشدنا، صلى الله عليه وعلى أصحابه الغر الميامين وخلفائه وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين.
الإجازة والأسفار
عباد الله: يعمد كثير من الناس إلى السفر في هذه الإجازات، فهلا نظروا في أي شيء يكون السفر، هل هو سفر طاعة أو سفر معصية؟ وقد يكون سفراً مباحاً، أو سفراً مستحباً أو مكروهاً، فليرتق الإنسان بسفره، فربما ينوي بالسفر التمشية والترويح والتسلية، فإذا نوى به إسعاد الأولاد، وإدخال السرور على الأهل كان السفر سفراً مستحباً، وكان له بذلك أجر يفوق تلك النية الوحيدة اليتيمة -التسلية وتغيير الجو ونحو ذلك-.
ثم إن بعضهم يسافرون سفر معصية إلى بلاد الكفار بغير حاجة، تأثراً بهم، وانبهاراً بهم، بل ربما عملوا الجولات السياحية التي تؤدي إلى زيارة كنائسهم، ودور عباداتهم، ويتأثر أطفالهم بمنكراتهم، وما يشاهدونه من أنواع التعري والتفسخ، وزيارة المتاحف التي تعرض شركهم، وباطلهم في كثير من الأحيان بخلاف تلك المعارض العلمية التقنية المفيدة التي تُطلع الناس على بعض أخبار من قد سبق اطلاعاً يقود إلى الاتعاظ والعبرة، وليس أماكن المعصية والاختلاط المحرم.
ومنهم من يقترض بالربا ليسافر فما أسوأ ما فعل، وهذه البطاقات، وأنواع المعاملات التي تزيد الناس إيقاعاً في الحرام، لكنهم يبيعون ما يحتاجون، ويقترضون بالحرام كي يسافرون لأجل أنهم ليسوا بأقل من عائلة فلان، أو لئلا يفوتهم الشيء الفلاني، وما هو؟ وما هو؟ لو كان خيراً، لو كان علماً، لو كان ديناً وعبادة، فلا يجوز أن يؤتى بالاقتراض الربوي، فكيف وهو يسافر بالمعصية إلى المعصية.
وربما رأى أولادهم أنواع الخمور والمراقص، وصالات والسينما، وغيرها مما يعرض فيه أنواع الخنا والفجور، ولذلك قال علماؤنا: السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط:
أولاً: أن يكون عند المسافر علم يدفع به الشبهات.
وثانياً: أن يكون عنده دين يمنعه الشهوات.
وثالثاً: أن يكون محتاجاً إلى ذلك.
وهذه الحاجة مثَّل لها بعض أهل العلم بالعلاج الذي يضطر إليه، ولا يجده في بلاد المسلمين، وتجارة تستدعي سفرة، وتعلم العلوم التي يحتاجها المسلمون، ولا توجد في بلادهم، أو القيام بالدعوة إلى الله ، أما إتيان بلدانهم لمجرد السياحة والنزهة والاستجمام -كما يقولون- فلا، وإن بعضاً من البلاد التي يوجد فيها المسلمون، أسوأ في فسادها من بعض بلاد الكفار مع الأسف، فالنظر إذن: إلى أين الذهاب؟ وأين سيمكث؟ فهذه فنادق يقدم فيها الخمر، وأخرى يعرض فيها ما حرم الله، وأنواع العري في الألبسة تمشي على الأرض.
نصائح للمسافر
فعلى المسافر أن يتملى إلى أين سيسافر؟ وإلى أين سيذهب في سفره؟ فليست القضية طفش يدفع إلى الهروب من الحر والروتين، والدوام الذي كان معتاداً من قبل دون تفكير: إلى أين سيكون؟ وماذا سيفعل في هذا السفر؟ فالمشاورة من الثقة في دينه وعلمه، والاستخارة قبل الذهاب، كان النبي ﷺ يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن.
وأن تكون له نية صالحة ثالثاً، ورابعاً: التوبة من المعاصي، وإخراج مظالم الخلق، وتسديد الديون، ورد الأمانات، وإعطاء أصحاب الحقوق حقوقهم، أما خادمة وسائق قد منعت رواتبهما، فيسافر بمدخرات خادمته، ورواتب سائقه!.
وخامساً: إرضاء الوالدين قبل الخروج، واستئذان من لا بد من استئذانه كاستئذان الزوجة زوجها، واستحب العلماء استئذان التلميذ لشيخه، وكذلك سادساً: أن تكون النفقة حلالاً خالصة حتى يقبل ذلك السفر في طاعة الله، واستحباب توديع المسافر سابعاً، فإذا خرج الإنسان في سفر فليودع إخوانه، فإن الله جاعل في دعائهم بركة، كما قال ابن عبد البر رحمه الله.
وقال قزعة: قال لي ابن عمر: هلم أودعك كما ودعني رسول الله ﷺ: أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك[رواه الترمذي (3443)].
وعن أبي هريرة: "أراد رجل سفراً فأتى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، أوصني، قال: أوصيك بتقوى الله ، والتكبير على كل شرف أي: كل مرتفع من الأرض، ثم قال -فلما ولى الرجل، قال ﷺ: اللهم ازو له الأرض، وهوَّن عليه السفر " [رواه أحمد (8111)].
وسابعاً: الاستكثار من الزاد الطيب والنفقة، وقد قال الله تعالى: وَتَزَوَّدُواْ، ثم نبه، فقال: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى سورة البقرة:197.
والأفضل أن يخرج باكراً لحديث صخر بن وداعة عن النبي ﷺ: اللهم بارك لأمتي في بكورها[رواه الترمذي (1212)]، وإذا تيسر صباح الخميس فإنه سنة كما ثبت في الحديث، وأما السفر يوم الجمعة، فلا يجوز السفر بعد النداء الثاني وهو أذان الخطبة، ويُكره أن يسافر وحده إلا إذا احتاج إلى ذلك، وأيضاً: فإن الإنسان يكون مع رفقة طيبة يختارهم: إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمروا أحدهم[رواه أبو داود (2608)]، الثلاثة ركب [رواه الترمذي (1674)] كما قال ﷺ.
وإذا غادر، وركب الدابة قال ذلك الدعاء المعروف: الحمد لله، بعد قوله: بسم الله، بسم الله ثلاثاً إذا وضع رجله في الركاب، وإذا استوى على ظهرها قال: الحمد لله، فإذا وضعت رجلك في أول سلم الطائرة، فقل: بسم الله، ثلاثاً، فإذا استويت على متن الطائرة في مقعدك، فقل: الحمد لله، ثم قل: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَسورة الزخرف:13 أي: مطيقين، إن نعمه سابغة لا نطيق شكرها، فلنقم بما أمكننا لأجل أن يكون لنا عذر عند ربنا: ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ سورة الزخرف:13-14.
والإنسان إذا طبَّق أذكار السفر، فإنه يعظ نفسه في الحقيقة، فأنت عندما تقول: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، فأي سفر إلى شر مستثنى، ومن العمل ما ترضى، إذن العمل الذي لا يرضاه الله في هذا السفر لا يجوز لك أن تقدم عليه.
ثم تدعو بالخُلف في الأهل والمال، وأن يحفظ الله عليك هاتين النعمتين، نعمتان عظيمتان: الأهل والمال، وتستعيذ بالله من سوء المنقلب فيهما، وتقول: اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل[رواه مسلم (1342)].
إن التهليل التحميد والتسبيح إذا نزل، والتكبير إذا ارتفع، إنها من أذكار السفر، والمرأة مع المحرم ولا بد، والمسافر إذا نزل منزلاً مع أصحابه يجتمعون، ولا يتفرقون، وكذلك فإنه يجوز له أن يجمع ويقصر طيلة سفره، فإذا نوى الإقامة في مكان أكثر من أربعة أيام فإنه يتم الصلاة كالمقيم عند جمهور العلماء، وإذا كان يمكث ثلاثاً هنا، واثنين هناك، وهكذا يتنقل فهو لا يزال يقصر، وإذا نزل مكاناً لا يدري كم يمكث فيه، لا يدري أقل من أربعة، أو أكثر من أربعة، فإنه لا يزال يقصر، والجمع في المكان الذي وصل إليه إذا كان لا زال مسافراً يقيم أربعة أيام فأقل جائز، والأفضل تركه، يعني الاقتصار على القصر وعدم الجمع، وإن جمع فلا بأس؛ لأنه لا زال مسافراً، والسنة الجمع والقصر أثناء التحرك في الطريق، وأيضاً فإن المسلم إذا كان يسافر من مطار خارج البلد جاز أن يقصر ويجمع فيه؛ لأن سفره قد بدأ منذ أن غادر بنيان بلده، والمطار مرحلة في الطريق، وأما إن كان المطار في حدود البلاد، لم يقصر ويجمع فيه؛ لأن الرخصة لا تفعل إلا إذا غادر بنيان البلد.
وأيضاً فإن الإنسان إذا جمع وقصر في الطريق، فوصل إلى بلده قبل صلاة العصر مثلاً، فإن ذمته قد برأت من صلاة العصر، وإذا كان في بلد فإن كان يسمع النداء صلى مع المسلمين في مساجد تلك البلد، وإن كان لا يسمع النداء صلى مع رفقته جماعة، وأيضاً فإذا صلى وراء الإمام المقيم فإنه يتم الصلاة، لو أدرك أي ركعة من ركعاتها يتم الصلاة خلف المقيم، هكذا مضت السنة، فإن جاء في التشهد الأخير فإنه قد فاتته الجماعة بفوات الركعة، ولذلك قال بعض العلماء إنه يقصر لو صلى خلف إمام البلد في التشهد الأخير؛ لأنه لم يدرك تلك الجماعة.
نسأل الله أن يسلمنا في حلنا وترحالنا، وأن يجعل ما آتانا عوناً لنا على طاعته، وأن يعيننا على أنفسنا، وأن يقينا شر الشيطان وشركه.
اللهم انصر المسلمين وأهله يا رب العالمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، من أراد ببلدنا هذا سوءاً وبلاد المسلمين فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.