الخميس 19 رمضان 1445 هـ :: 28 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

38- صلاة التطوع في البيت وما جاء في صوم رسول الله ﷺ


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد قال الإمام الترمذي -رحمه الله- في كتابه الشمائل المحمدية: "باب صلاة التطوُّع في البيت"

عن عبد الله بن سعد، قال: سألت رسول الله ﷺ عن الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد، قال:  قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، فلأن أُصليّ في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون مكتوبة  وهو حديث صحيح. [رواه الترمذي في الشمائل: 298، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 251].

وعبد الله بن سعد: الصحابي، الأنصار،ي الذي شهد القادسية؛ وكان على مقدمة جيش المسلمين، يقول في هذا الحديث أنه سأل النبي ﷺ عن الصلاة في البيت والصلاة في المسجد أيهما أفضل؟ فقال النبي ﷺ له:  قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد ، ومعلوم أن بيت النبي ﷺ كان ملاصقًا للمسجد، وكان ﷺ إذا خرج من بيته دخل المسجد تلقائيًا، وكذلك إذا خرج من المسجد دخل بيته مباشرة، فالباب واحد، بينهما باب واحد بين بيته ومسجده، ومع هذا القرب الشديد جدًا يقول للصحابي: فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد ، لأن الصلاة في البيت فيها فضل، وأجر، وبركة، ونور، وخير، لكن أي الصلاة؟ أي صلاة هذه المقصودة؟ النافلة، النافلة بلا شك ولا ريب، وأما الفريضة في المسجد قطعًا، ولذلك قال له في الحديث: إلا أن تكون صلاة مكتوبة  فإذا كانت صلاة مكتوبة في المسجد.

ولذلك فإنه ﷺ أخبر أن من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر   [رواه ابن ماجه: 792، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 6300]، ولم يرخّص للأعمى أن يصلي في بيته الفريضة، مع أنه لا يجد قائدًا دائمًا يواتيه للمسجد، وكانت الطريق فيها ما يخيف، وكذلك همّ أن يحرّق على المنافقين بيوتهم الذين لا يشهدون الصلاة معه، وأخبر ابن مسعود أنه لا يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النفاق.

فالصلاة في المسجد -صلاة الفريضة- هذه مفروغ منها، الكلام الآن على صلاة النافلة؛ لأن الله جاعل له من صلاته النافلة في بيته خيرًا، ولذلك قال له: إلا أن تكون صلاة مكتوبة [رواه الترمذي في الشمائل: 298، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 251]. أي: فريضة، فأحب صلاتها فيه، يعني: في المسجد؛ لأنها من شعائر الإسلام، صلاة الجماعة في المساجد من شعائر الإسلام، هوية البلد أن يوجد فيها مساجد يغشاها الناس للصلاة وينطلق منها الأذان، هذه هوية البلد، فإذا ترك الناس صلاة الجماعة، فماذا يبقى من هوية البلد الظاهرة؟ وكذلك النداء الأذان، فإذن، هذه شعائر الدين؛ الأذان، صلاة الجماعة، هذه من شعائر الدين الظاهرة التي يجب إحياؤها؛ لأنها دليل على إيمان وإسلام أهل البلد.

وقد روى مسلم من حديث جابر ، قال: قال رسول الله ﷺ:  إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجد فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته، فإن الله -عز وجل- جاعل في بيته من صلاته خيرًا .

قال النووي -رحمه الله-: "إنما حثّ على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وليتبرك البيت بذلك، فتنزل فيه الرحمة، وينفر منه الشيطان" [شرح النووي على مسلم: 6/68].

فإذن فائدة صلاة النافلة في البيوت: أنه أخفى وأبعد عن الرياء، ويطرد الشيطان من البيت، ومجلبة للملائكة وبركة وخير للبيت.

قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله- في شرحه لحديث: صلوا في بيوتكم  [رواه البخاري: 901، ومسلم: 777]: "أمر أن يصلى في البيت، فإن صلاة المرء في بيته أفضل إلا المكتوبة، فدلّ ذلك على أن الإنسان ينبغي له أن تكون جميع رواتبه في بيته"، حتى في مكة والمدينة، فالأفضل أن تكون الرواتب في البيت، وهي أفضل من كونها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي، فإذا قال أنا سأذهب للعمرة، سنّة الفجر أين أصليها؟ نقول: في البيت أفضل، قيام الليل، الوتر، أين أصلّيه؟ نقول: غير التراويح مع الجماعة في المسجد، فإنك تصلي في البيت، في قيام الليل في أي شهر آخر غير رمضان صلّه في البيت، حتى لو سافرت إلى مكة، فلو قال: أليس من الأفضل أن أذهب إلى الحرم وأنا في مكة قبل الفجر أصلي قيام الليل في الحرم؟ نقول: لا، الأفضل أن تصلي في البيت، إلا التراويح، قيام الليل والاجتماع عليها، حتى في مكة والمدينة، المسجد النبوي أصلاً الذي الصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، كان ﷺ يدخل بيته ويصلي ولا يصلي في مسجده، يدخل بيته ويصلي النافلة.

وعرفنا التأكيد على المغرب والعشاء، سنة المغرب وسنة العشاء في البيت، إلا إذا كان يخشى أن تضيع، يعني لو ذهب البيت وضاعت أو نسي أو لن يذهب إلى البيت الآن، أو عنده شغل، أو هو في مكتب، أو في عمل، في مدرسة، في شركة، في كلية، فهنا يصلي حيثما كان، يصلي في المسجد عندهم أعمال الناس الآن في كثير من الأحيان لا يكونون في البيت بعد المغرب ولا يكونوا في البيوت بعد الظهر يكونوا في المكاتب شركات محلات، فهنا يصلي الإنسان السّنة في المسجد، وأصلاً هو له صلّى في المسجد السنة لا حرج، لكن الأفضل الأكمل في البيت، يعني أنه يجب الاعتناء بالبيوت وأن لا تُحرم البيوت من الخير، لو كل الصلوات نصليها في المساجد النافلة والفريضة ... ماذا يبقى للبيوت؟ فينبغي أن لا تحرم البيوت من الفضل والذكر والخير.

قال الشيخ: "لأن النبي ﷺ قال هذا وهو في المدينة، والصلاة في مسجده خير من ألف صلاة إلا المسجد الحرام، وكثير من الناس الآن يفضّل أن يصلي النافلة في المسجد الحرام دون البيت، وهذا نوع من الجهل إلا الفرائض، فالفرائض لابد أن تكون في المساجد"، وأي: صلاة أخرى مشروعة في المساجد، فالأفضل تكون في المساجد مثلاً تحية المسجد، مثلاً صلاة الإشراق بعد أن ترتفع الشمس وهو ينتظر في المسجد بعد الفجر، مثلاً صلاة الجنازة، صلاة الكسوف، صلاة العيدين، ونحوها، يعني هذه العيدين والاستسقاء الأفضل تكون في صحراء أو في مكان خارج البلد، لكن يعني مثل الحرم يصلى فيه، حتى هذه الصلاة، الكسوف في المساجد، الكسوف والخسوف في المساجد، فهناك صلوات تستحب في المساجد وصلوات تستحب في البيوت.

قال الشيخ: "وهذا نوع من الجهل إلا الفرائض، فالفرائض لابد أن تكون في المساجد، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث: "فإنه جاعل في صلاته في بيته خيرًا"؛ يعني: أن البيت إذا صليت فيه جعل الله في صلاتك فيه خيرًا، ومن هذا الخير أن أهلك إذا رأوك تصلي اقتدوا بك وألفوا الصلاة وأحبوها، ولاسيما الصغار منهم، ومنها أن الصلاة في البيت أبعد عن الرياء، فإن الإنسان في المسجد يراه الناس، وربما يقع في قلبه شيء من هذا، أما في البيت فإنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء، ومنها أن الإنسان إذا صلّى في البيت وجد فيه الراحة، راحة قلبية وطمأنينة، وهذا لا شك أنه يزيد في الإيمان، فالرسول ﷺ أمرنا أن نصلي في بيوتنا إلا الفرائض، كذلك يستثنى من ذلك قيام رمضان فإن الأفضل في قيام رمضان أن يكون جماعة في المساجد، مع أنه سنة وليس بواجب، ولكن دلت السنة على أن قيام رمضان في المسجد أفضل، فإن رسول الله ﷺ صلى بأصحابه ثلاث ليال أو ليلتين، ثم تخلى، وقال:  إني خشيت أن تفرض عليكم .

باب ما جاء في صوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

 

ثم قال الترمذي -رحمه الله-: "باب ما جاء في صوم رسول الله ﷺ".

فانتقل -رحمه الله- إلى عبادة أخرى بعد الصلاة وهي الصيام.

وأول ما استفتح هذا الباب بحديث عبد الله بن شقيق، قال: سألت عائشة -رضي الله عنها- عن صيام رسول الله ﷺ، قالت: "كان يصوم حتى نقول قد صام، ويفطر حتى نقول قد أفطر، قالت: وما صام رسول الله ﷺ شهرًا كاملاً منذ قدم المدينة إلا رمضان" [رواه الترمذي: 768، وصححه الألباني في محتصر الشمائل: 252]، وهذا الحديث قد أخرجه مسلم بلفظ: "قال شقيق: سألت عائشة -رضي الله عنها- عن صوم النبي ﷺ"، ومعنى ذلك: أنه سألها هل كان يديم الصيام أو كان يقل منه، أو كان يكثر، فقالت: "كان يصوم حتى نقول قد صام" يعني: كان يصوم أحيانًا صيامًا متتابعًا في النفل حتى نظن أنه صام جميع الشهر، أو أنه مواصل الصيام يسرده، "ويفطر أحيانًا حتى نقول قد أفطر": فيفطر إفطارًا متواليًا حتى نقول أفطر الشهر كله، ما صام منه شيئًا، قالت: "وما صام رسول اللهﷺ شهرًا كاملاً منذ قدم المدينة"[رواه مسلم: 1156].

في هذا إثبات أن تتابع صيامه لم يكن في غير رمضان، يعني ما تابع الصيام في شهر كامل غير رمضان، قالت: "إلا رمضان فإنه صامه كاملاً"؛ لكونه فرضًا لازمًا.

وفي الحديث: الإيماء إلى أنه يُستحب أن لا يخلو شهر من صوم، ألا يخلو شهر من صوم، يعني صوم نافلة، وأن لا يكثر منه حتى لا يمل، بل على وجه التوسط والاقتصار.

وفيه: أن صوم النفل غير مختص بزمن معين، بل كل السنة صالحة له، إلا رمضان والعيد والتشريق وما أشبه ذلك.

قال: وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان النبي ﷺ يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر منه، ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم منه، وما صام شهرًا كاملاً منذ قدِم المدينة إلا رمضان"، والحديث أخرجه النسائي [رواه النسائي: 2347]، وقال الألباني صحيح. [رواه الترمذي في الشمائل: 283، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 254]، وهو بمعنى الحديث الذي قبله.

وعن أنس بن مالك أنه سُئل عن صوم النبي ﷺ فقال: "كان يصوم من الشهر حتى نرى أنه لا يريد أن يفطر منه، ويفطر منه حتى نرى أنه لا يريد أن يصوم منه شيئًا، وكنتَ لا تشاء أن تراه من الليل مصليًا إلا رأيته مصليًا، ولا نائمًا إلا رأيته نائمًا" [رواه الترمذي: 769، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 253].

توازن عجيب، هذا الحديث حديث حسن صحيح، وأخرجه الترمذي في جامعه أيضًا.

"كان النبي ﷺ يصوم من الشهر حتى نرى أنه لا يريد أن يفطر منه": شيئًا البتة، ويفطر متواليًا حتى نظن أنه لا يريد أن يصوم منه شيئًا، "وكنتَ لا تشاء أن تراه من الليل مصليًا إلا رأيته مصليًا، ولا نائمًا إلا رأيته نائمًا" يعني: أن صلاته ونومه كان يختلف بالليل، ولا يترتب وقتًا معينًا، بل بحسب ما تيسر له.

قال ابن حجر -رحمه الله-: "يعني أن حاله في التطوع بالصيام والقيام كان يختلف، فكان تارة يقوم من أول الليل، وتارة في وسطه، وتارة من آخره، كما كان يصوم تارة من أول الشهر، وتارة من وسطه، وتارة من آخره، فكان من أراد أن يراه في وقت من الليل قائمًا سيراه قائمًا، ومن أراد أن يراه في وقت من الشهر صائمًا فسيراه صائمًا، ومن أراد أن يراه في وقت من الليل نائمًا فسيراه نائمًا، ومن أراد أن يراه في وقت من الشهر مفطرًا فسيراه مفطرًا" [فتح الباري لابن حجر: 4/216].

فإذن، ما كان يسرد الصوم كله ولا القيام في الليل كله، وهذا لا ينافي أنه ﷺ الغالب أن له ترتيب معين في القيام -كما تقدم- أنه كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سُدُسه، فهذه العادة الغالبة، لكن هل حصل أنه قام من أول الليل؟ نعم، هل حصل أنه قام من وسط الليل؟ نعم، هل حصل أنه قام في آخر الليل؟ نعم، حصل، فكان له عادات، وكان له أيضًا حالات مختلفة، كان له عادات، لكن ما كانت مضطردة جدًا لا تنخرم، فكان يغير أحيانًا، وهذا من أسبابه: أن أحوال الإنسان تختلف، فقد يقلق ليلة، قد يتعب ليلة، قد يأتيه وفد، قد يكون مسافرًا، قد يكون مشغولاً بشيء، قد يكون مريضًا مشغولاً بتمريض أهله، يعني هنالك عنده ضيف في البيت، يعني ليست المسألة يعني أن البرنامج كان دقيقًا جدًا لا ينخرم، لا، لكن هناك عادة غالبة، وهناك أحوال مختلفة بحسب ما يطرأ عليه من الأوضاع وما يعرض له.

قال: وعن عائشة قالت: "لم أر رسول الله ﷺ يصوم في شهر أكثر من صيامه لله في شعبان، كان يصوم شعبان إلا قليلاً، بل كان يصومه كله"، وأخرجه النسائي أيضًا، وهو حديث صحيح.

وعن عائشة قالت: "ما كان رسول الله ﷺ يصوم في شهر أكثر من صيامه في شعبان"، حديث صحيح، وعن أم سلمة قالت: "ما كان رسول الله ﷺ يصوم في شهر أكثر من صيامه في شعبان" حديث صحيح. [رواه الترمذي في الشمائل: 290، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 290]

وعن أم سلمة قالت: "ما رأيت النبي ﷺ يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان" حديث حسن، رواه الترمذي وحسنه، وقال الألباني صحيح. [رواه الترمذي: 736، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 736]. 

فهذا الحديث ظاهره أنه صام شعبان كله، ولكنه يعارض حديث: "ما صام شهرًا كاملاً قط إلا رمضان"، فيمكن أن نقول أنه صام أكثر شعبان، فحديث مسلم: "كان يصوم شعبان كله، كان يصومه إلا قليلاً"، هذه العبارة هكذا، "كان يصوم شعبان كله، كان يصومه إلا قليلاً"، فتكون العبارة الثانية تفسير للعبارة الأولى، "كان يصوم إلا قليلاً"، تفسير لعبارة: "كان يصوم شعبان كله"، الثاني تفسير للأول، والمعنى أنه يصوم غالبه، فينبغي الإكثار من الصيام في شهر شعبان؛ لأن النبي ﷺ كان يفعل ذلك.

هو ﷺ في آخر حياته أخبر أن أفضل شهر يصام بعد رمضان شهر الله المحرم، لكن هو ما تمكن من العمل بهذا، أوحي إليه به في آخر حياته، وعلى أية حال محرم وشعبان شهران عظيمان لصيام النافلة، كلاهما فيه أحاديث في تفضيل الصيام فيه؛ محرم وشعبان، بعد رمضان مباشرة في الفضل محرم وشعبان، كان ﷺ يكثر من الصيام في شعبان تعظيمًا لرمضان، استعدادًا لرمضان، كالسنة القبلية للفريضة، أو كان تجتمع عليه نوافل تفوته، ثلاث أيام من كل شهر، اثنين وخميس بسبب سفر بسبب مرض بسبب وفد، ناس أشغلوه، فتجتمع عليه أيام نوافل وكان إذا تعود عادة في العبادة أثبتها، فإذا ما استطاع جمعها وقضاها، فقيل: إنه كان يجمع ما فاته من النفل طيلة العام فيقضيه في شعبان، فلذلك كثر صيامه فيه.

والأولى من هذه الاحتمالات ما جاء في الحديث الذي أخرجه النسائي وأبو داود وصححه الألباني، عن أسامة بن زيد قال: "قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم  [رواه أحمد: 21753، والنسائي: 2357، وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي: 2357].  

إذن، أقوى سبب أن لشعبان ميزة: ترفع الأعمال إلى الله في هذا الشهر، هي ترفع في غيره من الشهور، لكن رفعها في شعبان آكد، ولا تعارض بين هذا وبين الأحاديث التي جاءت بالنهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، أو أحاديث النهي عن الصيام في النصف الثاني من شعبان؛ لأن النهي يحمل على من لم تكن له عادة للصوم في شعبان، فيأتي لآخر يومين لما يقترب وقت الفريضة يريد أن يصوم، ويصل رمضان بما ليس منه، فيكون كالزيادة في العبادة، لا، ولذلك فإن النهي محمول على من لم تكن له عادة، أما من كان له عادة بالصيام في شعبان من أول شعبان يصوم كان يصوم، أو كان يصوم اثنين وخميس دائمًا حتى لو صار آخر يوم من شعبان اثنين صام، آخر يوم من شعبان الخميس صام، النصف الثاني من شعبان صام؛ لأن عادته مستمرة.

وعن عبد الله قال: "كان رسول الله ﷺ يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام، وقلّ ما كان يفطر يوم الجمعة"، أخرجه الترمذي في جامعه، وحسّنه الألباني.

عبد الله: هو ابن مسعود راوي الحديث ، يقول: "كان رسول الله ﷺ يصوم من غُرّة كل شهر ثلاثة أيام" [رواه الترمذي: 742، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4972].

الغُرّة: أول الشهر، قال العراقي: "يُحتمل أنه يريد بغرته أوله، وأن يريد الأيام الغُر؛ أي: البيض".

إذن، هناك احتمالان: غُرّة الشيء أوله مقدمته، مثل غُرّة الإنسان جبينه مقدمته، ويُحتمل أن يقصد بالغرة البيض؛ لأن الغرة بيضاء، "يبعثون غرًا محجلين" يعني: بيض منورين في أماكن الوضوء.

فقوله: "يصوم من غرة كل شهر": يُحتمل أن يكون المقصود بالأيام هذه الغرة الأيام البيض، فما هي الأيام البيض؟ وسط الشهر، الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، قال: "ولا منافاة بين هذا الخبر وخبر عائشة أنه لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم؛ لأن هذا الراوي حدّث بغالب ما اطلع عليه من أحواله فحدّث بما عرف، وعائشة اطلعت على ما لم يطلّع عليه" [فيض القدير: 5/226].

قال: "وقلّ ما كان يفطر يوم الجمعة"، كيف نجمع بين هذا وبين أنه نهى عن صيام الجمعة، وكره ذلك؟

فنقول: كيف نجمع؟ ابن مسعود يقول: "قلّ ما كان يفطر يوم الجمعة"، قلّ ما يفطر يعني كان يصوم، وهناك أحاديث في النهي عن صوم الجمعة، فكيف نجمع بينهما؟ يعني: يصوم الجمعة منضمًا إلى غيره، مثل ما قال الإخوان، فلا يفرده بالصوم، فيصوم معه الخميس مثلاً، أو ما بعده يعني السبت، فيكون النهي عن إفراد الجمعة بالصوم، وأورد القاضي احتمالاً أن يكون المراد بأنه لا يتغدى إلا بعد الجمعة، فكان قبل الجمعة لا يأكل شيئًا.

 وفي الحديث: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ سواء من أوله أو من وسطه أو من آخره، أو يومًا من العشر الأُول، ويومًا من الأواسط، ويومًا من آخره، لما أخرجه مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله ﷺ يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ما يبالي من أي الشهر صام"، من أوله من وسطه من آخره، يوم في الأول يوم في الوسط يوم في الآخر، ولكن الأفضل والأكمل أن تكون من وسطه، وهي الأيام البيض، الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، ولذلك بوّب البخاري -رحمه الله-، باب: "صيام البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" [صحيح البخاري: 3/41]، وتترجح البيض بكونها وسط الشهر، ووسط الشهر أعدله، والأمر في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فللإنسان أن يصومها في أوله، أو في وسطه، أو في آخره، أو شهر يصوم الثلاثة في أوله، الشهر الذي بعده يصومها في وسطه، الشهر الذي بعده يصومها في آخره، يصوم يوم من أول الشهر ويوم في وسطه ويوم في آخره، الثلاث البيض في وسطه كلها، كل ذلك لا حرج فيه ولا بأس، وذلك ليجمع بين الآثار الواردة.

متى لا يصوم الإنسان أيام البيض؟

أيام التشريق، أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله [رواه مسلم: 1141]. ولذلك ما يصوم الإنسان أيام التشريق، لا يجوز، لا يجوز أن تصام في النفل، أيام التشريق هي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، كانوا يشرقون اللحم فيها بعد ذبحه في اليوم العاشر، أيام التشريق لا يصمن إلا لمن لم يجد الهدي، فماذا يبقى من أيام البيض؟ الرابع عشر، والخامس عشر، لو ضم إليها السادس عشر، أو أي يوم من الشهر بعد ذلك فلا حرج، وقد يصوم من أوله، يصوم في أول العشر يومًا، ثم يصوم الرابع عشر والخامس عشر، المسألة في هذا واسعة، إنما فقط التنبيه أنه في شهر ذي الحجة لا يصوم الثالث عشر، مع أنه من أيام البيض؛ لأنه من أيام التشريق، وهي:  أيام أكل وشرب وذكر لله .

لماذا نُهينا عن صيام الجمعة؟ وقد سأل جابرًا محمد بن عباد بن جعفر: "أنهى النبي ﷺ عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم" [رواه البخاري: 1984].

وللبخاري: "نهى أن يفرد بالصوم"، وذلك لما يتميز به يوم الجمعة من العبادات الكثيرة الفاضلة وهو يوم عيد بالنسبة للمسلمين عيد الأسبوع وهو يوم عبادة وذكر وغسل وتبكير، فيُسن فطره استعانة على التبكير للجمعة وعلى حضور الجمعة وخطبة الجمعة، وقد تكون في حر شديد، فلذلك لا يصام يوم الجمعة؛ لأنه يحمل معنى العيد، والعيد أصلاً ما يصام، يوم العيد ما يصام، والجمعة فيه معنى العيد، اجتماع عظيم، وعبادة جليلة، وإذا وافق الجمعة يومًا مستحبًا صومه كعرفة وعاشوراء، فلا بأس أن يُصام؛ لأنك لو سألت هذا الصائم، ماذا تقصد بصيامك؟ ما يقول أنا قصدتُ الجمعة، يقول أنا أقصد عاشوراء، أنا أقصد عرفة، فلا حرج في ذلك، وكذا إذا وافق عادة له، بمعنى واحد يصوم يومًا ويفطر يومًا، فوافق اليوم الذي يفطر فيه الخميس فالجمعة صيام والسبت إفطار والأحد صيام وهكذا، فهو يصوم يومًا ويفطر يومًا، فوافق يوم الصيام جمعة، فهو لم يقصد الجمعة، وإنما جاء اتفاقًا في عادته المعتادة من الصيام، فلا حرج عليه في صيام الجمعة منفردًا حينئذ، وكذلك لو وافق الجمعة عاشوراء لا حرج، ولو وافق عرفة فلا حرج، وقد قال ﷺ: لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده  [رواه البخاري: 1985، ومسلم: 1144].

ونختم درس اليوم بهذه الطرفة:

حدثني الشيخ عبد الله بن عقيل وقد جاوز التسعين الآن، ولا يكاد يوجد في طبقته من العلماء أحد، في هذا الوقت من علماء هذه البلاد؛ أنه كان في مجلس الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-، وكان في المجلس قهوجي وحارس فراش، خادم المكتب، يقول: كنا الأربعة في المكتب فجاءوا بمسألة أنه إذا تعارض الصيام مع الحج هل يقدّم الصيام أو يقدّم الحج؟ يقول: فسكت الشيخ ابن إبراهيم لم يتكلم، وخاضا هما في المسألة، فقال واحد إذا تعارض الصيام مع الحج يُقدّم الحج، الثاني قال: بل يقدم الحج، فقال الأول: أنا عندي دليل، قال الثاني: وأنا عندي دليل، قال ما دليلك؟ فقال للذي يقدم الصيام، يقول إذا صيام رمضان يتعارض مع الحج يقدم الصيام قال الدليل حديث النبي ﷺ: بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة ... وصوم رمضان وحج البيت  [رواه البخاري: 8، ومسلم: 16].

يقول: فقدّم الصوم على الحج في الحديث، يعني إذا تعارض الصيام أول، ولو فات الحج.

قال الثاني: أبدًا الحج يُقدّم على الصيام، قال له: ما دليلك؟ قال: الحج سبعة أيام، الصيام شهر، يعني نحج إذا تعارضوا الحج قبل الصيام يكمل باقي الشهر، والصيام له قضاء والحج ما له قضاء، هذه انتاج عظيم!.

سبحان الله العظيم، يقول الصيام له قضاء فاتك الصيام تقضي لكن إذا عرف فات ومن أين نجيب يوم عرفة، يقول: والشيخ ساكت ما يتكلم، يقول وبعد سنين في نفس المجلس نفس الأشخاص وأوردوا نفس المسألة وأجاب بنفس الإجابة والشيخ ساكت.

لماذا سكت الشيخ رحمه الله؟ لأن هذه المسألة ما ينبني عليها عمل، متى تحصل أصلاً، متى يلزم العالم أن يبين؟ إذا صار في حاجة للمسألة، من متى يتعارض الصيام مع الحج، متى يأتي رمضان في ذي الحجة حتى يتعارضا، هذا الذي يتكلم عن فضائل الأيام قال يتكلم عن فضل ليلة القدر ويتكلم على فضل عرفة ويتكلم على فضل أيام عشر ذي الحجة ويتكلم على فضل ليلة القدر، قام واحد في المجلس قال سأله قال طيب يا شيخ ولو وافق ليلة القدر في عرفة، قال: هذا يصير نور على نور!

عامة الناس عندهم عجائب لا يُستغرب، الجهل يصنع أشياء عظيمة، والحمد لله رب العالمين.