الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
الأصل في البيوع الحل
فقد قال الله في كتابه العزيز: وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا سورة البقرة275، وهذه قاعدة عظيمة ينبغي على المسلم أن يفقهها ضمن ما ينبغي عليه أن يفقهه من أحكام المعاملات، فإن الدين عبادات ومعاملات، معاملة بين العبد والرب، ومعاملة بين العبد والعبيد الآخرين، ولذلك فإن المسلم مطالب بأن يتعلم أحكام المعاملات التي يجريها مع بني آدم، وهي كثيرة متعددة، وشريعة الإسلام شريعة شاملة تضبط العلاقات وتبين الأحكام، ولا تترك شاردة ولا واردة ولا صغيراً ولا كبيراً؛ لأنها تنزيل من الحكيم العليم الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو الذي أحاط بما يحدث بين العباد من المعاملات في الأزمان المتقدمة والمتأخرة، وهو العليم سبحانه بما سيحدث وما يستجد من أنواع البيوع وغيرها بين العباد في الأرض، ولما أنزل هذه الشريعة المحمدية إلى آخر الزمان حتى يحكم بها عيسى عندما ينزل فإن معنى ذلك أن هذه الشريعة موجود فيها سائر الأحكام المتعلقة بكل ما يستجد من المعاملات بين العباد إلى قيام الساعة.
بيع التقسيط وحكمه
ومما انتشر في الزمان المتأخر بيوع التقسيط حتى كثر فيه الكلام جداً، وشاع وانتشر ولا يكاد شخص يخلو منه حتى أن هذا الوقوع الكثير فيه يستوجب بيان أحكامه، ومن هنا نشرع في بيان هذه المسألة المهمة لكثرة الأسئلة فيها، وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَسورة البقرة275، هذا هو الأصل في البيع، إذن هو حلال بجميع أنواعه ما لم يرد دليل في الشريعة على تحريم شيء منه، وبيع التقسيط الذي يتعامل فيه الناس، بيع يعجل فيه المبيع وهو السلعة، ويتأجل فيه الثمن كله أو بعضه على أقساط معلومة لآجال معلومة، ونظراً لانتشار بيع التقسيط لا بد أن يفقه المسلم أحكام هذا النوع من المعاملات.
أما عن حكمه: فقد ورد النص بجواز بيع النسيئة، وهو البيع مع تأجيل الثمن، فروى البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي ﷺ اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل.[رواه البخاري2068]إذن التأخير في تسليم الثمن، ثمن السلعة، شراء السلعة إلى أجل قد ورد في النص الصحيح، اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعاً من حديد.
وهذا الحديث يدل على جواز البيع مع تأجيل الثمن، وبيع التقسيط ما هو إلا بيع مؤجل الثمن غاية ما فيه أن ثمنه مقسط أقساطاً لكل قسط منها أجل معلوم، وقد روى البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها أيضاً ما يدل على جواز أن يكون الثمن أقساطاً مؤجلة لكل قسط منها أجل معلوم، فقالت رضي الله عنها: جاءتني بريرة وكانت أمة، يملكها أهلها، فقالت: كاتبت أهلي، والمكاتبة: أن يتفق العبد مع سيده على أن يحرر نفسه منه مقابل أقساط أو مبلغ يدفعه إليه، فإذا انتهى من دفع المبلغ صار العبد حراً، قالت عائشة: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية. [رواه البخاري2729]اتفقت مع ملاكها الذين يملكونها على أن تشتري نفسها منهم بتسع أواق في كل عام أوقية، فهذا بيع تقسيط، فإذن يدل الحديث على جواز تأجيل الثمن على أقساط.
حكم الزيادة في الثمن لأجل المدة؟
المسألة الثانية: ما حكم الزيادة في الثمن لأجل المدة؟
فإن الأحاديث المتقدمة ليس فيها زيادة الثمن بالبيع المؤجل على الثمن بالبيع الحال النقدي، ليس فيها ما يشير إلى أن البيع حالاً نقداً أقل من ثمن البيع المؤجل، ولذلك حصل خلاف بين أهل العلم هل يجوز أن يكون البيع المؤجل بثمن أكثر من ثمن البيع النقدي الحال؟ بعد اتفاقهم على جواز البيع بثمن مؤجل، لكنهم اختلفوا هل يجوز أن يكون المؤجل أكثر من النقدي، فقالت قلة من العلماء بتحريمه، وقالوا: إن معنى الربا موجود فيه، زيادة في الثمن مقابل الزيادة، زيادة في المال لأجل الزيادة في المدة، وذهب جماهير أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة إلى جواز أن يكون ثمن المؤجل أعلى وأكثر وأزيد من الثمن النقدي، واحتجوا لذلك بأدلة منها:
أنهم قالوا: إن هذا بيع وليس قرضاً، يقول: أقرضك مائة وتردها بعد سنة بمائة وعشرين، لو كان قرضاً لكان رباً واضحاً؛ لأن الزيادة في المال المؤجل مقابل المدة، لكننا نتحدث عن البيع، عن سلعة وثمن، وليس عن مال بمال في قرض، وإنما نتحدث عن بيع، مجال الكلام في البيع وليس في الإقراض، ليس في الربا، ولذلك قالوا: إن قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَسورة البقرة275 أي: بجميع صوره حتى لو كان الثمن فيه مؤجلاً، حتى لو كان الثمن فيه زائداً على ثمن النقد المعجل.
وقالوا: إن قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ سورة النساء29، أن عموم الآية يدل على جواز البيع إذا حصل التراضي، ولو كان الثمن المؤجل أكثر من ثمن النقد، واستدلوا أيضاً بما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم النبي ﷺ المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"[رواه البخاري2240].
بيع السلم
وبيع السلم جائز بالنص والإجماع، ما هو بيع السلم؟ إنه استثناء من قاعدة البيع، قاعدة البيع: "لا بد أن تكون السلعة موجودة" ثم يجوز أن تبيعها نقداً أو تبيعها بثمن مؤجل، لكن لا بد أن يكون المبيع وهو السلعة موجود وليس معدوماً نظراً لحاجة العباد استثنى الله نوعاً من هذا وهو بيع السلم تكون فيه السلعة غير موجودة، يجوز على سلعة غير موجودة، ونظراً لأن هذا خطير فإن الشارع احتاط له بأن يكون الثمن موجوداً.
إذن الحالات أربع: سلعة موجودة بثمن موجود يداً بيد، وهذه واضحة، ثانياً: سلعة موجودة بثمن غير موجود لكنه سيقبض فيما بعد وهذا صحيح كما عرفنا. ثالثاً: سلعة غير موجودة بثمن مقبوض الآن في مجل العقد، أشتري منك سلعة يا أيها البائع، قال: ليست عندي، قال: نحدد مواصفاتها ومدة تسليمها وأسلمك الثمن كاملاً الآن في مجلس العقد، ثم تأتي بها في المدة المحددة، هذا بيع السلم، من المتوقع أن يكون فيه الثمن أقل من الأحوال العادية عندما تكون السلعة موجودة، فإن الشخص المشتري الذي يعطي الثمن كاملاً في مجلس العقد، والسلعة غير موجودة؛ لأجل أن يأتي بها البائع بعد ذلك في الغالب أنه سيسلم ثمناً أقل مما لو كانت السلعة موجودة حاضرة؛ لأجل أن يستفيد البائع من الثمن المعجل، ويستفيد المشتري من سلعة ثمنها أقل من الأحوال العادية عندما تكون موجودة.
بيع السلم هذا أباحه الشارع بشروط، ومنها: أن لا يكون في الذهب والفضة، إذن لا يجوز شراء الذهب بالسلم، ولا شراء الفضة بالسلم، ولا شراء ما يقوم مقام الذهب والفضة من الأوراق النقدية كالدولارات بالسلم، هذا لا يجوز، لكن شراء سيارة بالسلم جائز، شراء محاصيل زراعية بالسلم جائز، المحصول غير موجود، فهو يقول للمزارع: أشتري منك كذا صاعاً من التمر وهذا الثمن مقدماً خذه واستلمه كاملاً وتأتي لي بالتمر الفلاني النوع الفلاني في الوقت الفلاني تسلمه لي.
قال الفقهاء: هذا بيع السلم الذي فيه تقديم ثمن أقل من العادة، مقابل سلعة ستأتي فيما بعد من أدلتنا على جواز أن يكون بيع السلعة مؤجلاً بثمن أعلى من النقد؛ لأنها تشابه في الصورة بيع السلم، فقالوا: هذا من أدلتنا أنه يجوز أن يشتري الإنسان سلعة بثمن مؤجل أعلى من الثمن النقدي المعجل.
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله في حكم الزيادة في الثمن مقابل الأجل في البيع إن هذه المعاملة لا بأس بها؛ لأن بيع النقد غير التأجيل، ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة وهو كالإجماع منهم على جوازها، وقد شذ بعض أهل العلم فمنع الزيادة لأجل الأجل، وظن ذلك من الربا وهو قول لا وجه له، وليس من الربا في شيء؛ لأن التاجر حين باع السلعة إلى أجل إنما وافق على التأجيل من أجل انتفاعه بالزيادة والمشتري إنما رضي بالزيادة من أجل المهلة وعجزه عن تسليم الثمن نقداً، فكلاهما منتفع بهذه المعاملة، وقد ثبت عن النبي ﷺ ما يدل على جواز ذلك، وذلك أنه ﷺ أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يجهز جيشاً، فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل، ثم هذه المعاملة تدخل في عموم قول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُسورة البقرة282، وهذه المعاملة من المداينات الجائزة الداخلة في الآية المذكورة وهي من جنس معاملة بيع السلم.
إذن ما حكم أن يشتري أرضاً بأرضين، يقول: خذ هذه الأرض وأعطني أرضين، ما حكم أن يقول: خذ هذه السيارة، وأعطني بدلاً منها سيارتين، هذا جائز؛ لأن الأصناف هذه الجنس غير ربوي، هو لا يقول: خذ ريالاً بريالين، وإنما سيارة بسيارتين، وأرض بأرضين، وساعة بساعتين، هذا جائز؛ لأن الشريعة لم تحرم هذه المعاملة في الأصناف غير الربوية، وإنما حرمتها فيما يجري الربا فيه، مثل الذهب والفضة، فلا يجوز غرام بغرامين، ولا أوقية بأوقيتين، كما أنها منعت هذا في الأطعمة المدخرة والمكيلة، فلا يجوز صاع تمر بصاعين، ولا صاع بر بصاعين، ولا كيلو ملح بكيلوين، وهكذا.
أما أرض بأرضين وسيارة بسيارتين فهي جائزة، فنقول بعد ذلك: ما حكم أن يكون تسليم السيارتين والأرضين بعد مدة من تسليم السلعة الأولى وهي السيارة والأرض الأولى؟
الجواب: جائز، ادفع أرضاً، سلم الأرض أو سلم السيارة الآن، وخذ مقابلها سيارتين بعد سنة، جائز، وكذلك أن تشتري سيارة بثمن مؤجل، يحل فيما بعد زائد على سعر النقد، في هذا فائدة لكل من البائع والمشتري، فالبائع يزيد من مبيعاته، ويعدد من أساليبه التسويقية، فعنده بيع نقدي وبيع مؤجل، وهو يستفيد أيضاً من هذه الزيادة في الثمن عندما يوسع على الناس، والمشتري يحصل على السلعة وينتفع بها بدلاً من أن يدخر حتى يكون عنده المال الذي يشتري به نقداً، فوائد بيع التقسيط أو البيع الآجل معروفة كما أن له أضراراً سنتعرض لها إن شاء الله.
بعض الأحكام المتعلقة ببيع التقسيط
وبيع التقسيط قد يكون مستحباً في حق البائع إذا قصد به الإرفاق بالمشتري، ولا يزيد عليه في الثمن لأجل الأجل إذا كان فقيراً محتاجاً، فهو يراعي الناس، إذا جاءه رجل فقير ربما باعه السلعة إلى أجل بنفس سعر النقد المعجل مراعاة لحاله، فهذا بيع التقسيط في حقه مستحب وهو مأجور عليه، ولا يضيق عليه في السداد، أما إذا قصد الربح فقط فإنه مباح، قال: لا بد إذا أردت أن أبيعها عليك إلى سنة أو سنتين أو ثلاث أن أبيعها بكذا بأزيد من النقد، فهذا لا يأثم لكنه لا يؤجر مثل الأول، وكل هذا أيها الإخوة بيع الأجل مشترط فيه أن تكون السلعة موجودة عند البائع، فلو كانت السلعة غير موجودة عند البائع فلا يجوز بيع الأجل، لماذا؟ لأننا قلنا سابقاً: إن الحالات أربع، السلعة موجودة، والثمن موجود، يداً بيد، معروفة، السلعة غير موجودة والثمن كاملاً مقدم، هذا بيع السلم، والحالة الثالثة: السلعة موجودة والثمن فيما بعد، هذا بيع الآجل معروف، أما أنت تكون السلعة غير موجودة والثمن غير موجود فهذا بيع باطل، وكذلك أن تكون السلعة غير موجودة وبعض الثمن موجود، هذا لا ينطبق عليه شروط بيع السلم فهو بيع باطل، إذن عندما نتكلم عن شراء بالأجل وبيع بالأجل، فلا بد أن تكون السلعة موجودة في عهدة من؟ في قبضة من؟ لا بد أن تكون السلعة موجودة عند البائع، فلو قال لك البنك أبيعك سيارة بالأقساط فلا بد أن تكون السيارة موجودة عند البنك، مفاتيحها بيد موظف البنك، استمارتها باسم البنك، أوراقها باسم البنك، موجودة عنده، أمام مكانه في مستودعه، في معرض تابع للبنك، لا بد عندما يبيع البنك السلعة بالأقساط مستغلاً السيولة التي يودعها الناس عنده ليبيع ويربح لا بد أن تكون السلعة موجودة عنده وهذه لب المشكلة القائمة الآن، أن المصارف تبيع سيارات وسلعاً ليست عندها، تدعي أنها تملكها، لكن أين هي؟ يقولون في الوكالة والمعرض، وعند التاجر الفلاني، وفي المصنع الفلاني في الخارج، وكذا وكذا، هذا البيع لا يجوز؛ لأن النص واضح "نهى عن بيع ما لم يقبض"[رواه الطبراني في الأوسط1554]، "نهى أن تباع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم"[رواه أبو داود3499]، هذان النصان وغيرهما من النصوص الدالة على وجوب القبض قبل البيع، احفظوا، وجوب القبض قبل البيع، لا بد أن يكون مقبوضاً موجوداً عند البائع، ليس في وكالة ولا معرض ولا عند تجار آخرين، ولا عند شركات أخرى، يبيعك لا بد أن تكون السلعة عنده، هو الذي يسلمك إياها، تستلمها من يد موظفه، فإذا باعك المصرف شيئاً لا بد أن يكون الشيء عند المصرف، وكثير من المصارف لا تلتزم بهذا أصلاً، لماذا؟ لأنهم لا يريدون وجع الرأس بزعمهم، ولا يريدون زيادة النفقات عليهم؛ لأن معنى أن تكون السيارات عندهم أنهم يجعلون معرضاً للسيارات أو مستودعات للأثاث أو غير ذلك من مواد البناء ونحوها مما يباع بالتقسيط، أن يجعلوا مستودعات ومعارض وصالات ونحو ذلك لأجل حفظ هذه الأشياء التي يبيعونها بالتقسيط، وهذا شيء يكلفهم زيادة فلا يفعلونه، ويبيعون الأشياء على الناس، وهي عند التجار الأولين ملاكها الأصليين من الوكالات والمعارض وغيرها هذا بيع غير جائز، ولو قالوا لك: عندنا لجنة شرعية، وعندنا كلام فارغ، فنقول: اضربوا بلجانكم عرض الحائط؛ لأنها خالفت النصوص الشرعية، حديث صحيح عن النبي ﷺ"نهى عن بيع ما لم يقبض"، قبضتموه؟ قبضتموه؟ أجيبونا: قبضتموه أم لا؟ فإن قالوا: لم نقبضه، هو لا زال عند التاجر الأول وعند المعرض الفلاني، وعند الوكالة الفلانية، نقول: بيعكم غير صحيح، ولا يجوز، هلا قبضتموه أولاً؟ اقبضوه ثم اعقدوا معنا العقد عليه أرونا إياه، دعونا نعاينه، إذن لا بد أن يكون عندهم عند البيع، فلا يجوز إجراء عقد بيع تقسيط على سلعة مع شخص أو مصرف أو شركة تقسيط إلا إذا كانت السلعة عندهم في حوزتهم في صالاتهم في مستودعاتهم، في معارض تتبعهم، استأجروها أو بنوها، هذا يعود إليهم، لكنها تتبعهم، هي لهم، فيها البضائع المعدة للبيع بالتقسيط، وهذه المعركة، هذا ميدان المعركة، بين المتبعين للأدلة المتمسكين بالشريعة، وبين المتفلتين المتساهلين المتهاونين المضيعين المفرطين الذين يريدون بيع البضائع بالتقسيط وهم لم يحوزوها ولم يقبضوها، ولم يستلموها، لم يأتوا بها إليهم، إذن هذه هي المعركة، هذا هو لب الموضوع، وليس الاعتراض إذن على قضية أنت تكون الزيادة في الثمن لأجل الزيادة في المدة، فقد تبين من الأدلة أن الراجح الجواز، وهذا قول الأئمة الأربعة، لكن المعركة هي قضية جلب البضائع إليهم وحيازتها إليهم، وقبضها قبل أن يبيعوها على الناس ببيع التقسيط المؤجل، هذه القضية إذن أيها الإخوة، وإذا طالب الناس هذه المصارف بتطبيق الشريعة، وقالوا: حوزوها اقبضوها اجعلوا لكم صالات، اجعلوا لكم مستودعات، استأجروا صالات، ادفعوا قليلاً لكي تحصلوا على بيوع جائزة عند ذلك قد يضطرون إلى تلبية رغبات الناس، فهذا يجب على الناس إذن أن ينصحوا هؤلاء وأن يبينوا لهم حكم الشريعة، ويقولوا لهم: إن النبي ﷺ نهى عن بيع ما لم يقبض فهلا قبضتموه قبل البيع؟ إن النبي ﷺ نهى أن تباع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم فهل حزتموها قبل أن تبيعوها علينا بالأقساط؟ يحاجون بهذه النصوص، فهؤلاء الذين يفتون بجواز البيع دون القبض بغير القبض يصادمون النصوص الشرعية متساهلون مهما قلت عنهم متساهلون، معارضون للنصوص والحق أحب إلينا من الرجال، وكثير من الناس يقول لك: قال الشيخ الفلاني، وعندهم لجنة شرعية، يا أخي عندك نص نبوي أين تذهب به؟ وهل سينفعك يوم القيامة عندما يقول الله لك: كيف تشتري سلعة من شخص لم يقبضها وليست عنده ولا بحوزته، هل ستقول له: لجنة شرعية، والشيخ الفلاني، وهو الذي أرسل إليك نبياً يقول لك وينهى عن بيع السلع قبل قبضها، إذن لنكن صرحاء، ولتكن مواقفنا على الشريعة، نحن مسلمون، وهذا الذي يفتي قد يكون عنده شبهة، قد يكون عنده رأي، لكنه إذا خالف النص تعمل بالنص أو برأي فلان وفلان؟ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِسورة الأنفال24،أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُسورة الأنفال20، ولم يقل: اتبعوا فلاناً وقلدوا فلاناً وفلاناً ولو خالف النص وخالف الآية والحديث، فلا للتساهلات، ويجب اتباع الأدلة.
أيها الإخوة: إن بيع التقسيط مع جوازه لا ينبغي التوسع فيه دون الحاجة إليه؛ لأن بيع التقسيط بيع بالدين، ولا ينبغي التوسع في الاستدانة، والنبي ﷺ كان يكثر من الاستعاذة من المأثم والمغرم، ويدعو بقضاء الدين، ويقول: اقض عنا الدين وأغننا من الفقر، ولذلك لا ينبغي على المسلم أن يشتري بالتقسيط وهو قادر على دفع الثمن في الحال، كما يفعل كثير من التجار، يقولون: السيولة نحن عندنا في أيدينا، ومعاملاتنا الأخرى نقترض، ونشتري بالدين، ونحو ذلك؛ لأن الإنسان المسلم لا ينبغي له شرعاً أن يشغل ذمته بالديون وهو مستغنٍ عن ذلك، لماذا يشغل ذمته بالدين، وهو قادر على دفع النقد، ولكن بعض الناس يريدون أن يتعاملوا بأموال الآخرين، ويتوسعوا بأموال الآخرين، فإذا كان قصده التلاعب فإنها الكارثة العظيمة، إن الشراء بالدين هم عظيم ويدفع كثيراً إلى التحايل والكذب والمماطلة، ومحاولة التفلت من أداء الحقوق، ولذلك يوجد ما يسمى بالديون المعدومة، ليس لأن أصحابها معدمين فقراء دائماً ولكن لأن كثيراً منهم مماطلين كذبة، أفاكون متهربون من أداء الحقوق ودفعها، ولذلك قال ﷺ: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله[رواه البخاري2387].
ومن مفاسد انتشار بيع التقسيط: توسع الناس في شراء ما لا يحتاجون إليه، كماليات استجابة لضغوط النساء كثير منهن هؤلاء ناقصات العقل يدفعن الرجال ويضغطن عليهم لأجل شراء ما يتباهين به أمام الأخريات ونحو ذلك وما يفعله بعض ناقصوا العقل أيضاً من تجديد الأشياء في السيارات والهواتف الجوالة وغير ذلك، كل ذلك بالتقسيط من أجل ماذا؟ من أجل المباهاة، فيرهقون كواهلهم بديون ليسوا بحاجة إليها، بل لو مات الشهيد يغفر له كل ذنب إلا الدين، فما بالكم؟ سبحان الله ماذا أنزل من التشديد في الدين، ولذلك قال ﷺ: والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه[رواه النسائي4684]رواه النسائي وحسنه الألباني.
إذن قضية الدين شديدة لا بد من مراعاتها والحذر منها، نسأل الله أن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه وأن يقضي عنا الدين ويغننا من الفقر إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الغني ونحن الفقراء، والحمد لله القوي ونحن الضعفاء، أشهد أن لا إله إلا هو الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وزوجاته وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم والدين.
من الأمور المهمة في بيع التقسيط
فإن قال قائل: يا عباد الله قد تورطنا واشترينا شيئاً لم يكن المصرف يملكه، حوّلونا على التاجر والمعرض والوكالة، لنقبض من مالكها الأول، الذي زعموا أنهم ملكوه منه واشتروه منه، فماذا نفعل الآن بعد الورطة؟
الجواب: أنه ينبغي على من تعامل بهذه المعاملة أن يفعل أمرين: أولاً: أن يصحح هذه المعاملة الباطلة، كل من تعامل معاملة باطلة محرمة ينبغي عليه أن يسعى في تصحيحها فيقول: هذه سلعتكم التي اشتريتها منكم بدون قبض، لم تقبضوها، وهاتوا الثمن الذي دفعته إليكم من الأقساط السابقة، ثم نعقد عقداً جديداً بعدما صارت السلعة في حوزتكم واستلمت أموالي سابقة عقداً على سلعة الآن أنتم تملكونها، فإن قال القائل: هيهات، تعرف بعد المشرقين هذا مثل بعد المشرقين، فنقول: إذن لم يبق إلا الشيء الثاني وهو التوبة إلى الله ، التوبة إلى الله، لم يستطع تصحيح المعاملة الباطلة، رفضوا، لم يبق إلا التوبة إلى الله، والمستقبل لا يشتري إلا وفق الشريعة، فهذا ما يجب على من فعل ذلك.
ومن الأمور المهمة في بيع التقسيط:
أنه يحرم على المشتري أن يماطل في سداد الأقساط إذا كان غنياً، فإن فعل ذلك جازت غيبته واستحق العقوبة والتعزير بما يراه القاضي جلداً وحبساً ونحو ذلك، قال ﷺ: مطل الغني ظلم[رواه البخاري2287]، وقال: لي الواجد الواجد: الغني المقتدر على الدفع، ليه أي مماطلته وتأخيره لدفع الحق الذي عليه، لي الواجد يحل عقوبته وعرضه[رواه أبو داود3628]. رواهما البخاري.
ثانياً: يعمد بعض البائعين في بيع التقسيط إلى اشتراط شروط جزائية، إذا تأخرت عن تسديد القسط زدنا عليك كذا وكذا، فهذا شرط ربوي محرم؛ لأن الثمن صار ديناً على المشتري، فإذا عجز عن تسديد الدين الذي عليه زدت عليه، هذا ليس بيعاً الآن، الآن هذه زيادة على القرض الذي عليه أن يوفيه لأجل عجزه عن تسديد الدين، فهو ربا واضح جداً يا عباد الله، فإذن هذا الشرط الجزائي على المتخلف عن التسديد ربا واضح وصريح جداً، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ترك الربافَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ سورة البقرة279.
ومن المسائل أيضاً ثالثاً: أن بعض البائعين لبيع التقسيط يشترطون في عقد البيع، أنه إذا تخلف المشتري عن قسط من الأقساط فإن للبائع أن يطالبه ببقية القيمة كاملة، يقول: ادفع كل ما تبقى الآن، وهذا الشرط ليس فيه زيادة، هم يطالبونه بمال فإذا تخلف عن قسط طالبوه بكل المال المتبقي، لما تخلف عن قسط قالوا: لم نعد نؤجلك ادفع المبلغ كله الآن، فهذا الشرط إذا تراضيا عليه جاز، إلغاء التأجيل مقابل الإخلال بالوفاء فهذا إذن جائز أن يطالبوا به.
ويعمد بعض البائعين بالتقسيط إلى أن يبقوا السلعة في ملكهم حتى يسدد ما عليه، فهذا غير جائز؛ لأن عقد البيع إذا تم انتقلت السلعة إلى ملك المشتري، من آثار عقد البيع في الشريعة الإسلامية أن السلعة تنتقل إلى المشتري ملكاً والثمن ينتقل إلى البائع بمجرد العقد، أو يكون ديناً على المشتري في ذمته للبائع بمجرد العقد، إذا كان البيع بالتأجيل، وإذا انتقلت الملكية ملكة السلعة ببيع التقسيط أو بيع النقد بمجرد البيع تنتقل الملكية لم يجز للمشتري أن يشترط بقاءها على ملكه، فإن قال البائعون فكيف نضمن حقوقنا إذن؟ فنقول: ضمان الحقوق في الشريعة له وسائل مشروعة، هذه الديون تثبت بالكتابة وتثبت بالشهود، ويكون الرهن من وسائل حفظ الحقوق، الرهن، إذن تقول له: هذه السلعة صارت ملكاً لك، لكن أشترط أن تبقى مرهونة، لا يجوز لك التصرف فيها لا بيعاً ولا هبةً ولا ولا، حتى تؤدي حقي، هذا جائز ولا بأس به، فإذا قال: تبقى السيارة مرهونة حتى تؤدي الأقساط تؤدي حقنا، فهذا جائز، أما أن يقول: تبقى السيارة ملكاً لنا نحن، ممكن نبيعها في أي وقت على غيرك ونعطيك المال الذي دفعته إلينا، هذا غير جائز؛ لأن هذا خلاف مقتضى البيع عقد البيع في الإسلام، ويعمد كذلك، بعض البائعين لبيع التقسيط إلى طرح عروض أثناء التقسيط فيقولون: نضع لك من الأقساط المتبقية نحذف قسطاً أو قسطين أو ثلاثة إذا سددت الباقي الآن، ترغيباً للمشترين بتسديد ما عليهم بسرعة وعدم التأخير باقي المدة، مقابل وضع مال عنهم، أو أن يعرض المشتري نفسه على البائع، يقول: لو الآن، في منتصف المدة مدة التسديد بعدما سدد مثلاً سبعة أقساط قال: لو الآن دفعت لكم نقداً بقية المبلغ كم تضعون عني؟ باقي عليَّ عشرين ألفاً ما رأيكم أعطيكم الآن خمسة عشر وتسامحوني في الباقي، أعجل لكم الآن وتسامحوني بالباقي. كلاهما جائز إذا لم يكن شرطاً في العقد، ولمزيد من التفصيل في هذه المسألة وما هو الفرق بين أن يكون شرطاً في العقد أو يحدث دون شرط وما حكم شراء الدين التي تكون في بيوع التقسيط، وما حكم التأجير بالتمليك وغير ذلك، سنتناوله بمشيئة الله تعالى في الخطبة القادمة، وبيان مثل هذه الأمور من الواجبات؛ لأن الناس كثيراً ما يقعون فيها، ولا بد أن نتعامل وفق الشريعة، وليس وفق الأهواء.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من المتقين، اجعلنا ممن يحفظ حدودك يا رب العالمين، ولا تجعلنا لأحكامك منتهكين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اغفر ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، أدخلنا الجنة بغير حساب، يا غفار اللهم إنا نسألك المغفرة لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجدادتنا ووالدينا وجميع المسلمين والمسلمات يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تنزل عذابك باليهود الظالمين، وأن تجعل دائرة السوء عليهم يا جبار، اللهم أخز الصليبيين، واكسر حملة الصليب يا رب العالمين، اللهم اسقهم ما أسقيت عاداً رمدداً، اللهم أنزل بهم بطشك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنا نسألك النصر العاجل للإسلام والمسلمين، فرج عن إخواننا في فلسطين يا أرحم الراحمين، وفرج هموم المهمومين في سائر الأرض من المسلمين، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.