الخطبة الاولى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
وقفات مع المعاملات المشبوهة
فإن الله قد أمر عباده المرسلين أن يأكلوا من الطيبات، وأمر عباده المؤمنين أن يأكلوا مما في الأرض حلالاً طيباً، وأخبرنا النبي ﷺ: أن الحلال بين وأن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس[رواه البخاري52 ومسلم1599] ولا بد للمسلم من وقفات مع هذه المعاملات الكثيرة المشبوهة الموجودة اليوم:
أولاً: أن يعلم أن فتنة المال من أعظم الفتن، وأنه لا يوفق للصبر في هذه الفتنة إلا أهل الإيمان.
وثانياً: اتقاء الشبهات، كما قال النبي ﷺ: فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه[رواه البخاري52 ومسلم1599]، وقد سبق بيان عدد من هذه المعاملات من أنواع المحرم، ومن أنواع المختلط، اختلط فيه الحرام بالحلال، وما هو الموقف من هذا المختلط، ثم يأتي القسم الثالث هنا، وهو الذي لم يتبين هل هو حلال أم حرام، فإن هذا أخف من الذي قبله، وهو أن تدخل في معاملة، وأنت تعلم أن فيها محرم، وفيها حلال أيضاً فاختلط الحلال بالحرام، ومعاملة تدخل فيها ولا تعلم هل هي حلال أم حرام؛ ولذلك فإن المسلم عليه أن يتقي الشبهات أياً كانت.
وثالثاً: ما جاءك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك، أي: ما لم يكن كذلك فاقطع تعلق نفسك به، وقال ﷺ أيضاً: ما آتاك الله من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه فتموله أو تصدق به، وما لا فلا تتبعه نفسك[رواه البخاري1473ومسلم1045] لا تجعلها تتعلق بالمال الذي ليس في يدك دفعاً لما يحصل في النفس من الحزن، والحسرة إذا هي لم تحصل عليه.
رابعاً: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه[رواه بمعناه أحمد20215 وأبو نعيم في الحلية2/196] وهذا يعم الحرام وكذلك المشتبه.
خامساً: البركة في المال وإن قل، أعظم وأولى من البحث عن كثير من طريق محرم، أو مشكوك فيه.
سادساً: على المسلم أن يكون صادقاً مع نفسه تمام الصدق في تأكده من تحقق الشروط الصحيحة التي تبيح المعاملة ليسلم قلبه ويسلم كسبه ويسلم جسده من النار، وكذلك فإن بعض النفوس تخفي مقاصد، وتخفي عند الاستفتاء من المعلومات ما هو مهم في الفتوى، وبعض الناس يتعمد إهمال بعض الأشياء مما يراه أمامه ويظن أن هذا الإهمال والتجاوز يفيده، وهو قد استقر عنده وقد علم أين الخطر، وأين الحرام، وأين مكمن الخلل في هذه المعاملة، فهل غض الطرف عن هذا يفيد شيئاً وقد علمه؟ ينبغي أن يكون العبد صادقاً مع نفسه، صادقاً مع ربه، صادقاً مع من يستفتيه أيضاً.
وسابعاً: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فلا بد من توضيح ما تريد السؤال عنه لتحصل على حكم صحيح، ولا يفيدك أن يفتيك المفتي بفتوى في سؤال قد أخفيت بعض معلوماته.
وثامناً: الحذر من تتبع رخص الفقهاء، فلا يعذر الآخذ بها وهو يعلم الحقيقة من كلام أهل العلم، فتراه يعلم عدداً من الفتاوى في تحريم مسألة فسمع واحداً في قناة فضائية، أو جريدة يقول بخلاف ذلك فيتبعه، ويظن نفسه قد نجا متعلقاً بهذا المبيح، ومن تتبع رخص العلماء تزندق، من تتبع رخص العلماء وقع في الحرام، فإنه ما من شيء إلا ويزل فيه زال.
عباد الله: قال ﷺ: البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في نفسك وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك[رواه أحمد17540].
وتاسعاً: آكل الحرام إذا كان معترفاً بأنه حرام أخف من الذي يأكله وهو يتحايل؛ لأن المتحايل يضيف إلى أكل الحرام والوقوع فيه إثم التحايل أيضاً، وهذه مصيبة بني إسرائيل.
وعاشراً: ما ثبت عندك تحريمه يا عبد الله فاقطع تعلق نفسك به ولا تأسفن على فواته واحمد الله أن سلمك منه مهما كثر ومهما رأيت تهافت الناس عليه، وأكثر من دعاء: اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين[رواه أحمد15066] حديث صحيح رواه الإمام أحمد، وتأمل في قوله ﷺ: وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان فهذه نعمة من الله عظيمة لو حصلت؛ لأنه ما الذي يوقع الناس في الإثم والكفر والفسوق والعصيان؟ إنه جاذبية هذه الأشياء بالنسبة لبعض الناس، جاذبية الحرام، الإغراء الموجود فيه، الحلاوة والطلاوة في ظاهره، فإذا كره العبد هذا وفقه الله فبغض إليه الحرام ما وقع فيه، فإذا بقي الحرام بالنسبة إليه مغرياً جذاباً فإنه كثيراً ما يقع فيه؛ ولذلك كان هذا الدعاء من أعظم الأدعية: وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان؛ لأن نفسه إذا كرهت ذلك انصرفت عنه.
أسباب الإغراءات في الأمور المالية
عباد الله: لقد كثرت الإغراءات في هذا الزمان في الأمور المالية وغيرها، ومن أسباب ذلك: علم التسويق، وكثرة المسوقين، وتعدد وسائل التسويق، والعرض، والجذب، والإغراء، إنها دعوات متعددة بأغلفة كثيرة، تأمل مثلاً في القروض الشخصية وهي قروض ربوية محرمة ملعون من عرضها، وسوقها، وأعلن عنها، ودخل فيها، واقترض وأقرض وحسب، إن المسألة محسومة بالكتاب والسنة، هذه القروض الشخصية على الرواتب واضحة جداً، تأمل في كثرة الإعلانات عنها، وهذه الصور المنشورة عنها، صورة الأسرة ابن يلعب، وبنت تلهو، وزوجة تضحك، وزوج يبتسم ويمرح، إنه تسويق لهذه القروض على اعتبار أنها سبب للسعادة، وأنها أسعدت الأسرة، هكذا تظهر القضية في الإعلانات، وفي الحقيقة شر وخبث، ولعنة، وحرام، وغمس في جهنم، وغضب من الله تعالى، محق للبركة، وشقاء على الأسرة، وتعاسة في حياة الزوجين والأولاد، أهكذا يدخل الإنسان الحرام على أسرته وأولاده؟
عباد الله: مهما زين هؤلاء بالوسائل العصرية السمعية والبصرية، وأدخلوا علم البصريات والسمعيات ووسائل العرض الجذابة، وهذه الفنيات اللماعة الخلابة الآخذة بالألباب، والأسماع، والأبصار بوسائل الإعلام المرئية، والمقروءة، والمسموعة، فإن الحرام يبقى حراماً، هو هكذا عند الله ؛ ولذلك فالحذر الحذر من الانسياق وراء العروض الترويجية للحرام، ثم يحدث بعد ذلك في سوق المال أيضاً أنواع من المصائب نتيجة للخسارات التي تحدث فيه، فماذا يفعل العبد إذا أصيب بمصيبة في ماله؟
الجواب: إن من طبيعة هذه الحياة الدنيا أنها دار ابتلاء، ولو لم يكن فيها مصائب ما صارت دنيا، إنها دنيا لأنها أدنى، والآخرة والجنة أعلى، والجنة دار فرح لا يكدرها شيء لا خسارة مالية، ولا أمراض بدنية، ولا غموم نفسية، إن الجنة سالمة من هذا، أما هذه الدار فهي دار ابتلاء، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَسورة البقرة155 هذه طبيعتها آلام وكدر، لا تصفو لأحد: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍسورة البلد4 ومن أدرك طبيعة هذه الدنيا سهلت عليه التعامل مع مصائبها.
واعلم يا عبد الله أن هذا المال وديعة:
وما المال والأهلون إلا ودائع | ولا بد يوماً أن ترد الودائع |
وقال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْسورة آل عمران186، فهذا الابتلاء حاصل حاصل، المال لا بد أن يذهب كله أو بعضه لا بد أن يذهب، وإذا لم يذهب في حياة الإنسان إذا مات فارقه رغماً عنه: يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله[رواه البخاري6514] قيل: العبيد الذين كان يمتلكهم هذا الميت ونحو ذلك من الأموال من مراكب مثلاً مما يتبع الميت مما كان يمتلكه قبل أن يموت، فيرجع اثنان ويبقى واحد.
الصبر عند الصدمة
عباد الله: إن الصبر عند الصدمة الأولى أمر مهم، وعندما تتناقل الأخبار مصائب الناس في هذه الأسهم على سبيل المثال وهي مصائب ضخمة جداً ولا شك؛ لأن من الناس من اقترض مالاً أو دخل في معاملة على تسديد من رواتب قادمة لعشر سنين، تأمل يا عبد الله ما معنى ذلك؟ كم سينقص من دخله إلى عشر سنين؟ القضية ضخمة، أموال محجوزة، وآخرون يتمنون الانفكاك، وآخرون لا يستطيعون الخروج، وآخرون قد خسروا وخرجوا، وآخرون قد أخرجوا رغماً عنهم، مصائب هكذا، وبعض الناس إذا تحمل مصيبة فإنه لا يستطيع أن يتحمل التي بعدها وهكذا، ومثل سوق الأسهم مليء بالمصائب؛ لأن فيه ارتفاعاً وانخفاضاً؛ ولذلك لوحظ في الآونة الأخيرة أن قلوب بعض الناس قد أصيبت بالهبوط القلبي، هبوط القلب من أنواع الأمراض الخطيرة؛ لأنهم لا يتحملون ارتفاع المؤشرات وانخفاضها، فكما أن الإنسان قد لا يتحمل الفرح العارم المفاجئ فهو كذلك لا يتحمل الحزن المفاجئ الشديد، فإذا توالت موجات عليه من الفرح العارم الشديد والحزن الشديد أيضاً فماذا سيحصل لقلبه؟ ولذلك من كانت الدنيا عنده بالميزان الشرعي وهو غير متعلق بها، من كان المال بالنسبة إليه كحماره الذي يركبه، وبيت الخلاء الذي يدخله، ويستعمله فلا خوف عليه؛ لأنه زاهد، فهو يتخذ المال للحاجة إلى المال، فلا بد من المال، وهكذا نظر العلماء إليه كالحمار الذي يركبه، فلا بد له من دابة ينتقل عليها، لكن قلبه ليس متعلقاً بالحمار شغوفاً بالحمار محباً للحمار، وكذلك بيت الخلاء بيت النجاسة فإنه لا يتعلق قلبه به، ولا يحبه ويغرم به، وإنما يقضي حاجته وينصرف من ذلك المكان الذي فيه تلك النجاسة وخبث الرائحة؛ ولذلك فإن من كانت نفسه تتعامل مع الدنيا وما فيها من الأموال بحسب ما هي في الوزن الشرعي: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً [رواه الترمذي2322] الدنيا دنية فمن نظر إليها فأخذ بلغته منها، الدنيا كمتاع الراكب حال الإنسان فيها كالمسافر، فمن كان فيها هكذا لم تضر قلبه الارتفاعات والانخفاضات، وأما من كان متعلقاً بالمال شغوفاً به هلوعاً جزوعاً فستضر قلبه هذه الارتفاعات وهذه الانخفاضات في المؤشرات، قلوب كثير من الناس لا تتحمل هذا.
عباد الله: لا بد من الصبر عند الصدمة الأولى وما بعدها، والصابرون يوفى الواحد منهم الأجر بغير حساب، قال بعض العلماء: ليس يوزن لهم ولا يكال إنما يغرف لهم غرفاً، وإذا تذكر العبد أن الله مع الصابرين، وأنه يحب الصابرين، وأن الصبر يكفر السيئات، ويقال لهم يوم القيامة: سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ سورة الرعد24 وأن الله يرفع منزلة المصاب، فإذا صبر بلغه المنزلة التي سبقت له منه في الجنة: ما يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة[رواه الترمذي2399] وينبغي أن يكون بين الناس تعلم وتداول العبارات الشرعية: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها[رواه مسلم918] إن لله ما أخذ وله ما أعطى فاصبر واحتسب[رواه البخاري1284] إنا لله وإنا إليه راجعونونحو ذلك، وليعلم العبد أن المصيبة ربما تكون خيراً له، قال : فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًاسورة النساء19 وأيضاً: فإنه لا بد من اللجوء إلى الله في كشف المصيبة؛ لأن الله يبتلي الناس لعلهم يتضرعون، يريد من العبد أن يتضرع إليه أن يلح عليه، أن ينطرح بين يديه، أن يسأله، أن يلحف في المسألة، والله يحب الملحين في الدعاء.
قال ﷺ: من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل[رواه الترمذي2326]رواه الترمذي، وهو حديث صحيح.
عباد الله: كان ﷺ يستعيذ من فتنة الفقر كما يستعيذ من فتنة الغنى، فعن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي ﷺ كان يتعوذ من هؤلاء الكلمات كثيراً: اللهم إني أعوذ بك من فتنة الغنى، ومن فتنة الفقر، ومن فتنة النار، ومن فتنة القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال[رواه البخاري6368].
وكذلك: فإن على العبد ألا يكون أشراً بطراً، فبعض الناس تقلبت بهم الأحوال في المدة المتأخرة فكانوا أهل فقر فصاروا أهل غنى، فماذا يفعل العبد إذا تقلبت الأحوال به، إذا تغيرت حاله فجأة من الأسفل إلى الأعلى في الدنيا؟ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَسورة التوبة75-76.
الأسباب الشرعية في تخفيف المصيبة
عباد الله: لا بد أن يهيئ العبد نفسه لما يصيبه قبل أن يصيبه، وهذا لا يكون إلا بالعلم، والتزود بالعبادة والإيمان، وحضور حلق الذكر، وأن يكون الإنسان مع عباد الله الصالحين، مع الأبرار، مع الأخيار، وليتذكر من أصيب بالخسارة، الخسارة العظيمة في الدين، فإنها أشد وأشنع؛ ولذلك كان النبي ﷺ يقول: ولا تجعل مصيبتنا في ديننا إنه دعاء عظيم، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا[رواه الترمذي3502]فنسأل الله أن يقينا وإياكم الشرور، وأن ينعم علينا جميعاً بنعمه ودار الحبور.
عباد الله: لا بد للمسلم أن يدفع قدر الله بقدر الله، وأن يأخذ من الأسباب الشرعية ما يخفف المصيبة، وأن يتعامل معها بعقل وحكمة، والله شرع لنا من اتخاذ الأسباب ما نخفف به المصائب وما نجلب به المصالح وما ندفع به المفاسد، وإن سد الذرائع قاعدة شرعية عظيمة، والإنسان إذا كان يخشى من شر يأتي عليه من باب فإن عليه أن يسده، وهذه القاعدة قد عرفها البشر حتى الكفار، ألا تراهم يحقنون المواليد بالتطعيمات ضد الأوبئة ويفتشون القادمين من المنافذ الحدودية ويعملون الحجر الصحي، إنهم يراقبون طرق السيارات بأنواع الأجهزة والرادارات، إنهم يعملون على الفحص الطبي قبل الزواج، وهكذا ما هذا؟ سد الذريعة، إنه محاولات لمنع الشر، لمنع الفساد، تحصينات، وقايات، إجراءات احترازية، فإذا كان العباد يعملونها من أجل أجسادهم وأموالهم، من أجل منافع دنيوية أفلا ينبغي لهم أن يحرصوا على ذلك لسلامة دينهم؟ ومعلوم أن حفظ الدين مقدم.
عباد الله: ينبغي أن يكون عند المسلم من الورع ما يتقي به الحرام والشبهات، وقد ورد عن النبي ﷺ قوله: خير دينكم الورع [رواه الطبراني في الأوسط3960]هذا الورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة، هذا تعريفه، فإذا سألت يا عبد الله: ما هو الورع؟ خذ الجواب من أهل العلم: ترك ما يخشى ضرره في الآخرة، هكذا نقل ابن القيم رحمه الله تعريفه عن السادة العلماء، ترك ما يخشى ضرره في الآخرة، شيء تخشى أن يكون عليك ضرر منه في الآخرة اتركه الآن.
قالوا: الورع الخروج من كل شبهة، قالوا: الورع البعد عن المحرمات والكف عن الشبهات والتخفف من المباحات، ومحاسبة النفس، الورع أمر مهم جداً في هذه الأيام التي كثر فيها الحرام، هذا الورع الذي جعل النبي ﷺ لما رأى في يد حفيده تمرة وخشي أن تكون من تمر الصدقة؛ لأن النبي ﷺ تجلب إليه الصدقات لتوزيعها، وحجرته عند المسجد ملاصقة فيمكن أن تكون هذه التمرة مما التقطه الصبي من صدقات المسلمين، فقال ﷺ: كخ كخ كلمة تقولها العرب لطرح الشيء وإلقائه وتركه، ثم قال: أما شعرت أننا لا نأكل الصدقة[رواه البخاري1491] فإذا منع ولده وحفيده الصغير غير المكلف من أن يأكل تمرة فما بالكم بالذي يتعمد أكل الملايين، والذي يتعمد أكل مدخرات المساهمين والمساكين، والذي يتعمد إلحاق الضرر بأموال المسلمين، والذي يتعمد الألاعيب في رفع السوق وخفضها للاستيلاء على ما جمعه هؤلاء المقلين؟
عباد الله: قال ﷺ: إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها[رواه البخاري2055]رواه البخاري، ومعلوم أن آل بيت النبي ﷺ والنبي ﷺ لا تحل لهم الصدقة، وجعل الله لهم مصرفاً في الفيء، جعل الله للنبي ﷺ مصرفاً خاصاً يغنيه عن أوساخ الناس، صدقات يغسلون بها ذنوبهم فلا تليق بالنبي ﷺ، وأبو بكر الصديق جعله الورع يضع أصبعه في أقصى حلقه ليتقيأ ما أكل من مال غلام له حصل عليه بالمخادعة بكهانة لم يكن يحسنها، فجمع بين محرمات حصل بها على المال وجاء به بطعام لسيده فأكله ولم يكن يدري عنه، فلما علم تقيأه، والصحابة رضوان الله عليهم لما كانوا محرمين، وأبو قتادة غير محرم شاهدوا صيداً فلم يشيروا إليه ولم يعينوه عليه، رفضوا المشاركة فيه، ولما صاده تورعوا عن الأكل.
عباد الله: إن هذا الورع يقي المسلم شروراً كثيرة، فعمر بن الخطاب لما فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة آلاف فرض لابنه عبد الله بن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين لماذا أنقصته؟ قال: إنما هاجر به أبواه ليس هو كمن هاجر بنفسه، سبحان الله! يقول: هذا ولدي هاجر به أبواه وهو صغير ليس كمن هاجر بنفسه وهو كبير، هكذا يفعل .
وينبغي على المسلم أن يتحرى خصوصاً في هذا الزمان الذي اختلطت فيه الأمور، وعم فيه الحرام، والإنسان المسلم لا يكلف بشيء لا يطيقه، وقد تغشاه الغواشي تختلط عليه الأمور فيأخذ بما يستطيع، ويسأل الله أن يغفر له تقصيره وإسرافه، فهو يجتهد، وقد يكون في اجتهاده خطأ فيسأل ربه المغفرة.
أيها المسلمون: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي[رواه مسلم2965]، ثم مهما جمع الناس من الأموال فلا بد أن يغادروا ذلك:
فيا جامع الدنيا لغير بلاغه | ستتركها فانظر لما أنت جامع |
فكم قد رأينا الجامعين قد أصبحت | لهم بين أطباق التراب مضاجع |
والإنسان إذا كان عنده ما يكفيه فليحمد ربه: من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا[رواه الترمذي2346].
واقنع فإن القنوع عز والذل في شهوة، وإذا يئس الإنسان بما في أيدي الناس رفع الله ذكره، وأغنى قلبه، وجمع له نفسه، وهؤلاء الذين يكنزون ولا يؤدون حق الله، المهم أن تزيد أرصدتهم لهم موعظة:
فيا جامع الدنيا لغير بلاغه | ستتركها فانظر لما أنت جامع |
وكم قد رأينا الجامعين قد أصبحت | لهم بين أطباق التراب مضاجع |
إذا ظن من ترجو عليك بنفعه | فذره فإن الرزق في الأرض واسع |
ومن كانت الدنيا هواه وهمه | سبته المنى واستعبدته المطامع |
ومن عقل استحيا وأكرم نفسه | ومن قنع استغنى فهل أنت قانع |
لكل امرئ رأيان رأي يكفه | عن الشيء أحياناً ورأي ينازع |
عباد الله: إن المسلم يحتاج دائماً أن يكون قريباً من ربه منيباً إليه ليرزق البصيرة التي يعرف بها الحلال من الحرام، والحق من الباطل، وما أكثر ما التبس على الناس في هذه الأيام، وإن العبد إذا أحسن التعامل مع المصيبة صارت في حقه نعمة:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت | ويبتلي الله بعض القوم بالنعم |
وأيضاً: فإن الله قد أبان لنا عن الطريقة التي تريح القلوب، وتهدئ النفوس بذكره : أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(سورة الرعد28)، واعلم يا عبد الله أن ذهاب شيء من مالك ليس دليلاً على إهانة الله لك، قال : فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ سورة الفجر15-16فواعجباً من حال العبد.
كن عن همومك معرضاً | وكل الأمور إلى القضاء |
وأبشر بخير عاجل | تنسى به ما قد مضى |
فلرب أمر مسخط | لك في عواقبه رضا |
ولربما ضاق المضيق | ولربما اتسع الفضا |
الله يفعل ما يشاء | فلا تكن معترضاً |
الله عودك الجميل | فقس على ما قد مضى |
وليحمد العبد ربه أن المصيبة لم تكن في شيء أعظم، فقد كان يمكن أن تكون في الدين، وكان يمكن أن تكون في العرض، وكان يمكن أن تكون في الولد، ولذلك فإننا نرثي حقيقة لحال الذين أصيبوا في دينهم.
القواعد الشرعية في الأموال
والقواعد الشرعية في الأموال كثيرة: ومن ذلك أخذه من حله، وإنفاقه في حله، وأداء الحقوق والواجبات فيه كالنفقات والزكوات، وأيضاً التوسط في إنفاقه: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًاسورة الإسراء29.
وكذلك فإن كنز المال من أسباب عذاب الآخرة: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍسورة التوبة34 وكل مال أديت زكاته فليس بكنز، هذا المال يورثه المسلم لورثته فيكون في ذلك طمأنينة لنفسه، وانتفاع من أهله به: إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناسرواه البخاري1296 ونعم المال الصالح للمرء الصالح[رواه أحمد17309]وكان أبو بكر من أتجر قريش، ولما قتل عثمان بلغت غلة نخله مائة ألف، وكان عبد الرحمن بن عوف من أغنياء الصحابة يقول: يا حبذا المال أصون به عرضي، وأتقرب به إلى ربي، وكذلك لا يزال السلف من بعدهم على هذا الطريق.
فقال سفيان يخاطب مالاً له: لولاك لتمندلوا بي، أي: لصرت لعبة في أيدي الكبراء والأغنياء يذلونني ويهينونني.
عباد الله: أمر ربنا الرسل بالأكل من الطيبات: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ سورة المؤمنون51، وحرم علينا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، بأي طريق من الطرق من الاحتكار، أو الغش، والخداع، والمكر، ونحو ذلك، والمال فتنة، وقد مدح الله رجالاً لأنهم لا يلتهون به عن ذكره: رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ سورة النــور37-38 وهذا المال وإن كان من أسباب السعادة في الدنيا فقد يكون شقاء على صاحبه، فإذا صرفه عن ذكر الله وأورده المحرمات وجعله أشراً بطراً مختالاً فخوراً، فإنه يهلك صاحبه ويجعله من الأشقياء.
وهذا من كبراء اليونان صاحب جزر وأساطيل وطائرات ومليارات حماماته من الذهب، كان يتباهى بغناه وثروته، فمات وقد بنى لنفسه قبراً كأنه قصر، وكان يقول لأصدقائه: يجب أن تأتوا وتشربوا عند قبري الخمر حتى أخرج وأشرب معكم، فمات محترقاً بتحطم طائرته ولم يدخل ذلك القبر، فآلت تركته إلى ابنته التي ماتت منتحرة في السابعة والثلاثين من عمرها، فآلت التركة بعد ذلك إلى حفيدته التي ماتت في حادث أليم، ليكون الوريث بعد ذلك لكل المال كلبها.
عباد الله: إن حاجة الأمة إلى المال عظيمة لتكون قوية، وهذا المال يصونها عن ذل أعدائها، فأنتم ترون ما تفعله المؤسسات الدولية العالمية المالية بالدول والشعوب من الإقراضات التي لها فوائد مركبة لا يمكن أن تسدد حتى قيام الساعة، لماذا؟ لأنها لا تزال في ازدياد، يسيطر بعض اليهود اليوم على كثير من المؤسسات المالية في العالم؛ ولذلك فإن اكتساب المسلمين للمال فيه إغناء لهذه الأمة، لكن عندما يسيطر حب الذات، وابتغاء المحرمات، والبخل، والهلع، والشح تكون المصيبة.
عالم الأسهم
عباد الله: لقد جاءت طفرة في عالم الأسهم هبت رياحها على البلاد، وتوج العام الذهبي قبل المنصرم بارتفاع لم يسبق له مثيل، وبلغت القيمة السوقية بخانة الترليون بعدما تجاوزت المليارات، ودخل في هذا السوق من الناس الكثرة الكاثرة، ملايين دخلوا سوق الأسهم، ولكن هذا السوق فيه تلوث كبير، وغش، وتدليس، وخداع، وإشاعات، وأكاذيب، وخيانة للأمانات، وكشف للأسرار، وتسريب للمعلومات مقابل أموال، واحتكار أشياء لا يجوز احتكارها، وفيه أيضاً حركات غير محسوبة، وكذلك فإن فيه من الطفرات، وأنواع الأرقام على المعاملات ما ليس له مبرر على الإطلاق، دخلت حمى المضاربة فاجتاحت المجتمع حتى صارت حديث البيوت، والرجال، والنساء، وطبقات المجتمع، والأغنياء، ومتوسطي الدخل، بل وحتى الفقراء، صارت الشاشات فتنة للناس، اللون الأحمر والأخضر، وبناء على هذا تكون مستوى العلاقات، يشهد المجتمع ظاهرة التعلق الحميمي بالأسهم والاهتمام الشديد بها، حتى طغت على أداء الحقوق، وأشغلت الناس عن متابعة أحوال إخوانهم المسلمين، وصار بيع المدخرات والممتلكات والتهادي بالأسهم، وكذلك أخذ القروض بأي طريقة، وأحاديث المجالس في التفاخر بامتلاك الملايين بسبب اللهاث خلف هذه المضاربات، مؤشرات عجيبة، كميات تداول ضخمة، قيم سوقية رهيبة، وهكذا غدت قصص التحول الفجائي إلى الثروة أمر متناقلاً على الألسن وفي المجالس، وكذلك ازدحمت صالات التداول بهؤلاء الناس، وصار الناس يعملون من خلال أماكن العمل في هذه الأسهم حتى قدرت دراسة عدد الساعات المهدرة من الأعمال بثمانمائة ألف ساعة يومياً بسبب الأسهم لخروجهم من الأعمال، أو عكوفهم على الشاشات في وقت العمل مدفوع الأجر، وبعضهم قام بتركيب خطوط هواتف خاصة في مقر العمل بخدمة اتصالية لكي يعمل من خلاله، وعندما تقوم الاكتتابات يزدحمون بتدافع، وفوضى، وتنشب المعارك في خطوط الانتظار، وبين الموظفين والمراجعين، وبين المراجعين أنفسهم، حتى وصلت القضية إلى حد كسر زجاج، أو اقتلاع باب، ويسقط أحد الناس مغمى عليه فلا يتقدم شخص لإنقاذه؛ لأن الجميع يخشى على دوره في هذا الصف الطويل، تحولت المجالس والمقاهي والمكالمات إلى بورصات للبيع والشراء، طمعاً في الثراء السريع، واتجه بعض الناس للاقتراض بالربا المحرم الذي لعن الله من فعله، وبعضهم دخل في عمليات تورق ضخمة من أجل أن يحصل على سيولة ليتاجر بها في سوق الأسهم، وصار النزاع بين الأزواج والزوجات على حق الزوجة الذي سطا عليه الزوج فاكتتب باسم زوجته، وباع واشترى وهي لا تدري، ثم حصل النزاع بين الزوجين على أسماء الأولاد من الذي له الحق أن يكتتب بأسمائهم، وهكذا رهنت بيوت، وبيعت أماكن السكن من أجل الحصول على الأموال التي يتاجرون بها في هذه السوق، وباع أناس مصالح معيشتهم وأغلقوا أبواب أرزاق عدد من العاملين فيها من هذه الجهة، والله يزرق من يشاء، حتى رعاة الماشية باع بعضهم قطعانهم، وصار الواحد يقول ممن لديه أعمال: لماذا أتعب نفسي، وأدخل في دوامات المشكلات مع العمال والسوق وأكدح وأنا أستطيع من خلال ضغط الأزرار على هذه الشاشة أن أكسب أضعاف أضعاف، لم يفكر أولئك في أن هذه الحركات اليسيرة لا تبني شيئاً في المجتمع، إنها ليست عمليات تصنيع ولا زراعة، إنها ليست عمليات تنمية للمجتمع، ليس فيها مما يفيد المجتمع شيء على الإطلاق، إنها نظرة فردية فقط، ينظر لذاته بغض النظر عن مصلحة الناس عن مصلحة المجتمع، ولما قيل لأحد الصناع: لماذا تتعب نفسك بع هذه الشركات والمصانع، وادخل سوق الأسهم تكسب أضعافاً مضاعفة، قال: فإذا جعلني الله سبباً لرزق أربعين ألف أسرة فكيف أغلق هذه الشركات؟ فمن يقدر مثل هذا الأمر، لا يضره هذه الأرباح السريعة وإنما يسعى في الشيء الذي فيه نفع نفسه ونفع غيره، وليس نفع النفس فقط، طفرات عجيبة أصيبت بها الأسواق، وصارت مكررات الأرباح إلى مستويات لم يسبق لها مثيل، وإذا كان مكرر الربح هو سعر السهم زائد العائد السنوي للسهم فتأمل في الوضع غير الطبيعي على الإطلاق الذي يصل فيه مكرر ربح شركة من الشركات شبه المغلقة إلى تسعة آلاف، وهذا شيء لم يحدث في البورصات اليابانية والأمريكية والعالمية على الإطلاق، فإن بعضها لما وصل مكرر الربح فيه إلى ألفين انهارت السوق، وهذا الكلام مهم في تبين حكم بعض أنواع الممارسات من هذه الجهة، فإذا كانت الشركة شبه مقفلة وأنشطتها في الحدود الدنيا، ولا يكاد يوجد عندها شيء تبيعه، ولا يكاد يوجد لها أرباح بل إنها في خسائر، وربما لم يصبح لديها إلا ستة موظفين فكيف وبأي عقل، وبأي منطق، وبأي مقياس يصبح سعر سهمها قريباً من ألف، وقيمة السهم الحقيقي لا تتجاوز ستين ريالاً؟! ما معنى هذا؟ معناه: أن الناس يضاربون في الأوهام، وهذه الأنواع من الشركات التي ذكرنا في الخطبة الماضية أن التعامل في أسهمها ضرب من الميسر والقمار؛ لأن هذا الارتفاع الذي لا يوجد له أي مبرر، معناه: أن الناس يضاربون في الأوهام، وهذه الأنواع من الشركات التي ذكرنا في الخطبة الماضية أن التعامل في أسهمها ضرب من الميسر والقمار؛ لأن هذا الارتفاع الذي لا يوجد له أي مبرر، والفرق الفاحش الكبير جداً بين قيمتها الحقيقية التي لو بيعت بها عرفنا كم قيمتها الحقيقية، إذا قدرنا قيمتها الحقيقية، قدر الخبراء كم تساوي هذه الشركة، ثم وجدنا سهمها في السوق أضعاف أضعاف أضعاف القيمة الحقيقية، معنى ذلك أن الناس يضاربون في الأوهام، وهذه المضاربة في الأوهام نوع من الميسر والقمار لا يوجد لديها ميزانية، أو أرباح سنوية، أو نصف سنوية، أو ربع سنوية تبرر هذا الارتفاع أبداً، فإذاً مخادعات، ومضاربات تؤدي إلى ارتفاع هذه الأسعار بهذا الشكل الجنوني.
الخطبة الثانية
الحلول لمشكلات الأسهم
عباد الله: لا بد من إيجاد الحلول لهذه المشكلات في التضخم، وأن تصرف الأموال إلى الاكتتاب على الأقل؛ لأن الاكتتاب هو إنشاء شركات، إقامة شركات، وهذه الشركات فيها نفع للناس، وصرف السيولة في المشاريع الجديدة التي تخدم البنية التحتية والفوقية للمجتمع المسلم، وإيقاف الشركات الخاسرة حتى تعيد ترتيب أوراقها، وكذلك أن يشجع إقامة الشركات التي فيها نفع الناس ليكتتبوا فيها، وينتفعوا بالمساهمة سواء بالأرباح، أو ببيع أسهمها إذا صار وقت التداول بعد الاكتتاب.
وتغشى سوق الأسهم محرمات كثيرة: ومن ذلك نشر الشائعات غير الصحيحة من أجل التأثير على سعر السهم، وتسريب الأخبار لأناس معينين لقاء مبالغ مالية مخالفة لحفظ الأمانة الذي أمر الله به، وكذلك العروض والطلبات الوهمية قبل افتتاح السوق بدقيقة مثلاً للتأثير على السعر، وهذا غش وتدليس محرم، وكذلك العروض الضخمة التي يضعها المضارب في سهم ليوحي للمساهمين بأنه سينزل بينما هو يشتري في الحقيقة، وعكسه أيضاً، والتدوير للأعلى، والتدوير للأسفل، والمضارب يشتري ويبيع لنفسه، وقد كشفت حيل عجيبة في هذا الباب، هذه الألاعيب ما معناها؟ إنه الإضرار بالمسلمين، الإضرار بالآخرين، التسبب في الخسائر، والذي يجيد الألاعيب يكسب، والذي لا يعرف عن الموضوع شيئاً هو الذي يخسر، وقد دخل السوق من الجهلة بهذه الأشياء والذي لا يعرف فيها نظاماً ولا قاعدة لا يكاد يعرف إلا الألوان فإذا قيل له: لماذا وضعت سهمك هنا؟ قال: لا أدري، اخترته عشوائياً فوضعته، عندما تكون هناك فئة تتلاعب في السوق ترفع الأسعار وتخفضها باتفاقات خفية، عندما يحدث هذا الإضرار بالآخرين فإنه حرام بلا شك، والمكاسب من ورائه حرام، الألاعيب حرام، والنتائج حرام، والذين يقومون بها آثمين عند الله ، ثم يقول لك: التجارة شطارة، ليست هذه الشطارة في الإيقاع بالآخرين، والتغرير بهم، وخداعهم، وإنما هي شطارة بتعريفها في اللغة، فإن الشاطر هو اللئيم الخبيث قاطع الطريق كما في قواميس لغة العرب.
عباد الله: هذا التلاعب الذي نشهده اليوم الذي يسبب الانهيارات، وهذا التضخم الكبير بغير مبرر إنما هو مخالفة لقول النبي ﷺ: الدين النصيحة[رواه مسلم55] إن استغلال الغفلة التي يتصف بها بعض المساهمين ليست من الإسلام، ولا من المروءة في شيء، وكثر المتكلمون بعلم وبغير علم، وصار كثيرون خبراء في السوق ويدلون بآراء ويكتبون في المنتديات، ويصدرون رسائل الجوالات، ويعلقون في الجرائد والصحف، وكثيرون سماعون لهم ممن يجهلون حقائق الأمور ويصدقونهم، وبناء على أقوالهم يتحركون، وعصابات تغدو وتروح في سخط الله ، والنتيجة ضحايا بلا شك.
عباد الله: لا شك أن مثل هذا الوضع وضع مخزي، ومردي، ومهلك، وهذه النتائج التي رأينا بعضها من عدم البركة نتيجة استعمال مثل هذه الألاعيب، إنها ليست خسائر طبيعية لكي نقول لأولئك المساهمين: ارضوا بالقضاء والقدر فقط، وهذا حال التجارة، يجب الرضا بالقضاء والقدر في جميع الحالات، ولكن أن يكون وراء هذا من أنواع التلاعب والإضرار ثم يقال: هذه تجارة، كلا والله، أين النصيحة لعباد الله؟
يا أيها المسلمون: إن الذين اقترضوا بالربا، ثم دخلوا هذه المساهمات، وابتلاهم الله وعاقبهم على هذا بأنه لما انهار السوق يريدون الخروج بأي طريق فلا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، لماذا؟ لأن الطلب على الشراء صفر، والعرض هائل، وهو يرى أرباحه تتآكل على الشاشة، واللون الأحمر يستمر، ويستمر ليصل التآكل إلى رأس المال، ثم بعد ذلك يطرد من السوق شر طردة، ثم عليه أن يسدد الربا بالإضافة إلى المبلغ الأصلي، وعندما يعطي البنك ما يسمى بالتسهيل المالي مقابل مبلغ معين يودعه هذا المضارب في البنك فيقول: تودع مائة ألف، وأعطيك عليها مائة ألف، فإذا بدأ يخسر ووصلت الخسارة إلى مائة ألف طرده البنك، وباع أسهمه رغماً عنه ليحصل على المبلغ الذي أعطاه إياه وهكذا، أصبح أناس بين عشية وضحاها ضحايا مساكين قد ركبتهم أنواع الهموم والغموم؛ ولذلك صار من أحسن المشاريع كما يقولون العيادات النفسية، قامت سوق الجلطات، وأمراض الضغط، والسكري، ومراجعة المستشفيات، وسيارات الإسعاف، وحالات الهلوسة، وأناس يكلمون أنفسهم كالمجانين، ثم سوء عجيب في العلاقات الزوجية التي تتبع البورصة بحسب حال الألوان يكون نوع العلاقة مع الزوجة والأولاد ويقولون: لا نتحمل.
أيها المسلمون: أي حال هذه التي ألقى بها هؤلاء أنفسهم فيها؟ طيشان العقول عند نزول المؤشرات، هذه التأثيرات النفسية البالغة لما أصاب هؤلاء المساكين، وينبغي أن نعلم بأن الشريعة تحرص على مصلحة المسلم، وعلى صحة المسلم، وعلى نفس المسلم، وعلى علاقات المسلم؛ ولذلك لا بد أن يكون هنالك اهتمام بكسب الحلال، لا بد أن يكون هنالك سعي بالطرق الشرعية في الكسب، لا بد أن يكون هنالك رضا بقضاء الله وقدره، والإنسان إذا أصابه شيء من الضرر في هذا رضي بالقضاء، ودعا ربه بالعوض، وسعى بالوسائل الشرعية لتخفيف الأضرار، وليس أن يقعد، وإذا كان الأمر يقتضي الانتظار انتظر، ولا يتعجل حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً.
عباد الله: مهما ارتفع المؤشر فلا بد أن يهبط، والدليل على ذلك قول النبي ﷺ: حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه[رواه البخاري2872] رواه البخاري، احفظوه جيداً: حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه أمر ثابت عند الله، ألا يرتفع شيء من أمور الدنيا إلا وضعه، وحطه، وطرحه، وذلك لهوان الدنيا على الله، والتنبيه على ترك المباهاة والمفاخرة، ولكي يزهد الناس فيها، ويتعلموا أنها لا تدوم، وإلا فلو بقيت أمورها في ارتفاع لغرت أضعاف أضعاف أضعاف من غرتهم، وهي ترتفع وتنخفض، فمن رحمة الله أن يجعل الانخفاض أحياناً لتنبيه العباد على تفاهة هذه الدنيا، لتنبيه العباد على دنو الدنيا، ولماذا سميت دنيا؟ وأيضاً فإن العبد لا بد أن يصيبه ما قدر عليه:
توكلت في رزقي على الله خالقي | وأيقنت أن الله لا شك رازق |
وما يك من رزقي فليس يفوتني | ولو كان في قاع البحار العوامق |
سيأتي به الله العظيم بفضله | ولو لم يكن مني اللسان بناطق |
ففي أي شيء تذهب النفس حسرة | وقد قسم الرحمن رزق الخلائق |
وينبغي أن يعلم من لم يخسر أن الوقت ليس بوقت شماتة، فإن الناس قد أصيبوا بمصيبة في الحقيقة، هذه مصيبة شملت الكثيرين، وليس من خلق المسلم أن يشمت بأخيه المسلم، وحتى لو كان قد نصحه من قبل بعدم الدخول، أو بالخروج الآن فعانده ولم يخرج، فليس من المروءة أن يقول له مبكتاً الآن: ألم أنصحك؟ ألم أقل لك؟ أنت لم تسمع الكلام، أنت كذا، أنت مغفل، الآن الناس في مصيبة ويحتاجون للتخفيف، التذكير بالرضا بالقضاء والقدر، وأن ما أصاب المسلم فهو خير على كل حال، فإن كان محسناً فهو رفعة في الدرجات، وزيادة في الحسنات، وإن كان مسيئاً فهو تكفير للسيئات، وتنبيه من الغفلات، ومن يرد الله به خيراً يصب منه[رواه البخاري5645]، وما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها[رواه البخاري5640] كما قال النبي ﷺ.
وإن من المهم التماسك، والصبر عند ورود الأنباء السيئة، وأخبار الانهيار، وهذا الصبر هو الذي يحمي المسلم من الجلطة، والسكتة، والانهيار، والجنون، والانتحار، والاكتئاب، إنما الصبر عند الصدمة الأولى[رواه البخاري1283]، وإذا أحسن العبد التعامل مع المصيبة صارت في حقه نعمة:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت | ويبتلي الله بعض القوم بالنعم |
لقد أبان الله في كتابه ما يريح القلوب، ويهدئ النفوس؛ الصبر والاسترجاع: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَسورة البقرة155-157 وإن تخفيف المصاب عن الناس عبادة وقربة إلى الله .
ويجب التوبة على كل من تسبب للآخرين بالخسائر، كذب في المعلومات، ودخل في الإشاعات، وروج الأكذوبات، والذين خدعوا هؤلاء من المساهمين الآخرين بأنواع الخدع والألاعيب لا بد أن يتوبوا إلى الله ، وأن يتخلصوا من الحرام الذي دخل عليهم نتيجة هذه الأكاذيب والألاعيب، وأيضاً فإن المسلم عليه أن يسعى فيما ينفعه من تحويل المال من مجال لآخر ليس فيه هذه المحرمات، أو هذه الخسائر.
أهمية تعلم الأحكام الفقهية المتعلقة بالأسهم
عباد الله: كان من القواعد العمرية ألا يدخل السوق إلا من يفقه أحكامه، ولم يكن عمر