الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران:102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء:1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب:70-71،
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مبشرات النصر
أيها المسلمون: إن الله تأذن بنصر هذا الدين، ووعد بتمكين عباده الموحدين: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَسورة الصف:9، وأخبر الله عن الكفرة أنهم: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَسورة الصف:8.
والله أرسل رسوله، وأنزل كتابه، وشرع دنيه، وأمرنا باتباعه ومناصرته، ووعدنا بالنصر إن استقمنا على هذه الشريعة، وحققنا هذا الدين في الواقع، والله لا يترك عباده سدى، ولا يمكن أن يضيعهم، ومن استقام منهم على شرعه نصره وأيده وآزره: فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَسورة الروم:47، واشترط الله لنصرة عباده أن ينصروه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْسورة محمد:7، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَسورة الصافات:171-173، نقول هذه الكلمات في وقت صارت السيادة فيه للكفرة في الأرض، ولكن السيادة في العقيدة والمنهج والدين لا زالت للإسلام، والله ابتعث من هذه الأمة طائفة لا زالت على الحق منصورة، فهم وإن قهروا بالسيف والسنان فلا زالت لهم الغلبة بالحجة والبيان، ذلك أن هذا الدين لا يمكن هزيمته، وليس فيه نُقاط ضعف أبداً، ومهما حاول المحاولون من النيل منه فسيبقى صخرة عاتية لا يمكن أن يُنال منها، ولكن -أيها المسلمون- لا بد أن نحقق وعد الله عندما قال لنا: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَسورة النور:55، وأخبرنا بأن كيد الكافرين في تباب، وأن عملهم في خسار، وأنهم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَسورة الأنفال:36.
أخبرنا أنهم يكيدون للإسلام وأهله، وأن الله يكيدهم : إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًاسورة الطارق:15-17، هؤلاء الذين برزوا لحرب الله ودينه ورسوله لا يمكن أن تستمر لهم الغلبة في الأرض، ولكن الله يداول الأيام بين الناس، ومنذ أن بعث الله رسوله إلى الآن إذا تأملت في سير السنوات الماضية منذ بعثة النبي ﷺ إلى هذا الوقت لوجدت بأن أكثر فترات التاريخ الماضي سيطر فيها المسلمون، أكثر فترات التاريخ الماضي كانت الهيمنة فيها للإسلام وأهله، وكانت الهزيمة والخسارة فيها للشرك وأهله، ما عدا فترات من التاريخ، تراجع فيها المسلمون عن دينهم، فألبسهم الله لباس الذل، وسلط عليهم من التتر والنصارى وغيرهم عبر التاريخ الإسلامي ما جعل المسلمين في ذل، ولكن ما أن يضعفوا حتى يقوموا مرة أخرى؛ لأن هذا الدين يحمل في طياته عوامل بقائه واستمراريته، فما أن يشعر المسلمون أنهم في ضعف وتأخر، وتخلف ومهانة إلا وتستيقظ في حاسة المخلصين منهم أهمية العمل لهذا الدين، والتضحية من أجل هذا الدين، وإذا بالصحوة تقوم، وجند الله تتحزب، وترفع الرايات، ويعلن الجهاد، ويكتب الله النصر للدين وأهله.
قال ﷺ: ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار أي شرقاً وغرباً، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر[رواه أحمد (16509)].
وروى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَسورة التوبة:33 أن ذلك تاماً، قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فتوفى كل من في قلبه مثال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم"[رواه مسلم (2907)] فتعبد اللات والعزى بعد قبض أرواح جميع المؤمنين، وأما قبل ذلك فالمعركة لا تزال مستمرة بين الحق والباطل.
وأخبر ﷺ أن الخلافة كائنة، وأنه بعد عصور من الظلمات، بعد عصور من الكفر والانحرافات، فإن الله سيرسل خلافة على منهاج النبوة في طائفة من البشر عبدوا لله، وأيدوا شرعه، وهذه أحاديث الطائفة المنصورة متواترة موجودة في كتب السنة تبشر أهل الإيمان بالنصر والتمكين، وتبشر هذه الأمة بأنه لا يمكن أن يأتي يوم عليها ليس فيها خير ولا دين مثل أمتي مثل المطر؛ لا يدرى أوله خير أو آخره[رواه الترمذي (2869)]، وقال ﷺ: بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب[رواه أحمد (20717)]، وأخبر ﷺ أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها[رواه أبو داود (4291)]، وهؤلاء المجددون قد ظهروا في الأعصار السابقة، فمنهم من اجتمعت فيه شروط التجديد وجوانبه من جميع النواحي كعمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، وجاءت أحقاب كان التجديد فيها لطائفة من أهل العلم توزعوا فيما بينهم أدوار التجديد، ونصر الله الأمة بقادة مجاهدين قادوها إلى النصر على الأعداء، واليوم ونحن نترقب ظهور الحركة التجديدية في هذا الزمن، ولا بد أن يظهر؛ لأن الله حافظ كتابه وسنة نبيه محمد ﷺ، وناصر هذا الدين ولا بد، نترقب على أعتاب هذه المرحلة القادمة ظهور آثار الحركة التجديدية في هذه الأمة، وهي آتية ولا بد، كيف لا وطلائع الصحوة قد عم خيرها شرق الأرض وغربها، ويُنتظر أن تأتي لحظة النصر الموعود: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الجحر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود[رواه مسلم (2922)]، وإذا كان قتالنا لليهود أمراً متحققاً واقعاً لا شك فيه، وما أخال، ولا أظن إلا اجتماع اليهود في أرض فلسطين من شرق المعمورة وغربها إلا دليل وإشارة واضحة إلى المعركة القادمة المرتقبة على أرض فلسطين بين المسلمين واليهود، والله سيُجري قدره، وستمضي هذه الأحداث، وهذه السنون حتى يأتي يوم النصر المنشود، ولا يكون ذلك إلا بعد التزام الطائفة التي سيتحقق على يديها النصر بشرع الله ، وإذا كانت لنا جولة مع اليهود، فإن جولتنا مع النصارى آتية ولا بد، واستمع لهذا الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم يعني النصارى بالأعماق، أو بدابق موضع فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا للقتال قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سُبُوا منا نقاتلهم الذين أُخذوا سبي منا في الماضي، وأسلموا هاتوا بني قومنا الذين أسلموا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله، كيف نخلي بينكم وبين إخواننا؟! كانوا روماً منكم، فهداهم الله للإسلام، وأخوة الدين تجمعنا بهم، ورابطة العروة الوثقى قائمة، فكيف نتركهم لكم فرسية تقتلونهم، وحق النصر واجب علينا، حق النصرة موجود، والله أخذ علينا العهد بنصرة إخواننا في الله فكيف نتركهم لكم؟ فيقاتلونهم، فينهزم ثلث من جيش المسلمين لا يتوب الله عليه أبداً؛ لأنهم لم يتوبوا، ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث الباقي، فلا يفتنون أبداً، فيفتحون القسطنطينية، ثم يقتسمون الغنائم[رواه مسلم (2897)] دلالة على هذه المعركة الكبرى التي ستحدث بيننا وبينهم، والتي أخبر عنها ﷺبقوله: سمعتم بمدينة جانب منها في البر، وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله، فقال ﷺ: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاؤوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر؛ فيسقط أحد جوانبها، قال ثوبان: أي الذي في البحر، ثم يقول الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر؛ فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيفرج فيدخلونها، فيغنموا[رواه مسلم (2920)]، ويتقاسمون الغنائم.
فتأمل كيف صار ذكر الله مرعباً لأعداء الله حتى سقطت المدينة من غير إراقة دماء، ولا استعمال أسلحة ذلك عندما يكون الجيش ملتزماً بشرع الله، وكل جيش فيهم نخالة ومنافقون لا بد من تصفيتهم قبل حدوث المعركة، وهذا لا بد منه؛ لأن الله يقول: مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِسورة آل عمران:179، فإذا تميز الطيب كتب الله النصر للطيب، وهذه المعركة الفاصلة التي أخبر ﷺ عن وقوعها، وهو الصادق المصدوق، قال: فيغدرون بكم أي: الروم، فيسيرون إليكم في ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً[رواه ابن ماجه (4042)]، فيكون مجموع جيش النصارى تسعمائة وستون ألفاً، ولكن الله ينصر المسلمين عليهم، ثم يظهر بعد ذلك الدجال الذي يقاتله المسلمون بقيادة المهدي، الرجل الصالح الذي أخبر ﷺ عن ظهوره: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم ثم اتفقوا حتى يبعث فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي...، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً[رواه أبو داود (4282)]، وبقيادة النبي الكريم المسيح ابن مريم الذي ينزل من السماء معلناً تطبيق شريعة محمد ﷺ، ويقود المسلمين، ويكون الخليفة عليهم، ويعيش أربعين عاماً، وتطرح الأرض بركتها في وقته وزمانه نظراً لخلوها عن الشرك والكفر، وتطبيق شرع الله فيها.
متى نستحق النصر؟
أيها المسلمون: متى يكون هذا النصر؟ ومتى تأتي هذه الساعة؟ اليوم؟ أو غد؟ أو بعد سنوات؟ الله أعلم، لكننا نعلم شيئاً واحداً أن هذا اليوم آت لا محالة، وأنه سيأتي عندما تلتزم هذه الأجيال بالإسلام، وعندما تكون ذات قوة، وعندما تكون هذه الأجيال ذات قوة معتمدة على الله رباً متوكلة عليه إله ناصراً لا تلتمس النصر من غيره، ولا تستجدي إلا منه ، ليس المهم تعيين الساعة التي سيحدث فيها، لكن المهم أنه سيحدث، والأهم أننا لا بد أن نسعى لحدوثه، وأن نعد العدة لمجيء ذلك اليوم، وهو آت إن شاء، وكل المسألة تضحيات وآلام تتحملها أجيال المسلمين ليصلوا ويعبروا على الجسر -جسر الإيمان والعقيدة-، إلى ساحة الملاقاة، وبغير ذلك فأي ملاقاة ترتجى، وأي نصر آتٍ إذا كان المسلمون لا يزالون في ذل وضعف، وتصوراتهم الإسلامية العقدية مغمورة مطموسة كالولاء والبراء، والاستمساك بالشريعة، وتوحيد الله حق توحيده، مفهوم لا إله إلا الله لا زال معمياً على كثير من أبناء المسلمين في العالم، متى سيتنزل النصر؟ عندما نكون مستحقين للنصر، قائمين بنصرة شرع الله ، وفي اللحظات الأخيرة: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَاسورة يوسف:110، سنة الله التي لا تتبدل، ولا تتغير، وهؤلاء الصحابة جاء قائلهم -خباب- إلى رسول الله ﷺ، فقال له: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه ﷺ، فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، واليوم يُصرف كثير من المسلمين عن دينهم بأبسط من هذا بكثير، ليس بأمشاط الحديد التي تمشط ما بين اللحم والعظم، يصرفون عن دينهم بكأس وغانيه، ونشرة ومجلة وفلم، وشيطان من شياطين الإنس، أيها المسلمون، اتقوا الله، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، فأين الثبات اليوم على الدين؟ وأين التضحيات التي قدمناها لأجل أن نكون مستحقين لنصر الله، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه[رواه البخاري (3852)]رغم قطاع الطريق، ورغم اللصوص، ولكن سينشر الله الأمن، وحصل أشياء من هذا في عصور الخلفاء المسلمين في الماضي.
أيها المسلمون: نقول هذه الكلمات لهذه الأجيال التي ظنت أنها ليست بمنصورة على الإطلاق، وأن الهزيمة قد حلت في الأمة إلى غير رجعة، وأنه لا أمل في قيام دولة الإسلام في المستقبل، نقول لهم: أيها اليائسون المثبطون والمتثبطين، نقول لكم هذه النصوص الشرعية لتعلموا أن الله سيأتي وعده ولا شك، وأنه ناصر دينه، ولكن إذا لم ننصره نحن؛ فسيأتي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍسورة المائدة:54.
أيها المسلمون: المسألة الآن مسألة تضحيات، ومسألة دعوة، وأمور تُقدم للإسلام من أموالنا وعقولنا، وجهدنا وأنفسنا، لابد من رزئية الأموال والأنفس، لا بد من يوم تكون فيه التضحية بالنفوس، وتكون لغته قعقعة السيوف، وصهيل الخيل، وأن يكون شعاره: "يا خيل الله اركبي" ، ورايته: "لا إله إلا الله، والله أكبر".
لقد عرف التاريخ أوساً وخزرجاً | فلله أوس قادمون وخزرج |
وإن سدوف الغيب تخفي طلائعاً | مجاهدة رغم الزعازع تخرج |
فإذن إذا تقاعسنا نحن فالله سينصر الدين بغيرنا، ونحن الخاسرون في جميع الحالات إذا لم نقم لله بالواجب، وننصر هذا الدين، ونفزع عن أسِرَّتنا وفرشنا الوثيرة، وانشغالنا بالدنيا، وجمع الحطام الذي سنخلفه بعد وفاتنا، ليس لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، وما أنفقت على أهلك، وعلى أهل الصدقة تبتغي وجه الله ، فطالع اليوم في هذه الأجيال من المسلمين العاكفين على التجارات والوظائف والوجاهات، وتأمل في مجالسهم، وقل وسائل تلك الجدرات التي يقبعون وراءها، أين، أين نصرة الدين وأهله؟! وأين الحمية لله، والذب عن دينه؟!
أيها المسلمون: نحن شهداء الله في الأرض، ونحن الأمة التي كانت خير أمة أخرجت للناس، فحققوا هذه الخيرية في أنفسكم وفي واقعكم.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعل يوم النصر قريباً، وأن يرد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده ، نصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، لا شيء قبله، ولا شيء بعده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد البشير النذير، والداعي إلى الله بإذنه، والسراج المنير.
حماة الدين في كل زمن
أيها المسلمون: لأن هذا الإسلام مهيمن على سائر الأديان فلا بد من يوم نهزم فيه أهل الكتاب -يهودهم ونصاراهم-، لا بد من يوم يظهر فيه بجلاء أن هذا الكتاب العزيز مهيمن على غيره من الكتب، وهو ظاهر عندنا ولله الحمد، ولكن ماذا نفعل الآن أمام هجمات الكفرة في عقيدتنا، وإجلابهم على ديننا بخيلهم ورجلهم؟ ماذا نفعل بحملات الاستشراق التي تريد تشكيك الأجيال في تاريخها؟ وماذا نفعل بحملات التبشير التي تريد إخراج المسلمين عن دينهم، وإدخال القبائل في دين النصرانية؟ وماذا نفعل في حملات اليهود على ديارنا ومقدساتنا، وأهلينا وأموالنا وأراضينا؟.
أيها المسلمون: إن لله عند كل حملة يُكاد فيها للإسلام وأهله أولياء له يذبون عن دينه، وما يقوم رجل يشكك في دين الإسلام إلا ويقيض الله من الأمة آحاداً يردون عليه، ويكبتونه، ولا يقوم شخص يحاول إثارة البلبلة والفتنة في أوساط المسلمين إلا وتجد لله في الأرض فقهاء من أهل العلم يردون عليه، والحمد لله.
وأنت ترى بعينك ما يقوم دجال يحلل الربا إلا ويقوم من المسلمين من يكبت باطله، وما يقوم رجل يبشر بالنصرانية في ديار الإسلام إلا وتجد في هذه الأمة من يقيضه الله لكشف زيف هذا التبشير الباطل، ولا تجد رجلاً يقوم ليقول بالفصل بين الإسلام والحياة، وأن الدين في المسجد، ولا علاقة له بشعب هذه الحياة إلا وتجد لله في الأرض من يقيضهم للرد عليه، وهتك أستاره، وكشف زيفه وباطله.
نشاط المنصرين
وعندما حاول النصارى في القديم تشكيك المسلمين في إسلامهم، قام من أهل الإسلام من يرد عليهم، وألف المسلمون الكتب في الرد على اليهود والنصارى وغيرهم من الطوائف، فإن الرد على البوذية والهندوسية والشيوعية أمر سهل، ليس عندهم متعلقات يتعلقون بها، فليسوا أصحاب شريعة، ولا كتاب، ولا دين، وليس لهم نبي مرسل من الله ، ولكن هؤلاء لهم نوع شبهة اليهود والنصارى، متعلقون فيها، ولهم كتب يزعمون أنها الكتب التي جاءت من عند الله، ويقولون بانتسابهم إلى أنبيائهم، فيقيض الله أمثال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم رحمه الله ليبين ضلالاتهم، ويرد عليهم، ويخرج تلميذه ابن القيم رحمه الله بهداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى ليرد عليهم، ويخرج من أئمة الدعوة من يؤلف: "منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب"، ويهدي الله أناساً منهم من الكفرة أنفسهم، فيؤلفون الكتب في فضيحة الملة النصرانية وغيرها، ونحن اليوم عندما نتأمل في جهود أعداء الإسلام من المبشرين في العالم الإسلام وغيره تجد أمراً يذهلك، تأمل في هذا التقرير الإحصائي لعام ألف وتسعمائة وتسعين في جهود المنصِّرين في العالم -الذي أعده مدير قسم الإحصاء في مركز الأبحاث، أبحاث تطوير التنصير في إحدى جامعاتهم، من عام ألف وتسعمائة إلى عام ألف وتسعمائة وتسعين-: عدد المنظمات التبشيرية في العالم إحدى وعشرون ألف منظمة، التي ترسل مبشرين من هذه المنظمات ثلاثة آلاف وتسعمائة وسبعون مؤسسة، عدد معاهد التنصير التي تدرس الكتاب أو الإنجيل تسعة وتسعون ألفاً ومائتا معهد، وعدد المنصرين في كل قطر من أبناء القطر أنفسهم -وليس من الخارج- ثلاثة ملايين وتسعمائة وثلاث وعشرون ألف منصر، وعدد المنصرين الأجانب الذين يأتون من بلدان أخرى مائتان وخمسة وثمانون ألفاً ومائتان وخمسون منصراً، والتبرع للكنيسة مائة وسبع وخمسون ألف مليون دولار، وأنواع الكتيبات الجديدة خمسة وستون ألفاً وستمائة كتيب، وعدد المجلات والدوريات التنصرية ثلاثة وعشرون ألفاً وثمانمائة مجلة ودورية، وعدد نسخ الإنجيل والعهد الجديد التي طبعت مائة وتسعة وعشرون مليون نسخة، وعدد محطات الإذاعة والتلفزيون التي تبث مواداً تنصيرية ألفان ومائة وستون محطة، وعدد المستمعين والمشاهدين يقدر بمليار وثلاثمائة وتسعة وستون ألف مليون وستمائة وعشرون ألفاً وستمائة شخص تقريباً.
هذه جهود طائفة من أعداء الإسلام، طائفة واحدة من أعداء الإسلام في نشر باطلهم، فماذا فعلنا نحن أهل الحق؟! كم عدد المعاهد التي تدرس الدين الإسلامي في العالم؟! وكم عدد الكتيبات التي وزعت؟! وكم عدد المحطات التي تبث المواد الإسلامية في العالم؟! وكم عدد الدعاة إلى الله، إلى دين الإسلام المنتشرين في أصقاع الأرض يدعون إلى هذا الدين؟! وما هي ميزانية هذه المؤسسات الدعوة الإسلامية؟!
إننا نعقد هذه المقارنة لنبين مدى تقصيرنا في دين الله الذي سنسأل عنه يوم القيامة، وسيقول الله لنا: ماذا قدمتم لديني؟ وماذا عملتم من أجل نشر ديني؟ وماذا فعلتم للدفاع عن ديني؟ والله لا يحتاج إلى عملنا، ولا إلى دفاعنا، وإنما نحن المحتاجون، فماذا قدمنا أيها الأخوة؟ وفي القارة السوداء -كما يسمونها-، في إفريقيا يعرض الطعام الآن في هذه الأيام على فقراء المسلمين مقابل الذهاب إلى الكنيسة، وأحد القساوسة ذهب بألف كيس من دقيق الذرة إلى قرية دايو في كينيا بشرط الذهاب إلى الكنيسة مقابل الطعام، أو إرسال الأبناء إليها، وعلى الأقل عدم الاشتراك في المناسبات الإسلامية، وإنشاء مراكز العلاج الطبيعي والأمراض وغيرها في بلدان المسلمين، في تلك القارة المحتاجة وغيرها، مركز تنصيري اسمه: "مركز بسم الله" للعلاج، مركز علاجي، "مركز بسم الله"؛ خداعا ًودجلاً.
النصرانية الدين المحرف
وهذه الطائفة المنحرفة من ملل الأرض قال ابن القيم رحمه الله في شأنها: "وكيف ينكر لأمة أطبقت على صلب معبودها" يعبدون المسيح، أطبقوا على صلبه، صلب إلههم الذي يعبدونه، ويقدسونه، أطبقوا على أنه صُلب "ثم عمدت إلى هذا الصليب تعبده وتعظمه" سبحان الله، صلبوا إلهك على الصليب، وأوجع الصليب ظهر المسيح بزعمهم، ثم يعبد الصليب الذي أوجع ظهر المسيح، وربط عليه المسيح، وكان ينبغي، يقول ابن القيم في هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى: "وكان ينبغي لها أن تحرق كل صليب تقدر على إحراقه"؛ لأنه آذى نبيها، أو إلهها كما يقولون، "وأنت تهينه غاية الإهانة؛ إذ صلب عليها إلههم الذي يقولون تارة: أنه الله، وتارة أنه ابن الله، وتارة أنه ثالث ثلاثة" متناقضين في أهم شيء في العقيدة.
وكيف يكون لهذه الأمة وهي تعتقد أن رب الأرض والسماوات نزل من السماء إلى الأرض ليكلم الأرض بذاته لترتفع عنهم المعاذير، ويهبط، ويلتحم في بطن مريم، وهو مخلوق من طريق الجسم، خالق من طريق النفس، وهو الذي خلق جسمه وأمه! سبحان الله!
أيها الناس: استعجبوا من هذه الخرافات، ومن رحمة الله على عباده -هم يقولون-: "أنه رضي بإراقة دمه على خشبة الصليب، ومكَّن أعداءه اليهود من نفسه"، أو من ابنه، وهو في السماء ينظر إلى ابنه في الأرض لا يحرك ساكناً، وابنه في الأرض يؤخذ ويصلب، ويصفع ويبصق في وجهه، ويتوج بتاج الشوك على رأسه، هؤلاء "الذين اختاروا عبادة صور خطوها"، يقول ابن القيم: "بأيديهم في الحيطان، مزوقة بالأحمر والأصفر والأزرق، لو دنت منها الكلاب لبالت عليها، فأعطوها غاية الخضوع والذل، والخشوع والبكاء، وسألوها المغفرة والرحمة، والرزق والنصر"، ومن يدخل كنيسة يعلم ذلك.
"والذين اختاروا صلاة يقوم إليها أعبدهم وأزهدهم، قسيسهم وراهبهم والبول على ساقه وأفخاذه" ما عندهم استنجاء ولا طهارة، "فيستقبل الشرق، ثم يصلب على وجهه، ويعبد الإله المصلوب، ويستفتح الصلاة بقوله: يا أبانا أنت الذي في السماوات تقدس اسمك، وليأت ملكك، ولتكن إراداتك في السماء مثلها في الأرض، أعطنا خبزنا الملائم لنا، ثم يحدث من هو بجانبه، وربما سأله عن سعر الخمر والخنزير، وعما كسب في القمار، وعما طبخ في بيته، وربما أحدث وهو في صلاته، ولو زاد لبال في موضعه على نفسه إن أمكنه، ثم يدعو هذه الصور التي هي من صنع يد الإنسان".
قال ابن القيم: أين هذا من "صلاة من إذا قام يصلي طهر أطرافه وثيابه، وبدنه وموضع صلاته من النجاسة، واستقبل البيت الحرام، وكبر الله، وحمده، وسبحه، وأثنى عليه بما هو أهله"دعاء الاستفتاح، "ثم ناجاه بكلامه هو المتضمن لأفضل الثناء عليه، وتحميده وتمجيده، وتوحيده وإفراده بالعبادة، والاستعانة وسؤاله الهداية" اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَسورة الفاتحة:6، الهداية المتضمنة سلوك الصراط المستقيم المرضي غير المتضمنة صراط المغضوب عليهم من اليهود والضالين -النصارى-.
ويفرغ قلبه لربه، ويخشع في صلاته، ولا يستقبل صورة ولا صنماً، فأين صلاة هذا من هذا، فالعاقل يعلم بأن هذا دين الله، وهذا دين كفر وردة، وإلحاد في أسماء الله وصفاته.
أيها المسلمون: ماذا فعلنا نحن من أجل الإسلام؟ هذه مسؤولية الأجيال في أعناقنا جميعاً، فماذا قدمنا لتربيتهم، ولدعوتهم إلى دين الله، فاتقوا الله في هذه الأمانة التي حُمِّلتموها، ما أطاقتها السماوات ولا الأرضون ولا الجبال، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً.
اللهم إنا نسألك أن تنصر دينك وكتابك وسنة نبيك، اللهم أظهر هذا الدين على سائر الملل والأديان، وانصر أهله الموحدين على المشركين وسائر ملل الكفر والنحل.
اللهم إنا نسألك فتحاً قريباً، ونصراً عزيزاً تعز به هذا الدين، وتذل به المشركين.
اللهم آمنا في بلداننا، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم أتمم لنا نورنا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، واجعل فيما أبقيت من حياتنا بلاغاً إلى خير، وعوناً لنا على طاعتك ومرضاتك يا رب العالمين، اللهم اهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم من أراد ببلادنا وبلاد المسلمين شراً فاجعل كيده في نحره، اللهم من أراد بدينك سوءً فدمره ومن وراءه تدميراً يا رب العالمين.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءوَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.