الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
شرف العلماء ومكانتهم
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍسورة المجادلة:11، قالها ربنا مبيناً كرامتهم في الدنيا، وثوابهم في الآخرة، يرفعهم بالنصر، وحسن الذكر، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات مزيداً من فضله سبحانه، قال قتادة رحمه الله: "إن بالعلم لأهله فضلاً، وإن له على أهله حقاً".
شرف العلماء عظيم، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَسورة الزمر:9،هذا مدح العالمين بالعلم الشرعي، كما قال ابن كثير رحمه الله في الآية.
العلماء أول صفاتهم: أنهم يخشون الله، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءسورة فاطر:28،ولذلك فهم يعظمون شرعه،ويقولون الحق لا يخافون لومة لائم، ولا يداهنون في أمر الله.
العلماء والأمراء هم أولوا الأمر الذين أمر الله بطاعتهم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْسورة النساء:59،أراد الله بهم خيراً ففقهم في الدين، من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين[رواه البخاري 71 ومسلم 1037].
قواعد الإسلام، والفروع، والأصول محفوظة في صدورهم، التمسوا رضا الله بسلوك سبيل العلم، فهم حماة الدين، وأعلام الإسلام، وحفظة آثاره، يحملون للناس عبر القرون الكتاب والسنة والفقه، هم كنز الملة، وحفاظ السنة، أكثر الناس بركة على العالم بعد الأنبياء؛ لأنهم ورثة الأنبياء، وهم في الأرض كالنجوم في السماء، وكالدواء للداء، وكالضياء في الظلماء، نقلهم ظاهر، وسلطانهم قاهر، ودليلهم باهر، يدعون من ضل إلى الهدى، ويبصرون من هم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه قد هدوه، يدافعون عن دين الله، إنهم أنس المجالس، إنهم الذين استشهد بهم ربهم على أعظم مشهود، شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُسورة آل عمران:18، هؤلاء أعداء الشيطان حقاً، أشرقت وجوهم، وكانت نظرة بتبليغهم سنة محمد بن عبد الله ﷺ، كتاب الله في صدورهم، آيات بينات، يردون المتشابه إلى المحكم، فقهاء علماء، بررة أتقياء، العالم من خشي الرحمن بالغيب، وزهد بما في أيدي الناس، يُعرف فيهم الخشوع والخضوع، لا يرون لأنفسهم حالاً، ولا مقاماً، ويكرهون التزكية والمدح، لا يفتون بلا علم، هم الناصحون للأمة، العالم هو الذي ألمَّ بمجمل أحكام الكتاب والسنة، يعرف الناسخ من المنسوخ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفسر، وأقاويل السلف، وهكذا يعرفهم الناس بما استفاض من أمرهم واشتهر، وبثناء العلماء على العلماء، وبيان أمرهم.
وكذلك طلبة العلم يبينون للعامة من هم العلماء، فيرشدونهم إليهم ليسألوهم، والعالم حجة بينك وبين الله، فانظر يا عبد الله من تجعل بينك وبين ربك، وكثير من الناس قد لا يفرق بين العالم وبين الأديب والشاعر والواعظ ونحو ذلك من القصّاص والكُتّاب، ويظن أن كل ما قيل في المحراب فهو صواب، وهنا يأتي دور طلبة العلم لكي يبينوا للناس من هم العلماء؛ لأن الناس يريدون الاستفتاء، ويريدون الرجوع إلى أهل العلم فمن الذي يدلهم؟!
تعظيم حرمة العلماء وخطورة انتقاصهم
عباد الله: إن تعظيم حرمة العلماء؛ من تعظيم الله، أليسوا هم الذين يدلون الناس على شرعه؟! قال الحسن رحمه الله: "موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار".
إن تعظيم حرمة العلماء؛ من تعظيم الله، أليسوا هم الذين يدلون الناس على شرعه؟! قال الحسن رحمه الله: "موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار"، وقال الأوزاعي: "الناس عندنا أهل العلم، ومن سواهم فلا شيء"، وقال سفيان: "لو أن فقيهاً على رأس جبل لكن هو الجماعة".
الناس من جهة التمثال أكفاء | أبوهم آدم والأم حواء |
فإن يكن لهم في أصلهم نسب | يفاخرون به فالطين والماء |
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم | على الهدى لمن استهدى أدلاء |
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه | والجاهلون لأهل العلم أعداء |
فعلاً الجاهلون لأهل العلم أعداء، لا يعظمون أهل العلم، وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِسورة الحـج:32، والشعيرة كما قال العلماء: كل ما أذن الله، وأشعر بفضله وتعظيمه، ولا شك أن العلماء يدخلون في هذا دخولاً أولياً، ولذلك قيل: أعراض العلماء على حفرة من حفر جهنم؛ لأن هؤلاء العلماء مصابيح، وهم من أولى الناس أن يكونوا أولياء الله ، وقد جاء في الحديث القدسي: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب[رواه البخاري6502]، ولذلك قال أبو حنيفة والشافعي: "إن لم يكن الفقهاء أولياء لله فليس لله ولي"، وقال الشافعي رحمه الله: "الفقهاء العاملون"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "من آذى فقيهاً فقد آذى رسول الله ﷺ، ومن آذى رسول الله ﷺ فقد آذى الله "، ولذلك لابد أن يُحفظ اللسان، والقلم أحد اللسانين فلا يقال باللسان والقلم عن العلماء إلا الخير، وإذا كانت الغيبة عظيمة ومن الآثام الخطيرة، فكيف إذا اغتيب العالم، وإذا كانت السخرية وإيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا جريمة، وبهتان، وإثم مبين، فكيف بمن يؤذي العلماء، وإذا كان كل المسلم على المسلم حرام دمه، وعرضه، وماله، فكيف بمن يلغ في أعراض العلماء، وإذا كان النبي ﷺ حدثنا فقال: لما عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدروهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم[رواه أبو داود 4878 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة533]، فما هي عاقبة الذين يأكلون لحوم العلماء، ويقعون في أعراضهم؟ وإذا كان هذا شأن هذه الجرائم العظيمة فما بالنا بمن يسخر منهم، ويستهزئ بهم، وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ سورة التوبة:65 وهؤلاء لو صدقوا لقالوا: نريد هدم الدين، فالزنادقة والمنافقون يريدون من وراء الوقيعة في العلماء هدم الدين، ولحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وترى هؤلاء اليوم يقعون في أهل العلم، ويصفونهم بأنهم علماء الحيض والنفاس، وهذه المسألة ليست بجديدة، فإنها قد مرت من قبل، وذكرها أهل العلم في كتبهم كما سيأتي، أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَسورة المطففين4- 6.
عاقبة الذين يقعون في العلماء
لقد رصد العلماء من قبل عاقبة الذين يقعون في أهل العلم، فذكر ابن حجر رحمه الله في الدرر الكامنة: عن أحدهم أنه كان كثير الوقيعة بأهل العلم والفقه، فشاهده من شاهده عند موته، أنه قد اندلع لسانه واسود، أي خرج من فمه واسترخى، قال أحمد رحمه الله: "لحوم العلماء مسمومة من شمها مرض، ومن أكلها مات، من أطلق لسانه في العلماء ابتلاه الله قبل موته بموت القلب".
فتنة الطعن في العلماء والهدف منها
هذه الفتنة، الطاعنون في العلماء لا يضرون إلا أنفسهم، استجلبوا على أنفسهم غضب الله، ومقته، وحربه.
الطعن في العلماء؛ طعن في الإسلام، وطعن في الدين كله؛ لأن إسقاط هذه الطبقة من الناس إسقاط للدين، فمن الذي يدل الناس على الدين، ومن الذي يفتيهم، ومن الذي يبصرهم، فإذا سقطت هذه الطبقة من الناس، فمن بقي يدلهم، ولذلك إذا مات العلماء، أو نفر الناس عنهم بمثل هذا فمن الذي سيستفتى؟ الجاهل الذي يضل الناس! وهذه الوقيعة معلومة من قبل، عندما وقع المبتدعة في الصحابة، فماذا كان مقصودهم من الوقيعة في الصحابة؟ عندما سب بعض أهل البدع الصحابة، وكفروا الشيخين، ورموا عائشة بالعظائم ونحو ذلك، ووقعوا في أبي هريرة ، ما هو المقصود من ذلك؟ المقصود هو إسقاط الحديث، وإسقاط السنة، وإسقاط الروايات؛ لأن هؤلاء الصحابة هم الذين نقلوا الدين، ولذلك فإن الخطة قديمة في هؤلاء، وعندما يسقط الرواة وأهل العلم ماذا سيحل بالناس؟ ولذلك قال أحمد رحمه الله: "إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله ﷺ بسوء فاتهمه على الإسلام"، وقال أبو زرعة رحمه الله: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله ﷺ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله ﷺ حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة".
الطعن في الرموز
وعندما يتوجه الطعن إلى الرموز، وحرب الرموز من الحروب العاتية الشديدة في هذا الوقت، فإن المسألة لها ما بعدها، قال الإمام يحيى بن معين رحمه الله: "إذا رأيت الرجل يتكلم في حماد بن سلمة، وعكرمة، فاتهمه على الإسلام"، وقال أحمد: "إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام فإنه كان شديداً على المبتدعة"، وقال سفيان بن وكيع: "أحمد عندنا محنة، من عاب أحمد فهو عندنا فاسق"، وقال الدورقي: "من سمعته يذكر أحمد بن حنبل بسوء فاتهمه على الإسلام"، لماذا؟ لأن أحمد رحمه الله كان يمثل السنة، ولذلك فالذي يطعن فيه إنما يطعن في السنة، وهذا الخلف لذلك السلف، هذا الخلف من المنافقين الذين يطعنون في أئمة الإسلام، ويتناولون الذين يدعون إلى دعوة السلف بالسوء، ولذلك ترى ألسنتهم مشرعة بالسباب لشيخ الإسلام رحمه الله، والمجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وسادة العلماء في هذا العصر ممن هم يبينون للناس الحق.
تارة يدفع إلى ذلك الغيرة والحسد، وتارة الهوى والتعصب، وتارة التعالم، ولكن يبقى النفاق أسوء ذلك، وجرح العالم سبب في رد ما يقوله، ولذلك لما فطن المشركون لهذه القضية طعنوا في النبي ﷺ فقالوا عنه: كاهن، ومجنون، وساحر، وكذاب، وبه جنة، لماذا؟ لينفروا الناس عنه، لتسقط أقواله، ولذلك فإن الله دافع عن نبيه ﷺ، مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍسورة القلم:2، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ سورة القلم:4.
وجوب الدفاع عن العلماء
ولهذا فإن الدفاع عن العلماء واجب ليس أمراً اختيارياً، فلابد أن يقوم به المسلمون جميعاً، والآثار المترتبة على الوقيعة في العلماء شيء خطير جداً، ومن ذلك أن العالم يعظم أمر الدين، فإذا أسقط من يعظم أمر الدين فماذا يحدث للناس؟ وهو قدوة صالحة فإذا سقطت القدوة من أعين الناس فماذا يبقى لهم؟ وكذلك الملكة الفقهية التي نشأت وزادت ونمت عبر هذه السنين، وبما كسبه مما سمعه من العلم وحصله، متى يعوض؟ وكذلك من عنده فقه بالكتاب والسنة موهبة آتاه الله إياها، في كم تجدها في الناس اليوم بالنسبة؟ فجرح العالم جرح للعلم كله، وجرح العالم سبب رد كل ما يقول، وهذا من إذهاب هيبة الدين في صدور العامة، ولا شك أن من يريد نشر الشر يعمد إلى إزاحة العقبات من طريقه، وأول عقبة في طريق هؤلاء هم أهل العلم، ومن أساء الأدب معهم، وفجج العبارة لينفر الناس؛ فإن الله سينتقم منه عاجلاً، أو آجلاً.
حاجة الناس إلى العلماء
عباد الله: الناس يحتاجون إلى مرجعية يرجعون إليها في أمورهم، وفي الأحكام، يستشيرونهم، فإذا اختل هذا الأمان العلمي زلزلت الثوابت، والقواعد، ودخلت البدع على الناس، وعندما يقولون عنهم أصحاب الكتب الصفراء، ويقولون: أنهم أهل التشدد والتزمت، وأنهم أصحاب الحيض والنفاس، ونحو ذلك، فقد قال الشاطبي رحمه الله:"روي أن زعيماً من زعماء أهل البدعة كان يريد تفضيل الكلام على الفقه -يعني: الفلسفة- فكان يقول: إن علم الشافعي وأبي حنيفة جملته لا يخرج عن سراويل امرأة"، قال الشاطبي: "هذا كلام هؤلاء الزائغين قاتلهم الله" يريد هذا أنه لا يخرج عن أحكام الحيض والنفاس، وترى الواقع يكذب هؤلاء، فهؤلاء الذين يتكلمون في الحيض والنفاس، أليس هو من أبواب الدين، وإذا سئل هذا الطاعن عن حكم الكدرة، والصفرة، والنقطة، وإذا اتصل، وإذا انقطع، وإذا طال، وما بعد اللولب، ونحو ذلك تجده لا يعرف شيئاً، ثم نقول لهؤلاء المنافقين: أنتم تدعون أنكم أنصار المرأة، فإذا وجد من الفقهاء من يهتم بأحكام المرأة تطعنون عليه، ويلكم ماذا تحكمون؟! ثم ترى هؤلاء العلماء الذين يتكلمون في الحيض والنفاس، يتكلمون في غيره، فهذا باب الطهارة الذي لابد منه للصلاة، للعبادة العظيمة، وتراهم يتكلمون في الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والبيوع، والنكاح، والطلاق، والإجارة، والمواريث، والقضاء، ونحو ذلك من أبواب الفقه التي تتعلق بالعبادات، والمعاملات.
الاستهزاء بالعلماء من علامات المنافقين
عباد الله: الاستهزاء بالعلماء شأن هؤلاء المنافقين، ويتكلمون عن أهل العلم بأنهم ظلاميون، ورجعيون، ومتخلفون، وطراز قديم، وأنهم أحاديو النظرة، ونحو ذلك، وإذا قام العالم يذكرهم بالله، وبيوم الحساب، قالوا: نصبت نفسك وكيلاً عن الرب وتخوفنا، ومن الذي أعطاك هذه السلطة، مع أن الله قد أخبر أنه سيحاسب العباد، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْسورة الغاشية:26، لكن جهل هؤلاء يجعلهم يقولون ما يقولون، وترى أخفهم من يقول: إن هؤلاء لا يفقهون الواقع.
العالم قد يخطئ
أيها الإخوة: العالم قد يخطأ فهو بشر، لكن هكذا توجه إليهم السهام؟ لو كان هذا صادقاً لناصح العالم بزعمه، ثم هذه أمور اجتهادية، يقول هذا بما أدى إليه اجتهاده، وهذا بما أدى إليه اجتهاده، وهكذا، وإذا نظرت في بعض هؤلاء الذين يثربون على علمائنا ممن مات ومضى إلى ربه، وممن هو على قيد الحياة -نسأل الله الثبات للجميع على الدين- لرأيت الطعن عليهم بالتشدد في فتاويهم، وإذا نظرت في فتاويهم تجد أنها قائمة على الدليل من الكتاب والسنة أفيسمى الذي يعتمد الأدلة من الكتاب والسنة متشدداً؟ ثم ينقمون على بعضهم، وإذا نظرت فيما قاله ذلك العالم في فتواه، رأيت أنهم نقموا عليه لأنه يفرق بين التوحيد والشرك، ولأنه يذم أهل الشرك، ولأنه يميز بين السنة والبدعة، ولأنه لا يرضى بالبدعة، ولا يهتف لمبتدع ولا مشرك، أفتكون الجريمة أنه يبين الشرك على حقيقته، والبدعة على حقيقتها، ثم يقال عنه لا يعرف الواقع! ثم ترى إذا تزامن مع القضية موت من كافأه الغرب على انحرافه العقدي، وقلة أدبه، واجترائه على الأخلاق، عظموه، ورفعوه، وأشادوا به، ثم يطعنون في العلماء في الوقت نفسه، فسبحان الله، إن هذا الفعل يكشف زيغ هؤلاء، والله لهم بالمرصاد.
ونحن ندافع عن أهل العلم، ونعرف قدرهم، ونرجع إليهم، فهؤلاء الذين يخشون الله، وهم أهل الزهد والورع، وأهل الفقه.
ثم إذا رأيت الطعن تجده عاماً فيمن تولى أمور الدين؛ في القضاة، وفي المحتسبين، وفي الأئمة، وفي الخطباء، كل ذلك بعد الطعن في العلماء، إنها مؤامرة على الدين كله.
نعم العالم يُخطئ، والمحتسب يُخطئ، والإمام والخطيب يُخطئ، لكن هذا الخطأ الفردي يُناصح به، وإذا لم يقبل يُذهب إلى من ينصحه، ويرأسه، وله كلام معه يقبله، لكن القضية ليست الكلام على خطأ من باب النصيحة في الدين، وإنما كلام عام لإسقاط كل هذه الطبقة، ولذلك فالمقصود هو الدين، وليست القضية شخصية.
اللهم إنا نسألك الفقه في الدين، اللهم إنا نسألك أن تؤتينا من العلم وتزيدنا منه يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ممن أردت بهم خيراً، أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، وثبتنا على الإسلام والحق المبين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن الله الملك الحق المبين، لا إله إلا هو، أشهد أنه وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، ومصطفاه من خلقه، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى ذريته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه، وخلفائه الميامين، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من التابعين لهم بإحسان.
شهر شعبان وما فيه من الأحكام
عباد الله: شهر شعبان شهر عظيم، يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، اجتهد النبي ﷺ فيه، والصيام فيه من السنة القبلية لرمضان، كما أن ستاً من شوال كالسنة البعدية بعد رمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال، ولذلك كان النبي ﷺ يُحب الصيام فيه، وينبغي أن ننصح أهلينا، ومن حولنا بقضاء ما عليهم إن كان عليهم قضاء قبل إتيان رمضان، فإنه تجب المبادرة إلى قضاء ما فات من رمضان الماضي قبل أن يأتي رمضان الجديد، ولا يجوز التأخير إلا لعذر؛ كامرأة اتصل عذرها، فمن حمل، إلى وضع، إلى نفاس، إلى رضاع، فدخل رمضان الجديد، أو من اتصل مرضه.
عباد الله: ليلة النصف من شعبان قال فيها بعض الناس كلاماً كثيراً، فينبغي أن يحرص المسلم على اتباع السنة، ونفي البدعة، والحذر من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ولذلك ذكر العلماء أن الاحتفال بليلتها بأي شكل من أشكال الاحتفال سواء كان اجتماعاً على عبادات، أو إنشاد قصائد ومدائح، ونحو ذلك من البدع، وأن تخصيصها بالإحياء، أو صلاة الألفية، أو صلاة البراءة، أو صلاة أربع عشرة ركعة، أو نحو ذلك من البدع أيضاً، وأن تخصيص ليلة النصف بقراءة سور معينة، أو دعاء معين لم يرد في الشرع؛ هو من البدع أيضاً، وبعض الناس يتقصدون فيها صدقات، أو زيارات للقبور، ونحو ذلك، فلابد من نفي البدع عن الدين.
والخامس عشر من شعبان من أيام البيض يُصام كغيره من أيام البيض، ومن كان له عادة في الصيام قبل النصف كصيام يوم الاثنين والخميس؛ فإن له أن يصوم في النصف الثاني من شعبان ولا حرج عليه في ذلك، وكذلك القضاء، فإنه يُقضى ولا حرج في ذلك، ويجب المبادرة إلى قضاء ديون الله .
واشتهر بين الناس حديث: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان[رواه الطبراني في الأوسط 3939 وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير 4395]، ولم يثبت ذلك عن النبي ﷺ، ونحن نسأل الله أن يبارك لنا في شهرنا هذا، وأن يبلغنا رمضان، ولكننا لا ننسب إلى النبي ﷺ شيئاً لم يقله، وقد سُئل الإمام عبد الله بن المبارك عن نزول الله تعالى ليلة النصف من شعبان؟ فقال للسائل الذي يظن هذا التخصيص في النزول،: "يا ضعيف ليلة النصف! ينزل في كل ليلة"، فأنكر عليه اعتقاده ذلك، ولذا فإن هذه الفرصة تُنتهز في إحياء السنن، والتحذير من البدع، والأحاديث الضعيفة والموضوعة، ويسأل المسلم ربه أن يجعله مستمسكاً بالسنة.
اللهم اجعلنا مستمسكين بسنة سيد المرسلين، اللهم اجعل حياتنا عليها ومماتنا عليها يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا، وأن تغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، اللهم ارحم موتانا واشف مرضانا، واقض ديوننا، واستر عيوبنا، وآمن روعاتنا، اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والرزق للعباد، والنجاة يوم المعاد، آمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة، وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، اللهم ثبت علينا الأمن والإيمان، واجعل بلادنا عامرة بشرعك وذكرك، وأسبغ عليها نعمك وفضلك، اللهم من أراد أمننا بسوء فامكر به، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل التقى، ارزقنا التقى، والهدى، والعفاف، والغنى.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَسورة الصافات: 180-182.