الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مسميات شرعية جاء بها الدين
عباد الله: إن الله ذكر لنا في كتابه العزيز كثيراً من الحقائق، وسماها سبحانه بأسماء معينة، وبين التوحيد والشرك، والكفر والإيمان، بيَّن الإسلام والملل الأخرى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَسورة الحـج:78، وذكر لنا في المقابل أهل الكتاب، والذين أشركوا والذين كفروا، واليهود والنصارى، والصابئين، وهو قد ذكر لنا الميتة ولحم الخنزير، وذكر لنا الحلال الطيب، سمى لنا الصلاة والصيام، والزكاة والحج، وغير ذلك من شعائره ، سمى لنا النبي ﷺ أسماء في الشريعة، فمنها -مثلاً- أسماء الصلوات والأوقات، ورفض ﷺ أن يغلبنا الأعراب على اسم صلاة العشاء، فهم يقولون: العتمة، وكذلك سمى لنا الأضحية، ونحوها من أنواع الذبائح لله رب العالمين، وتغيير الأسماء الشرعية وإبدالها هو تحريف، وأمر خطير جداً؛ لأن الأسماء التي سماها الله ورسوله يجب أن تبقى، فهي من دلالات الشرع، ومن ظلم الكلمات تغيير ألفاظها، وتغيير دلالاتها، وظلم الكلمات بتغيير معانيها، أو تغيير ألفاظها أعظم خطراً من ظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، فإن توشيه خلقة إنسان يقتصر ضرره عليه، بينما تغيير الألفاظ الشرعية، أو معانيها يؤثر على فئام من الناس فيضلهم، ولذلك لم تغنِ عن الكفار أسماء آلهتهم شيئاً، فسموا العزى من العزيز، ومناة من المنان، عندما اشتقوا من أسماء الله أسماء لآلهتهم لم يغنِ ذلك من شيء، ورفضت تلك الآلهة وأسماؤها، والنبي ﷺ طعن فيها، وهدمها، وأرسل من يحرقها، وهناك مصطلحات شرعية قد جاءت الشريعة بها، فإذا غُيرت المصطلحات الشرعية فسدت الديانات، وتبدلت الشرائع والأحكام، واضمحل الإسلام.
أعداء الدين والتلاعب بالمصطلحات الشرعية
التلاعب بالمصطلحات الشرعية من أعظم ما يسعى إليه أعداء الدين، فمما يتعين الاعتناء به معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، وعندما يحرِّم علينا الربا فنحن نسميه باسمه "الربا"، وعندما يحرِّم علينا الخمر فنحن نسميه باسمه الشرعي "الخمر"، وعندما يحرم علينا الزنا فنحن نسميه كذلك، ولو أن الناس بدَّلوا هذه الأسماء، فسموا الربا باسم آخر، وسموا الخمر باسم آخر، وسموا الزنا باسم آخر؛ يأتي أجيال يفعلون هذه الأشياء، ولا يجدون رابطاً بينها وبين الأدلة الشرعية؛ لأن الأدلة الشرعية فيها أسماء معينة، فعندما تغير الأسماء تنقطع الروابط بين أحكام هذه الأشياء -المسماة من الله ورسوله- وبين الأدلة المنصوص فيها على أحكام هذه الأشياء، فهذه لعبة خطيرة يقوم بها أعداء الدين، والقصد واضح، إنه تحريف الدين، إنه التغيير فيه والتبديل، إنه التغيير فيه والتبديل، إنه التمويه والزخرفة، فأحياناً يجملون العبارات بألفاظ فيها تمويه، فيها جمال في الظاهر، ولكن الحقيقة أنها في دين الله تعالى محرمة، فلما سمى الكافر اللات -مؤمنث الله بزعمهم تعالى الله عن قولهم-، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، أرادوا أن يُكسبوا آلهتهم أسماء شرعية، فاشتقوا من أسماء شرعية أسماء لآلهتهم، فماذا كان جزاؤها؟ أن حرقت، وكسرت، وهكذا حصل من النبي ﷺ وأصحابه، ومن واجبات المسلمين صيانة الحقائق الدينية، وعدم التلاعب بها، أو السماح بالتلاعب بها، وعندما يقال عن الصلاة رياضة، وعن الحج مؤتمر، ونحو ذلك، بدون أن تستعمل الألفاظ الشرعية، فهذه فيه خطورة أيضاً، وتأتي الشريعة بأسماء لأمور كانت في الجاهلية، فيبدل الاسم القديم، ويحل محله اسم جديد، فكان يوم الجمعة في الجاهلية يسمى يوم العروبة، فجاء الله بهذا الاسم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِسورة الجمعة:9، وهكذا جاءت النصوص بتسميته، فنُسخ ذلك الاسم حتى كأنه لم يعد شيئاً مذكوراً.
عباد الله: كان اسم مدينة النبي ﷺ يثرب، فسماها طيبة، وسماها المدينة، فلا يجوز أن نغير هذا الاسم بعد أن سماها به، فصار ذلك الاسم القديم أمراً من التاريخ القديم، شيئاً قديماً، وأما اسمها الشرعي هذا هو، وهكذا من الأمور الكثيرة التي تتفاوت أهميتها، ولكن المبدأ واحد، تسمية ما جاء في الكتاب والسنة بذات الاسم، والأمر في قضايا العقيدة خطير، أخطر من تسمية المدن والبلدان، والأمور التاريخية، مع أن الكل بالنسبة للمسلم مبدأ واحد، لكنه يتفاوت في خطورته، في خطورة أفراده وأنواعه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة، والقتل والعصمة، وغير ذلك في الدار الدنيا، فإن الله أوجب الجنة للمؤمنين، وحرم الجنة على الكافرين، وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان، إذن في قضايا العقيدة يجب الاحتفاظ بالأسماء الشرعية كما هي؛ لأنه تتعلق بها مصائر في الآخرة، وأحكام في الدنيا، فإذا قلنا مثلاً: المشرك والكافر، تتعلق بذلك أحكام في الآخرة من جهة خلودهما في النار الخلود الأبدي، وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ سورة الحجر:48، ومن جهة الدنيا فإن عداوة الكفار باقية إلى قيام الساعة، كما قال الله : إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا سورة النساء:101، ولا تجوز موالاتهم، ولا نصرتهم؛ لأن الله حرم ذلك، وإبراهيم والذين معه قالوا لقومهم المشركين: إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِسورة الممتحنة:4، فمن الأحكام العقدية هنا، وجوب التبري من الكفار والكافرين، والشرك والمشركين، وما عليه هؤلاء من الانحرافات، وعندما يكون الكافر محارباً له أحكام، وعندما يكون معاهداً له أحكام، وعندما يكون ذِمياً له أحكام، وعندما يكون مستأمننا له أحكام، ولذلك لا بد من الاحتفاظ بالأسماء الشرعية لتترتب عليها الأحكام الشرعية، فإذا ضُيعت الأسماء ضعيت الأحكام، وهذا ما يريده أعداء الله اليوم من التغييرات في مصطلحات المسلمين؛ لأنهم يعرفون أن هذه الأسماء تترتب عليها عند المسلمين قضايا كبيرة، والله فرَّق بين الفرقاء، ووضح الفرق بين المسلم والكافر، والبر والفاجر: قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُسورة المائدة:100، وقال : وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌسورة فاطر:19-23، وقال : وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُسورة غافر:58، لا يستوي المؤمنون والمسيئون، وقال : أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَسورة الجاثية:21، وقال : أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِسورة ص:28، ولذلك لو سوى الناس بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، سووا بين أهل الطاعة وأهل الفسق والعصيان والفجور، فعند الله لا يستوون.
لقد وردت كلمة الكفر بمشتقاتها من "الكفر" و"الكافرين"، و"الكفار" و"الذين كفروا" في القرآن الكريم أكثر من أربعمائة مرة، ووردت لفظة الشرك بمشتقاتها "المشركين"، "والذين أشركوا" في القرآن أكثر من مائتي مرة، ووردت لفظة "النفاق"، ومشتقاتها "المنافقين"، و"الذين نافقوا" في القرآن أكثر من خمسين مرة، ووردت كلمة "اليهود" سبع مرات، و"النصارى" ثمان مرات، ولفظة "الكفار" أربعة عشر مرة، و"الكافرين" خمساً وخمسين مرة، وكذلك "الذين كفروا" مائة واثنين وخمسين مرة، وهكذا بهذه الألفاظ، فيسمع المؤمن كلمة "كفر"، و"كافر"، و"كفار"، و"كافرين" بمجرد السماع قلبه ينطق بالكراهية لهؤلاء؛ لأنهم كفروا بالله، أشركوا به، سبوا الله، اعتقدوا في الله عقيدة ضالة منحرفة، وهكذا تنبني أحكام ومواقف.
لماذا نحافظ على المسميات الشرعية؟
عباد الله: بين لنا أن الكفار يريدون منا أن نكفر مثلهم، فقال: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء سورة النساء:89، وبين أنهم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِسورة الأنفال:36، بين عداوتهم لنا، فقال: مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْسورة البقرة:105، بين لنا أنهم يحسدوننا على ما آتنا الله، وكان الحوار مع هؤلاء في القرآن شديداً: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَسورة آل عمران:70-72، وقد بين تعالى أن طاعتهم خسارة عظيمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْسورة آل عمران:149، وحذرنا من اتخاذهم أولياء، فقال: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَسورة آل عمران:28، فسماهم باسمهم الشرعي الكافرين، وبنى حكماً على هذه التسمية، فقال: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ،وهدد من يفعل ذلك، فقال: وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُسورة آل عمران:28، وحذرنا من موالاة هؤلاء اليهود والنصارى، فسماهم بهذه الأسماء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْسورة المائدة:51، وبين لنا أن كل هؤلاء في النار يوم القيامة، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِسورة البينة:6.
حكم تغيير الأسماء الشرعية
عباد الله: إن الله قد حرم علينا أن نغير هذه الأسماء الشرعية فنسميها بأسماء أخرى لئلا تضيع الحقائق، وأخبرنا النبي ﷺ أنه سيأتي قوم يسمون الخمر بغير اسمها، لماذا؟ يريدون تضييع الحكم؛ لأن الخمر في القرآن الكريم حكمها واضح جداً: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَسورة المائدة:91، أخبرنا أنها سبيل الشيطان، يريد أن يفرق بيننا بها: يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِيريد أن يصدنا بالخمر عن سبيل الله، وذكره، وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِسورة المائدة:91، فيكره المؤمن الخمر لما ورد في النصوص الشرعية من الآيات والأحاديث بشأنها، النبي ﷺ لعن الخمرة، ولعن شاربها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، فالمؤمن ينفر من كلمة الخمر نفوراً شديداً؛ لأن المسألة فيها لعنة وغضب، وفيها السحت في الأثمان المترتبة عليها، والتفسيق لشاربها، والحد الذي ورد في السكران، فعندنا تغير الأسماء، ماذا سيترتب على ذلك في الأجيال، وكذلك الربا، وعندما تصبح كلمة الفائدة هي البديل، كما تصبح المشروبات الروحية هي البديل، وكما يغير الناس، أو كما يريد أن يغير أعداء الله اسم الجهاد إلى الإرهاب، واسم الشورى الشرعي إلى الديمقراطية، ونحو ذلك، كل هذا تسمية باطلة، فيريدون من وراء التسمية -أحياناً- التنفير من المصطلح الشرعي، كتسمية التمسك بالدين تطرفاً، وأحياناً يريدون التسوية، تسوية حقنا بباطلهم، ويروج هذا، فيسمي بعض الناس الشورى -وهي الاسم الشرعي- بالديمقراطية، وشتان شتان بين هذا وهذا، الديمقراطية التي يحكم بها الناس أنفسهم بأهوائهم، فحسب رأي الأغلبية يكون القانون، وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، ويتخذون قوانين منحرفة عما أراده الله، فأحياناً يريدون بتغيير التسمية تشويه المعنى الشرعي للقضية، أو تارة يريدون تسوية الحق بالباطل، وتارة يريدون التخفيف من مواقف المسلمين تجاه ما هم عليه هم من الباطل بحيث يكون الباطل عند المسلم سائغاً، فيتقبله.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الحق يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، أحيينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا، ولا مفتونين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، واشهد أن محمداً رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك على محمدٍ عبدك ونبيك ورسولك الذي بعثته خاتماً للنبيين، وجعلته إماماً للغر المحجلين، والشافع المشفع يوم الدين، وصاحب لواء الحمد والمقام المحمود، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى ذريته الطيبين وأزواجه، وخلفائه الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
من التحريف تغيير معنى الكلمة
عباد الله: ومن حرب المصطلحات التي يشنها أعداء الإسلام علينا أيضاً جعل معنى لكلمة شرعية غير المعنى الشرعي، فكلمة "الوسط" مثلاً، وما يشتقون منها من "الوسطية"، كلمة "الوسط" كلمة شرعية: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًاسورة البقرة:143أي: عدولاً خياراً، جعل الله هذه الأمة وسطاً في كل الأمور، وسطاً بين غلو النصارى وجفاء اليهود، وسطاً في الشريعة، لا فيه تشديدات اليهود، ولا تهاون النصارى، جعل عباده المؤمنين وسطاً بين الأمم في المطاعم والمشارب، والملابس والمناكح، وهكذا جعلهم كاملين معتدلين، وجعلهم شهداء على الناس، فيأتي أعداء الدين ليغيروا من معنى كلمة "الوسط" لتكون طرفاً في الحقيقة لا وسطاً، وهكذا يأتون بكلمات -أحياناً، وهذا من الحرب أيضاً، ومن جوانبها- لها معانٍ في السمع جميلة: ككلمة "التجديد"، و"التحديث"، و"التطوير"، و"التنوير"، و"التقدم"، ونحو ذلك من الكلمات؛ لكي يسموا بها الأشياء الباطلة التي يريدونها هم، يسمون مبادئ باطلة مخالفة للإسلام تطوراً، وتقدماً، وتنويراً، وتجديداً، وتحديثاً، ومن حرب المصطلحات أيضاً جعل الأمور الشرعية، والأحكام الشرعية توصف بأسماء هي في الحس والسمع قبيحة: كالرجعية، والتخلف، والجمود، والتحجر، والتقوقع، والظلامية، والسلبية، والتعصب، وعلى سبيل المثال أن يسمى الحجاب الكامل الذي فيه ستر المرأة لبدنها كله -وهذا ما اقتضته الأدلة الشرعية- رجعية تخلف تحجر، تقوقع، ونحو ذلك.
حرب المصطلحات، إنها حرب شرسة، إنه قضية خطيرة، فتسمى الأمور الشرعية التي يريدها الله ورسوله، بأسماء قبيحة، مثل هذه رجعية تخلف جمود تحجر، ظلامية، سلبية، تعصب، وحشية، فمن الأمثلة على ذلك إطلاق لفظة الوحشية أو الظلامية على الحدود الشرعية، قطع يد السارق، جلد الزاني غير المحصن، رجم الزاني المحصن، جلد السكران، ونحو ذلك، يقال: هذه رجعية، وحشية، وهكذا: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْسورة الصف:8، كل هذا من أجل أن يحرفوا المسلمين عن دينهم، ويلبسوا عليهم دنيهم.
سياسة الغصب سموها مشاركة | فاعجب لمن قد غدا منا يواليها |
ألست تعجب داراً قد عكفت لها | حيناً من الدهر دون الناس تبنيها |
لما أقمت لها الجدران وانتصبت | مثل الجبال التي قرت رواسيها |
حل الدخيل بها غصباً ليسكنها | يصيح في القوم إني من أهاليها |
ألست تعجب أرضاً أنت حارثها | وأنت زارعها حباً وساقيها |
لما ازدهى بعد بين الزرع سنبلها | وعندما حصد الزرع الذي فيها |
جاء هذا النصَّاب، أو جاء هذه السارق يفتك بها.
ألست تعجب أجراً أنت صاحبه | من أجل ساعات كد أنت تفنيها |
وأصبح الجسم منهوكاً برمته | من أجل آلام أوجاع يقاسيها |
إذا بصوت علا من غاصب لهم | إليك كالرعد تحذيراً وتنبيهاًً |
نصف الدراهم مما أجروك به | لي رغم أنفك يا مأجور تعطيها |
عباد الله: تسمية المنكر بغير اسمه، كلما ظهرت المنكرات، وكثر أربابها، وشاعت الرذيلة، وأميتت الفضيلة، كان ذلك من أسباب تضييع الشريعة، ومن هذا تضييع هذه الأسماء الشرعية: ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها [رواه أبو داود (3688)]، وفي رواية ابن ماجة: لا تنتهي الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر، ويسمونها بغير اسمها[ابن ماجه (3384)]، وهكذا يريدون أن يبدلوا كلام الله، وهكذا عندما تنظر اليوم في وضع الربا لتجدن من الأسماء العجيبة الكثيرة جداً المتنوعة، ما يريدون به طمس الحقائق وحرف الناس عن دينهم، فوائد، عوائد استثمارية، كلفة القرض، بيع السندات، جدولة الديون، إعادة جدولة الديون، شهادات الاستثمار، القيمة الزمنية للقرض، شهادات الخزينة، ضريبة التأخير، إلى آخر ذلك من القائمة الطويلة.
كل شيء إلا الربا، لماذا؟ لأن الله لما قال في القرآن: يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَاسورة البقرة:276، اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِسورة البقرة:278-279، لما كانت الآيات شديدة كان لا بد من تمييع القضية بتسمية الربا باسم آخر، لما قال: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاًسورة الإسراء:32،الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍسورة النــور:2، يأتي من يقول: واحد غلط مع واحدة!
عباد الله: يسمى اليوم القضية صداقة، عشيقة، صديقة، يقال عن الردة -وفيها حد بقطع العنق- حرية الرأي، حرية الفكر، يقال عن الميسر والقمار -الذي حرمه الله ورسوله، ومن سبيل الشيطان- يانصيب خيري، انظر إلى الخبث في التسمية، إنه لم يسم باسم آخر مضلل فقط، ولكن اسم فيه لفظة تجتذب النفوس "خيري"، "يانصيب خيري"، وهكذا، وهكذا من الأشياء.
العبرة بالحقيقة ولو تغير الاسم
عباد الله: مهما أطلقنا على الخنزير من الأسماء، ولو أن خنزيراً كتب عليه خروف بالخط الثلث، أو الرقعة، أو الفارسي، أو الكوفي، أو لغة أخرى، فإن العبرة بالحقيقة، وليس بهذا الاسم.
قال ابن القيم رحمه الله في خطورة التغيير: "فتغيير صور المحرمات وأسمائها مع بقاء مقاصدها وحقائقها زيادة في المفسدة التي حرِّمت لأجلها، مع تضمنه لمخادعة الله تعالى ورسوله، ونسبة المكر والخداع والغش والنفاق إلى شرعه ودينه، ولهذا قال أيوب: يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون، وقال: إنما أتي هؤلاء من حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته، وهذا بعينه هو شبهة اليهود في استحلال بيع الشحم بعد إذابته، واستحلال أخذ الحيتان يوم الأحد بما أوقعوها به يوم السبت في الحفائر والشباك.
وكم من ظلامات تسمى لديهم | بغير اسمها ستراً لها في العوالم |
تقولون هذه دفعة ثم هذه | لدينا قتال أو جريمة جارم |
وذي فرقة فاعلم بها أو معونة | وتلك إذا حققت أقبح مأثم |
وهذي مكوس كلها غير أنها | تروج على فهم امرئ غير فاهم |
فيا منكر المعروف من دين أحمد | جهلت ولكن فوق جهل البهائم |
عباد الله: هل سمعتم بشيء اسمه الاغتصاب الزوجي؟! عجيب! تسميات عجيبة! وهكذا قام الإعلان العالمي للمرأة، ومؤتمر بكين، ونحو ذلك من المؤتمرات يتكلمون عن قضية اغتصاب الزوجة، الحرية للمرأة، وإذا دعاها كارهة فهذا اغتصاب، والنبي ﷺ قال: فلتأته وإن كانت على التنور[رواه الترمذي (1160)]، الخبز يحترق، الله أعلم بما في النفوس، ويعلم ما يصلح عباده .
أيها المسلمون: إن هذه القضية جديرة بالاهتمام -والله-، إنها مسألة في غاية الخطورة، فإذا لم ينتبه المسلمون إليها، يضيع كثير من الدين.
اللهم إنا نسألك أن تثبت قلوبنا بالإيمان واليقين، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دين، اللهم ثبت قلوبنا على دينك، اللهم ثبت قلوبنا على دينا، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين، اللهم اجعلها عامرة بذكرك وشرعك.
اللهم من أراد بنا وبالإسلام وبالمسلمين سوءاً فامكر به، واجعل كيده في نحره، آمنا في الأوطان والدور، أصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
-
أبو مريم محمد الجريتلي
خطبة رائعة، لكن ملحوظة بسيطة في العناوين الجانبية مصطلح (مسميات) والصحيح (أسماء) كما لا يخفى على فضيلتكم،وأظن أنهاليست من صلب الخطبة ولكن من وضع كاتب الخطبة فوجب التنبيه.