الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب 70-71.
أما بعد:
أهمية الإفتاء والاستفتاء
فيا عباد الله: إن موضوع الإفتاء والاستفتاء من القضايا الخطيرة في حياة المسلم، ومنزلة الإفتاء خطيرة جداً؛ لأنه المنصب الذي تولاه الله بنفسه، فقال: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ سورة النساء176. فتولاها بنفسه، وأسندها إلى ذاته المقدسة.
وكان النبي ﷺ يقوم بهذه الوظيفة الشريفة أيضاً ليبين للناس أحكام الله، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سورة النحل44، فالمفتي إذن خليفة النبي في منصب الإفتاء.
وكذلك كان أصحاب النبي ﷺ هم كبار المفتين بعده، رؤوسهم علماء الناس، يرجعون إليهم.
ومعرفة الناس أحكام الشريعة وماذا يكون في قضاياهم من هذه الأحكام، ومن الأمور المهمة جداً ولا بد أن يكون في المجتمع المسلم من يقوم بهذا وإلا لاختلت حياة الناس، وتزايد الجهل، وخبطوا خبط عشواء، فأحلوا الحرام، وحرموا الحلال، وارتكبوا المعاصي من حيث يشعرون ولا يشعرون.
وإذا كان المجتمع لا يستغني عن الأطباء لأجل حاجة أبدان الناس، فإنه لا يجوز له الاستغناء عن أهل الفتيا لعلاقتهم بما هو أهم وهو دين الناس؛ ولذلك ذكر بعض العلماء أنه يجب الانتقال عن البلد إذا لم يعد يوجد فيها من يفتي، كان ذلك في الزمن المتقدم عند عدم توفر وسائل الاتصال التي أنعم الله بها على أبناء هذا الزمان.
عباد الله: وإن من الأمور المهمة جداً أن نعرف بأن المفتي يجب أن يبحث عن الحق وأن يفتي به، ليس عما صعب ولا عما سهل، وإنما ما هو حكم الله في هذه المسألة فيعلمه للخلق. مهما كانت حقيقته من سهولة أو صعوبة على السائل، وأنت ترى مثلاً في الشريعة أن الله نسخ بعض الأحكام من الأثقل إلى الأخف، ومن الأخف إلى الأثقل، ومن الشيء إلى مثله في درجة الجهد والصعوبة، فكانت الصلوات خمسين، فنسخت إلى خمس، وهذا تخفيف، وكان الذي فرض على المسلمين عاشوراء، فنسخ وجوبه بوجوب رمضان وهو أثقل، فثلاثون يوماً أثقل من يوم واحد.
ونسخ التوجه إلى بيت المقدس في الصلاة بالتوجه إلى الكعبة وهما في الجهد سواء.
إذن المكلف يعبد الله بحكم الله ، سواء ثقل على نفسه، أو خف، وسواءً كان سهلاً أو صعباً على نفسه، لكنه يعلم بأن الشريعة عموماً مبنية على التيسير كما سيأتي.
فإذا استقر عند المفتي بعد النظر بأن الحكم الشرعي هو هذا أخبر به، ولا يلتفت إلى ثقل أو خفة، ولا إلى أن هذا شديد، أو غليظ، أو سهل، أو خفيف أو ثقيل، فإن المسألة هي حكم الله .
ونحن نعرف أن من الأحكام ما هو مخالف لأهواء الناس، كالقيام لصلاة الفجر، والجهاد بالنفس، وإخراج المال، وهكذا.
عباد الله: إن الشريعة جاءت لتعبيد الناس لرب العالمين ومحاربة داعي الهوى في النفس، وتطويع هذه النفس لطاعة الله، فما أمر الله به يفعل، شق على النفس أو خف، ثقل عليها أو سهل، وإن مسألة الإخبار بأحكام الله قضية عظيمة. وقد قال الله تعالى لداود : إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىسورة ص26، وقال تعالى: فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَىسورة النساء135.
وكذلك فإن الله قال لحكام بني إسرائيل: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ سورة المائدة44.
إذن المفتي يخبر بحكم الله ويتقي ربه ولا يجاري أهواء الناس فيكونون عنده سواسية، وكذلك فإن التأني هو المطلوب، والتفقه في الدين واجب لأجل القيام بالمطلوب، وأهل الجهل لا يجوز لهم الفتيا أبداً، وإذا فعلوا ذلك انطبق عليهم قول الله: لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ سورة النحل25.
وقد أخبر النبي ﷺ عن آخر الزمان: أن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا[رواه البخاري100].
واجب المستفتي
ويجب على المستفتي أن يعرف أهل العلم ليسألهم، فإذا لم يعرفهم باشتهار أسمائهم، وفضلهم، وعلمهم، وثناء طلبة العلم عليهم، فإنه يسأل عنهم، فيقول: من أستفتي؟ والواجب عليه أن يتحرى فيمن يستفتي؛ لأن هذا دين فيجب أن ينظر عمن يأخذ الدين، دينه عمن يأخذه، لا يجوز له أن يأخذه عن جاهل، ولا عن متساهل، وقد قال الله: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِسورة النحل43، ولم يقل: فاسألوا أهل الجهل، فإذا كنت مأموراً يا عبد الله بسؤال أهل العلم فإن العاقل لا بد أن يتحرى لدينه من هو أعلم وأورع، الأمثل فالأمثل. كما قال محمد بن سيرين رحمه الله: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
وأنت إذا أصابك مرض فإنك تفزع إلى أفضل الأطباء الذين يمكنك الوصول إليهم، في المرض الخطير، فتسأل عن الاستشاريين، قبل أن تسأل عن الأطباء المقيمين، وعن الطبيب العام، ونحو ذلك.
وربما بقيت تسأل وتسأل من هو الطبيب الأفضل وكيف الوصول إليه؟ ويسافرون إلى بلاد الغرب البعيدة أو إلى بلاد الشرق الأدنى لأجل طبيب سمعوا عنه أنه متخصص في المرض الفلاني، وماهر بالعلاج الفلاني، ونحو ذلك.
فما بالنا إذن في دين الله نتساهل بالسؤال، مع أن دين الله أغلى من البدن وأعظم، ولذلك فإنه يجب على المسلم أن يدقق فيمن يسأله، وأن يتحرى فإن هناك الكثير من الجهلة الذين نصبوا أنفسهم للجواب، وتصدوا للناس، وبعضهم يفعل ذلك لأغراض دنيئة خبيثة، وربما تزيا هؤلاء بزي أهل العلم، وقد كان العلماء حريصين على كشف هؤلاء ويحتسبون الأجر في بيان حالهم.
صور من فتاوى الجهال
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين، من كان يكتب على ورقة الميراث التي فيها السؤال عن قسمة التركة من جهله: تقسم بين الورثة على فرائض الله وانتهى الجواب.
وسئل آخر عن مسألة في الزكاة فقال: أما أهل الإيثار فيخرجون المال كله، وأما غيرهم فيخرجون القدر الواجب فقط.
وسئل آخر عن مسألة فقال: فيها قولان. ولم يزد عن ذلك.
وذكر ابن الجوزي في تلبيس إبليس عن امرأة جاءت إلى واحد من مثل هؤلاء وأمامه نحو من ألف نفس فقالت له: حلفت بصدقة إزاري، أي نذرت أن تتصدق بإزارها لو حصل الشيء الفلاني، ماذا تفعل، فقال لها: بكم اشتريتيه؟ قالت: باثنين وعشرين درهماً، قال: اذهبي فصومي اثنين وعشرين يوماً. فانظر إلى هذا الجهل العظيم، فلما مرت وذهبت جعل يقول: آه آه غلطنا والله أمرناها بكفارة الظهار. وهذا جهل أطم وأعظم فإن كفارة الظهار موجودة في كتاب الله .
ثم قال ابن الجوزي: فانظروا إلى هاتين الفضيحتين فضيحة الجهل وفضيحة الإقدام على الفتوى بمثل هذا التخليط.
ويكثر في الحج أن يسأل الحاج أي شخص يجده أمامه، وأي صاحب لحية يسير في الطريق، وربما سأل هؤلاء الجهلة الذين يرتدون العباءات السوداء يطوفون الناس حول الكعبة وبين الصفا والمروة.
ولما سئل أحدهم عن المرأة قد حاضت ماذا بالنسبة لطواف الإفاضة؟ قال: ما عليها طواف ولكنها تصلي، فقال السائل: عجباً تصلي، قال: لا آسف إنها تقضي الصلاة.
فانظر إلى ما وقع من الجهل عند هؤلاء.
ومن المعلوم المستقر في شريعة الإسلام أن الحائض لا تصلي ولا تقضي الصلاة، وأن طواف الإفاضة ركن لا يسقط أبداً بخلاف طواف الوداع الذي إذا حاضت المرأة قبله سقط عنها.
وإذا كان هذا ربما يحدث في مكان الحج وهو المكان الذي يظن اجتماع أكبر عدد من أهل العلم فيه، فما بالك بالمساكين المسلمين الذين في بلاد أوروبا الشرقية، وفي الجمهوريات السابقة؟
ذهب واحد مسلم مع نصرانية للزواج بها يسأل المفتي هناك، قال: لا يجوز لك أن تتزوجها، فإما أن تسلم هي وإما أن تتنصر أنت، أما أن تتزوجها وكلاكما على دين وأنت على دين يختلف عن دينها، فلا، فانظر إلى هذا الجاهل العاصي الأفاك الأثيم الذي خيَّره في أن يتنصر لكي يتزوجها، ويرتد عن دينه ويخرج إلى الكفر.
وأفتى بعض أئمة المساجد في بلاد أوروبا الشرقية بإسقاط الصلوات مقابل مبلغ معين يدفعه من يريد الإسقاط عن كل صلاة، وهكذا يحدث يا عباد الله من الأشياء العجيبة، وهذه الفتاوى الضالة التي تخرج على الناس بين الفينة والأخرى، فيقول القائل لهم: الفوائد الربوية لا بأس بها إذا كانت قليلة 5% ونحو ذلك، ويسمونها العائد الاستثماري أو الربح الاستثماري، كما غيروا اسم الخمر إلى المشروبات الروحية، وغيروا أنواع الملاهي المحرمة من الأدوات الموسيقية وغيرها إلى اسم الفن ونحوه.
وقد قال ﷺ: ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها[رواه أبو داود3688].
ووصل الأمر إلى أن أباح بعض هؤلاء الكذابين الأفاكين زواج الكافر من المسلمة، وأن منع هذا سيؤدي إلى مشكلة وطنية، وتفرقة بين المواطنين، فقالوها بملء الفم وأفتوا بها. والله قد بين في كتابه العزيز أنهن لا يحلون لهم أي للمشركين.
وقال بعضهم لبعض المسلمين في بلاد الغرب: أنه يجوز لهم نقل صلاة الجمعة من يوم الجمعة إلى يوم الأحد؛ لأجل أن ذلك يوافق إجازة الناس في دراستهم وأعمالهم، فانظر إلى هذا المغير، لهذا الحكم العظيم في اليوم العظيم.
ومنهم من أفتى واقترح بأن المصلحة هي الصلاة على الكراسي وأن هذا أفضل في النظام وأكثر راحة للمصلين، عندما رأى النصارى في الكنيسة ماذا يفعلون.
وسئل بعضهم عن خلع بعض ملابس الفتاة لها في ليلة الزفاف، فقال: لا بأس، تخلع ما تخلع ما دامت سترتديه فيما بعد.
وسئل أفاك آخر عن حلق اللحية؟ فقال: إنما هي شعيرات إن شئت أطلقتها وإن شئت حلقتها.
وسئل آخر عن صلاة النساء على الشواطئ بالمايوه فقال: لا بأس ما دامت سترت العورة المغلظة.
وأفتت إحدى الصوفيات المنحرفات المعاصرات بجواز صلاة المرأة عارية تماماً في الظلام الدامس وحدها.
وأفتى مفت من تركياً دكتور في علوم الدين في الجامعة هناك، المسلمين الذين لا يستطيعون ذبح الخراف في عيد الأضحى بالتضحية بالدجاج، وقال هذا في مواجهة الأزمة الاقتصادية.
ومنهم من سمع فتيا بأن البنك إذا كان يملك نصفه كفار ونصفه مسلمون أنه يجوز للمسلم أخذ نصف الربا.
عباد الله: كم أضلت هذه الفتاوى من الناس، وكم عبثت في الدين، بل كم ردت من التائبين إلى المعصية مرة أخرى، كما حصل من هؤلاء الذين أفتوا بجواز الغناء الديني والتمثيل الديني للنساء، فتأتي المغنية والممثلة التائبة التي تركت الخضوع بالقول أمام الرجال الأجانب، تركت الغناء وتركت ظهور جسدها على الشاشات، وظهور الوجه الذي فيه المفاتن أمام الرجال، واستقامت على الدين ليرتد هؤلاء المساكين مرة أخرى إلى عالم الغناء والتمثيل بفتاوى هؤلاء الجهلة، وهؤلاء الأفاكين الذين يفترون على الله ، ولا يتورع الواحد منهم أن يجلس أمام امرأة أجنبية تحاوره في برنامج وهي سافرة، بالمكياج متبرجة، ومتزينة، وجهاً لوجه يتحدث عن نفسه وعلمه. ألا إنه ينادي على نفسه بالفسق وهو الذي يقول: يا أيها الملايين من المشاهدين انظروا إليَّ وأنا أخالف قول الله: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْسورة النور30، واعلموا جميعاً أني لا أغض بصري أبداً، واعلموا بأنني أضرب بحديث النبي عرض الحائط: لا تتبع النظرة النظرة[رواه أبو داود2149]، فها أنا أنظر وأنظر وأنظر، وأتبع النظرة وراء النظرة، والغريب أن يتصل بعض هؤلاء المسلمين المساكين يستفتون مثل هذه الأشكال.
وكثير من مفتي الفضائيات ينهجون مثل هذا النهج في التساهل والتفريط، فهل يجوز استفتاء مثل هؤلاء؟
يا عباد الله: إنه دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، ولذلك نص العلماء: على عدم جواز استفتاء المتساهلين، وقال ابن مفلح رحمه الله: يحرم التساهل في الفتيا، واستفتاء من عرف بذلك، وهؤلاء المتلاعبين بأحكام الشريعة يا ويلهم يوم الدين.
إنه دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، ولذلك نص العلماء: على عدم جواز استفتاء المتساهلين، وقال ابن مفلح رحمه الله: يحرم التساهل في الفتيا، واستفتاء من عرف بذلك، وهؤلاء المتلاعبين بأحكام الشريعة يا ويلهم يوم الدين.
الفهم الخاطئ لعبارة الدين يسر
عباد الله: ويريد بعض الناس الوصول إلى ما يريدون من الأجوبة عن طريق العبارة العظيمة "الدين يسر" وهو يسر رغماً عن الجميع، وقد قال الله تعالى: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَسورة البقرة185. لكن ما معنى أن الدين يسر؟
هذه العبارة التي يخطئ في فهمها الكثيرون، وتقوم الجرائم على الدين بسبب فهم هذه العبارة الفهم المنحرف، وإلا فإنها عبارة شرعية صحيحة، لكن ما معناها؟
من معانيها: أن أحكام الله تعالى كلها يسر باعتبار أصلها، فالصلوات خمس فقط في اليوم والليلة، والصيام أيام معدودات وليس طول السنة، والزكاة مقدار قليل في المال خمس وعشرين في الألف، والحج مرة واحدة في العمر، وهكذا. فهذا من معاني أن الدين يسر، أنه في أصله يسر على الجميع.
ومن معانيها أيضاً: أنه إذا وجد سبب يقتضي التخفيف خففت العبادة بالنسبة لأصحاب الأعذار؛ كالصلاة قاعداً إن لم يستطع قائماً، وعلى جنب إن لم يستطع قاعداً، وقصر الصلاة من أربع إلى ركعتين في السفر، وجمع الصلاتين للمريض، والمسح على الخفين والجوربين، والتوكيل برمي الجمار عند العجز عنه، وهكذا جواز إجراء عمليات التجميل لإزالة العيوب الحادثة نتيجة الحروق والحوادث، وجواز ذهاب المرأة إلى الطبيب عند عدم وجود الطبيبة، وجواز خروج المعتدة من وفاة زوج بالنهار للحاجة كالتمريض، والتدريس، والامتحانات.
إذن هذه جوانب من يسر الشريعة.
أما إذا أردنا أن نمشي على ما يفهمون بضلالاتهم، فسنقول بإلغاء الجهاد؛ لأن فيه مشقة، فيه تعريض النفس للقتل، إذا أردنا أن نمشي على أهوائهم سنلغي صلاة الفجر؛ لأن فيها قيام من النوم الذي يثقل جداً على النفس، خصوصاً في أيام الشتاء، أو عندما يكون الفجر مبكراً في الصيف.
إذا أردنا أن نمشي على أهوائهم فسنلغي كثيراً من الأحكام الشرعية؛ لأن فيها مشقة على النفس، فإذن ليس معنى الدين يسر أنه لا مشقة فيه، ليس معنى أن الدين يسر أنه لا يخالف أهواء النفس، بل يخالف أهواء النفس، وكيف يتبين صدق المسلم من كذبه إذا كان لا يخالف هواه؟ ما معنى حفت الجنة بالمكاره، وما معنى حفت النار بالشهوات[رواه مسلم2822].
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من المتبعين للحق يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ممن يقضون بالحق وبه يعدلون، اللهم اجعلنا من المتبعين لسنة نبيك ﷺ في الصغير والكبير إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
الشريعة حاكمة على أقوال الناس وأفعالهم
عباد الله: لقد جاءت الشريعة لتحكم على أقوال الناس وأفعالهم، ولكن في هذا الزمان انقلبت الموازين، وصار كثيراً من الناس يحكمون على الشريعة، ولا يُحكِّمون الشريعة، وصار اتباع الحيل المحرمة ديدن الكثيرين وعادتهم.
قال العلماء: ولا يجوز تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص.
وقال ابن القيم رحمه الله: لا يجوز للمفتي أن يعمل بما شاء من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح ولا يعتد به، فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخيير، وموافقة الأهواء، بل على المسلم أن يتبع الحق وأن يسأل عنه.
اتباع الرخص
واتباع الرخص من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر.
قال سليمان التيمي رحمه الله: لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.
وقال الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام. يعني: ما يخالف فيه العالم العلماء الآخرين كلهم. هذه الشذوذات لا يجوز اتباعها، وقد يكون هذا العالم معذوراً فيما ذهب إليه باجتهاد، لكن إذا عرفت بأن فتياه مخالفة لفتيا العلماء الثقات، بل مخالفة للقرآن والسنة، فلا يجوز لك الأخذ بها، ولو كان من كان.
وقال الإمام أحمد: من أخذ بقول أهل الكوفة بالنبيذ وأهل كذا في السماع، وأهل البلد كذا في المتعة كان فاسقاً.
وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي رحمه الله: دخلت على المعتضد أي الخليفة، فرفع إليَّ كتاباً لأنظر فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء. يعني هذا المؤلف للكتاب أراد أن يرضي السلطان، وأن يمشي على هواه فجمع له الرخص من كل مذهب والتسهيلات من كل فتوى شاذة في كتاب واحد، التسهيلات في الطهارة، التسهيلات في الصلاة، التسهيلات في النكاح، التسهيلات، التسهيلات، والرخص، فقلت: مصنف هذا الكتاب زنديق. فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب.
وقال العلماء بتحريم تتبع رخص المذاهب من غير مستند شرعي.
وطلب بعض الناس من الفقيه الهيثمي الشافعي أحد قضاة المسلمين شاكياً إليه رجلاً أفتاه في مسألة شدد فيها عليه، فلما نظر فيها ووجدها مطابقة للحق قال: ما ذكر عن هذا القاضي إنما يعد من محاسنه لا من مساوئه، فجزاه الله تعالى عن دينه وأمانته خيراً.
وبعض العامة تبلغ به الوقاحة أن يقول للشيخ أو لمن يستفتيه بعد أن يعرف الجواب الذي لا يوافق هواه: يا شيخ ما فيها قول آخر، دور من هنا أو من هنا.
قال أبو الوليد الباجي المالكي رحمه الله في كتابه التبيين لسنن المهتدين: وكثيراً ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان، يعني مثل الطلاق، والحلف بالطلاق مثلاً، ونحوها، يقول السائل للشيخ: لعل فيها رواية، أو لعل فيها رخصة. وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة والجائزة، وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق رضي بذلك من رضي وسخطه من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه، فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه.
والله تعالى يقول لنبيه ﷺ: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْسورة المائدة49.
وقال القرافي رحمه الله: أما الحكم والفتيا بالمرجوح فهو خلاف الإجماع، لا يجوز الحكم بالمرجوح، ولذلك قال عمر لزياد بن حدير: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم.
ولذلك فإن من المآسي أن تجد من يجامل الكبراء والأغنياء فيفتيهم برخص لا يفتي بها العامة. وربما قال من جراءته ووقاحته: نحن نفتي الناس بكذا ولك أنت نقول: يجوز.
والمرأة بدون محرم يكفينا أنها معك أنت ثقة، سبحان الله، سبحان الله.
وبعضهم يجاري واقع الناس، ويتهيب أن يخبرهم بالحكم إذا شق عليهم، قل وكن شجاعاً في الحق.
التشديد في الفتوى
وبعض المفتين ربما يشدد بدون وجه حق، وقد حدثت حادثة على عهد النبي ﷺ فيما رواه أبو داود عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي ﷺ أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال[رواه أبو داود336].
هذا الرجل المجروح المحتلم الذي عليه جنابة سأل هل يوجد له رخصة؛ لأنه يرى بأن الماء يضره، فهؤلاء أجابوه بغير علم راسخ، قالوا: لا نجد لك رخصة وأنت تجد الماء، فاغتسل فمات، فالنبي ﷺ قال: قتلوهوأسند القتل إليهم؛ لأنهم تسببوا له بتكليفه ما لا يوجب عليه الشرع أن يفعله في هذه الحالة، حالة ضرورة واضحة، هذا ليس تساهل، إفتاؤه بالتيمم ليس تساهلاً، الرجل في حال ضرورة، وقال النبي ﷺ زجراً وتهديداً: قتلهم الله، ألاتحضيض سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي أي: الجهل، إنما شفاء العي السؤال. والجهل داء وشفاؤه السؤال والتعلم.
وهكذا يا عباد الله نعود إلى المسألة، يعبد الله بالأحكام التي أنزلها، ثقلت على النفس أو خفت، والدين يسر، عبارة واضحة معناها معلوم، ولكن الافتراء على الشرع من الفهم الضال له.
نسأل الله أن يفقهنا في ديننا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، اللهم اجعلنا ممن أردت بهم خيراً يا رب العالمين، وفقهنا في الدين إنك أنت العليم الحكيم، اللهم إنا نسألك الأمن في أوطاننا، اللهم اجعل المسلمين في أوطانهم آمنين مطمئنين، اللهم من أراد بالمسلمين سوأً فاجعل كيده في نحره، اللهم شتت شمله، وفرق عليه جمعه، اللهم إنا نسألك أن تنزل عذابك باليهود الظالمين، اللهم إنا نسألك أن تجعل رجزك على الصليبيين الأعداء، يا رب العالمين، اللهم انتقم للمسلمين من الكافرين إنك على كل شيء قدير.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.