الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه نستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الحمد لله الذي بعث رسوله باللسان الفصيح والشرع المليح، وجعل الدين الصحيح موافقاً للعقل للصريح، لا عداوة بين الدين الصحيح والعقل الصريح أبداً.
الحمد لله الذي أنزل الدين وأتم النعمة، وجعل الشرع كاملاً.
خطورة تقديم العقل على النقل
عباد الله: هذا دين الإسلام الذي أنزله الله تعالى رحمة للأنام، وأنزل فيه ما هو خير لنا ونهانا فيه عما هو شر لنا.
عباد الله: إن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ومن أعظم البدع التي حصلت في تاريخ الإسلام تقديم العقل على النقل، وادعاء أن العقل يخالف النقل في بعض الأحيان، وأنه إذا حصل خلاف بين دليل وبين العقل يقدم العقل، أولئك الأخسرون أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، أتباع المنهج العقلاني، الذين قدسوا العقل وقدموه على الكتاب والسنة، بدعة قديمة حديثة، قديمة في أشكالها وأنواعها، وحديثة فيما يظهر منها في هذا الزمان من أنواع وألوان من البدع أيضاً، لقد ضلت الفرق في قديم الإسلام، في قديم عهد الإسلام بعد عهد النبوة، عندما قدموا العقل على النقل، وخرجت الفرق من الخوارج، والمعتزلة، وغيرهم بسبب تقديمهم للعقل على النص، ما راعوا حرمة الكتاب والسنة، ولا جعلوا للنص مكانه الصحيح، وزعموا أن العقل الكامل هو قطعي، يقدم على النص إذا حصل تعارض، قال ابن القيم رحمه الله: وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي. فلا إله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق، وأثبت بها من باطل، وأميت بها من هدى، وأحيي بها من باطل، وكم هدم من معقل الإيمان، وعمر بها من دين الشيطان، إن الله تعالى خلق عقل العباد محصوراً، لا يدرك أموراً كثيرة، وجعل له وظائف.
وظيفة العقل في الإسلام
فإن قال قائل: ما هي وظيفة العقل في الإسلام؟
فنقول: إن وظيفة العقل أمور كثيرة، ومنها: اجتهاد العلماء بعقولهم في استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية، وخصوصاً للقضايا المستجدة كالصلاة في الطائرة، والصوم في بلاد فيها ليل متواصل، أو نهار متواصل، أو نحو ذلك في كل عصر بحسب ما يستجد فيه.
من وظائف العقل عمارة الأرض، واكتشاف كنوزها ومعادنها، والاختراعات، وسائر المكتشفات التي تطور حياة البشر، من وظائف العقل قبل ذلك أيضاً التفكر في ملكوت السماوات والأرض، والنظر في آيات الله تعالى في السماء والأرض، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَسورة الذاريات21، من وظائف العقل أن يتفكر في خلق الله، وحسن صنعة الله تعالى ليزداد صاحبه إيماناً، من وظائف العقل أن يوازن بين المصالح والمفاسد في الأمور المختلفة، مثل مسألة نكاح، أو وظيفة، ونحو ذلك.
والعقل أيها الناس عقلان: عقل هداية، يهبه الله لمن يشاء، يهتدي به صاحبه إلى الحق، وعقل معيشة يصرف به الإنسان معيشته، يدبر أمره، يدبر كسبه، يتوصل إلى رزقه، يقلب التجارة، يقلب الأموال، يحاول الوصول إلى ما يصلح معاشه ودنياه، وهذا عقل المعيشة عند المسلم وعند الكافر، أما عقل الهداية فلا يكون إلا لمن أنعم الله عليه، ولذلك تجد كثيراً من حملة الشهادات العالية والمناصب العلمية الكبيرة ضالون عن منهج الله، خارجون، تجد هؤلاء خارجين عن الشرع وعن الوحي، بل حتى عن العقل الصحيح.
رأى دكتور هندوسيٌ رجلاً مسلماً يقطع لحماً ويقليه فجعل يبكي ودموعه تتحادر من عينيه، فلما سأله المسلم عن سبب بكائه قال: هذا إلهي يقطع أمامي ويقلى، وأنا أتفرج، هذا دكتور هندوسي متعلم مثقف يحمل شهادة عالية هكذا يقول، وهكذا النصارى واليهود والبوذيون وسائر الضلال، وأصحاب البدع والأهواء، مهما بلغت مناصبهم العلمية وشهاداتهم فإنهم لا يتوصلون إلى الحق إلا إذا هداهم الله؛ لأن الله أعطاهم عقل معيشة، لكنه لم يقدر لهم عقل هداية، وتجد المسلم الأمي القروي البسيط الذي لا يعرف القراءة والكتابة يعرف ربه ودينه ونبيه، وشرعه؛ لأن الله هداه بعقل الهداية، ولو لم يكن له كبير عقل معيشة.
أمثلة على تقديم العقل
أيها المسلمون: إن القضية الخطيرة اليوم، أن أناساً يقدمون عقولهم على الشرع المطهر، فيعترضون على أحكام، وعلى أخبار من الله ورسوله زاعمين أنها تخالف العقل.
قال أبو الزناد رحمه الله: "إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيراً على خلاف الرأي، فما يجد المسلمون بداً من اتباعها"
ما معنى الإسلام؟ هو الاستسلام لله، ومن ذلك أن الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة، لماذا تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة؟ هكذا جاء الشرع المطهر، ولكنك لو تبصرت بالعقل الصريح لوجدت أن النقل الصحيح يوافق العقل الصريح، وأنه يشق عليها أن تقضي هذه الصلوات الطويلة في وقت حيضها، لكنها تصوم أيام العادة المعدودة، "لو كان الدين بالرأي لكان مسح باطن الخف أولى من ظاهرها"، مسح باطن الخف أولى من ظاهره، كما قال علي .
لا يجوز لنا مطلقاً أن نحكم عقولنا في النصوص فنرد هذا ونقبل هذا؛ لأن العقل وافق هذا وخالف هذا، ما دام ثبت عن الله ورسوله يجب الأخذ به ولا بد، ولذلك نعى العلماء من القديم على من قال بمسائل مخالفة للدليل، مثل قضية إشعار الهدي، ما هو إشعار الهدي؟ عندما يسوق الحاج هديه كما فعل النبي ﷺ لما حج قارناً وساق الهدي، فمن تعظيم شعائر الله أن يشعرها، ويقلدها، فوضع في رقبتها علامة على أنها هدي، وأشعرها وذلك بجرحها من جهة السنام ليسيل الدم على صفحتها، فتعلم بأنها هدي فلا توهب، ولا تباع، ولا تشترى، ولا تذبح إلا عند بلوغ الهدي محله، وإذا ضاعت لا يمكن التصرف بها من قبل من وجدها؛ لأنه يعلم أنها هدي، قال بعضهم برأيه: إن الهدي مثلة وتعذيب للحيوان، فصادموا بعقولهم هذا النص الصريح الصحيح من النبي ﷺ، فكيف توازن مصلحة تعظيم شعائر الله العظيمة بإيلام بسيط لبعير في منطقة السنام، منقطة الشحم التي لا يكاد يتألم بها.
إذن -أيها المسلمون-: لا يجوز مطلقاً استعمال العقل في مخالفة النص، وإنما نفهم النص بالعقل، لا نرده ولا نخالفه، ولذلك لما اعترض بعضهم عند وكيع رحمه الله في قضية إشعار الهدي غضب غضباً شديداً، وقال: أقول لك: قال رسول الله ﷺ، وتقول: قال فلان مثلة وتشويه، قال فلان: مثلة، ما أحقك بأن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا.
أيها المسلمون: ما هو السبب في جعلنا للنص فوق كل شيء؟
لأن الله قال: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْسورة الأحزاب36، فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًاسورة النساء65، العقل لا يمكنه أن يخترق حجب الغيب، لا يمكنه أن يعرف المستقبل، العقل قاصر، العقل محدود، حتى في الحاضر لا يدرك كل الحاضر، بل ربما يفكر الإنسان ويضرب أخماساً بأسداس ولا يتوصل للقرار الصحيح، ويكتشف بعد طول التفكير واتخاذ القرار وتنفيذه أنه كان قراراً خاطئاً، وربما حصل لمجموعة في مجلس إدارة شركة قرار جماعي يكتشفون بعده أن قرارهم كان خاطئاً، هذا في مجال الدنيا، فكيف إذا تدخل العقل في رد النصوص الصحيحة، كيف إذا تدخل في الغيب، الإيمان بالغيب واجب، وهو من أهم صفات المؤمن التي ذكرها الله في أول سورة البقرة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِسورة البقرة3، عقلك يتخيل أنهاراً بدون حواف، أنهاراً تجري على سطح الأرض دون أن يكون لها أخاديد وحواف هكذا أنهار الجنة، عقلك يتخيل أشجاراً من ذهب، تثمر وتنبت، هكذا أشجار الجنة، العقل يتخيل قوارير من فضة وشفافة، فضة وشفافة، هكذا هي القوارير في الجنة.
أهمية هذا الموضوع
أيها المسلمون: لماذا نطرح هذا الموضوع؟
لأنه قد نبتت نابتة في المسلمين في هذا الزمان يسمون أنفسهم بالعقلانيين، أو أصحاب الإسلام المستنير، بالمستنيرين يسمون أنفسهم، يعني أن بقية الناس ليسوا كذلك، وإنما هم جاءوا بهذا الإسلام المطور والمعدل والمنقح لماذا؟ لأمور كثيرة، في مواجهة أتباع السلف الذين يتمسكون بالنصوص، فهؤلاء المستنيرون العقلانيون يسمون أتباع النص أتباع السلف بالوثنيين عبدة النصوص، ويقولون: أنتم تعبدون النصوص.
ونحن مسلمون لا نقدم على الكتاب والسنة رأياً ولا عقلاً، ولا نقدم شيئاً ولا حكماً إلا حكم الله ورسوله، هؤلاء أصحاب المدرسة العقلانية الذين يعرفون بالمستنيرين أو الإسلام المستنير بزعمهم، إنما نشأت دعوتهم تحت هجوم الغرب على الإسلام والمسلمين، فقذف الكفار بشبهاتهم، فقام هؤلاء بزعمهم يدافعون، قال الكفار: أنتم تفرقون في المواطنة بين النصراني والمسلم، فقال هؤلاء الضلال: لا، كل من أقام في مكان أو بلد واستوطن فيه فهم متساوون الحقوق سواء، نصراني، مسلم، يهودي، هندوسي، كلهم سواسية في جميع الأشياء في المناصب وغيرها، وفي المكانة، وفي الدية، ولذلك إذا قال الكافر: دية الكافر عندكم بزعمكم نصف دية المسلم في أهل الكتاب، وأقل من ذلك في الوثنيين، قال هؤلاء: كلا، كلا، إنها سواء، إن الدية متساوية.
لما قال الكفار: الحدود وحشية، قطع الأيدي وحشية، حد الرجم وحشية، قال هؤلاء: الحدود تعزيرات بحسب المصلحة وحال الدنيا، فقالوا: قطع اليد شريعة بدوية، وقالوا: حد الرجم غير موجود في الإسلام، غير موجود في القرآن فنفوه، ورجم رسول الله ﷺ، ورجمنا بعده كما قال عمر، ويقول هؤلاء بإلغاء حد الرجم.
ثم قالوا: حد الردة غير موجود في الشريعة، من بدل دينه فاقتلوه[رواه البخاري3017] لماذا؟ لأن أولئك الكفار قالوا: إن إسلامكم يصادم حرية الرأي، من قال بشيء فهو حر فيه، حرية الرأي، يقول بشيء ثم تقتلونه، فقالوا هؤلاء: حد الردة ملغى، حد الردة غير موجود، حد الردة مؤقت، حد الردة محكوم بظروف وأزمنة معينة، وأحوال، ولذلك ترى الرجل الآن يقوم على الكتاب والسنة ويسب الرب والدين والرسول ويتهم الشرع بأنه ناقص والشريعة بأنها رجعية ومتخلفة، ثم إذا قام من ينادي بإقامة حد الردة عليه، قالوا: لا، حرية الرأي، هؤلاء أتباع الأفغاني وعبده الذين قاموا ببذر بذور المدرسة العقلانية في مجتمع المسلمين، وقالوا: الملائكة قوى الخير، والشياطين قوى الشر، هذا معنى الخير، معنى الشر، لماذا؟ ليقبل الكفار القضايا، قضية الملائكة والشياطين التي لا يؤمن بها الذين لا يؤمنون بالغيب، فقال هؤلاء: هذه أشياء الخير، رمز، الملائكة رمز، ملك جبريل ستمائة جناح، لا وجود له، هذا رمز، رمز، رمز للخير، والشياطين تطلع الشمس بين قرني شيطان[رواه البخاري3273]، شياطين لها قرون قبيحة المنظر، شيطان له ضراط إذا سمع التأذين ولى، يقولون: لا، هذه رمز للشر، نسفوا وجود الملائكة والشياطين ليقبل الكفار بزعمهم الدين الإسلامي، وقالوا عن الحجارة من سجيل جراثيم مرض الجدري، لماذا؟ لماذا قام الطهطاوي، والتونسي، وأحمد أمين بقول ذلك؟ لماذا نفوا معجزات الأنبياء، عصا موسى التي تنقلب إلى حية؛ لأنه لا يدخل في عقولهم أن العصا تنقلب إلى حية، ناقة كبيرة لها شرب يوم ولبقية الدواب والناس شرب يوم آخر، الماء يخرج من بين أصابع النبي ﷺ في الحديبية، نفوا معجزات الأنبياء، وقالوا بالدين العام والدين الخاص، والسنة العملية ملزمة والقولية غير ملزمة، ومن أخطر ما يدعونه قضية بشرية الرسول، ويتوسعون جداً في مسألة بشرية الرسول، حتى إذا جاء أي حكم يخالف العقل عندهم، قالوا: هذه أشياء خاصة بالرسول، تبع بشرية الرسول، لكنها ليست للأمة، ونادى من جاء بعد هؤلاء بتجديد أصول الفقه، تطوير الفقه وهو تطيير، وليس تطوير للفقه، وقالوا: بتوسيع دائرة الخلاف، أو توسيع دائرة الاتفاق بالسماح لمزيد من الخلاف، فإذا جئت إلى قضية نص عليها الكتاب والسنة قالوا: مسألة خلافية، وكثيراً ما يقولون ذلك الآن في موضوع الربا، الربا الذي يدندنون عليه، وبه صباح مساء، وقضية حجاب المرأة، قضية جواز أن تكون المرأة رئيسية، قالوا به، مع أن النص في البخاري عن النبي ﷺ: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة[رواه البخاري4425]، لكن لأن الغربيين قالوا: أنتم تظلمون المرأة، أنتم تمنعون المرأة من تبوء منصب الرئاسة والقضاء والوزارة، أنتم تظلمون المرأة، قال هؤلاء: لا، نحن لا نظلم المرأة، يجوز أن تكون كل شيء، وهذا النص يغيرون عليه، ضعيف، في البخاري، رأي خاص كان لذلك الزمان، عند العرب في القديم المرأة ما تصلح أن تتولى شيئاً، نص خاص بمدة معينة، ويخصصون النصوص بمدد معينة كما يكتب على علب البضائع والمعلبات الغذائية، صالح لغاية كذا، وهكذا يدمغون على كل نص، لا يوافق أهواءهم صالح لمدة معينة، انتهت المدة المعينة، انتهى مفعول النص، النصوص عندهم مثل المعلبات الغذائية.
مواقف انهزامية واضحة، ويتوسعون في تطبيق النصوص على الكشوفات والنظريات وقضية الإعجاز العلمي، ليقولون: ديننا دين التقدم، فيحشرون في كل اكتشاف آية وحديثاً، ولو كان لا يوافقه لا من جهة أقوال المفسرين ولا أقوال السلف ولا اللغة العربية، لكن يقولون: نحن ندعو إلى الله، نحن نستجلب الغربيين، ونقول: كل الاستكشافات موجودة في القرآن، وهل أنزل الله كتاب استكشافات واختراعات علمية، قد يوجد في بعض الآيات نعم، لكن ليس كل اكتشاف بالضرورة أن يكون موجوداً في القرآن.
ويردون خبر الآحاد، وخبر الآحاد: هو الذي رواه الواحد الثقة عن الواحد الثقة أو أكثر، يردونه يقولون: خبر واحد، وأي شيء يتعارض مع عقولهم، لطم موسى ملك الموت، يقولون: هذا لا يمكن خبر آحاد نرده، قطع الصلاة بالمرأة والحمار والكلب الأسود، يقولون: أبداً، فإذا جاء الغربيون يقولون: تظلمون المرأة تقولون: تقطع الصلاة لماذا تقطع المرأة الصلاة؟ يقولون: لا، ما تقطع الصلاة هذا حديث آحاد، هذا حديث مشكوك فيه، مشكوك فيه.
كلما رفضت عقولهم العفنة حديثاً قالوا: خبر آحاد، خبر الواحد، وهكذا يفعلون، ونركز على هذه القضية أيها الإخوة؛ لأن الهجوم الآن على التشريعات الإسلامية من هذا الباب، مناقشة قضايا الربا الآن في القنوات الفضائية الخارجية، قضية تعدد الزوجات، فإذا جاء هؤلاء العقلانيون يدافعون عن الإسلام وبعضهم يدافع عن الإسلام وقد يكون صادقاً أنه يريد الدفاع عن الإسلام، يقول: تعدد الزوجات لحل مشكلة الأيتام والأرامل، في أيتام وأرامل في المجتمع، فالزوجة الثانية والثالثة لحل مشكلة الأيتام والأرامل، والإسلام دين إنساني، لكنه ليس ديناً شهوانياً، يعني لو واحد ما عنده أيتام وأرامل في المجتمع ما وجد، لا يريد أن يتزوج أرملة، لا، لا يتزوج، لا يتزوج لأجل الشهوة، الإسلام ليس ديناً شهوانياً، فيخصصون تعدد الزوجات بالأيتام والأرامل، هزيمة أمام الغرب، هزيمة أمام أعداء الإسلام، في قضية الجهاد، يقولون: الجهاد للدفاع، ليس هناك جهاد هجوم، والله يقول: قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةًسورة التوبة123، قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُميعني: الأمة الإسلامية تزحف وتقاتل الكفار، إذا استطاعت طبعاً، تهجم هجوم جهاد، وهكذا فعل الصحابة، قوضوا مملكة فارس وكسرى وقيصر، وفتحوا الشرق والغرب، وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةًسورة التوبة36، قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ، هكذا فهم الصحابة الجهاد، قال هؤلاء: لا، الجهاد فقط للدفاع، إذا هوجمنا ندافع أما جهاد هجوم لا، لماذا؟ حتى لا يقال: أن الإسلام دين إرهابي، وأن الإسلام دين اعتداء، وأن الإسلام يهاجم المجتمعات الأخرى، تحت وطأة الهجوم خصصوا النصوص، خصصوا الجهاد، تحت وطأت النصوص قالوا: هذا فقط تعدد الزوجات، لهذا السبب، لكي لا يقال: أن الإسلام دين اعتداء ودين شهوة، سبحانك هذا بهتان عظيم، ويهجمون على النقاب وعلى الحجاب، يعيق عمل المرأة، يعيق تقدم المرأة، ولذلك يتلاقى العقلانيون مع العلمانيين، ويتقاطعون في نقاط كثيرة، والفرق أن العلمانيين يقولون: لا دين، وهؤلاء يقولون: الدين موجود لكن نفصله على حسب الواقع، نفصل الدين على حسب الواقع، ليتلاءم الدين مع الواقع، حضر أحد هؤلاء في محاضرة في بلاد الغرب فصل فيها الرجال عن النساء ووضع حاجز، كما أمر الله، مِن وَرَاء حِجَابٍسورة الأحزاب53، قبل أن تبدأ المحاضرة قال: ارفعوا الحجاب من أمركم أن تضعوا الحجاب؟ يجلس الرجال والنساء معاً، إسلامنا ما عاد فيه رجعية، ولا عاد فيه فصل، ولا تمييز، كلهم يجلسون معاً في نفس المكان، ولم يبدأ المحاضرة حتى رفع الحجاب، ماذا تقولون أيها الإخوة؟ هؤلاء الذين يقولون: الإسلام دين متطور يوافق الحياة ويعايش العصر، وإذا جيء بشيء مما يخالف العقل عندهم ردوه ولو كان في البخاري.
أيها الإخوة: ما هو موقف المسلم من أكل الجراد مثلاً؟ يعتقد المسلم بإباحة أكل الجراد؛ لأن النبي ﷺ قال: أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد[رواه ابن ماجه3314]، يعتقد هذا، ولكن غير ملزم بأكله، فإذا عافت نفسك أكل الجراد أنت غير ملزم بأكل الجراد، ولا توجب الشريعة عليك أكل الجراد، لكن هل يجوز أن تقول: الجراد حرام أكله لأنه يخالف العقل، أو القرف منه، أبداً، لا يمكن لمسلم أن يقول هذا، وإذا سمعت بحديث البخاري إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم ليطرحه، فإن على أحد جناحية داء وعلى الآخر دواء[رواه البخاري3320]، لا يمكن لمسلم أن يرده لأنه قرف أو وسخ؛ لأن الحكيم الذي خلق الذبابة هو الذي أخبر رسوله أن يقول ذلك، أنت غير ملزم بشرب الشراب الذي وقع فيه الذباب، غير ملزم، وغير ملزم بغمسه، وطرحه، وشربه، إذا عافته نفسك اتركه، لكن لا يجوز بحال من الأحوال أن تنكر النص، أو تقول: لا يثبت، أو هذا وسخ وقرف، أبداً.
الضب مثل ذلك عندما يعرف المسلم التحقيق في إباحة أكله مثلاً، لا يريد أن يأكله لا بأس، لكن يحرمه ويقول: لا يمكن للإسلام يبيح أكله، هذا مجنون، المرأة تكره أن يتزوج زوجها عليها، وتعاف ذلك وتنفر منه، نفسياً لا تحبه، ولها الحق في ذلك؛ لأن هذا ما يوافق نفسها ورضاها، فهي تريد التفرد برجل واحد، لكن لا يمكن أن المرأة المسلمة تعترض على حكم الله ورسوله، وتقول: أكره حكم الله وأتمنى أنه ليس موجوداً، لا يمكن لمسلمة لمؤمنة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تقول ذلك، فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًاسورة النساء65.
نسأل الله أن يجعلنا من المسلِّمين لوحيه، العاملين بشرعه، الوقافين عند حدوده.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً رسول الله الداعي إلى سبيله ورضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
نماذج من التوقف مع النص
عباد الله: إن العقل ليقف حائراً أمام النص الشرعي، أمام دين الله تعالى، أمام الغيب، يقف حائراً؛ لأن له نهاية وحدوداً لا يستطيع اختراقها، ولذلك وظيفتنا التسليم والفهم، لا نقول: قلد تقليداً أعمى، أبداً، افهم النص على ضوء فهم السلف والعلماء، لا فهماً جديداً ولا اختراعاً حديثاً، ولا من عند نفسك، فهم النص على ضوء كلام السلف، شغّل عقلك في فهم النص على ضوء كلام السلف، وحاول أن تجد في طريقك وتتلمس حكمة الله تعالى في هذا الدين.
أيها الإخوة: لو نظرنا في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام ماذا سيقول العقل؟ جماعة أحسنوا إليهما، وأخذوهما في سفينة، وحملوهما بغير أجرة، يعمد الخضر في السفينة في وسط البحر بقدوم يكسر به ألواح السفينة، ثم يرقعه بخشب آخر، أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًاسورة الكهف71، عظيماً، يأتي الخضر في الطريق على غلام صغير ظريف جميل يلعب مع الولدان يأخذه يدق رأسه بحجر، ويذبحه بالسكين، ويقتلع رأسه، جمعاً بين الروايات كما في البخاري، ماذا يقول العاقل؟ جريمة، لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًاسورة الكهف74،
جاء إلى قرية أبوا أن يضيفوهما، ألأم منهم لم يجدوا، لئام، يعمد إلى صورة من صور الإحسان إليهم، جدار يريد أن ينقض فيقيمه، ما هذا؟ مقابلة اللؤم بالخدمة؟! ولكن لما جاء البيان من الخضر وهو نبي على الراجح يوحى إليه؛ لأنه قال لموسى: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِيسورة الكهف82، ما فعلته من تلقاء نفسي، إنما من الله، كان هنالك ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، فأراد ربك أن يعيب السفينة، حتى إذا مرت على الظالم رآها معيبة فما أخذها، فلمصلحتهم عملنا، والجدار لغلامين يتيمين لا ذنب لهما في لؤم القوم، وأبوهما صالح، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِيسورة الكهف82، وحي من الله، منفذ، فالعقل بدون وحي يضل، قاعدة "العقل بدون وحي يضل"، وفي موقعة الحديبية تجهز المسلمون للعمرة، أخذوا الهدي جمعوا أنفسهم، وصلوا إلى قريب من مكة حبسهم الكفار، والمسلمون مستعدون للقتال والتضحية وبيعة الموت في سبيل الله، أمر النبي ﷺ بمصالحة كفار قريش، جاء القرشي الكافر في المعاهدة يقول: النبي ﷺ للكاتب: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال الكافر: لا نعرف الرحمن، اكتب بسمك اللهم فقط، قال النبي ﷺ: اكتب بسمك اللهم، وفار الدم عند المسلمين، الرحمن الرحيم لا تكتب، قال: اكتب هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله يقول المشرك: لو آمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، اكتب محمد بن عبد الله، قال النبي ﷺ: إني رسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله[رواه البخاري2731]، والدم يفور عند المسلمين؛ لأنهم يرون ذلك تنازلات، يقول المشرك: من جاءك منا – من مكة – مسلماً هارباً منا ترده إلينا، وفي هذا الوقت يأتي أبو جندل بن سهيل -وأبوه الذي كان يوقع الاتفاقية- في قيوده، يرسف في قيوده، هارب من مكة، قال سهيل: أول شيء أقاضيك عليه أن ترد هذا، قال النبي ﷺ، أخبره ما كتبنا الكتاب بعد، إذن لا نصالحك أبداً، فأمر برده إليهم، قال أبو جندل، يقول هذا الرجل المسلم: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنوني في ديني، وقد جئت مسلماً ألا ترون ما قد لقيت، وكان قد عذب في الله عذاباً شديداً، يقول عمر رضي الله تعالى عنه: فأتيت النبي ﷺ، عمر ما تحمل، قال: ألست نبي الله؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى قلت: أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى قال: فعلى ما نعطي الدنية في ديننا؟ ولماذا هذه التنازلات، ونترك أخانا يذهب إليهم يفتنوه، قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري يا ابن الخطاب، إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً، قلت: ألست تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفخبرتك أنك تأتيه هذا العام؟ قال عمر: قلت: لا. وعدتني وما حددت المدة، قال: فإنك آتيه ومطوف به[رواه البخاري2731]، ما استطاع عمر أن يتحمل، قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر هذا نبي الله حقاً؟ أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فعلى ما نعطي الدنية في ديننا؟ قال: يا أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس يعصي ربه أبداً وهو ناصره فاستمسك بغرزه حتى تموت، كن مع الوحي مع الوحي، تدور مع الوحي حتى تموت.
خرج النبي ﷺ، فأمرهم بنحر الهدي كما هو حكم المحصر الذي حصر عن البيت، انحروا الهدي احلقوا رؤوسكم، ما أحد تحرك من الغم، ورجاء أن الله ينزل شيئاً، دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكروباً على زوجته أم سلمة، قالت: ابدأ أنت واحلق رأسك وانحر هديك، يروك فعلت ذلك عملياً، خرج فعل ذلك، لما رأى المسلمون أنهم لا بد لهم من التنفيذ، قاموا فنحروا هديهم وحلقوا رؤوسهم حتى كاد بعضهم يقتل بعضهم غماً أثناء حلاقة الرؤوس من الغم، لكن الله العليم الحكيم الخبير الذي يعلم الغيب أنزل على نبيه سورة الفتح إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًاسورة الفتح1، فسمى الله صلح الحديبية فتحاً مبيناً، لماذا؟ لأنه أولاً لما صار هناك فترة استتباب ولم ينشغل المسلمون بالقتال تفرغوا للدعوة فدخل بعد الحديبية أضعاف أضعاف ما دخل قبلها، مع أن المدة أقصر، في الخندق كانوا ثلاثة آلاف وفي الحديبية ألف وستمائة، في فتح مكة عشرة آلاف رجل وفي حجة الوداع مائة وأربع وعشرين ألف صحابي، تفرغ المسلمون للدعوة، انتشروا في كل الجزيرة، قريش لا تهاجمهم، تفرغوا للدعوة، وهذا الصحابي أبو جندل اجتمع مع أبي بصير هارب آخر من الكفار وهربا، قدَّر الله لجندل، والله يعلم الغيب، أن يهرب جندل مرة أخرى من مكة، وعملوا فرقة عسكرية لقطع الطريق على المشركين، ما تأتي قافلة لقريش من الشام إلا قتلوا من معهم وأخذوا أموالهم، حتى أرسلت قريش تناشد الرسول ﷺ: الله والرحم أن يلغي هذا النص من الاتفاق، يغلي البند، ويقولون: من جاءك هارباً منا فاقبله، نناشدك أن تقبله؛ لأن الله يعلم يعلم الغيب، أما الصحابة بعقولهم فلا يعلمون الغيب، ولذلك اعترض عمر، وحتى سهل بن حنيف قال: يا أيها الناس اتهموا الرأي في الدين فوالله لقد كدت أن أرد على رسول الله ﷺ أمره.
علم العليم وعقل العاقل اختلفا | من ذا الذي فيهما قد أحرز الشرفا |
فالعلم قال: أنا أحرزت غايته | والعقل قال: أنا الرحمن بي عرفا |
فأفصح العلم إفصاحاً وقال له | بأينا الله في فرقانه اتصفا |
بالعقل أو بالعلم؟
فأيقن العقل أن العلم سيده | فقبل العقل رأس العلم وانصرفا |
عقل من غير وحي ضلال، وهؤلاء الكفار عقول كبيرة مخترعين لكن ضلال.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحمن الرحيم، انصر الإسلام والمسلمين واهزم الكفرة والمشركين، وحرر بلاد المسلمين من دنس اليهود والصليبيين.