الخميس 28 ربيع الآخر 1446 هـ :: 31 أكتوبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

احذروا الإشاعات


عناصر المادة
الخطبة الأولى 
التوجيهات الإلهية تسد الثغرات
خطورة الإشاعة
الإرجاف سنة المنافقين
أمثلة على أن الإشاعات مصدر بلاء للأمة
موقفنا من الإشاعات

الخطبة الأولى 

00:00:00

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران:102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء:1يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا سورة الأحزاب:70-71.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

التوجيهات الإلهية تسد الثغرات

00:00:34

لقد كانت آيات القرآن العظيم تنزل على محمد ﷺ والمؤمنين معه في المدينة تبني قواعد المجتمع الإسلامي، وتبين كيفية التعامل فيما بينه وبين أفراده، والتعامل مع أعدائه، ومع الناس المحيطين به، وهكذا كانت التوجيهات الإلهية في مصلحة هؤلاء المؤمنين تربيهم، وتنمي فيهم روح الدين والانتماء له، والحرص عليه، وحمله وتبليغه ونشره والذب عنه، تسد الثغرات التي يدخل منها الأعداء، وتوجه المؤمنين في حربهم ضد المشركين وضد المنافقين، وما أحوجنا اليوم إلى هذه التوجيهات الربانية، في خضم الهجمة الشرسة التي يمارسها أعداؤنا علينا اليوم من اليهود والنصارى والمشركين، ومن أذنابهم المنافقين المندسين فيما بيننا.

خطورة الإشاعة

00:01:45

قال الله في توجيه من تلك التوجيهات: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاًسورة النساء83، أمر يوجب الأمن، أو أمر يوجب الخوف، أو أمر يكشف حال الأمن، أو أمر يكشف حال الخوف، أذاعوا به أفشوه وأعلنوه، قال ابن كثير رحمه الله: وهذا إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها، ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة.

كان المنافقون في المجتمع المدني إذا وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول القوة والاستعداد والسلاح لهم، أذاعوه ونقلوه، ليأخذ الكفار الحيطة والتحصن من المسلمين، وإن وقع شيء من الضعف في المسلمين بالغوا في تصويره ليطمئن العدو ويغير على أهل الإسلام، ويتشجع على ذلك، ولإلقاء الرعب في قلوب ضعفاء المسلمين ومساكينهم، حرب الإشاعات، كانت تمارس من قبل الأعداء في الداخل والخارج، فنزل قول الله: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِسورة النساء83 نشروه أفشوه قبل أن يتأكدوا منه وقد لا يكون صحيحاً، وحتى لو كان صحيحاً فربما لا يكون من المصلحة نشره، ولذلك قال: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ، لو ردوا الإشاعة إلى أولي العلم لعلم هؤلاء كيف يستنبطون الخبر ويقتصون الأثر، ويكشفون صحة هذه الحادثة أو الإشاعة، ثم هؤلاء أهل العلم أعلم، هل ينشر أو لا ينشر، إذن ردوه إليهم، الذي ينبغي أن يحدث أن يردوه إليهم أولاً ليتحققوا من صحته؛ لأنهم أخبر وأبصر، وثانياً ليقرروا هل من المصلحة نشره أم لا؛ لأن الإشاعات تفت في عسكر المسلمين، وهكذا كانت الحرب النفسية في القديم والحديث سبباً عظيماً من أسباب انهزام الطرف الآخر، فنهى الله المؤمنين عن التحدث بكل ما يسمعون وعن إذاعة الأشياء ونشرها، وقد ساق ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية أحاديث عن النبي ﷺ تناسب المقام، فمن ذلك حديث كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع [رواه مسلم5]، وحديث النبي ﷺ: نهى عن قيل وقال[رواه البخاري1477 ومسلم953]؛ لأن الذي يكثر النقل عن الناس قيل وقال سيقع في الكذب؛ لأنه سينقل أشياء بغير تثبت، ولا تدبر، ولا تبين، وقال النبي ﷺ: بئس مطية الرجل زعموا[رواه أبو داود4972]، فهو دائماً يقول: زعموا، قالوا، قيل، وهكذا، ليس عنده مصدر ثابت صحيح للخبر.

وإذا كان النقل بدون تحر في حديث النبي ﷺ فويل له، من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبِين[رواه أحمد17746] أو أحد الكاذبَين، ولما سرت إشاعة في المجتمع المدني أن النبي ﷺ طلق نساءه وقعد الصحابة يبكون حول المنبر متأثرين بالقضية، قام عمر وهو من الذين علموا فاستنبطوه صحيحاً، فذهب إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أطلقت نساءك؟ قال: لا قال: فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله ﷺ نساءه، ونزلت هذه الآية وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْسورة النساء83، قال عمر: فكنت أنا استنبطت ذلك الأم ر.[رواه مسلم1479] ومعنى يستنبطونه أي: يستخرجونه من معادنه، يقال: استنبط الرجل العين إذا حفرها واستخرجها من قعرها، إذاً الرجوع إلى المصدر والتأكد والمعرفة، قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: لا يكون الرجل إماماً يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما سمع.

وقد حدثنا النبي ﷺ عن رجل في عذاب القبر يشرشر شدقه ومنخره وعينه من الجهة اليمنى إلى الخلف ثم في اليسرى وهكذا، شرشرة، تشق شقاً العين والأنف والشدق طرف الفم من اليمين ومن الشمال، لماذا؟ قال: الرجل يكذب الكذبة تبلغ الآفاق[رواه البخاري1386]، هناك أناس يستمتعون بنقل الإشاعات، ويفعلون ذلك مراراً، هذا همهم، وإذا فشت كذبتهم فهذا دليل نجاحهم يلتذون بذلك فويحهم مما يفعلون، والأعداء يشيعون بين المسلمين وخصوصاً في هذه الأيام في أنباء قوتهم، وفي خلخلة من يقابلهم، وينبغي على المجتمع المسلم كلما ادلهمت الخطوب وضخمهم الأحداث أن يرجع إلى التوجيهات القرآنية عندما تتوقع أحداث ضخام وجسام فإنه لا بد أن يعرف المسلم كيف يتصرف، تارة يخبرونك أن الإسلام باد ومات أهله في بلد ما، أو يرهبونك بقوة أسلحتهم وإمساكهم بمفاتيح الأموال، أو يضخمون حدثاً في ساحة صغيرة، ونحو ذلك، يريدون إلقاء الوهن في قلوب المسلمين، وشن الحرب النفسية عليهم، وهكذا يكون الإرجاف.

الإرجاف سنة المنافقين

00:09:07

الإرجاف ما هو؟ هو التخويف، سنة المنافقين في المؤمنين، والإرجاف حرام، قال القرطبي رحمه الله: لأن فيه أذية كما قال تعالى: لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ۝ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ۝ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًاسورة الأحزاب60-62، فهم يريدون تخذيل المسلمين عن المواجهة، وإماتة النصرة الإسلامية في نفوس المسلمين لإخوانهم، وإيقاف عمل الدعوة والإغاثة والإصلاح والصدقات، وجعل المسلم بعيداً عن دينه أسيراً لهذا الإرجاف، وكذلك أن يخذلوا فيه روح التوكل على الله، وإضعاف إيمانه، وإدخال الحزن والهم على الغيور، وتشجيع أهل الباطل، وتشجيع أهل النفاق ليظهروا رؤوسهم وهكذا، والذي ينبغي للمسلم أن يدرك خطورة هذا الأمر، وأن لا يصدق هذه الأنباء إلا بعد التثبت، ثم لا ينشرها إذا لم يكن في نشرها مصلحة حتى لو كانت صحيحة، وأن يقوي رجاءه بالله، وتفويض أمره إليه، واعتماده عليه، وأن يقوي قلبه بذكره، وعبادته، ودعائه، وكذلك فإن على المسلم أن ينتبه مما تسوقه وسائل الإعلام وخصوصاً الغربية منها، ومن ينقل عنها، فإنك ترى الإشاعة منبثة من قناة، أو موقع في الإنترنت، أو في رسالة، أو إذاعة، أو مجلة، أو جريدة، أو شخص ونحو ذلك من الوسائل والوسائط الناقلة للخبر، فليتبصر المسلم، وليفهم هذا الحديث: كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع [رواه مسلم5]؛ لأنه إذا حدث بكل ما سمع فلا شك أن بعض الذي سمعه غير صحيح، فيكون كذاباً بنقله إذن، وهو لا يميز بين الصحيح وما ليس بصحيح، بئس مطية الرجل زعموا[رواه أبو داود4972].

أمثلة على أن الإشاعات مصدر بلاء للأمة

00:11:48

كانت الإشاعات -أيها الإخوة- مصدر بلاء على أهل الإسلام في القديم والحديث، أشاع المشركون عن النبي ﷺ في مكة أنه كاهن، أنه شاعر، أنه ساحر، أنه مجنون، أنه كذاب، حتى أن بعض الناس القادمين للحج وضعوا القطن في آذانهم لئلا يسمعوا صوته، صدت قريش كثيراً من الناس عن سماع كلام النبي ﷺ، بالإشاعة، ولما أشيع أن أهل مكة أسلموا والمهاجرون في الحبشة، تركوا الحبشة ورجعوا، ظناً أن مكة صارت دار إسلام، لكن لما اقتربوا وعرفوا الخبر، أصيبوا بهذه المصيبة فلم يدخل منهم مكة أحد إلا بجوار أو مستخفياً، وكان رجوعهم سبباً لتعرضهم لمزيد من الابتلاءات والتعذيب من قريش.

أشيع أن النبي ﷺ قتل في أحد، فت ذلك في عضد كثير من المسلمين حتى ولوا الأدبار وألقوا السلاح، ورجع بعضهم إلى المدينة، أشاع المنافقون أن عائشة رضي الله عنها وقعت في الفاحشة، كم أثر ذلك في النبي ﷺ، وفي بيت النبوة، وفي المسلمين، ويشاع وأشيع حول المصلحين في القديم والحديث كثير، وكانت الإشاعات هي مطية عبد الله بن سبأ اليهودي ومن معه من المتسرعين والغوغاء فثاروا على عثمان ، وكان ذلك سبب مقتل الخليفة، أشاعوا عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما ذهب إلى مصر ليستنجد بالمسلمين في مصر ويحشر قوات المسلمين إلى الشام لمواجهة التتر وتتوحد العساكر المصرية والشامية في مقاومة التتر، أشاع أعداؤه عنه أنه فر من الشام وفر من زحف التتر، فلما رجع إلى الشام كذبت تلك الإشاعات، أشيع عن الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أنه يكفر المسلمين، وأن له طريقة مبتدعة في الدين، فسميت الوهابية، ومضت القضية حتى صارت الوهابية في بعض بلدان المسلمين نتيجة الإشعاعات من أكفر الكفر على وجه الأرض، حتى أن تاجراً مسلماً بالهند لما اختصم مع تاجر هندوسي يوماً من الأيام الماضية غضب المسلم وقام يفشي في القرية أن الهندوسي صار وهابياً فاستشاطوا غضباً، وقاموا وأحرقوا دكانه، وضربوه وهموا بقتله، حتى أعلن توبته وقال: إنني لست بوهابي ورجعت من الوهابية إلى الهندوسية فتركوه.

عباد الله: إن هذه الإشاعات التي يشيعها أهل النفاق اليوم عن أهل اليقظة الإسلامية المباركة والمتمسكين بالدين من أنهم أهل رجعية وتخلف وتشدد وإرهاب إلى آخر هذه الاسطوانة التي سئمنا تكرارها وتشغيلها، هي نوع من الحرب النفسية كذلك، وأنت تعلم وتسمع يا عبد الله ما أشيع عن الفنانات التائبات أنهن أخذن أموالاً مقابل الالتزام بالحجاب، ماذا يصنف هذا؟ نوع من الحرب النفسية على من تاب ليرجع عن التوبة، والإشاعات حول أهل الحسبة، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، من أهل الهوى الذين لا يريدون أن يقف في طريق اتصالهم بالنساء علناً أحد، وأن لا ينكر عليهم أحد، وأن يمشوا في الأسواق يأخذون ما يريدون ويرتكبون ما يشاؤون دون أي منكر ولا رقيب، فيطلقون الإشاعات، ولو كان بعضها وقليل منها صحيح ضخمت، وبعضها لا يجوز نشرها، ومع ذلك تفعل، لكن أكثرها كذب.

العامة مصدر عظيم للتشويش، وينبغي أن لا نكون عامة، أن نرتفع عن مستوى العامة، ليكون عندنا فقه في الدين، وفقه في اتخاذ الموقف الصحيح، ذكر ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة ثلاثمائة وأربع، قال: وفي نصف هذه السنة اشتهر ببغداد أن حيواناً يقال له: الزرنب، -وهذا تأليف كما يقولون، ليس هناك حيوان بهذه الصفة-، يقال له: الزرنب، يطوف بالليل يأكل الأطفال من الأسرة، ويعدو على النيام، فيقطع يد الرجل، أو ثدي المرأة وهي نائمة، ماذا حصل للعامة نتيجة هذه الإشاعة؟ قال ابن كثير: فجعل الناس يضربون على أسطحتهم على النحاس من الهواوين، يأخذون هذا الذي يدق به الهون الذي يدق به النحاسي يضربون به لإحداث الأصوات الكبيرة لينفروا الوحش بزعمهم، قال: حتى كانت بغداد بالليل ترتج من شرقها وغربها، واصطنع الناس لأولادهم مكبات من السعف، واغتنمت اللصوص الفوضى فكثرت النقوب، نقبوا الجدران، دخلوا البيوت، أخذت أموال، متى هدأت الإشاعة؟ قال: لما أمر الخليفة بأن يؤخذ حيوان من كلاب الماء فيصلب على جسر بغداد ليسكن الناس، ففعل ذلك فسكن الناس، ما أصغر عقول هؤلاء، ورجعوا إلى أنفسهم وارتاحوا، وما أشبه هذا بقضية السفاح المزعوم الذي تتناقله ألسنة بناتنا وأبنائنا في المرحلة الابتدائية خصيصاً، فتارة يقولون: رجل، وتارة يقولون: امرأة، وتارة يقولون: يلبس لبس الرجال، أو يلبس لبس النساء، أو أنه متنكر في زي امرأة، أو يلبس برقعاً أخضر، أو يذبح بسكين أو يقتل بمسدس، وأنه ذبح العشرات هنا في حي، وهو الآن سينتقل إلى الحي الآخر، سبحان الله وكأن الناس والشرطة نائمين، ولا أحد يمسه بسوء، أو أن هذا الرجل من تترستان الذين جاؤوا لما جاؤوا إلى بلاد المسلمين، يقول واحد لمسلم: امكث مكانك حتى آتي بسكين وأذبحك، وأنه ذبح عشرة بنات في المدرسة الفلانية، وعلق رؤوس الطالبات على السور، والمشكلة أن بعض المغفلين ينشر هذا في الإنترنت ويعتبره خبراً صحيحاً، وهكذا، غفلة، كذب، إشاعات، بلبلة، ثم هل من المصلحة أن يتربى أبناؤنا على هذا؟ كما أشرت في خطبة ماضية في تربية البنات إلى موقف هؤلاء العجزة من الآباء والأمهات اللاتي يرضون أن يتربى، وتنشأ بناتهم على هذا، وما أكثر الإشاعات، والتهويل، والتخويف عند الإناث.

موقفنا من الإشاعات

00:19:41

أيها الإخوة: ما هو موقفنا وربما نأتي على أيام عصيبة ولا ندري، وتكون حوادث كبيرة وضخمة، لا بد أن نتربى على منهج القرآن، كيف يتقصى الخبر، وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ۝ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ۝ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ سورة النمل20-22، هذا هو المهم، نبأ يقين جئتك به من مصدره من البلد، رأيت وسمعت، ليس نقلاً عن نقل، وإنما مباشرة رأيت وسمعت، ولذلك كان حدثني وأخبرني أعلى صيغ التحديث عند علماء الحديث.
الخطبة الثانية 

00:21:07

إن هذه المسألة كان لها نصيب كبير من الاهتمام في كتاب الله، جاءت فيها آيات، قضية التثبت، التوثق، وعدم الإذاعة ونشر الإشاعات؛ لأن الله يعلم كم يحصل بسببها من المفاسد، يتهم بريء، يخاض في عرض امرأة، في عرض رجل بريء، تحصل بسببها شرور كثيرة، انهزام جيش بأكمله خراب بيت من بيوت المسلمين، هم، غم، فت في العضد، وهن، شرور كثيرة، قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ سورة الحجرات6 اعتداء نتيجة تصديق إشاعة، يحصل اعتداء، فلما فهم رسول رسول الله ﷺ الذي أرسله أن القوم الذين أرسل إليهم منعوا الزكاة وأنهم سيفتكون به، هذا عن إحساس، رجع ليخبر بذلك، حتى أن النبي ﷺ هم بالتجهز لحربهم، فلما استبطئوا رسول رسول الله ﷺ جاؤوا إلى النبي ﷺ يقولون: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، لماذا تأخر عنا رسولك يا رسول الله؟ ونزلت الآية.

قال الحسن البصري: المؤمن وقاف حتى يتبين، كانت هناك نماذج من التثبت، حتى عند بعض عقلاء البادية والأعراب الذين كانوا يأتون إلى النبي ﷺ، يأتي الرجل يقول للنبي ﷺ: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد عليَّ في نفسك، قال: سل عما بدا لك قال: أسألك بربك وبرب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال: اللهم نعم، قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم... الحديث.[رواه البخاري63].

وهذا علي إذا حدثه رجل من أصحابه حديثاً استحلفه عليه يقول: احلف لي بالله؛ لأنه سيبني عليه أشياء مواقف، أحكام، فتاوى، حدود.

كان عمر يقول لمن قال له كلاماً من باب المزيد من التثبت: والله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا؛ للتثبت.

والنجاشي لما أتي إليه بأن بعض الصحابة الفارين إلى بلده قالوا عن المسيح قولاً عظيماً أتى بهم واستثبت منهم، وعرف أن موقفهم من المسيح هو الموقف الصحيح.

وفي غزوة الأحزاب أرسل النبي ﷺ لبني قريظة من يتأكد هل نقضوا العهد أم لا.

كان علماء الحديث يتثبتون من الرواة، يستعينون بالقرائن، يسألون الشخص أكثر من مرة، وفي أكثر من موقف، قال حسان بن زيد: لم نستعن على الكذابين بمثل التاريخ نقول للشخص: سنة كم ولدت؟ فإذا أخبر بمولده عرفنا كذبه من صدقه.

قال بعضهم: سمعت عطاء وقد سئل عن كذا وكذا فقال له أحد الرواة: في سنة كم؟ أحد الرواة عامر بن أبي عامر يروي عن عطاء، فقال له المحدث: سنة كم؟ قال: في سنة أربع وعشرين، فقال: عطاء مات سنة بضع عشرة، معنى ذلك أنه كذاب، يحدث عن الشيخ بعد وفاة الشيخ، سمع من الشيخ بعد وفاة الشيخ؛ ولذلك قال الآخر للراوي الآخر: تروي عن محمد بن أبي يعقوب وقد مات قبل أن تولد بتسع سنين؟!.

وهكذا اكتشف كذب الخطاب الذي أعده بعض اليهود وقدمه إلى بعض الخلفاء زاعماً أن النبي ﷺ أسقط الجزية عن يهود خيبر، فجاء الخطيب البغدادي وهو لها، أنعم وأكرم، عالم أهل الحديث، فنظر في الرسالة المزعومة المزورة، قال: هذا الخطاب فيه شاهد معاوية بن أبي سفيان، ولم يكن أسلم يوم خيبر، أسلم بعد خيبر، فكيف يشهد على خطاب كتب يوم خيبر فيه زعم أن الجزية أسقطت عن يهود خيبر، قال: وفيه شهادة سعد بن معاذ وقد مات سعد قبل خيبر، في عام الخندق سنة خمس فكيف يشهد على شيء جرى في خيبر؟ فأعجب الناس بذلك وانكشف كذب اليهود، وشعبة جعل يتتبع حديثاً من رجل إلى رجل، حدثه إسرائيل بحديث عن أبي إسحاق، يذهب إلى أبي إسحاق من حدثك؟ قال: سمعته من عبد الله بن عطاء عن عقبة، أين عبد الله بن عطاء؟ بمكة، يرحل شعبة من البصرة  إلى مكة، قال: لم أرد الحج، أردت الحديث، سألت عبد الله بن عطاء من حدثك؟ قال: سعد بن إبراهيم حدثني، أين سعد بن إبراهيم؟ بالمدينة، يسافر شعبة إلى المدينة ويرحل فيقول لسعد بن إبراهيم: من حدثك؟ قال: زياد بن مخراق من عندكم من العراق، فقلت: أي شيء هذا الحديث، بينما هو كوفي إذ صار مكياً إذ صار مدنياً إذ صار بصرياً، فأتيت البصرة، فسألت زياد بن مخراق عن الحديث من حدثك؟ قال: ليس هذا من بابتك، يعني ليس على شرطك، قلت: لا بد أن تخبرني، قال: حدثني شهر بن حوشب عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر الصحابي، فلما ذكر شهر بن حوشب وكان راوياً مخلطاً فيه ضعف، قال شعبة: دمَّر علي هذا الحديث، لو صح لكان أحب إلي من أهلي ومالي ومن الناس أجمعين، وهكذا من واحد إلى واحد، كم استغرقت الرحلة، كم استغرقت رحلة شعبة للتأكد من حديث واحد؟ واليوم نحن نروي وننقل في ثواني، وهكذا ترسل رسائل البريد الإلكتروني في ثواني، وننشر الإشاعات والأخبار غير الصحيحة، والأخبار المكذوبة، والتي ليس في نشرها مصلحة للإسلام، فلنتوقى هذا.

نسأل الله أن يجعلنا من أهل التثبت واليقين، ومن أهل التقوى والدين، إنه سميع مجيب، ونوصي أبناءنا الطلاب بالتقوى والتوكل على الله، فإن التقوى تمنع من الأعمال المحرمة فيما يتعلق بالغش والأسئلة، والتوكل على الله يدفع إلى اتخاذ الوسائل الشرعية؛ لأن توكلاً على الله بغير أخذٍ بالأسباب الشرعية ليس بتوكل حقيقي، التوكل على الله أن تبذر البذرة وتسقيها وترعاها وتدفع عنها الآفات وتتعاهدها، وتتوكل على الله وتعتمد عليه أن تنبت.

نسأل الله أن يوفقهم لما يحب ويرضى، وأن يعيننا وإياهم على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أرادنا أو أراد أهل الإسلام في سائر الأرض بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم عطل سلاحه، ودمر جيشه، وأغرق بوارجه، اللهم اجعله مثلاً للآخرين، وعبرة يا رب العالمين، اللهم أرنا في الكفار عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وأنزل بهم نقمتك وسخطك يا جبار، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

1 - رواه مسلم5
2 - رواه البخاري1477 ومسلم953
3 - رواه أبو داود4972
4 - رواه أحمد17746 
5 - رواه مسلم1479 
6 - رواه البخاري1386
7 - رواه مسلم5
8 - رواه أبو داود4972
9 - رواه البخاري63