الخميس 20 جمادى الأولى 1446 هـ :: 21 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

تعلم الحج


عناصر المادة
الخطبة الأولى
فريضة الحج وأنه على الفور
بعض أحكام الحج
وجوب المحرم للمرأة
منافع الحج
الخطبة الثانية
فضائل العشر من ذي الحجة والأضحية
نعمة الأمن
أهمية الرجوع للعلماء الراسخين

الخطبة الأولى

00:00:04

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فريضة الحج وأنه على الفور

00:00:29

فإن الله فرض علينا فرائض يجب ألا نضيعها، وحد لنا حدوداً يجب ألا نتعداها، وإن فرائض الله أمانة في أعناقنا يجب علينا أن نقوم بها؛ لأنها من لدن حكيم عليم خبير .

وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاًسورة آل عمران97 فهذا من فرائضه، فرض في سنة تسع للهجرة في عام الوفود الذي نزلت فيه سورة آل عمران، هذه الفرضية من أركان الدين، هذا المبنى العظيم من مباني الإسلام، هذا الذي لا يجب إلا مرة واحدة في العمر تيسيراً من الله تعالى على عباده.

لو قلت نعم لوجبت ولم استطعتم ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه[رواه مسلم1337]رواه مسلم، هكذا قال ﷺ للرجل الذي سأله:  أكل عام يا رسول الله؟ وذلك بعد أن قال النبي ﷺ: أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا المبادرة إلى تنفيذ أمر الله دليل الإيمان، قال ﷺ في خطبة له: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا[رواه مسلم1337]،  وقال أيضاً: من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتظل الضالة وتعرض الحاجة[رواه ابن ماجه2883] وهكذا تكون الفرصة منتهزة عند المسلم بأداء ما أوجبه الله ويتعجل بفريضة الله ويحتاط قبل أن تنزل النوازل وتأتي المفاجآت؛ ولذلك فإن الراجح وجوب الحج على الفور إذا استطاع الإنسان.

فإن قيل: فلماذا أخره النبي ﷺ؟

فالجواب: أولاً: إنما أخره من سنة تسع إنما أخره سنة واحدة وليس تأخير سنوات.

ثانياً: إن هذا التأخير كان لعذر وذلك بانشغاله بالوفود التي صارت تتلو وفداً إثر وفد يأتون يبايعون على الإسلام، واستتباب الأمر في الجزيرة العربية، وإرساء قواعد الإسلام فيها، ومبايعة الوفود على الدين، وتعيين الرئيس والأمير لكل وفد بحيث يكون مسئولاً فيهم عن إقامة الدين، وتطهير البيت من المشركين، وحج العراة، والتمهيد للحجة النبوية، إجراءات كثيرة وخصوصاً أن النبي ﷺ يريد أن يحج معه أكبر عدد من الناس ليهتدوا بهديه، ويستنوا بسنته، ومعلوم ما كان الحج يحتاجه من طول السفر، والاستعداد في ذلك الزمان؛ ولذلك تأخر حج النبي ﷺ عاماً واحداً لهذه الأعذار وغيرها، فما بال الذين في مكة ولم يحجوا حتى الآن، ومن هم على مقربة بساعتي سفر في الطائرة ولم يحجوا حتى الآن؟ ما أيسره في هذا الزمان ولكن تتقاصر الهمم عندما يعلو النفوس ما يعلوها من الشغل عن طاعة الله.

بعض أحكام الحج

00:05:16

وإذا توفرت في شخص شروط الحج وجب عليه وهي خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، فلا يصح الحج من كافر: وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِسورة التوبة54 والعقل فلا يقبل من مجنون لأن القلم رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يعقل، وكذلك الصبي لا يجب عليه الحج ويصح منه لو حج، فلو حج به وليه صح، وللصبي أجر الحج، ولوليه أجر أيضاً بدلالته على الخير وتمكينه من فعل هذه العبادة، والدال على الخير كفاعله، والممكن لغيره من الفعل كالفاعل، وقد رفعت امرأة إلى النبي ﷺ صبياً وقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر[رواه مسلم1336]،  ولكن لا يجب الحج على الصبي حتى يبلغ بعلامة من علامات البلوغ الثلاثة: الإنزال، ونبات الشعر الخشن، وبلوغ تمام خمسة عشر عاماً، وتزيد الأنثى رابعاً وهو نزول دم الحيض، والحرية شرط وجوب فلا يجب على العبد؛لأنه مشغول بحق سيده، والاستطاعة كذلك لأن غير القادر ولا المستطيع معذور في الترك: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاًسورة آل عمران97 استطاعة بدنية، واستطاعة مالية، يتحمل مشقة السفر، عنده نفقة توصله إلى بيت الله ذهاباً وإياباً، ونفقة أهله في غيابه، فإذا كان صحيح البدن، وتوفر أمن الطريق، وعنده ما يوصله إلى بيت الله بحسب حاله، ويملك من الزاد ما يكفيه ذهاباً وإياباً زائداً على نفقات من تلزمه نفقته حتى يرجع، ويكون مع المرأة محرم، فعند ذلك يكون مستطيعاً، النفقة الفاضلة عن الحاجات الأساسية، والنفقات الشرعية، وقضاء الديون.

والديون حقوق الله كالكفارات، والزكاة، وحقوق الآدميين من الديون المستحقة؛ ولذلك لو تعارض الحج مع الزكاة فليس عنده مال يكفي لهما، فإذا وجبت الزكاة قدمها لأنها دين لله، ولا يجب على الإنسان أن يقترض ليحج، وإذا ظن بعض الناس أن أذن الدائن يكفي فقط فإن هذا ليس هو العلة في عدم الذهاب، بل انشغال الذمة؛ لأن الذمة تبقى مشغولة بالدين ولا تبرأ، فإذا أذن له بالذهاب لا تبرأ الذمة، بل لا زالت مشغولة بالدين، ولذلك يحث المدين على القضاء، والمصيبة أن بعض الناس لا هو بالذي يفي حق الله في الحق، ولا يفي حق المخلوقين في الديون، سياسة ترحيل المبالغ والمستحقات، سياسة تأخير الناس، سياسة المماطلة هذا متبع عند الكثيرين، ولو كان عنده مال يمكن أن يصرفه في أي شيء يريده من أثاث وأجهزة إلا الدين يؤخر، ويؤخر، ويريد أن يعمل بمال الغير أطول مدة ممكنة، وأن يحجزه عنه، وأن يحول بينه وبينه، وأن يؤخره، فلو مات فليت شعري ماذا ستكون عاقبته؟ وإذا كان الشهيد لا يسامح في هذا فما حال غيره ممن هو دونه؟

وكم من مفرط، وكم من مضيع في موضوع الديون، وهذا الدين قد يكون قرضاً مباشراً، وقد يكون إيجار مسكن، وقد يكون مبلغ استحق عليه لمدرسة، وقد يكون قسطاً شهرياً أو سنوياً، وقد يكون مؤخر صداق، وقد يكون مستحقات باقية لمقاول، الدين دين، أما لو قدم الحج على قضاء الدين ومات قبل قضائه فهو على الخطر.

والنفقة الشرعية التي إذا توفرت عند الإنسان يجب عليه الحج هي نفقة أهله في غيابه بلا إسراف ولا تقتير، وكثيرون يجارون الأغنياء بشراء ما يستعمله الأغنياء بالأقساط، ولما فتحت قضية التورق سيئة الذكر، سيئة الاستعمال، سيئة النتائج، وقام المتساهلون بفتح أبواب الحيل على الربا، وسقط الناس في أوحال التورق المذموم الذي هو في الحقيقة بيع صوري، وحيلة لا فيه توفر السلعة، ولا معاينة السلعة، ولا استلام السلعة من قبل المشتري من البنك، ولا أن يقوم هو ببيعها، أو يوكل غير البنك ببيعها حتى يخرج من الحيلة، صارت القضية مجموعة من التحايلات الورقية الصورية التي لا تسمن ولا تغني، وكأن من يريد تنفيذ ذلك يكفيه أن يرى توقيعاً من لجنة متساهلين يتحملون في أعناقهم مثل أوزار من اتبعهم، وكان القضية أن تجد من يقول بالجواز بغض النظر من هو، وخالف من من العلماء، كأن القضية أنك لن تسأل هل استفتيت ثقة أم لا؟ كأن القضية هي المهم أن يكون هناك من قال بالجواز كائناً من كان، خالف من خالف، عرف بالتساهل، أو لم يعرف بغض النظر عن قيمته الحقيقية في العلم، كأن القضية أن يكون مشهوراً فقط، وأن تعرض صوره الشاشات، أهل العلم والرسوخ والفقه بالكتاب والسنة لا يعرفون بالتنازلات والتساهلات، أهل العلم والرسوخ الذين يخشون الله، وعندهم من الفقه والبصيرة والقدرة على الاجتهاد والاستنباط ومعرفة الحال ومعرفة النص ومعرفة مدول النص، عندهم آلات الاجتهاد من اللغة والأصول، عندهم تلك القدرة الفذة المؤهلة لهم للفتوى.

عباد الله: إنما يكلف بالحج من كان قادراً لا يضيق على نفسه ولا على أهله، وليس المقصود أن يبيع ما تتعلق به حاجته الأصلية، فلا يرغم الإنسان على بيع سيارته الوحيدة ليحج، وكذلك لا يرغم طالب العلم على بيع كتب العلم ليحج، ولا يرغم الصانع على بيع آلات الورشة ليحج، ولا يرغم من يخشى على نفسه الحرام وأراد الزواج وليس عنده إلا المهر الذي سيسلمه ونفقات الحج التي لا بد منها فلا يقال له: عرض نفسك للحرام واذهب للحج، وأما إذا كان يصبر ولا يقع في الحرام فإنه يحج، ثم يرجع فيجمع ما تبقى ليتزوج، من كان مستطيعاً ببدنه وماله وجب عليه، ومن كان مستطيعاً بماله ولا يستطيع ببدنه نظرنا في أمره، فإن كان عجزه يرجى زواله كمريض يرجى شفاء مرضه فإنه ينتظر حتى يشفيه الله ولا يوكل أحداً بالحج عنه، وإن كان عجزه لا يرجى زواله ككبير السن الذي لا يستطيع الحراك، والمشلول، ونحو ذلك ممن لا توجد من الآلات ما تمكنهم من الذهاب فإنه حينئذ يجوز لهم أن يوكلوا بالحج عنهم، والدليل على ذلك ما رواه الإمام البخاري رحمه الله: أن امرأة قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم [رواه البخاري1513]، انظروا إلى بر هذه الفتاة بأبيها، وإلى فقهها في سؤالها: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج قد أدركت أبي انظروا إلى بلاغتها، شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلةفنادت رسول الله بذلك النداء، واعترفت بفريضة الله، وأنها أدركت أباها، وذكرت حال أبيها، وذكرت عذره، ثم استعدت بالحج عنه، أفيقبل أن تحج امرأة عن رجل؟ الجواب: نعم، أفأحج عنه؟ قال: نعم فأقرها النبي ﷺ على حجها عن أبيها لأنه لا يستطيع ببدنه.

وجوب المحرم للمرأة

00:16:13

هذه المرأة لا بد أن يكون معها محرم لقول النبي ﷺ: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم[رواه البخاري1862ومسلم1341]رواه البخاري ومسلم، لا تسافر يعني لا تسافر، نهي واضح، إلا مع ذي محرم لحمايتها، لصيانتها، لإعانتها، هذا الحج فيه زحام ومشاق، هذا الحج تحتاج المرأة فيه إلى إعانة، حماية، صيانة، دلالة الطريق، تحتاج إلى أشياء كثيرة، لا تتمكن منها أي امرأة مع ضعفها، وحجابها، وتربص من يتربص من أهل السوء فلا بد من ولي ومحرم.

والذين ينادون اليوم بإسقاط الولي في الزواج، والمحرم في السفر، ونحو ذلك بحجة حقوق المرأة معتدون على شرع الله، موافقون للكفار، يقدمون قول الكفار على دين الله، ويقلدون أعداء الله، ويتركون شرع الله.

عباد الله: إن المحرم من تحرم عليه المرأة على التأبيد بنسب، أو رضاع، أو مصاهرة، فزوج الأخت، وزوج الخالة، وزوج العمة ليسوا من المحارم، والنبي ﷺ أوصى بالحج المبرور فهل سيكون مبروراً إذا خالطه الإثم بمخالفة النهي؟ وسواء كانت المرأة خادمة أو غير خادمة أليست امرأة؟ وما هو الدليل على استثناء نساء من النص بلا دليل؟ وما هو الدليل على استثنائهن من النص العام؟

إن المحرم يجب أن يكون ذكراً، مسلماً، بالغاً، عاقلاً، يحرم على المرأة على التأبيد، فزوج الأخت يحرم تحريماً مؤقتاً فلا يصلح أن يكون محرماً، والصبي لا يحمي، ولا يكفي أن يكون محرماً، فلا بد أن يكون بالغاً، وإذا كان حج فريضة فلا يشترط فيه إذن الزوج، فلو منعها زوجها من حج الفريضة حجة رغماً عنه إذا ملكت محرماً يوصلها، ونفقة المحرم على المرأة إلا إذا تطوع المحرم، حج الفريضة واجب إذا توفرت شروط الاستطاعة وليس منها إذن الزوج في حال حج الفريضة، أما إذا كان حج نافلة فلا بد فيه من إذن الزوج، وقد نقل ابن المنذر رحمه الله الإجماع على ذلك؛ لأن حقه واجب عليها فلا يجوز أن تفوته بما ليس واجباً عليها.

لقد ذكر لنا نبينا ﷺ أن الحج المبرور يلي الإيمان بالله، والجهاد في سبيله في الأفضلية، والمبرور أن يكون من مال حلال، وأن يبتعد فيه عن الفسق، والإثم، والجدال بالباطل، وأن يأتي بالشعائر، والمناسك، والعبادات وفق السنة النبوية ليأخذ مناسكه عن النبي ﷺ، وألا يرائي بحجه، وألا يعقبه بالمعصية، وقد قال ﷺ: من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه[رواه البخاري1521 ومسلم1350]، إنه كفارة لما بينه وبين الحج الآخر، إنه ﷺ أخبر بأن الحج يهدم ما كان قبله هدماً، ويمسح مسحاً، يمحو محواً، وقال: تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة[رواه الترمذي810] فهذا الحداد ينفخ ليزيد النار اشتعالاً ولتذهب الشوائب وتحصل التنقية، والغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله يعني: أنهم أهل للإكرام، وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم[رواه ابن ماجه2893]حديث صحيح.

منافع الحج

00:20:34

هذا الحج الذي تحصل به المنافع الدينية والدنيوية يشهده أهله: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْسورة الحـج27 فيحصلوا رضوان الله، ويعودوا بالمغفرة، وبالأجر العظيم، والصلوات في تلك البقاع العظيمة، والمنافع من لقاء إخوانهم، والوقوف على أحوالهم، وتعلم العلم، وتحسين الأخلاق، وهكذا المشاركة والمساهمة في كل عمل خير، والتعاون على البر والتقوى، وإذا حصلت منافع دنيوية فإنها غير مرفوضة.

إن لهذا الحج زاداً إنه اتباع لا ابتداع، إنه توحيد لا شرك، يعلمه الإخلاص لبيك اللهم لبيك، يحج يلبي تعبداً ورقاً، وإذا كان عبداً لله كان مملوكاً له لا يخرج عن أمره، يعلن بأنه رقيق لربه في تلك التلبية، وأنه لا يخرج عن أمره، وأنه يتبع ما يأمره به، إنه يدخل حرمه الآمن فلا يخالف الأمن، ومقتضيات الأمن في الحرم، إنه يعظم ربه بما شرعه، ولا يبتدع في دين الله، وهو كذلك يطوف حيث لا طواف في مكان آخر غير هذا المكان، فإن الصلاة أنت تؤديها في كل مكان من الأرض، والطهارة حتى لو عدمت الماء عندك الصعيد الطيب، والتراب في أي مكان في العالم، وتصوم في أي بلد، وتتصدق، وتقرأ القرآن، وتدعو في أي مكان، أما الطواف فلا يجوز، ولا يشرع، ولا يكون إلا في ذلك المكان حول تلك البناية التي أضافها الله إلى نفسه، بيت الله، يكفيه شرفاً أن قال عنه: وَطَهِّرْ بَيْتِيَسورة الحـج26 فأضافه إلى نفسه، فأنت تطوف به، ويتبين لك أن الطواف بالقبر والحجر والضريح إنما هو بدعة وشرك، وإحياء لملة عمرو بن لحي الخزاعي في هذه الأمة، وعندما يحج المسلم فإنه لا يعترض بعقله على رمي الجمار ويقول: ما فائدة رمي الأحجار بأحجار؟ وإنما يسلم لله؛ لأنه يطيع، يفعل كما فعل رسول الله ﷺ لما قال: خذوا عني مناسككم[رواه النسائي3062].

وهكذا لن ينال الله تلك الخدمات التي توفرها الحملات، لن ينال الله وسائل المواصلات المرفهة، لن ينال الله تلك المراكب الفخمة، ولا الخيام التي تحولت إلى غرف نوم على مستوى عال من الفرش الوفير، لن ينال الله تلك البوفيهات المملوءة بالأطعمة والأشربة المتنوعة، لن ينال الله الخدم، والحشم الذين يدخلون، ويخرجون بأنواع المآكل والمشارب والخدمات، لكن يناله التقوى منكم، ولهذا شرعه لكم لتكبروا الله، هكذا شرعه لكم لتعبدوه وحده، هكذا شرعه لكم لتلبوا له طائعين، وتجيبوا أمره مختارين، وتقبلوا عليه راغبين راهبين، لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَاما الذي يناله ويصعد إليه ويصل إليه؟ ما الذي يصل إليه؟وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْسورة الحـج37 هذه التقوى التي هي فعل ما أمر، وترك ما عنه نهى وزجر، هذه التقوى التي تقي العبد عذاب الله يوم الدين.

اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وفقنا لما تحب وترضى، واجعلنا من المستمسكين بالعروة الوثقى، اللهم تقبل عملنا، وآتنا سؤلنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

00:25:16

الحمد لله أشهد أن لا إله إلا الله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وأمينه على وحيه، أشهد أنه رسول الله حقاً علمنا فأحسن تعليمنا، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه ولا شراً إلا حذرنا منه، فصلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، اللهم صل وسلم وبارك على آله وذريته وأزواجه وخلفائه يا رب العالمين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله: إن الحاجة إلى معاونة الحجاج على أداء نسكهم اليوم كبيرة فقد ارتفعت الأسعار، وعم الغلاء، وطال حتى أسعار الحملات، ومن أعان حاجاً على حجه فهو من الذين ينالون الأجر العظيم لامتثاله أمر الله: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى سورة المائدة2 فأعانه بشيء من النفقة، يسر له الأمر، والتي حفظت أولاد جارتها لتذهب إلى الحج وترجع بأي نوع من أنواع المعاونة، والذي جعل حملة خيرية يحج بها من يحج مجاناً، أو بالتكلفة، أو أعان بشيء من الكلفة، كل ذلك خير في غمرة الغلاء الذي أرهق الناس، وقد قال النبي ﷺ: الحج والعمرة من سبيل الله[رواه أحمد26742]،  فأدخله في سبيل الله وذلك لعظمه.

فضائل العشر من ذي الحجة والأضحية

00:27:04

عباد الله: إننا ونحن نقدم على الموسم العظيم، والعشر المباركة عشر ذي الحجة نتذكر العبادة التي شرعها الله بإنهار الدم تعظيماً له بالذبح توحيداً له، يسمي عليها ويكبر، إن أهل الجاهلية كانوا ينهرون الدماء تعظيماً لآلهتهم، فجاء الإسلام بهذه الأضحية العظيمة، وفيها من إرث إبراهيم الخليل ما فيها.

وكذلك فإن أمر النبي ﷺ بتعظيم هذه العشر، وبالذكر فيها يدل على أهميتها، وأنت يا عبد الله تلتزم فيها بأشياء مما يلتزم به الحاج، لكن الحاج لا يلتزم بعدم الأخذ من الشعر والأظفار إلا إذا نوى بالإحرام ولم يكن عنده أضحية، وإنما عنده هدي، أو حج مفرداً فإنه في هذه الحالة لا يلزمه الامتناع عن الأخذ من الشعر والأظفار حتى يلبي بالإحرام، وأما أهل البلدان فإذا دخلت عشر ذي الحجة امتنعوا عن الأخذ من الشعر والأظفار من تلك الليلة من غروب شمس آخر يوم من ذي القعدة، فإذا لم يعلم الشخص كم هو ذو القعدة تسع وعشرون أم ثلاثون فإن إكمال العدة في هذه الحالة هو القاعدة، ويقع أحياناً أن يتأخر الإعلان عن بداية شهر ذي الحجة؛ لأن الهمم والدواعي لا تتوافر لنقل خبر هلاله كما يكون في رمضان وختام رمضان، ولأنه لا ترتبط به عبادة في أوله مثل تلك العبادة في الصيام، ولذلك إذا خفي عليك بداية ذي الحجة فالقاعدة إتمام الشهر الذي قبله ثلاثين.

أيها المسلمون: إن هذه الأضحية مما يستعد له، ومما يجمع له المال ويوفر، ومما تطيب به النفوس، ومما فيه بركة لأن النبي ﷺ أمر وأوصى وذبح وأكل وأهدى وقال: فليأكل من أضحيته[رواه أحمد8835]، وإذا نقلها لبلد آخر لحاجة، أو لم يستطع أن تكون في بلده فلا بأس، ولكن الأضحية عبادة فيها إشهار وإعلان، الأضحية عبادة علنية وليست عبادة سرية، فهي ليست مثل الصدقات تخفى، ويتعمد إخفاؤها، كلا بل يتعمد إظهارها.

نعمة الأمن

00:30:14

أيها المسلمون: إن نعمة الله بالأمن يجب أن تصان، وهذه الأخبار التي تتوالى عن وجود مجموعات فيها من التخطيطات والنوايا والأعمال للإخلال بأمن المسلمين أشياء تؤلم والله، وكيف يمكن أن توجه الصواريخ والمقذوفات إلى منشآت المسلمين الاقتصادية التي إذا حل فيها تفجير أو ضرر تناثرت تلك الأشلاء وعم ذلك الخراب والتسمم في البيئة والأجواء؟! كيف يجوز وبأي عقل يصح أن تفعل مثل هذه الجرائم التي لا يشك عاقل فضلاً عن مسلم أنها حرام في دين الله؟! وأن حرمة الدماء التي جاء الإسلام بها ليست عملاً عبثياً، وليس القتل في الدين عشوائياً، وإنما حفاظ على الدم، وإزهاق الأرواح المعصومة حرام، وكذلك من حمل السلاح على المسلمين آثم، وحمل السلاح إنما يكون على الكفار، على المحاربين، على أعداء الدين، على المعتدين، وليس على الآمنين، ولا على المؤمنين، ولا على المسلمين.

وكذلك فإن إشاعة الهلع، وإثارة الفزع بهذه الأعمال فيها ارتكاب لأمر محرم، وانتهاك لما نهى النبي ﷺ عنه من ترويع المؤمن.

وإذهاب الأمن الذي تعمر المساجد به، وتقام الصلوات فيه، وتحفظ الأعراض، وتؤمن الطرق، والسبل، وينشر الخير، وتقام الحدود، وتنتشر الدعوة، وتطبق الشريعة فيه، هذا هو الواجب استثمار الأمن في هذا فلا يجوز الإخلال به.

وأيضاً فإن إهدار مكتسبات المسلمين، وتدمير طاقاتهم، وتشتيت جهودهم، وتعطيل مشاريعهم، ليس من الدين في شيء، بل هو خدمة لأعداء الدين، وإن حرمة الدم عظيمة عند الله.

فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَسورة الأعراف74 وإن إتلاف هذه المنشآت المملوكة للمسلمين والتي يستفيد المسلمون من عوائدها قل أو كثر إنه من الفساد في الأرض، وقد قال موسى لأخيه هارون موصياً له: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَسورة الأعراف142.

عباد الله: لا زال المسلمون يحتاجون إلى الفقه والله، لا زالوا يحتاجون إلى معرفة خير الخيرين وشر الشرين، لا يزالون بحاجة إلى معرفة المصالح التي جاءت بها الشريعة والمفاسد التي نهت عنها وحرمتها، وشرعت التشريعات لتلافيها، مراعاة مقاصد الشريعة من الأمور العظام ودفع الضرر: لا ضرر ولا ضرار[رواه ابن ماجه2340].

وكذلك فإنه يجب على المسلمين السعي في إقامة شرع الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة، وتغيير الحرام بالطرق الشرعية، وما كانت مفسدته أكبر من مصلحته فإنه يترك ويصبر حتى يأتي أمر الله.

أهمية الرجوع للعلماء الراسخين

00:34:00

أيها المسلمون: إن مما يجب الحرص عليه استفتاء أهل العلم أصحاب الخشية والورع، أصحاب القدرة على الاجتهاد والاستنباط، الذين لا يعرفون بميل إلى الدنيا وولوغ فيها، ولا يعرفون ببيع دينهم بالدنيا، وكذلك يقولون بالحق وبه يعدلون، فأما الاعتداء عليهم والتهوين من أمرهم فإنه مخالفة لتعظيم حرمات الله، فإن من يعظم حرمات الله يعظم العلماء بالله الذين عندهم خشية لله، الذين عندهم تجرد وإقبال على الله، كان السلف يعظمون أهل العلم، قال الزهري: إن كنت لآتي باب عروة فأجلس ثم أنصرف ولا أدخل ولو أشاء أن أدخل لدخلت إعظاماً له، ويجلس الواحد على باب العالم حتى يخرج ولا يطرق عليه الباب، ويتأول قول الله: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْسورة الحجرات5.

عباد الله: هكذا كان مالك يوصف:

يدع الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعجز سلطان التقى فهو المطاع وليس ذا سلطان

فمع أنه ليس له قوة السلطان إلا أن الهيبة له في قلوب الناس، وهكذا: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍسورة المجادلة11.

وأيضاً: فإنه لا بد من وجود المرجعية بين المسلمين، أن يكون لهم رؤوس يرجعون إليهم، أن يكون من أهل الفتوى الثقات غير المعروفين بالتنازلات والتساهلات، أن يكون بينهم من يفتيهم، ومن يرجع إليه في الأمور كبيرها وصغيرها.

نسأل الله أن يديم علينا الأمن والإيمان، وأن يحفظنا من كل شر وفتنة، اللهم من أراد ببلادنا سوءاً فاقطع دابره، اللهم من أراد بأمننا سوءاً فرد كيده في نحره، اللهم إنا نسألك الأمن في بلادنا وبلاد المسلمين، اجعلها عامرة بذكرك محكمة لشرعك تائبة لك ذاكرة لك.

اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويعلمون الحق وبه يحكمون، اللهم إنا نسألك الهدى، والتقوى، والعفاف، والغنى، أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، اللهم إنا نسألك في ساعتنا هذه أن تخرجنا من ذنوبنا كيوم ولدتنا أمهاتنا، وأن تكتبنا وتدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وأن تدخلنا الجنة مع الأبرار، وأن ترزقنا الفردوس الأعلى، وتعيذنا من النار، اللهم إنا نسألك الأمن في البلد، والعافية في الجسد، والصلاح في الذرية والولد.

1 - رواه مسلم1337
2 - رواه مسلم1337
3 - رواه ابن ماجه2883 
4 - رواه مسلم1336
5 - رواه البخاري1513
6 - رواه البخاري1862ومسلم1341
7 - رواه البخاري1521 ومسلم1350
8 - رواه الترمذي810 
9 - رواه ابن ماجه2893
10 - رواه النسائي3062
11 - رواه أحمد26742
12 - رواه أحمد8835
13 - رواه ابن ماجه2340