الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
عباد الله: إن المؤمن يخاف ربه في علاقته معه، وكذلك يخاف ربه في علاقته مع الناس، وقد سبق الحديث عن شيء من الأمثلة في خوف المسلم من ربه في تعامله مع الخلق، والله يحاسبنا على علاقتنا فيما بيننا، بناءً على هذه الحقوق، التي أوجبها لبعضنا على بعض، وجعلها أحكاماً بين المسلمين.
تعامل المسلم في العطية
ومن ذلك أن المسلم إذا أعطى أحداً عطية ليس فيها معصية، فلا يرجع في عطيته؛ لأن النبي ﷺ شبه ذلك بأشنع الصور وأقبحها، فقال: العائد في هبته كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه[البخاري(2589)،ومسلم(1622)]. وقال ﷺ مستثنياً واحداً من هذا، قال: لا يحل للرجل أن يُعطي العطية فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده[رواه الخمسةابو داود(2529)،والترمذي (1299)، وابن ماجة(2477)، والنسائي(3690)، وأحمد(2119)]وصححه الترمذي .
وعلى الوالد أن يعدل في العطية بين أولاده، كما ذكر كثير من العلماء: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِالنساء 11على قاعدة الشريعة في الميراث والعقيقة والشهادة وغير ذلك، فلا يُعطي أحداً من أولاده عطية دون الآخرين بدون مبرر وسبب شرعي، فأما إذا قامت بواحد من الأولاد حاجة ليست عند الآخرين، كمرض أو فقر أو دين أعطاه لسد حاجته.
والمسلم كذلك لا يجور في وصيته، فلا يزيد على الثلث، ولا يُوصي لوارث؛ لأنه لا وصية لوارث أبدًا، فإن الله قد أعطاهم حقوقهم، وبيّن أنصبتهم وحظوظهم، فلا يجوز لأحد أن يُوصي لوارثه، وكذلك لا يجوز حرمان وارث؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: غَيْرَ مُضَآرٍّ النساء12، وقال ابن عباس : "الإضرار في الوصية من الكبائر"، وإذا قام المسلم على وصية مسلم أنفذها، وقام بالأمانة فيها، فيُخرج حقوق الله أولاً من زكاة أو كفارات أو نذور لم يُخرجها الميت، ثم يخرج حقوق الآدميين من الديون وغيرها، وينفذ ما أوصى به الميت، إن كان قد أوصى بشيء، وعلى الإخوان الكبار ألا يبخسوا إخوانهم الصغار حقوقهم، وألا يتعدى الذكر على الأنثى، فيأخذ حقها، كما يفعل عدد من الأبناء، إذا مات أحد الأبوين مثلاً، وبعضهم يقسم قسمة جاهلية، كما يفعلونه بتركة الأمهات، فيكون المال والسيولة للذكور، والذهب للإناث: تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى النجم22 وإنما يقسم الجميع كما أمر الله عباد الله: ما الذي يحمل المسلم على إنفاذ الوصية؟ ما الذي يحمله أن يأتي بها على الوجه الذي أرادها الموصي دون زيادة ولا نقصان؟ إنه الخوف من عذاب الله: فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُالبقرة181، وانظر إلى الوعيد الذي ذكره الله بعد أن بيَّن قسمة المواريث، فقال : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌالنساء13-14.
تعامل المسلم في النكاح
أيها المسلمون: إن المسلم يخاف الله، فيسعى للنكاح إذا خشي على نفسه الحرام، ويجتهد لذلك بكل سبيل وطريقة، مبتغياً العفة، وتنفيذ ما أمر الله به ورسوله ﷺ، فليتزوج، ولا يُخفي أي من الطرفين ما يجب أخبار الطرف الآخر به من العيوب، والمكر والخديعة في النار، ولا يُمنع المسلم الخاطب الجاد من حقه في رؤية المخطوبة؛ لأجل عادات جاهلية، وأعراف لم ينزل الله بها من سلطان، وإنما يُعطي المسلم الحق لأهله، ويُمَكن الطرفين من رؤية بعضهما بالحلال، والعجب كل العجب ممن يسمح لابنته أن تخرج سافرة في الأسواق والشوارع وبين الرجال، ويتغاضى عن هذا العمل المحرم، ثم إذا أراد الخاطب رؤيتها بما شرع الله تمنع من ذلك وتشدد فيه.
والمسلم كذلك يفي بشروط النكاح؛ لأن نبيه ﷺ قال: المسلمون على شروطهموقال: إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج والمسلم لا يُغلي مهراً؛ ليرهق الزوج ولا يأخذ من البنت ما تحتاجه من الصداق، لأن الله قال: وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ النساء4.
وكذلك فإن المسلم يُعاشر زوجته بالمعروف؛ امتثالاً لأمر الله: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ النساء19 فيؤدي حقها في النفقة والسكنى والمبيت، وعدم المضارة، وعدم الإيذاء فلا يسبها، ولا يشتم أهلها، بل يُحسن عشرتها؛ لأن النبي ﷺ بعث العطف في نفسه عندما قال له: فإنهن عوانٍ عندكم أي: أسيرات، فإذا كانت أسيرة في بيتك، لا يكاد يوجد لها حول ولا قوة.
ولا تخرج إلا بإذنك، فإن من حقها عليك أن تُحسن عشرتها؛ ما دام الشارع قد جعلها تحت سلطانك، هذا الكلام رغم أنف الذين يريدون اليوم أن يصدروا قوانين يزعمون لتحرير المرأة، أو في مصلحة المرأة، فتسافر بغير إذن زوجها، هكذا يريدون الانحلال، وأن تكون القضية انفلات الأسرة، وأن تخرج المرأة متى ما تريد، وأن تسافر متى ما تريد، وأن تُطلق نفسها متى ما تريد.
الرد على دعاة تحرير المرأة
ولذلك فإن المسلمين الصادقين تنبعث في نفوسهم المقاومة لهذه التيارات، التي تريد اليوم أن تحطم مجتمعات المسلمين باسم تحرير المرأة، وإعطاء المرأة حقوقها، فهم يريدون أن يسنوا القوانين لإعطاء المرأة حقوقها، وكأن الله لم يعطها حقوقها، ولم يُنزل قوانين من السماء، فلماذا سنوا القوانين، إذا كانت هذه الشريعة موجودة وقوانينها موجودة؟ ألم يكن الأجدر بهم أن يقولوا: هذه الشريعة نحكمها، وهذه قوانين الرب نرجع إليها بدلاً من سن القوانين الجاهلية، التي تريد كسر قوامة الرجل على زوجته؟ انتبهوا أيها المسلمون: كسر القوامة، ذلك الوتر الذي يريد أن يلعب عليه هؤلاء؛ لأن قوامة الرجل إذا انكسرت عم الفساد وطم، وهكذا تتنقل القضية، ولكن بحمد الله يوجد دائماً في الأمة من يقوم لله بالحجة، ومن يُنكر ويعترض ويبين، ولذلك فإن مقاومة الفساد والانحلال واجب على المسلمين جميعاً، وإعلان الإنكار لأي محاولة من أولئك العابثين بشرف المسلمين وعفتهم وطهرهم، يجب أن تتوالى هذه المحاولات، وهذه الإنكارات لإبقاء مجتمع الإسلام موافقاً لشريعة الله ، سواء الذي شرعه في العبادات، أو في المعاملات بين الزوجين، أو بين المبتاعين، وبين غير ذلك من أحوال المجتمع كافة.
عباد الله: إن المسلم لا يَكره زوجته إلا لأمر شرعي، ولو كرهها لشيء من خُلقها فليصبر؛ لأن الله ندب إلى ذلك، فقال: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً النساء19، وربما رزق منها بولد فجعل الله فيه خيراً كثيراً، كما ذكر ابن عباس -رضي الله تعالى عنه-، والمسلم يحافظ على زوجته ويصونها في حجابها وخروجها، ولا يسافر بها إلى أماكن المعصية، ولا يُرغمها على رؤية ما حرم الله، ويحفظها من أماكن المنكرات، ومن التشبه بالكافرات.
خطر الدش
عباد الله: إن المصيبة فادحة برجال قد جلبوا هذا الدش، أو هذه الصحون الفضائية، وهذه الأطباق إلى بيوتهم، ثم تتوالى علينا القنوات الجنسية، والذي كان لا يأتي إلا بأجهزة خاصة أو بالتشفير، صار يأتي الآن بغير تشفير، وإذا كانت قناة صارت أربعاً، ثم صارت عشراً، وهكذا تتوالى هذه القنوات الإباحية بالمجان، وقد اكتشف بعض الآباء والأمهات أولادهم في أثناء غيابهم قد فتحوا على هذه المحطات، إلى متى ننتظر إذاً ونحن نترك وسيلة الفساد العظمى في البيوت تعمل عملها في أبنائنا وبناتنا وأنفسنا؟
يا عباد الله: إن اليهود يريدونها انحلالاً كاملاً، وعرضاً للعورات المكشوفة على الملأ، يريدون أن يعم الانحلال في العالم؛ ليركبوا الحمير عند ذلك بزعمهم، فإن الناس إذا كانوا بغير دين وخلق؛ صاروا كالبهائم، أو أحط من البهائم، فعند ذلك يركبهم اليهود، فهل يتفطن المسلمون الذين يجلبون هذه الأطباق الفضائية إلى بيوتهم إلى الخطر الداهم الذي يتهدد أبناءهم، وبناتهم، وزوجاتهم، وأنفسهم، بهذه الشرور، وإذا كان أول ما جاء لم يكن فيه هذه القنوات الجنسية، فقد صارت الآن فما هو موقفك يا عبد الله؟ هل تقبل مسلسل الإفساد بالتدريج؟ هل تنطلي عليك القضية؟ هل يتبلد الحس أمام المنكر؟ هل تُبقي هذا المفسد في بيتك وأنت تعلم أن الله سائلك عما استرعاك، وأي تضييع أعظم من أن يذر المسلم في بيته وسيلة الإفساد، تبث سمومها وشرورها بتلك الألوان، والجاذبيات، وأنواع المناظر على مرأى من بناته وأبنائه، من هؤلاء الشباب والمراهقين، بل حتى الصغار الذين صاروا يطلعون على مناظر أرعبت بعضهم، فصاروا يرتجفون من هول ما رأوا، وربما أفسدت البعض الآخر، الذين انطلقوا يبحثون عن هذه الماهيات، ويدققون فيما رأوا.
عباد الله: قليلاً من العودة، قليلاً من التفكير، إننا نحتاج إلى تدبر في الحال، إننا نحتاج إلى وقفة نقف بها أمام هذا التيار الهادر، وأمام هذا الإعصار الذي يعصف بديننا وأخلاقنا وعفتنا.
عباد الله: كيف برجل يفتح هذا الجهاز ثم ينادي زوجته لكي تجلس معه، فإذا تأبَّت ورفضت تلك المرأة التي فيها دين وعفة، قال: إما أن تجلسي، وإما أن تذهبي، فإذا أرادت أن تجلس مع زوجها بعدما عاد من العمل، لم يكن إلا هذا الخيار الذي هو من المرارة بمكان، ثم الخيار الآخر فتنصرف كسيفة البال حزينة، فإما أن تجلس وزوجها يرى المنكر وهي تحترق، وإما أن تنصرف فلا جلوس ولا حديث مع الزوج، الذي وضع أمامها هذا الخيار.
عباد الله: أين تقوى الله؟ عباد الله: أين الخوف من الله؟ عباد الله: أين الذين يخافون اليوم الآخر؟ يا أيها المسلم: يا عبد الله: اتق الله في نفسك وأهلك وزوجك وبيتك وأولادك.
تعامل المسلم مع زوجته
والزوج المسلم يرعى حق زوجته حتى في الفراش، فلا يطأها في حيضها، ولا يأتيها في دبرها. ويأمرها بالصلاة امتثالاً لأمر الله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَاطـه132، ويأمرها بغسل الجنابة؛ لأجل إدراك الصلاة، وخصوصاً صلاة الفجر، ولا يظلمها حقها في المبيت،؛ ويراعي العدل بين الزوجات؛ إن كان لديه أكثر من زوجة؛ لأن النبي ﷺ أخبر: أن من لم يراعِ ذلك، يأتي يوم القيامة وشقه مائلة[أبو داود(2133)]وقد قال الله: فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِالنساء129، وكذلك فإن الزوج المسلم لا يمنع زوجته من صلة رحمها، وهو ينفق عليها وعلى أولاده.
ولا يلعب المسلم بطلاق، ولا يهزل فيه أبداً؛ فإنه أمر عظيم، ألا فليتق الله من يطلق بالثلاث دفعة واحدة، أو من يطلق في حيض، أو يُطلق في طهر أتاها فيه، وأعظم من ذلك الذي يسكر ويطلق، ويشرب الخمر، ويشرب الحرام الذي حرمه الله من فوق سبع سماوات، ألا فليتقِ الله الرجل الذي كلما أراد أن يلزم شخصاً بشيء حلف عليه بالطلاق، لا تلعبوا بكتاب الله، لا تلعبوا بأحكام الله، ارعوها حق رعايتها، ثم هذا يقول لزوجته: أنت عليّ مثل أمي، أنت كأمي إن لم تفعلي كذا، ونحو ذلك، ألا إنه منكر من القول وزورا، كما قال الله : وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًاالمجادلة2.
وكذلك فإن الأب المسلم لا يمنع ابنته من الرجوع إلى زوجها إذا طلقها، وصارت في عدة الطلاق الرجعي؛ لأن الله قال: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّالبقرة228، والأب المسلم لا ينزع الولد من حضانة أمه، ولا يمنعها من رضاعه؛ لأن الله قال: لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ[البقرة233]،وهو يُنفق على أولاده، امتثالاً لأمر الله الذي قال: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ الطلاق7 آلمتني قصة سمعتها من رجل، لما طُلقت ابنته، وردت إلى بيته، قال لها: لا تحسبي أنكِ ستجلسين معنا في البيت مجاناً، عليك أن تواصلي العمل، وأن تدفعي لي شهرياً ألفاً وخمسمائة، وبعضهم يجبر ابنته على العمل لأخذ راتبها، وربما رفض زواجها أصلاً؛ ليجعلها مصدر دخل له، أين الشهامة؟ أين الرجولة؟ أين المروءة؟ أين الإنفاق الذي أمر الله به الرجال؟
ما يجب على المسلم مراعاته في حياته اليومية
والمسلم لا يأكل إلا الطيبات، ويرعى ما يدخل في بطنه؛ لأن أول ما ينتن من الإنسان في قبره بطنه، ويراعي قول الله: كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً البقرة168، فلا يشرب خمراً، ولا يتعاطى حشيشة، ولا دخاناً خبيثاً، وينتبه لمكر الكفار في الطعام والحلويات وغيرها؛ في جعل الخنزير والميتة والخمر.
عباد الله: إن المسلم يحفظ يمينه، فلا يكثر الحلف؛ لأن الله ذم ذلك، فقال: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍالقلم10، فليتق الله رجالٌ الحلف على طرف ألسنتهم، كلما رفعوا شيئاً، أو وضعوه، أو حركوا ساكناً سبق اليمين إلى لسانه، أين توقير الله ؟ مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا نوح13، وليتق الله الذين يحلفون بغير الله، ليس منا من حلف بالأمانة[أبوداود(3253)] فلا يحلف المسلم بأي معظم، لا بالكعبة، ولا برأس أبيه، ولا حياة أولاده، وإنما يحلف بالله العظيم؛ إذا أراد أن يحلف على الأمر المهم الذي يحتاج إلى القسم واليمين.
وكذلك فإن المسلم يراقب الله في الشهادة التي يشهدها، فهو لا يشهد إلا بعلمٍ، فيقول كما يقول الله: وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَايوسف81، ويقيم الشهادة لله خالصة، لا يريد من وراء الشهادة جزاء ولا شكوراً، ولا مطمعاً دنيوياً، فضلاً عن أن يشهد على زور؛ لأن ربه قال في الكتاب العزيز: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِالطلاق2، وإذا دُعي حضر، كما قال الله: وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ البقرة282، ولذلك قال العلماء: الشهادة فرض كفاية، ولا يكتم الشهادة إذا تعينت عليه: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُالبقرة283، ويشترط للوجوب عليه انتفاء الضرر؛ لأن الله قال: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌالبقرة282، فلنحذر من الذين يتسرعون في الشهادة، لا تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته.
عباد الله: إن المسلم يُوقر مجالس القضاء، فلا يزدري القاضي، ولا يتهجم عليه، بل إنه يحترم ذلك المجلس؛ لماذا؟ لأنه سيحكم فيه بشريعة الله ، فهذا أوان حضور الخصوم بين الذي سيقضي فيهم بالشريعة، ولذلك كان توقير القاضي الذي يحكم بالشريعة من توقير الشريعة، ومن توقير الدين الذي هو من توقير الله .
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن استقاموا على شريعتك، اللهم اجعلنا ممن تمسكوا بدينك، اللهم اجعلنا ممن أقاموا الدين في حياتهم، ولا تجعلنا ممن تعدوا حدودك، ولا انتهكوا حرماتك، إنك أنت الرحمن الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أشهد أن لا إله إلا هو، وحده لا شريك له، رب الأولين الأخرين، وأشهد أن محمدا رسول الله، الشافع المشفع يوم الدين، وحامل لواء الحمد، إمام الأنبياء وسيد المرسلين -صلى الله عليه وعلى آله وصحبة أجمعين- أشهد أنه رسول الله حقا، والداعي إلى سبيله صدقا، بلغ الأمانة، وأدى الرسالة، وجاهد في الله حق جهاده.
لمحة عن الجهاد في الشيشان
عباد الله: ولا يزال لواء الجهاد قائماً في أرض الشيشان ، ولا شك أن في ذلك رفعة لأهل الإسلام، ولا شك أن انتصار أولئك المسلمين وصمودهم انتصار في حد ذاته، ورفع لرؤوس أهل الإسلام في الأرض قاطبة، وتتبين من هذه المعارك أمور كثيرة للإنسان المسلم، فيتعرى الكفر وأهله، هؤلاء الكفار الذين لبسوا على المسلمين طويلا، وادعوا بأنهم أهل العدل، وبأنهم يقيمونه، وبأنهم يحاكمون المجرمين في محاكم العدل الدولية وغيرها، هؤلاء الذين يدعون إلى المواثيق الأممية التي تحفظ حق الشعوب، قد انكشفوا في هذا المسلسل الذي يحدث في بلاد الشيشان وغيرها، نرى اجتماع الكفار على حرب الإسلام، سواء مباشرة بالسلاح واليد كما يفعل الروس، أو بالمال كما يمدهم اليهود صراحة ويآزرونهم معنوياً صراحة، فاليهود يقفون مع الروس في حرب الشيشان، وأولئك الكفار الذين يبذلون لهم الغِطاء المعنوي، والذين يعطونهم المهلة تلو المهلة، والتأجيل تلو التأجيل في العقوبات، وتعليق العضوية وغيرها، إنه انكشاف حقيقي للوجه القبيح، وليس للكفار وجه حسن، وكل وجوههم قبيحة، هذه الوجوه التي أسفرت عن حرب المسلمين في هذه المعركة التي نشهدها.
عباد الله: وقد انكشف فيما انكشف كذب أعداء الله الروس، انكشف أمام الملأ، فهم الذين قالوا: سنسحقهم في أيام وليالٍ، فإذا بالحرب تمتد شهوراً، وهم الذين قالوا: إن في جروزني بضع مئات من الصبيان والمتعصبين، فإذا بهم يقولون الآن: فيها ثلاثة آلاف من خيرة المقاتلين المدربين وأصحاب الخبرات، إن هذه الحرب تكشف عن تفاهة أولئك القوم، الذين يتحدثون عن الصبي الكوبي الذي يملئون به وسائل أعلامهم، وصبيان المسلمين تحت القصف والنيران في الشيشان، وتحت المجاعة والأوبئة كالسل الرئوي وغيره في أنجوشيا، فأين عقول أولئك القوم؟ وأين الموازين التي يدعون إليها؟ إن القضية قد كشفت حقيقةً على أن في العالم فراغاً في القيادة لا يحله ولا يملؤه إلا أهل الإسلام.
عباد الله: إن القضية قد كشفت فيما كشفت أيضاً أموراً من النصر، وقواعده التي جاءت في كتاب الله ، لقد تبين بجلاء قول الله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ آل عمران 126، تبين في حال أولئك الشيشان الذين يقاتلون شبه منفردين، بإمكاناتهم الذاتية خصوصاً، وهم في قلب الحصار في عاصمتهم وفي غيرها، من الذي يمدهم الآن؟ وهم في حصارهم إلا الله : وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِآل عمران 126، لقد تبين أن من نصر الله نصره الله، إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْمحمد 7، وهم على ما فيهم من قصور؛ فإن الله قد أنزل عليهم تثبيتاً من عنده، فكيف إذا عاد المسلمون إلى الدين حقيقة، ونفوا أنواع القصور وبدلوا ذلك بأنواع من الأسباب الشرعية؟ إذاً لاكتسحنا العالم، والله.
عباد الله: لقد تبين أيضاً القاعدة التي وضعها النبي ﷺ: إن النصر مع الصبر[أحمد(2804) ]، وهكذا صبروا فنصرهم الله في مواطن ومواقع كثيرة، وقد سبق أن صمود أولئك القلة في العدد والعُدد أمام أولئك الكثرة الكاثرة في العدد والعُدد هو نصر بحد ذاته، وكل يوم يمر على المسلمين في جروزني وهي تحت سيطرتهم، وهم يقاومون، هو نصر بحد ذاته، نعم إن أولئك الروس الكفرة يريدون أن يزجوا بقوىً بشرية كثيرة حتى يؤول الأمر إلى احتلال تدريجي؛ لأنهم يراهنون على أنه مهما قتّل الشيشان من البشر الذين يدفعونهم، فإن الكثرة في النهاية تغلب الشجاعة، ولكن الله قادر على إفشال خططهم، وأن يردهم خائبين، ونسأل الله أن يفعل ذلك.
عباد الله: ليس النصر على العدو بكثرة العدد، ولا العُدد، ولا إحكام الخطط، ولا الترتيبات التي يضعها القادة، وإنما على ما ذكر الله بقوله: فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِالبقرة 251، فإذن الله إذا جاء؛ لم يقف أمامه شيء البتة، ومن أخذ بأسباب النصر، وتوكل على الله، وصدق، وأخلص؛ فإن الله ينصره، وقد رأينا ذلك فعلاً في الواقع الذي يعيشه إخواننا في تلك البلاد، فهم الذين استردوا أربول وجديرمس، ورفعوا رايتهم في وسط مدينة شالي، بعد أن حاصروا مئات الوحدات الخاصة الروسية في ثلاثة من المباني، وردوا الروس مرة أخرى إلى أطراف جروزني الآن في هذه اللحظات، والحمد لله رب العالمين.
إن استمرار الانتصارات سيكون باعثاً للأمل في الأمة، وسيحرك في المسلمين مناطق أخرى في العالم للجهاد، والاستقلال عن الكفار ما دام النصر ممكناً، وهذا ما يرعب الكفرة أشد الرعب، فلذلك يجتمعون بقضهم وقضيضهم على حرب الإسلام وأهله.
وقد كشفت المعركة فيما كشفت المنافقين من هذه الأمة والصامتين والمكتوفين الذين لا يحركون شيئاً، فهذه الفضيحة قد حلت، ولذلك فربما تمنى بعض أولئك المنافقين أن ينتصر الروس فعلاً؛ لتنتهي تلك المقاومة فيستريحوا من ذلك الحصار النفسي.
واجبنا نحو المجاهدين
عباد الله: لا ننسى أن لدعاء المسلمين أثراً، وأن لإنفاقهم ومددهم لإخوانهم أثراً، والله جعل المسلمين جسداً واحداً في شرعه هكذا: إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر[مسلم(2586)]ورغم تباعد ما بيننا وبينهم من البلدان والمسافات لكننا نواليهم: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ التوبة 71، وكذلك ننبذ الكفرة ولو كانوا قريبين، ونكرههم على قاعدة البراءة من الكفار، إن قضية الولاء والبراء تتضح أكثر فأكثر من خلال هذه الحروب، وهذه الأولوية للجهاد التي ينصبها الله في أماكن مختلفة من الأرض، وكلما غط المسلمون في سبات، أيقظهم الله بأمر جديد، ألا ترون أن المسلسل يتداعى، وأن القضية لا تتوقف، فبعد البوسنة كوسوفا وكشمير، وغير ذلك، ثم الشيشان ، وكلما نامت الأمة؛ أيقظها الله بقضية جديدة، تبعث الأمل، وتوقظ روح الجهاد، وتحرك النفوس للبذل والعطاء والدعاء.
إن المسلسل ينبئ أن القضية مقبلة على أمر عظيم، وشيء كبير، والله يفعل ما يشاء: وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُالبقرة253.
اللهم إنا نسألك النصر العاجل لإخواننا في بلاد الشيشان وفي غيرها من البلدان، اللهم أعزهم، اللهم وحد كلمتهم، واجمع صفوفهم على التوحيد، سدد رميتهم، اللهم قوِّهم، وأنزل عليهم تثبيتاً من عندك، وجنداً من عندك، وأمددهم بمدد من عندك، وأنزل عليهم نصرك الذي وعدت به عبادك المؤمنين، اللهم إنا نسألك الرحمة لموتاهم، والبرء لجرحاهم، والشفاء لمرضاهم، اللهم اطعم جائعهم، واكسُ عاريهم، واحمل حافيهم، إنك أنت الرحيم بعبادك المؤمنين، اللهم أذل الطغاة والجبابرة وأعداء الإسلام والمسلمين، اللهم أنزل بأسك ونقمتك بالروس المجرمين، واليهود، والصليبيين، وسائر المشركين، فرق شملهم، وشتت جمعهم، واجعل عليهم دائرة السوء، يا رب العالمين، اللهم أنزل عليهم عذابك، اللهم أنزل بهم عذابك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم إنك قادر على أن تجعل آية؛ اللهم فأرِ الناس في الأرض هذه الآية بنصر المسلمين على الكافرين، اللهم إنا نسألك أن تعز دينك وكتابك وسنة نبيك ﷺ، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.