الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
أهمية وفضل التوكل على الله
فإن التوكل على الله من أصل الإيمان والتوحيد: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُسورة الطلاق:3، إنه صدق الاعتماد عليه في جلب المنافع، ودفع المضار، هذا التوكل الذي هو صدق مع الله، وثقة بالله، إنه تفويض كامل واعتماد على الله، وهو أخذ -أيضاً- بالأسباب المباحة، هذا التوكل من أعظم واجبات الإيمان، التوكل نصف الدين، والنصف الثاني هو الإنابة، جمع الله بينهما في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُسورة الفاتحة:5، وفي قوله: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِسورة هود:123.
إنه سبب نيل محبة الله: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَسورة آل عمران:159هذا التوكل من صفات المؤمنين، إنهم كما قال الله: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَسورة الأنفال:2، لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، يعلمون أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك : وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَسورة آل عمران:122
والله ناصر دينه وكتابه | والله كاف عبده بأمان |
وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُسورة الطلاق:2-3، قال تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُسورة الطلاق:3 أي: كافيه، يكفيه الشر، ويدفع عنه الضُر، وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَسورة الشورى:36، هؤلاء أهل الإيمان الذين حققوا التوحيد بهذا التوكل، يدخل الجنة سبعون ألفاً بلا حساب ولا عذاب؛ لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون.
ثمرات التوكل على الله
للتوكل ثمرات، ومنها تيسير الأمور، وتسهيل الصعب، إن العسير يغدو يسيراً بالتوكل، قال النبي ﷺ: لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يُرزق الطير تغدو خماصاً، وتروح بطاناً[رواه الترمذي (2344)]، قال العلماء: "ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه، وكان مأموراً شرعاً بإزالته لأزاله".
ومن ثمرات التوكل: الرضا بقضاء الله، بل إنما يصل العبد إلى التلذذ -أحياناً- بالقدر لما في قلبه من التوكل، وهذا التوكل الذي قام في قلوب الأنبياء، فلما أُلقي إبراهيم في النار قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَسورة الأنبياء:69-70 لماذا؟ لأنه قال لما ألقي في النار: حسبنا الله ونعم الوكيل، كما قال ابن عباس ، والحديث في البخاري [رواه البخاري (4563)].
وهكذا علم زوجته هاجر، فلما وضعها مع ابنه إسماعيل في ذلك الوادي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍسورة إبراهيم:37، وولى، فقالت هاجر: لمن تتركنا يا إبراهيم، فلم يرد، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ فأشار برأسه أن نعم، فقالت: إذن لا يضيعنا، وهكذا حصل من تمام التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب، والبحث عن مخرج، وهي تسعى بين الجبلين حتى جاء الغوث من الله.
وأم موسى لما قال لها ربها: أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَسورة القصص:7فعلت ما أمرها ربها، فرده الله إليها مع أجرة ومال، ولما تحقق الوعد الأول: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِبقيت أم موسى تنتظر الوعد القطعي الثاني: وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فكانت تعلم بأن ابنها هذا الرضيع في صندوق يحمله الماء أنه نبي مرسل من عند الله تعالى، فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّسورة القصص:13، فماذا كان في قلبها من التوكل؟ لما أرضعته، ثم وضعته في هذا الصندوق، وقذفته في اليم.
والنبي ﷺ إمام المتوكلين، لما جاءه مشرك، وسل سيفه فوق رأسه وقال: من يمنعك مني؟ قال: الله [رواه البخاري (4139)، ومسلم (843)]، وهكذا أُخذ ورجَف، وشُل وسقط سيفه، وشامه في غمده وأعاده.
ما ظنك باثنين الله ثالثهما[رواه البخاري (4663)] لما كانا في الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَاسورة التوبة:40.
والصحابة في غزوة أحد لما قيل لهم بعد المعركة: إن أبا سفيان يجمع مرة أخرى للعودة إليكم، وقد خرج المسلمون في طلبه: قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُسورة آل عمران:173، توكلوا عليه، فرغوا قلوبهم من الاعتماد على أحد إلا هو، وهكذا كان الصدق في قلوبهم ثقة بالله: إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْسورة محمد:7.
ولما مر حماد بن سلمة رحمه الله ببيت جارته الأرملة الفقيرة، وكانت السماء تمطر، فسمعها تقول: يا لطيف اللطف بنا، فانتظر حتى وقف المطر، فطرق الباب، فقال: هذه عشرة دنانير اجعليها في حاجتك، فقالت اليتيمة لأمها: يا أماه لم رفعت صوتك؛ فجعلت حماد بيننا وبين الله؟ قال: "لم أرفع صوتي، ولكن الوكيل أتى به" سبحان الله! هو نعم الوكيل، هو الذي أسمع الصوت لعبده المحسن لكي يأتي الفرج عن طريقه، وعلى يديه: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُسورة الفرقان:58، يستغني الإنسان المسلم بالتوكل على الله عن الناس جميعاً: وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌسورة الأنعام:17، وليس هناك دابة في الأرض إلا على الله رزقها.
لابد من الأسباب لتحقيق التوكل
والتوكل على الله من صحته الأخذ بالأسباب، فلا يصح توكل مع إهمال الأسباب، وتعمد تركها، والناس في الأسباب أنواع، فمنهم من يهملها بالكلية، وهؤلاء ليسوا بعقلاء، وفي الصوفية من هؤلاء عدد ومذاهب، ومنهم من يعتمد عليها بالكلية، وهذه نظرة الغرب المادي الجاحد، والذين يعبدون الدينار والدرهم والدنيا هذا شأنهم وديدنهم؛ ولذلك إذا حصل شيء غير متوقع تعطلت الأسباب، ولم تنفع، أصيبوا بباقعة بلقع، فأسقط في أيديهم، وأحبط بالواحد، وربما انتحر، النبي ﷺ قال: اعقلها وتوكل [رواه الترمذي (2517)]، فيأخذ بالسبب، ويتوكل على الله، وهذا الطير الذي قال النبي ﷺ في شأنه: لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير[رواه الترمذي (2344)]تبذل أسباباً؛ لأنها تغدو، تخرج من أعشاشها مبكرة، وتطير وتذهب للبحث عن رزق، وهذه أسباب، وهذا الذهاب أعمال، وهكذا لو قال إنسان: أنا لن أتزوج، ولكني متوكل على الله في أن يرزقني ولداً، ويقول صاحب أرض: لن أزرع، وأنا متوكل على الله أن يخرج لي زرعاً، وهكذا لعد هؤلاء في المجانين، وهذا الطالب يذاكر للاختبار، ويستعد بأخذ الأسباب الشرعية، ويتوكل على الله، فلو قال: لا أذاكر، وإذا كتب لي النجاح سأنجح، فإنه يُلحق بهم.
الأنبياء يأخذون بالأسباب
لقد أخذ الأنبياء بالأسباب، نوح صنع السفينة هو ومن معه، قادر ربنا أن ينجيهم بغير سفينة، وأن يحملهم على ظهر الماء بلا سفينة، وأن يرفعهم في الهواء، ولكن ربنا يعلم عباده الأخذ بالأسباب: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَاسورة هود:37، وماذا عساها تفعل هذه السفينة في الأمواج المتلاطمة التي أغرقت الأرض كلها؟! فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَسورة القمر:11-12.
يعقوب يقول لولده: لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًاسورة يوسف:5 سبب، إخفاء النعمة عن أعين الحاسدين وأسماعهم؛ لئلا يكيدوا، من الأسباب، وهو الذي يقول:لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍسورة يوسف:67؛ لئلا تلفتوا الأنظار، ولئلا يحسدهم الحاسدون أيضاً من جهة أخرى سبب.
يوسف الصديق يضع خطة لإنقاذ مصر من القحط والمجاعة، هذه أسباب، ويقول لهم معلماً: فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِسورة يوسف:47؛ لئلا يتعفن، وتصيبه الآفات.
وموسى يقول لغلامه: أن يحمل معه حوتاً بمكتل، وهذا السمك لطعامهم، ثم يقول: آتِنَا غَدَاءنَاسورة الكهف:62، ولم يقول: تعال نحن نسافر في طاعة، وللقاء الصالحين؛ فلا نحتاج إلى زاد.
فأنكر عمر على بعض أهل اليمن أنهم جاءوا بغير زاد، ويسمون أنفسهم المتوكلين، هذا تضييع، وليس بتوكل، ولقد قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْسورة النساء:71، وقال: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍسورة الأنفال:60، وعلمنا في صلاة الخوف ألا يسجد الجيش جميعاً، وأن ينقسم إلى طائفتين، وعلمنا بعد صلاة الجمعة: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِسورة الجمعة:10، وهكذا الأخذ بالأسباب: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىسورة البقرة:197.
وراعى الصحابة ذلك، فعبد الرحمن بن عوف يقول: "دلوني على السوق"[رواه البخاري (2049)]إنه أخذ بالأسباب.
وعمر بن الخطاب يتقاسم الأيام مع جاره الأنصاري في المزرعة لطلب العلم وللعمل، ويقول: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أنا لسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، إنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض".
عباد الله: المحققون يعلمون بأن التوكل على الله يدخل فيه الأخذ بالأسباب، لكن متى تذم الأسباب؟ إذا كانت غير شرعية، إذا كانت محرمة؛ كمن أعد للغش في الاختبارات، ويقول: هذا أخذ بالأسباب، واتفاقات مع زملائه في الحرام، ويقول: أخذ بالأسباب، فمن شرط الأخذ بالأسباب إذن أن تكون شرعية، ثم لا يعتمد عليها، لا يتكل عليها، وإنما يبذلها، ويقوم بها متوكلاً على الله، ولو شاء الله أن يتعطل السبب تعطل، ولم ينفع، ولم يعمل.
ما قصرت به الأسباب تكمله قدرة الله
ومن فوائد التوكل: أن ما قصرت به الأسباب تكمله قدرة الله تعالى، وهذه فائدة جد مهمة، ماذا كان يملك موسى لما أخذ بني إسرائيل معه هرباً من فرعون، ما كان يملك سلاحاً، ولا جيشاً، وقد قام فرعون وراءه مع جيشه مدججاً، وقد أخذ موسى بما أمكن من الأسباب: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَسورة الدخان:23، لما لحقه فرعون ومن معه، وقال من استعجل: هلكنا، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِسورة الشعراء:61-62، وهكذا أنقذ الله بقدرته موسى ومن معه.
لقد أعد النبي ﷺ للهجرة ما أمكن مع صاحبه والراحلتين والزاد، والذي أخذ مكانه في الفراش، والذي كان يدلهم على الطريق، والذي كان يأتي بالغنم ليخفي آثارهما، ويرعى في ذلك المكان، مع ذلك وصل الكفار إليهما، ولو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرهما، ولكن الله بلطفه وقدرته عمَّى على المشركين، فإذا نقصت الأسباب -قصرت الأسباب-، فقدرة الله تتمم ذلك.
ومن فوائد التوكل: أن الإنسان إذا لم تأت أسبابه بالنتائج المتوقعة يرضى بقضاء الله وقدره، بينما يصاب الآخرون بالإحباط.
عباد الله: لا تعطيل للأسباب، ولا اعتماد عليها من دون الله، ولا استعانة بها على المعاصي، ولا أن تكون هي في ذاتها محرمة، بل تُبذل الأسباب الشرعية مع التوكل على خالق الأسباب.
اللهم إنا نسألك أن ترزقنا التوحيد، وأن تجعلنا من المتوكلين، اجعلنا إليك منيبين، اجعلنا إليك أواهين، ولك تائبين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله العلي القهار، أشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد الغفار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه ما تعاقب الليل والنهار، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وذريته، وأصحابه وأزواجه، وأتباعهم إلى يوم الدين يا أرحم الراحمين.
شهر محرم وصوم عاشوراء
عباد الله: ونحن في شهر محرم الحرام، و عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ سورة التوبة:36 هذا أحدها، وهذا الشهر الحرام كان النبي ﷺ يحث فيه على الصيام، وفيه يوم عظيم وهو يوم عاشوراء الذي نجى الله فيه موسى ومن معه، فصامه النبي ﷺ، وأمر بصيامه، وأخبر عن تكفيره للذنوب، فقال ﷺ: صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبلهرواه مسلم [رواه مسلم (1162)]، صيام يوم واحد بتكفير ذنوب سنة كاملة، والله ذو الفضل العظيم، قال النووي رحمه الله: "يكفر كل الذنوب الصغائر، والكبائر تحتاج إلى توبة خاصة"، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وتكفير الطهارة والصلاة، وصيام رمضان وعرفة وعاشوراء للصغائر"، ويتذكر الإنسان ذنوبه؛ فيتوب إلى الله من الكبائر والصغائر، ويبذل من الأسباب الشرعية لمحو الذنوب، ومنها صيام عاشوراء، وقد أوحي إلى النبي ﷺ بفضله مع تاسوعاء في آخر عمره؛ ولذلك قال: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع[رواه مسلم (1134)]، وقد جاء في حديث في مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "حين صام رسول الله ﷺ يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله ﷺ: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله ﷺ" [رواه مسلم (1134)]، وهكذا أراد أن يصوم تاسوعاء أيضاً مخالفة، وهذه المخالفة مستحبة وليست بواجبة، وهناك مخالفات واجبة، قال الشافعي رحمه الله وأحمد، وعدد من أهل العلم: "يستحب صوم التاسع والعاشر جميعاً؛ لأن النبي ﷺ صام العاشر، ونوى صيام التاسع"، فإذا صامه مع ما أمكنه من محرَّم، فهذا خير عظيم، وإذا صام قبله وبعده، فهذا خير وطيب أيضاً، وإذا صام تاسوعاء وعاشوراء، فهذا فضل من الله، وإذا اقتصر على عاشوراء، -وهذه السنة بتمام ذي الحجة يكون عاشوراء الاثنين-، فإنه لا بأس بذلك، وأجره مكتوب عند ربه إذا أخلص لله، عباد الله فيجوز صيام يوم عاشوراء يوماً واحداً فقط.
بدع محدثة في عاشوراء
وليحذر الناس من البدع، فهو عاشوراء يوم كسائر الأيام في الإسلام، ولما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة فوجد اليهود يصومونه بسبب نجاة موسى من فرعون فيه قال ﷺ: " نحن أحق بموسى منكم، فصامه وأمر الناس بصيامه"[رواه ابن ماجه (1734)]، فلم يبق لليهود فضيلة، وانتزع منهم كل حسن، وقال ﷺ: صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله[رواه مسلم (1162)]، وهكذا بقي حال يوم عاشوراء في حياة المسلمين يوم مبارك نجى الله فيه موسى، وأمر المصطفى ﷺ بصيامه في بقية حياته، وفي عهد الراشدين، وأول زمن خلافة بني أمية، حتى صارت الفاجعة بمقتل الحسين فتلقت الأمة من الصحابة وغيرهم هذه الحادثة بالاستعظام، والبراءة من قتلته، ولكن قضاء الله نفذ، والموت حق، فلزم أهل الإيمان الصبر على القضاء، وبقي الأمر على ذلك، حتى استولى البويهيون -وهم من الباطنيين- على بغداد زمن الدولة العباسية، فأظهروا البدع في عاشوراء، قال ابن كثير: "فكانت الدبادب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويذر الرماد والتبن في الطرقات والأسواق، وتعلق المسوح على الدكاكين، ويظهرون الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء ليلة إذن لأن الحسين حرم من الماء، وقتل عطشاناً، قال: ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن حافيات في الأسواق"، وهكذا أبى أهل الضلال والزيغ والبدع إلا أن ينالوا نصيبهم من لعنة الله؛ لأن نبي الله؛ لأن نبي الله ﷺ أخبر عن لعنة الله للنائحة، ولعنة الله للنياحة، فأبى أهل البدع إلا أن يزيدوا على بدعهم وضلالهم أن يأخذوا بنصيبهم من لعنة الله، وبدلاً من الصبر والاحتساب على ما قضى الله وقدر: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَسورة البقرة:156عمدوا إلى ضلال وزيغ، ومنكر وإثم ومعصية بما نهينا عنه وهو اللطم والنياحة، والصياح والزعيق، وأضافوا إليها أموراً أخرى من المنكرات العظيمة التي جعلت حتى بعض الكفرة يستنكرون ذلك.
عباد الله: فيحمد المسلم ربه أن جعله ممن يتبع سنة النبي ﷺ وهو يحب آل البيت، ويحزن لما أصاب الحسين، ولكنه يصبر، فهذا أمر الله وقدره، وهذه المصيبة التي وقعت تتلقى بالصبر والرضا.
امتحانات الأبناء ونصائح ذهبية
عباد الله: يذهب أولادنا إلى الامتحانات، وينبغي أن يكون في قلوبهم من التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب ما يجلب لهم التوفيق، والله يجيب الدعاء، والله تعالى عند حسن ظن عبده به، وإذا قال العبد: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِيسورة طه:25-26، وأخذ بالأسباب المباحة، فإن ربه يوفقه، وهو إذا قال عند خروجه من المنزل: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله[رواه أبو داود (5095)]، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أَظْلم –بالغش- أو أُظْلم –في التصحيح-، أو أجهل أو يجهل عليه [رواه أبو داود (5094)]، فعند ذلك يكون الدعاء من الأسباب.
والقلق والتوتر مما يعتري عدداً من الطلاب، وخصوصاً في الثانوية العامة ونحوها، فيذوب ذلك، ويذهب بذكر الله والتوكل عليه. والتأني والفهم، وحسن الجواب، وحسن الخط والترتيب، ونحو ذلك من الأسباب المهمة، والمراجعة وعدم الاستعجال والاستغناء عن المحرمات مما يوفق الله به صاحبه الذي ترك لله، فيعوضه الله خيراً.
اللهم إنا نسألك أن توفقنا لما تحب وترضى، اللهم اجعلنا عليك متوكلين، وإليك منيبين، وفقنا وأولادنا لخيري الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وأكل الطيبات، وترك المنكرات، وحب المساكين.
اللهم إنا نسألك لإخواننا المسلمين المنكوبين المستضعفين المقهورين المظلومين الفرج يا أرحم الراحمين، اللهم فرج همهم، وانصرهم على من ظلمهم، اللهم أيدهم بتأييدك، اللهم وأنزل عليهم نصرك الذي وعدت به عبادك المؤمنين، اللهم فك الحصار عنهم، وارفع عنهم الظلم والذل يا رب العالمين.
اللهم نسألك الفرج لإخواننا في ساعتنا هذه وأنت الحي القيوم وأنت سميع الدعاء وأنت تجيب يا أرحم الراحمين انصر إخواننا المستضعفين.
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وأن تتوب علينا يا أرحم الراحمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.