الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الإيمان بالغيب من أعظم صفات المؤمنين
أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين بصفة عظيمة وهي قوله : ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِسورة البقرة:2-3، فكان الإيمان بالغيب ركناً عظيماً، هذا الإيمان الذي يجعل المسلم يتلقى بالقبول والتسليم ما جاء عن الله ورسوله من الأمور التي تغيب عن الإحساس، فهو لا يراها، ولا يسمعها، ولا يلمسها، ومع ذلك فإنه يؤمن بها؛ لأن الله قد أخبر بذلك، هذا الإيمان بالغيب يفرق بين المسلم والكافر.
تدور أمور كثيرة في الغيب لا يراها المسلم ولا يسمعها، ومع ذلك فإنه يسلِّم بها: أن تعبد الله كأنك تراه كأنه قد تجلى لك، فلو أننا عبدناه ونحن نعاينه لم نترك شيئاً من الخضوع والخشوع، والاهتمام بالظاهر والباطن، ولأتينا بالعمل على أحسن وجه، أن تعبد الله كأنك تراه استوى عندك الغيب والشهادة، فكأنك تشهده، فإذا عبدته وأنت بهذه الحال اجتمع عندك من الإخلاص والمراقبة، والخشوع والخضوع، وحسن السمت ما لم يحصل بلا هذا الإحساس، وهذا الاعتقاد.
في غمرة الحياة المادية التي نعيشها اليوم في عالم الأرقام والتقنية، في عالم السيطرة على أسماعنا وأبصارنا من قبل الكثير من أعدائنا، ومما حصل في عالم المادة من اللهاف وراء هذه الأشياء أشغلنا ذلك عن التفكر فيما يحدث في الغيب مما أخبرنا به، ليس رجماً بالغيب ولكن يقيناً؛ لأن ما جاء عن الله ورسوله حق على الحقيقة، هنالك أمور سرية تغيب عنا لكن هي قائمة بالفعل، والمؤمن عليه أن يتفكر في هذه الأمور ليزداد إيمانه، فهلم إلى شيء من الحوارات الغيبية، والتعقيبات الإلهية، والكلام الملائكي الذي نرى من خلاله كيف تدور هنالك أمور أكثر العباد عنها غافلون.
بين الله تعالى وعبده
من الكلام الذي يحدث، ومما يقع بين العبد والرب، ما جاء في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ قال: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، سميت الفاتحة صلاة في هذا الحديث لبيان ركونيتها وأهميتها كقوله: الحج عرفة [رواه الترمذي (889)]، فإذا قال العبد:الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَسورة الفاتحة:2، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِسورة الفاتحة:3، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِسورة الفاتحة:4، قال: مجدني عبدي، وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُسورة الفاتحة:5، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل بيني وبين عبدي: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُسورة الفاتحة:5، العبادة والاستعانة، فإذا قال: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَسورة الفاتحة:6 ، وجاء الطلب، جاء الطلب: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ سورة الفاتحة:7، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل[رواه مسلم (395)]، هل نسمع هذا؟ لا نسمعه، هل نوقن به؟ نوقن به بطبيعة الحال، بطبيعة الإيمان أن الله يتكلم مع المصلي، إذا أقبل على ربه يتلوا الفاتحة كل آية فيها رد من الله، وتعقيب منه، وثناء على عبده، ووعد له صالح.
بين الله تعالى وملائكته
تتعاقب فينا ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون[رواه البخاري (555)، ومسلم (632)]، إذا اجتمعوا في صلاة الفجر والعصر على عبادة الله من رحمته بهم أنه جعل اجتماع ملائكته عندهم، ومفارقة هؤلاء الملائكة للعباد في أوقات عبادتهم واجتماعهم على طاعة ربهم؛ لتكون شهادة الملائكة على ما شهدوه من الخير، وفي هذا أهمية هاتين الصلاتين، والإشارة إلى شرف الوقتين، هل نسمع هذا الحوار بين الله وملائكته؟ لا نسمعه، لكننا نؤمن به، وهو عن هاتين الصلاتين في شأن هذين الأمرين، وفي هذين الوقتين العظيمين، ونحب الملائكة ونضبط أحوالنا لنتيقظ ونتحفظ في الأوامر والنواهي، ونسعد بقدوم رسل الرب، ولو كنا لا نراهم، ولا نسمعهم، أنت تعمل أعمالنا لكن هل تدري أن وراء هذه الأعمال عبارات كلمات حوارات، قال النبي ﷺ: الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه[رواه البخاري (659)]أنت تجلس في المسجد تنتظر الصلاة وبعد الصلاة، هل تسمع الملائكة تقول شيئاً؟ لا تسمعها، لكنها تقول، ماذا تقول؟ تدعو لك: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه.
إذا قام العبد في الليل للصلاة، قال ﷺ: رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل، فيعالج نفسه إلى الطهور وعليه عقد، فيتوضأ، فإذا وضأ يديه انحلت عقدة، وإذا مسح رأسه انحلت عقدة، وإذا وضأ وجهه انحلت عقدة، إذا مسح رأسه انحلت عقدة، وإذا وضأ رجليه انحلت عقدة، فيقول الرب للذين وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا، يعالج نفسه؛ ما سألني عبدي فهو له[رواه أحمد (17004)]، هنالك حوار بين الله وبين الملائكة في قيام هذا العبد لليل، وهو يجاهد نفسه ويكابدها، ويتوضأ، وتزول عنه عقد الشيطان، فلما كانت هذه التضحية وهذا الإيثار، إيثار رب العباد على راحة النفس، قال الله من وراء الحجاب، للذين وراء الحجاب، من هم الذين وراء الحجاب؟ الملائكة، انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه؛ ما سألني عبدي هذا فهو لهرواه أحمد، وهو حديث صحيح، من وراء الحجاب.
الملائكة في صلاة الجمعة عند الأبواب تكتب من يأتي قبل الإمام أولاً بأول، فإذا صعد الإمام طووا صحفهم، وجلسوا يستمعون الذكر[رواه البخاري (3211)، ومسلم (850)]، فهل تراهم عند الأبواب؟ لا تراهم، هل تراهم معك في صلاة الجمعة يستمعون الذكر؟ لا تراهم، لكنهم موجودون حقاً، وتذكير النفس بمثل هذه الحقائق، واستشعار أن هنالك ملائكة يجلسون معك في صلاة الجمعة، وأنهم يستمعون الذكر وخطبة الجمعة، فهذا يؤنسك، ويجعلك تشعر بأنك لست وحيداً في هذا الطريق، وليس البشر الصالحون فقط هم الذين يستمعون، هنالك معهم ملائكة من خلق الله كم عددهم؟ الله أعلم، كم عظمهم؟ الله أعلم، فهم عنده معه في المسجد يستمعون الذكر، يستمعون الخطبة.
دعاء ومباهاة ومغفرة من وراء الغيب
إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشيطان ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة[رواه الترمذي (682)] هل نسمعهم وهم يقولون: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر؟ لا نسمعهم، ولكن هذا حق على الحقيقة، يا باغي الخير، يا طالب العمل والثواب، أقبل إلى الله وطاعته بزيادة الاجتهاد، فالثواب موعود، والكتب لأعمالك موجود، وهكذا يعرف العبد المؤمن أن هنالك تشجيع من الملائكة، تشجيع كما أنها تقول في صبيحة كل يوم: اللهم أعط منفقاً خلفاً،...اللهم أعط ممسكاً تلفاً[رواه البخاري (1442)، ومسلم (1010)] كل يوم، ملكان يناديان، فيتشجع العبد على الإنفاق، كل يوم، وينتبه الممسك البخيل الشحيح.
عباد الله: في عرفة يقول ﷺ: ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ رواه مسلم [رواه مسلم (1348)]، وثبت أيضاً أنه يقول سبحانه جل شأنه: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً[رواه أحمد (7049)]هذه المباهاة لا يراها أهل عرفة، لكنها قائمة، لا يسمعون الحوار، لكنه حي قائم.
عن أنس بن مالك عن رسول الله ﷺ قال: ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسناترواه أحمد، وهو حديث صحيح [رواه أحمد (12045)]، جلسة ذكر، في المسجد، في بيتك، في المكتب، في المدرسة، في استراحة، جلسة ذكر: ما من قوم اجتمعوا يذكرون اللهنتحدث بنعم الله، تفسير آيات من القرآن، شرح أحاديث من أحاديث المصطفى ﷺ، جلسة ذكر، ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله، لا يريدون بذلك إلا وجههجلسة ذكر مشروعة، هل يسمعون المنادي الذي يناديهم؟ لا يسمعونه، لكن المنادي فعلاً ينادي، الملك يقول: قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات رواه أحمد، وهو حديث صحيح.
إذن: هذا يبين أهمية الاجتماع على ذكر الله، اعقدوا جلسات الذكر، أوصوا النساء بعقد جلسات الذكر، ما دام المسألة فيها كل هذا الأجر والثواب، وواحد يقوم مغفوراً له، وتبدل السيئات الحسنات، ليس فقط تغفر السيئات، لكن السيئات تصبح حسنات، يعني عدد الحسنات يزيد: قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات.
إذا خرجت من بيتك ذاكراً ربك ماذا يحصل؟ "قال ﷺ: من قال يعني: إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت ووقيت[رواه الترمذي (3426)] كفيت مهماتك، وقيت من شر أعدائك، كفيت ووقيت هو لا يسمع أحداً يقول له من العالم الغيبي: كفيت ووقيت، ولكن هذا يحدث فعلاً؛ لأننا نؤمن بالوحي، ونؤمن بالغيب، وهذا الحديث الصحيح عن النبي ﷺ.
عباد الله: عندما ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا، نزولاً يليق بجلاله وعظمته ليس كنزول المخلوقين، حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له[رواه مسلم (758)]حتى يطلع الفجر، هذا يبين أن هنالك كلاماً يقوله الواحد الأحد الصمد سبحانه لعباده الذين يقومون، ويسألون، ويستغفرون، ويدعون، ويطلبون.
أنت تدركك الرحمة بأخيك المسلم، ومن باب الأخوة الإيمانية، وإذا وضعت نفسك مكانه تدعو له، فإذا دعوت له ماذا يحدث في عالم الغيب الذي أنت لا تحس به؟ قال ﷺ: من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل رواه مسلم [رواه مسلم (2732)]، أنت تدعو له في غيبته، هو ليس أمامك، تدعو له في السر؛ لأنه أبلغ في الإخلاص، هذا فضل الدعاء للأخ المسلم بظهر الغيب، ولو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة، ولو قال: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِسورة الحشر:10، ولو قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِسورة نوح:28، فشملهم جميعاً من أولهم إلى آخرهم، من آدم إلى قيام الساعة، يدعو لهم بظهر الغيب، هذا مقتضى من مقتضيات الولاء للمؤمنين: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍسورة التوبة:71، فيدعو بعضهم لبعض، الذين ماتوا والأحياء، هو بظهر الغيب ماذا يحدث حينئذ؟ قال الملك الموكل به: آمين، فهو يؤمن على دعائك، ويقول: ولك بمثل، فيدعو لك بمثل ما دعوت لإخوانك.
بعض الناس يريد إفشاء السلام، ويطبق هذه السنة، فيسلم أحياناً لا أحد يرد عليه، وربما كان في المسجد خارجاً، وربما كان بينه وبين المسلَّم عليه شيء، فالمسلَّم عليه ما رد، وعاند، وأصر على الهجران، عند ذلك يحزن المسلِّم، ويرى أنه قد خيِّب، وأنه سلَّم وما رد عليه أحد، فليطمئن حينئذ، كما قال عبد الله بن مسعود : "إن السلام اسم من أسماء الله وضعه الله في الأرض فأفشوه بينكم، إن الرجل إذا سلم على القوم فردوا عليه كانت عليهم فضل درجة"؛ لأنه هو المبتدئ "لأنه ذكرهم بالسلام، وإن لم يرد عليه رد عليه من هو خير منه وأطيب" [رواه البخاري في الأدب المفرد (1039)] أنت تسمع الرد؟ لا تسمع الرد، قال في صحيح الأدب المفرد: صحيح موقوفاً ومرفوعاً.
من وراء الغيب ينصر المظلوم ويجبر المبتلى
أما المظلوم الذي يدعو ويدعو، ولا يزال يلح يطلب النصر على الظالم والانتقام منه، فإن له عند الله ذكر عظيم، قال ﷺ دعوة المظلوم تحمل على الغمام، ويقول الرب : وعزتي لأنصرنك ولو بعد حينحديث حسن [رواه أحمد (7983)]، وقال ﷺ: ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين رواه الترمذي وحسنه [رواه الترمذي (3598)].
إذن هذا كلام الله للمظلوم:لأنصرنك ولو بعد حينالمظلوم لا يسمع، المظلوم يناشد، ويطلب لكنه يؤمن بأن هذا هو رد الرب، وهذا وعده، فاتق الله أن تظلم عاملاً، أو تظلم زوجة، اتق الله أن تظلم أحداً.
وعندما يتعرض الإنسان لنوع من البلاء أو المرض، يقول ﷺ: إذا ابتلى الله العبد المسلم ببلاء في جسده قال للملك: اكتب له صالح عمله الذي كان يعمل، فإن شفاه غسله وطهره -يعني المرض هذا طهره من الذنوب-، وإن قبضه غفر له ورحمه، وقال ﷺ: إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة، ثم مرض، قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طليقاً حتى أطلقه، أو أكفته إلي ، والكفت هو الموت هنا، رواه أحمد وهو حديث صحيح[رواه أحمد (6856)]، فالمريض لا يسمع قول الله للملائكة، ولا يسمع ماذا أمرهم أن يكتبوا، لكن هذا هو الذي يحدث حقيقة؛ ولذلك فإن الاستقامة على الطاعة، وعدم جعلها موسمية، وإنما طيلة العام، وعلى طريقة حسنة يفيد أن الإنسان إذا حبس عن المسجد، وعن الحج، وعن الصيام لمرض؛ فإن الأجر لا زال يكتب: كتب الله له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً [رواه أحمد (13301)][مصنف ابن أبي شيبة (10805)].
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا، وأن تتولانا برحمتك، وأن تضاعف لنا حسناتنا، وترفع لنا درجاتنا، وأن تهيئ لنا من أمرنا رشداً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يفسح الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله أكبر، ولله الحمد، وأشهد أن محمداً عبد الله، رسوله ومصطفاه، أمينه على وحيه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وأزواجه وذريته، وخلفائه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
فضل الله عظيم
عباد الله: ما أجمل ذكر الله لكن هل يعلم الذاكر بماذا يجاب من الرب؟ قال النبي ﷺ: من قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، صدقه ربه، فقال: لا إله إلا أنا، وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده، قال: يقول الله: لا إله إلا أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال الله: لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، قال الله: لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: لا إله إلا أنا، ولا حول ولا قوة إلا بي، وكان يقول: من قالها في مرض ثم مات لم تطعمه النار رواه الترمذي، وهو حديث صحيح [رواه الترمذي (3430)]، يصدقه ربه، يجيبه ربه، ما هذا الشرف؟! ما هذا الفخر؟!
وإذا عاد المسلم أخاه، أو زاره في المرض قال الله : طبت وطاب ممشاك، وتبوأت في الجنة منزلاً [رواه أحمد (8331)]، يقول الله له: طبت طاب عيشك في الدنيا والآخرة، وطاب ممشاك سيرتك وسلوكك طاب، ومسيرك إلى الله، طاب ممشاك، وتبوأت بهذا الممشى إلى المريض، وزيارة أخيك المسلم تهيأ لك المنزل في الجنة.
ماذا يحدث إذا واظب العبد على الفرائض، وأتبع ذلك بالنوافل، ولا زال يزداد من النوافل حتى أحبه الله، فماذا يحدث إذا أحبه الله؟ قال النبي ﷺ: إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض متفق عليه [رواه البخاري (6040)، ومسلم (2637)]، والقبول هو الرضا بالشيء، وميل النفس إليه، ومعلوم معناه في اللغة، فيحبه الناس، ويرضوا عنه، وتميل إليه القلوب، ليس قلوب السفلة إلى المغنين، ولا قلوب المشجعين إلى اللاعبين، لكن قلوب المؤمنين إلى هذا الذي أحبه الله، وقلوب من فيه خير ودين وصلاح على تفاوتهم: أنتم شهداء الله في الأرض[رواه البخاري (1367)، ومسلم (949)]،إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّاسورة مريم:96 يعني: مودة في قلوب عباده بالإضافة إلى أنه يودهم ويحبهم، ومن أسمائه الودود.
المؤمن وتكريم الله له من وراء الغيب
وإذا حصل وشتمك إنسان بالباطل، فهل يدافع عنك أحد؟ عن أبي هريرة : "أن رجلاً شتم أبا بكر، والنبي ﷺ جالس، فجعل النبي ﷺ يعجب ويتبسم، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي ﷺ وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله، كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت"[رواه أحمد (9341)]، وفي رواية أبي داود: أنه آذاه المرة الأولى فصمت، وآذاه الثانية فصمت، وآذاه الثالثة فرد عليه، "فقال أبو بكر: أوجدت علي يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ: نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان"[رواه أبو داود (4896)]هذه منقبة عظيمة للصديق ، وكذلك فيها تعليم لنا فضل الصبر على هذه الشتائم بالباطل، والترفع عن الرد عليها والحلم.
عباد الله: هناك ردود أيضاً على أهل الباطل، قال رجل عن آخر: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى: من ذا الذي يتألَّى علي أن لا أغفر لفلان من الذي يتحكم علي، ويحلف باسمي أني لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك[رواه مسلم (2621)].
الحور العين أيضاً تنافح، عن معاذ عن النبي ﷺ قال: لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا يعني: وهو من أهل الجنة، من الصالحين، إلا قالت زوجته من الحور العين هذا من عالم الغيب، هذا من علو، من الجنة، ردود مباشرة من زوجته في الجنة، إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا رواه الترمذي، وصححه الألباني [رواه الترمذي (1174)].
إذن هذه النداءات الغيبية يشترك فيها من عباد الله حتى الحور العين، وهنالك رسائل ترسل، وهنالك كلام يقال، وشيء كثير يحدث: إذا أوى الرجل إلى فراشه أتاه ملك وشيطان، فيقول الملك: اختم بخير، ويقول الشيطان: اختم بشر، فإن ذكر الله ثم نام باتت الملائكة تكلؤه، فإن استيقظ قال الملك: افتح بخير، وقال الشيطان: افتح بشر، فإن قال: الحمد لله الذي رد علي نفسي، ولم يمتها في منامها، الحمد لله الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا.. الآية، فإن وقع من سريره فمات دخل الجنة رواه ابن حبان، وصححه المنذري، وحسنه ابن حجر العسقلاني رحمه الله [رواه ابن حبان (5533)].
جزاء من وراء الغيب
في المقابل ماذا يقال للمنتحرين؟ هنالك أيضاً كلام غيبي يقال لأصحاب الكبائر والسيئات: كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع -ولم يصبر على الألم-، فأخذ سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم -ما توقف- حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه؛ حرمت عليه الجنة رواه البخاري ومسلم [رواه البخاري (3463) بلفظه، ومسلم (113)]، وهذا الواحد يقول: أنا إن صبرت على حياتي أسبوع هذا كثير، على ماذا؟ دين، خسارة، عدم وجود مغنم دنيوي، ضغط نفسي، ظلم اجتماعي، بادرني عبدي بنفسه؛ حرمت عليه الجنة.
بينما ماذا يقال لمن يموت له ولد ويصبر؟ عن أبي سنان قال: "دفنت ابني سناناً، وأبو طلحة الخولاني جالس على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي، فقال: ألا أبشرك يا أبا سنان؟ قلت: بلى، فقال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله ﷺ قال: إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤادهلاحظ بلاغة التعبير النبوي، والذي هو وحي من الله: ثمرة فؤاده الولد ثمرة الفؤاد، قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجعالحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمدرواه الترمذي، وهو حديث حسن [رواه الترمذي (1021)].
هل تظن أن الذين يموتون وقد أحسنوا إلى جيرانهم، ويذهبون معه للجنازة، ويشهدون له بالخير، هل تظن أن شهادتهم تذهب هباء منثوراً؟ كلا، قال ﷺ: ما من مسلم يموت، فيشهد له أربعة أهل أبيات من جيرانه الأدنين؛ لأن المعاملة تظهر في أقرب الجيران أكثر من غيرهم، ما من مسلم يموت، فيشهد له أربعة أهل أبيات من جيرانه الأدنين إلا قال -تبارك وتعالى-: قد قبلت فيه علمكم فيه، وغفرت له ما لا تعلمون رواه أحمد، وهو حديث صحيح [رواه أحمد (13129)]، هكذا إذن الإحسان إلى الجيران، هذا مرده، وهذا جواب الله للجيران، هذا كلام الله مقابل كلام الجيران.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك السيئات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُواسورة الحشر:10.
اللهم إنا نسألك أن تهيئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم إنا نسألك أن تصلح نياتنا وذرياتنا، اللهم إنا نسألك أن تختم بالصالحات أعمالنا يا رب العالمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.