الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
الثناء على الله
فإن الله هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، ينفس الكرب، ويفرج الهم، ويذهب الغم، ويقضي الدين، ويغني من الفقر، له ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير، حبيب الطائعين، وملاذ الهاربين، وملجأ الملتجئين، وأمان الخائفين، يحب التوابين، ويحب المتطهرين، وهو سبحانه أحق من ذكر، وأحق من شكر، وأحق من حمد، وأحق من عبد، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، وأرحم من استرحم، وأكرم من قصد، وأعز من التجئ إليه، أرحم بالعباد من الوالدة بولدها، وأشد فرحاً بتوبة عباده التائبين من الفاقد لراحلته عليها طعامه وزاده في الأرض المهلكة إذا يئس من الحياة فوجد راحلته.
الدنيا دار ابتلاء وامتحان
عباد الله: نعيش بدار ابتلاء وامتحان، ونحيا حياة فتن واختبار، رماح المصائب علينا مشرعة، وسهام البلاء إلينا مرسلة، فقد جبل الله الدنيا على الكدر، وقدر أن تكون دار نقص، وتغير، وآفات، وبلايا، إن أضحتك يوماً أبكت أياماً، وإن سرت حيناً أحزنت أحياناً، صحيحها إلى سقم، وكبيرها إلى هرم، حيها إلى فناء، وجودها إلى عدم، شرابها سراب، وعمارتها خراب، هذا مستبشر بمولود فرح بقدومه، وذاك مغموم لفقد حبيب وحزين لفراقه.
لا بد للمرء من ضيق ومن سعة | ومن سرور يوافيه ومن حزن |
ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تعتور فيها الأمراض والأكدار، ولم يضق فيها العيش على الأنبياء والأخيار: فآدم عانى من المحنة إلى أن خرج من الدنيا، ونوح بكى، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب بكى حتى ذهب بصره، وموسى يقاسي فرعون، ويلقى من قومه المحن، وعيسى لا مأوى له إلا البراري في العيش الضنك لما أرادوا قتله، ومحمد ﷺ صابر الفقر، وقتل عمه حمزة وهو أحب أقربائه إليه، ونفر قومه عنه.
لو خلقت الدنيا للذة لم يكن حظ المؤمن منها، إن الله يبتلي عباده جميعاً مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، فكلهم يأتيه من المصائب والبلايا بنصيب، فهذا يبتلى بمرض، وآخر بجائحة في ولده، وثالث بذهاب لماله، وهذا يبتلى بموت قريب، وهذا يصاب بفقد حبيب، ولكن الناس يختلفون في استقبال المصائب والرزايا، فمنهم من يستقبل ذلك بالتسخط والجزع والشكوى إلى الناس، وهؤلاء شر المنازل، ومنهم من يصبر، ويصابر، ويرضى، ويستسلم، ويشكو همه إلى الله، فهؤلاء بخير المنازل.
المصائب والمحن وحال الأنبياء
عباد الله: لا نخلو نحن من مصيبة، أو نازلة على مستوى الفرد، أو على مستوى الأمة.
والظلم في الناس طبع | وأين ذا المتزكي |
وهم معادن شتى | ويظهرون التشكي |
الأنبياء والرسل خير خلق الله، وأحب الناس إلى الله؛ نزل بهم البلاء، واشتد بهم الكرب، فلجئوا إلى الله، وتضرعوا إليه بالدعاء، والافتقار لرب الأرض والسماء، قال تعالى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِسورة الصافات: 75-76.وقال: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ سورة القمر:10-11.
وإبراهيم يشكو إلى ربه أن أهله بواد قحط مجدب ليس به ماء ولا طعام: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَسورة إبراهيم:37، فاستجاب الله دعاءه.
وقال : وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَاأي: لو أطعناك وصرنا معك تكالبت علينا الأعداء من أقطار الأرض، وشنوا علينا الحروب، وخطفونا من أرضنا، قال رداً على قريش: أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَسورة القصص:57أجاب الله دعاء الخليل بأن جبى إلى ذلك المكان ثمرات كل شيء، ولم يكن في البلد الحرام شجرة مثمرة، وهانحن نرى آثار إجابة دعاء الخليل إلى الآن.
وهذا أيوب ابتلاه الله بالمرض ثمانية عشر عاماً كما جاء في الحديث الصحيح، وبلغ به البلاء مبلغاً عظيماً، حتى نفر منه القريب والبعيد ولم يبق معه إلا زوجته ورجلان من خيار أصحابه، فتوجه إلى ربه بعد الرضا بالقضاء، توجه إلى ربه بالشكوى على البلوى ليرفع عنه الضراء فقال : وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَسورة الأنبياء:83، ما هي النتيجة؟ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَسورة الأنبياء:84.
وهذا يونس رفع الشكاية لله فلم ينادي ولم يناجي إلا الله: وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَسورة الأنبياء:87-88، هكذا إذا كانوا في الشدائد، ودعونا منيبين سمعنا نجواهم سمعنا شكواهم، وأزلنا بلواهم، دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له[رواه الترمذي3505 وصححه الألباني في صحيح الجامع3383].
قال تعالى عن زكريا أيضاً: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُسورة الأنبياء:89-90استجاب الله دعاءه وجعلهم أهل بيت مباركين؛ لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، ولا يملون الدعاء، خاشعين، متذللين، معترفين بالتقصير.
يعقوب يقول: قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَسورة يوسف:86، فاستجاب الله دعاءه، ورد عليه يوسف وأخاه، يعقوب ما زال يدعو ويدعو حتى ذهب بصره، واشتد روعه، لقد ألقي ولده في الجب ولا يدري عنه شيئاً، وأخرج الولد من الجب ودخل قصر العزيز إلى أن شب وترعرع، ثم راودته المرأة عن نفسها فأبى وعصمه الله، ثم دخل السجن فلبث فيه بضع سنين، ثم أخرج من السجن إلى خزائن الأرض، ومع طول هذا الوقت كله ويعقوب يقول لبنيه: يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَسورة يوسف:87، وكما شكا يعقوب إلى ربه ما حصل به من الضر بفقد ولديه، شكا الابن يوسف إلى ربه ما يلقاه من كيد النسوة اللاتي يردن منه الحرام فقال: وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُسورة يوسف33-34.
الشكوى إلى الله، ترفع شكاوى الأنبياء إلى رب العالمين وليس إلى المخلوقين، هذا هو الدرس العظيم، موسى الكليم يجوع، هارباً من بلده، ليس معه شيء، غير آمن على نفسه، قال: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌسورة القصص:24، أي: أنا محتاج إلى خيرك يا رب، مفتقر إلى ما تسوقه إليَّ وتيسره لي، وهذا سؤال منه بحاله، والسؤال بالحال بليغ، لا يقل عن السؤال بالمقال، ولم يزل يدعو لكن الفرج جاءه بسرعة.
عباد الله: ونبينا ﷺ شكا إلى الله في مواطن عديدة، وعندما كان في بدر نظر إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، استقبل القبلة ومد يديه وهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني شكا إلى الله القلة والذلة، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة فأنزل الله الفرج: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَسورة الأنفال:9[رواه مسلم 1763].
اللهم لك الحمد وإليك المشتكى، اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضباناً عليَّ فلا أبالي، أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تُنزل بي غضبك أو تُحل عليَّ غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.[رواه الطبراني في الكبير181وضعفه الألباني في ضعيف الجامع1182]
لا يخلو إنسان في هذه الدنيا من مصائب، هذا مبتلى بفقد قريب، وموت حبيب، أو ذهاب مال، وخسارة أسهم، وهذا مبتلى بمرض، وذاك مرضه شديد مزمن وخطير، وهذا وهذا من أنواع البلاء في الزوجة، والأولاد، والمال، والمسكن، والوظيفة، والدخل الشهري.
كيف نواجه هذه المواقف؟
عباد الله: كيف نواجه هذه المواقف؟ حتى على مستوى الأمة، وقد تسلط عليها أعداؤها، احتلوا بعض بلادها، نهبوا بعض خيراتها، عاثوا فساداً في أرجائها، ضيقوا على المحسنين، ضيقوا على الدعاة المصلحين، نشروا الفساد فيما يتعلمه الأولاد، نشكو إلى الله ظلم الظالمين، وعبث العابثين، وإفساد المفسدين، ملئوا الأرض بالفساد، وعسكروا الأجواء بموجات الفساد، فالشكوى إلى رب العباد مما نلقاه من آثار الفساد والحرام في هذه المظاهر العامة والخاصة، وأنواع الانحرافات الموجودة، والبلايا في المجتمع، حرام ينتشر، سفاح يكثر، انتهاك أعراض، وحمل بالسفاح، وسفر لشرب الخمور، وإهمال للأسر، وتفريط في حق الأولاد لا تربية ولا إنفاق، هذه أرملة، وأخرى مطلقة، وهذه يتيمة، وأخرى فقيرة، تشتكي الأسر، وتشتكي الذرية، الشكوى لمن في مثل هذه الحالات، إلى من يلجأ أصحاب المصائب؟ إلى من يلجأ أرباب النوائب؟ إلى الله الواحد القهار.
الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه، فإنه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا إليهم، ورأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقته وضرورته فقال: يا هذا والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك.
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما | تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم |
ولذلك سائل الله عزيز مجاب، لكن سائل الناس مطرود ذليل.
من يسأل الناس يحرموه | وسائل الله لا يخيب |
من يسأل الناس يهن عليهم | بؤساًَ لمن حاجته إليهم |
من شكا من مصيبة نزلت به إلى غير الله لم يجد في قلبه حلاوة لطاعة الله، كل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه، أو يرزقوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر مسألته.
إن الوقوف على الأبواب حرمان | والعجز أن يرجو الإنسانَ إنسانُ |
متى تؤمل مخلوقاً وتقصده | إن كان عندك بالرحمن إيمان |
ثق بالذي هو يعطي ذا ويمنع ذا | في كل يوم له في خلقه شان |
قال ﷺ: من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل[رواه الترمذي2326، وصححه الألباني في الجامع الصغير 6566]، وانظر إلى ذل الشحاذين أمام الناس في المساجد، وكثير منهم كذبة ومحتالون.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته، ودفع ضرورته؛ قويت عبوديته له، وحريته مما سواه، وانعتق من الخلق، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، فكذلك طمع العبد في ربه، ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من غير الله، والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله.
الرجاء للمخلوق يوجب انصراف القلب عن عبودية الله، لا سيما من كان يرجو المخلوق، ولا يرجو الخالق، قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًاسورة الفرقان:58.
الشكاية إلى الله تحقق العبودية؛ لأن الله يريد العبد خالصاً له، سائلاً له ملحاً عليه لاجئاً إليه معتمداً عليه، منيباً إليه، متضرعاً، تائباً، ذاكراً، داعياً، ولا يمكن أن يكون العبد هكذا حتى يظهر عليه من حاله، أو من لسانه التضرع إلى بارئه، ولا يزال العبد يتضرع إلى الله ويشكو إليه حتى يشعر بلذة تنسيه ألم البلاء الذي شكا منه، وهذا سر عظيم، ومرتبة عالية، طوبى لمن بلغها، لا يزال المبتلى يتضرع إلى الله، ويشكو إليه حتى يشعر بلذة تنسيه ألم البلاء.
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت | ويبتلي الله بعض القوم بالنعم |
فالله يبتلي عبده ليسمع تضرعه، الله يحب صوت الملحين في الدعاء، الله يحب أنين المشتكين إليه .
قال ابن القيم رحمه الله: "فالله يبتلي عبده ليسمع تضرعه"، انظروا إلى أسرار الابتلاء في أفعال الله مع خلقه، فالله يبتلي عبده ليسمع تضرعه ودعاءه، والشكوى إليه، ولا يحب التجلد عليه، تجلد على المخلوق وتحمل أمام المخلوق، واسكت أمام المخلوق، وكف اللسان عند المخلوق، أما عند الله فاشكو، وارجو، وتضرع، وادعو.
قال رحمه الله: "وأحب ما إلى الله انكسار قلب عبده بين يديه، وتذله له، وإظهار ضعفه، وعجزه، وقلة صبره، فاحذر كل الحذر من إظهار التجلد عليه، وعليك بالتضرع والتمسكن، وإبداء العجز، والفاقة، والذل، والضعف إليه، فرحمته أقرب إلى هذا القلب من اليد إلى الفم.
حكم شكوى المريض ما يجده للطبيب
وقد يقول قائل: إننا نذهب إلى الأطباء ونشكو إليهم ما نعاني من أعراض الأمراض فما حكم هذا؟
قال طبيب القلوب: وأما إخبار المخلوق بالحال فإن كان للاستعانة بإرشاده، أو معاونته، والتوصل إلى زوال ضرورة، لم يقدح ذلك في الصبر، كإخبار المريض للطبيب بشكايته، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به بحاله، وإخبار المبتلى ببلائه لمن كان يرجو أن يكون فرجه على يديه، وقد كان النبي ﷺ إذا دخل على المريض يسأله عن حاله ويقول: كيف تجدك[رواه الترمذي983 وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب3383]،وهذا استخبار منه واستعلام بحاله، فلو كان إخبار المريض عما به حراماً ما سأله النبي ﷺ.
الفرق بين الإخبار بالحال وبين الشكوى للمخلوق؟
لكن ما هو الفرق الدقيق بين الإخبار بالحال، وبين الشكوى إلى المخلوق؟
لأن الموظف يشتكي إلى المدير ليرفع الظلم عنه، وإلى مدير المدير فما حكم هذا؟
قال ابن القيم رحمه الله: "والفرق بين الإخبار بالحال، وبين الشكوى، وإن اشتبهت صورتهما: أن الإخبار بالحال يقصد المخبر به قصداً صحيحاً، وهو أن يسأل شخصاً قادراً على فعل شيء أن يفعله كالطبيب يصف له دواء، والمدير يزيل عنه أذى.
ثم قال: أما الشكوى إلى الله ، فليست هي شكوى مذمومة، بل استعطاف، وتملق، واسترحام له، فالشكوى إلى الله سبحانه لا تنافي الصبر بوجه.
فمما نخرج به ما يلي:
أولاً: أن سؤال المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله شرك.
ثانياً: أن البلاء إذا كان بالعبد ولا يملك العبيد الآخرون له شيئاً فالشكوى إلى العبيد في هذه الحالة هي شكوى الرحيم إلى الذي لا يرحم.
ثالثاً: إذا كان الإخبار عن الحال لمن يمكن أن يساعدك في إزالة ضرر، أو حل مشكلة نفسية، أو مادية على نحو ليس فيه تسخط على القدر، ولا جزع من المكتوب، فلا بأس بذلك.
فأولاد يعقوب ما كانوا يملكون شيئاً، ولا زال يعقوب يبكي، وهم قد عجزوا عن إيجاد الولدين، ولما طلبوا من أبيهم أن يكف، قال: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِسورة يوسف:86 ليس إليكم، فأنتم عاجزون، وأنتم محتاجون، وهو الذي قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌسورة يوسف:18، فلا تنافي بين الصبر الجميل والشكوى إلى الله.
وكذلك فإن الإخبار الذي ليس فيه شكوى الله إلى الخلق، ولوم القدر، وهو فعل الله وقضاؤه؛ لا بأس بذلك، أما إذا اشتمل إخبار المخلوقين بندب الحظ، والتشكي من القضاء والقدر، فهذه مصيبة، فلا بد من التفريق بين الحالين.
بكى عمر في صلاة الفجر حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف لما قرأ هذه الآية: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِسورة يوسف:86، فلو ظهر على العبد بكاء، أو ضعف نتيجة الشكوى إلى الله فهذا لا يضر فهذا طبيعي أن يظهر عليه انزعاج، أو تغير، لكن هو ليس في وارد الالتجاء إلى المخلوقين، ولكنه يلتجئ إلى الله؛ ولذلك من قواعد القضية في الفرق بين الإخبار والشكوى: أن إخبار المخلوق عما يقدر أن يساعد فيه لا يلغي التوكل على الله، بل يتعامل مع المخلوق على أنه مجرد سبب، وأما المسبب والركن الركين والأصل الذي يلتجئ إليه ويتوكل عليه ويفوض أمره إليه هو الله ، فهذا من الفروق المهمة أيضاً، أن المخلوق مجرد سبب إن أراد الله نفع السبب، وإن لم يرد لم تستفد منه شيئاً، ومن جرد قلبه لله، عرف من الفروق ما يستطيع أن يتعامل به مع الواقع دون أن يخل بتوحيده لله.
اللهم إنا نسألك أن تغنينا من فضلك، وأن تتوب علينا، وأن تزيل بلوانا، اللهم اقض ديوننا، واستر عيوبنا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، اللهم إنا نسألك أن تزيل ما نزل بنا من ضر يا رب العالمين، وأن تكشف البلوى عن أمة محمد ﷺ يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، أنت رب الأولين والآخرين، وديان السموات والأرضين، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، لا إله إلا الله الحي القيوم، وأشهد أن محمداً رسول الله إمام المتقين، سيد الموحدين، والشافع المشفع يوم الدين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وأزواجه، وخلفائه، وذريته الطيبين، اللهم صل وسلم وبارك على حبيبنا، وإمامنا، وقدوتنا، عبدك ونبيك محمد، اللهم زده صلاة وسلاماً ورفعة وشرفاً يا أرحم الراحمين.
أول من تشكو إليه
عباد الله: أول من تشكو إليه، وأول من تلجأ إليه إذا نزلت فاقة أو مصيبة؟ هو الله ، ثم تستعين من المخلوقين بمن يقدر وأنت لا زلت متوكلاً على ربك، وهذا أيضاً من الفروق العظيمة: فتلجأ أولاً إلى الله ، قبل أن تلجأ إلى المخلوقين، والمخلوق ما هو إلا سبب يسخره الله فيأتيك بالفرج على يديه، وقد يأتي بالفرج بلا سبب، ألم يرزق مريم في محرابها الطعام بلا مخلوق؟! كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِسورة آل عمران:37، فيمكن أن يأتي الفرج بلا مخلوق، كما أن الأطباء يقولون: هذه حالة ميئوس منها، انصرفوا به إلى بيته ليكون في لحظاته الأخيرة بين أهله يودعهم ويودعونه، فإذا بالفرج يأتي من الله مع عجز الأطباء في حالات متكاثرة معروفة لدى كثير ممن دخل في مثل هذه الحالات.
عباد الله: ومن الفروق: أن الإنسان إذا طلب من المخلوق ما يقدر عليه؛ فلا يلح، ولا يلحف، ويكفي أن يفهم ذلك الشخص الموضوع، ثم يكون الإلحاح على الله؛ لأن الإلحاح على المخلوق مذلة، وإيذاء لهم، وذلة للسائل، فالإلحاح والإلحاف إيذاء للمسئولين، وكذلك ذلة للسائل.
عباد الله: وهكذا لا يزال دعاء المسلم يشكو الحال إلى ربه: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَسورة الأنبياء:83، فيتوسل إلى الله بوصف حاله يقول: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ، إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌسورة القصص:24، إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِسورة يوسف:86؛ ولذلك يمدح الله عباده: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌسورة ص:44، نجح فيما ابتليناه به، إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ابتليناه فوجدناه صابراً، وما أعظم هذا المدح من الرب: نِعْمَ الْعَبْدُ من الذي مدح؟ رب هذا العبد عن نجاح عبده يقول: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي: رجاع إلى الله، فهو صابر رجاع إلى الله.
معاناة الناس للمصائب ونماذج للصحابة في ذلك
عباد الله: ما أكثر ما يعاني الناس في هذه الأيام في المجتمع، أرع سمعك لمصائبهم، ومشكلاتهم، ومعاناتهم تجد أشياء كثيرة جداً يشتكي الناس منها: مشكلات نفسية، واجتماعية، ومالية، وجسدية، وأنواع من الظلم، فالناس يحتاجون إلى هذا الموضوع جداً، فما من إنسان إلا وهو يبتلى بشيء قل أو كثر، استمر أو انقطع، حدث مرة أو مراراً، لكن لا بد أن يقع، هذه طبيعة الدنيا.
المؤمن في هذه الدنيا مبتلى، اشتكى أبو بكر واشتكى بلال، فماذا فعل النبي ﷺ لما سمع شكوى أصحابه، مما أصابهم في المدينة وكان بها مرض، وكانت وخمة، تقول عائشة رضي الله عنها: "قدمنا المدينة وهي وبيئة - ذات وباء وهو الموت الذريع، وتطلق هذه الكلمة على الأرض الوخمة التي تكثر بها الأمراض لا سيما للغرباء الذين ليسوا من أهلها غير متعودين على الجو- فاشتكى أبو بكر، واشتكى بلال" هذا إخبار عن الحال، فلما رأى رسول الله ﷺ شكوى أصحابه -وهو أكمل المؤمنين- قال: اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت مكة أو أشد وصححها اجعلها صحية، فيها الصحة، وبارك لنا في صاعها ومدها وحول حماها إلى الجحفة[رواه البخاري 1889ومسلم 1376] وكان ساكنوا الجحفة في ذلك الوقت يهوداً، وفي هذا الدعاء على الآخر بالأمراض، والأسقام، والهلاك، والدعاء للمسلمين بالصحة، وطيب البلد والبركة فيها، وكشف الضر والشدة عنهم، وأجاب الله دعاء نبيه ﷺ حينما دعاه، وهكذا يكون المسلم يشكو إلى الله ، وإذا رأى شدة بإخوانه المؤمنين لجأ هو إلى الله.
اشتكى سعد بن عبادة شكوى له -أي: ضعف- فأتاه النبي ﷺ فلما دخل عليه وجده في غاشية من أهله قد غشيه الكرب تغشاه الوجع، فقال النبي ﷺ: قد قضى؟قالوا: لا يا رسول الله، ثم دعا النبي ﷺ، وأخبر سعداً بما بشره به.[رواه البخاري 1304].
أيها المسلمون: فالإنسان يشكو إلى الله حال أخيه المسلم، وحال المسلمين، وهذا ما نفعل اليوم، ونحن نرى إخواننا في أرجاء الأرض.
اللهم إنا نسألك أن ترفع الوباء عن المسلمين، اللهم ارفع عنا الوباء، والغلاء، والبلاء يا سميع الدعاء، اللهم اجعلنا لك مسلمين، لك مؤمنين، إليك منيبين أواهين، اللهم عجل فرج المسلمين، اللهم أزل ما نزل بهم من ضر يا أرحم الراحمين، اللهم اكشف ما نزل بالمسلمين من بلاء إنك أنت الرحيم، اللهم إنا نسألك أن تجعل شددتك على هؤلاء اليهود والصليبيين وأعداء الدين، اللهم ابطش بهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، وأفشل خططهم، وردهم على أعقابهم صاغرين، اللهم اهزمهم وزلزلهم، اللهم عليك بالمنافقين، اللهم إن المنافقين قد آذونا في نسائنا، وآذونا في أعراضنا، وأنت الرحمن الرحيم نشكو إليك ما فعلوه، اللهم إنا نشكو إليك ما فعلوه اللهم ابطش بهم، اللهم اهتك أستارهم، اللهم ردهم صاغرين، اللهم افشل خططهم، اللهم استر نساء المسلمين يا رب العالمين، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا واحفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم ثبت علينا الأمن والإيمان، ومن أراد بلدنا بسوء وأمننا بسوء اللهم عليك به، اللهم اقطع دابره وكف شره، اللهم إنا نسألك إيماناً قوياً، وأمناً سابغاً يا أرحم الراحمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.