الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
ففي هذه الحلقة من أحاديث الرقائق نستعرض وإياكم -إيها الإخوة- حديثًا عظيمًا مشهورًا من أحاديث النبي ﷺ، وهو: حديث السبعة الذين يظلهم الله -تعالى- في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
نص حديث السبعة الذين يظلهم الله
روى البخاري-رحمه الله تعالى- عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى؛ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه.
هذا في أحد المواضع التي رواها الإمام البخاري-رحمه الله تعالى- هذا الحديث فيها، رواه في كتاب الأذان، وفي كتاب الزكاة، وفي غيرها.
وكذلك قد أخرجه الإمام مسلم-رحمه الله-، والإمام أحمد، وغيرهم من أهل الكتب، رووا هذا الحديث[رواه البخاري: 660، ومسلم: 2427].
شرح حديث السبعة الذين يظلهم الله
قال فيه ﷺ: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله....
المقصود بالسبعة الذين يظلهم الله
أما قوله: سبعة، فإنه في هذا الحديث قد ذكرهم مجتمعين هنا، ولكن يوجد غيرهم ممن يظلون بظل العرش أيضاً، فقد روى الإمام مسلم-رحمه الله-من حديث أبي اليسر مرفوعًا: من أنظر معسرا، أو وضع عنه؛ أظله الله فى ظله[رواه مسلم: 7704]، وهذا في الذي ينظر المعسر، أو يتنازل له عن شيء من الدين.
وقد نظم السبعة -المذكورين في حديث أبي هريرة- العلامة أبو شامة -رحمه الله-فقال:
وقال النبي المصطفى إن سبعة | يظلهم الله الكريم بظله |
محب عفيف ناشئ متصدق | وباك مصل والإمام بعدله |
وقد تتبع الحافظ ابن حجر-رحمه الله هؤلاء الذين يظلهم الله في ظله،فذكر أنه وجد سبعة غير هؤلاء قد وردت بأسناد جياد، ونظمها في بيتين تذيلاً على بيتي أبي شامة، فقال:
إظلال غاز وعونه وانظار | ذي عسر وتخفيف حمله |
وإرفاد ذي غرم وعون مكاتب | وتاجر صدق في المقال وفعله |
وعون المجاهد، وإظلال الغازي، وانظار المعسر، والوضع عنه، وإرفاد الغارم، وعون المكاتب الذي كاتب سيده؛ ليحرر نفسه على أقساط يدفعها إليه، والتاجر الصدوق هؤلاء قد وردوا في أحاديث أخرى.
وقد زاد عليها سبعة ثم سبعة، ولكنها ضعيفة، وشرحها في جزء له سماه: "معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال" [ينظر: فتح الباري، لابن حجر: 2/143 - 144].
شمولية عبادات السبعة الذين يظلهم الله
إذا استعرضنا السبعة الموجودة في هذا الحديث، نجد أن هؤلاء السبعة قد عملوا أعمالاً من الثواب من أنواع الطاعات، والطاعات إما أن تكون بين العبد وبين ربه، أو بين العبد وبين الخلق.
ويقصد بها -طبعًا- أيضاً وجه الله ، لكن بعض العبادات لله صرفة بين العبد وبين الله فقط، وبعض العبادات تتعلق بالعباد، بعض العبادات والطاعات تتعلق بالخلق أيضاً، فإذا نظرنا إلى هذه المذكورة السبعة في الحديث، فإننا سنجد أن منها ما يكون عبادة بين العبد وبين ربه فقط، كالذكر: ذكر الله خاليًا، والقلب المعلق في المسجد، والبدن الناشئ في عبادة.
والعبادات المتعلقة بالخلق: العدل في الرعية، ومحبة الإنسان المسلم لأخيه المسلم، والصدقة، والعفة.
فإذًا، أعمال المعروف منها ما يكون مع الله -تعالى- فقط، ومنها ما يكون مع الخلق أيضاً يراد به وجه الله ، وأهمية هؤلاء السبعة أنهم يظلون في ظل العرش.
شدة حرارة يوم القيامة وأهمية الظل
وهذا الظل أمر مهم جداً؛ لأن الشمس تدنو يوم القيامة من رؤوس العباد، فتصهر خلائق، فيغيب أناس في العرق، ويبلغ العرق من الناس على قدر ذنوبهم، فمنهم من يغمر العرق ساقيه وقدميه، ومنهم من يغمر ساقيه إلى الركبتين، ومنهم من يغمره إلى وسطه، إلى سرته وحقويه، ومنهم من يبلغ به ثدييه، ومنهم من يغمره إلى أنصاف أذنيه، ومنهم من يغرق بالكلية في العرق، فيكون الذين يستظلون بظل العرش في مأمن من هذا العرق، فهذه أهمية الظل؛ لأن الحر يوم القيامة ناتج عن ثلاثة أشياء:
أولاً: الشمس التي تدنو من رؤوس العباد.
ثانيًا: ازدحام العباد مع بعض في أرض المحشر، والأجساد إذا ازدحمت يخرج منها حرارة، وأنفاس العباد المجتمعين في هذا المكان أيضاًمن مصادر الحرارة.
زد على ذلك: أن النار قد جيء بها، لها سبعون ألف زمام على كل زمام سبعون ألف ملك: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ[الفجر: 23].
فإذًا، مصادر الحر يوم القيامة: الشمس دنوها، وجهنم مجيئها، وأنفاس العباد وحرارة أجسادهم.
في ذلك اليوم: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]، فيصبح الناس في كرب شديد؛ ولذلك يبحثون عن شفيع، لبدء الحساب، وانفضاض الموقف، يريدون الانفكاك من الموقف ولو إلى النار من الشدة!
ويبعث الله محمدًا ﷺ؛ ليتصدى لذلك المقام العظيم؛ فينال الشفاعة العظمى من الله-تعالى-، ويقبل الله شفاعته للبدء في الحساب؛ لينفضوا من الموقف إلى الجنة أو إلى النار، فيكون الظل في هذا المكان في غاية الأهمية، فتصور -الآن- هذه الحرارة العظيمة المنبعثة من الشمس ومن النار ومن ازدحام العباد، لا شك أن الناس يحتاجون إلى ظل ظليل، فمن الذي يكون في الظل يومئذ؟!
هؤلاء: العادل، والناشئ في طاعة الله، والمعلق قلبه في المساجد، والمتحابين في الله، والعفيف، ومخفي الصدقة، والذي ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه.
المقصود بقوله: يظلهم الله في ظله
الظل هنا ما المقصود به؟ يظلهم الله في ظله؟
قد ورد في أحاديث أخرى، منها ما ورد في سنن سعيد بن منصور بإسناد حسن: سبعة يظلهم الله في ظل عرشه...[ينظر: فتح الباري: 2/144] فإذا ثبت هذا الحديث فيكون من باب تفسير الدليل بالدليل، ويكون ما ورد في قوله: يظلهم الله في ظله، يعني: في ظل عرشه، بدليل: الدليل الآخر، وهو: سبعة يظلهم الله في ظل عرشه...
ولا شك أن ظل العرش ظل عظيم يأوي إليه هؤلاء في كنف الله -تعالى- وكرامته وحفظه يستظلون بظل العرش.
والعرش أكبر المخلوقات، فظله ظل عظيم، ظل بارد في كرامة ونعيم، يكون فيها أولئك الذين اصطفاهم الله -تعالى-.
وليس المقصود بالظل هنا ظل شجرة طوبى، أو ظل الجنة؛ لأن هذا يحصل لكل أهل الجنة، ولا يكون إلا بعد استقرارهم في الجنة، ودخولهم فيها، فهو أمر مشترك لجميع من يدخل الجنة، ولكن السياق يدل على امتياز أناس معينين بظل العرش، وقد روى الترمذي -رحمه الله- وحسنه، من حديث أبي سعيد مرفوعًا: أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأقربهم منه مجلسًا: إمام عادل...[رواه الترمذي: 1329، وأحمد: 11542، وضعفه الترمذي في ضعيف سنن الترمذي: 4]وهو الأول.
الإمام العادل
الإمام العادل، أو الإمام العدل، وهو صاحب الولاية العظمى، خليفة المسلمين، هذا إذا كان عادلاً فإنه يكون في ظل العرش، فهنيئًا لأبي بكر وعمر عثمان وعلي وابن عبد العزيز، الذين حكموا فعدلوا، وولوا فطبقوا حكم الله في خلقه، فشهدت الأمة لهم بالخلافة الراشدة-رضوان الله ورحمته عليهم أجمعين-، هؤلاء في مقدمة الأئمة العدول وإمامهم: محمد ﷺ.
ولا شك أن أثر الإمام العادل في الرعية عظيم، فإنه إذا عدل حصل بعدله نفع عظيم للخلق فاستقامت البلاد وأحوال العباد، وحصل الرخاء والطمأنينة، والإسلام تقام حدوده، ويكون في الأرض القسط؛ بسبب هذا العدل، والذي يتتبع تاريخهم يعرف ذلك حتى قيل إن راعيًا قد عرف موت عمر بن عبد العزيز لما اعتدى ذئب على غنمه، فأكلها، فقال: مات الخليفة العادل! فقيل: وما يدريك؟ فذهبوا فوجدوا الخبر كما كان، فسألوه قال: كان الذئب لا يأكل من الغنم، فلما أكل من الغنم عرفت أن عمر قد مات.
فأثر الإمام العادل في الخلق عظيم وفي رعيته، ولذلك يكون حريصًا على جياعهم وضعفائهم، فيحصل الأمن والطمأنينة بين الناس، ويكونون آمنين على دنيهم وأرواحهم وأعراضهم وأموالهم؛ بسبب عدل إمامهم.
وهذا الحديث قال العلماء: إنه يلتحق به كل من ولي شيئًا من أمور المسلمين فعدل فيه، ويؤيد ذلك حديث مسلم أن النبي ﷺ قال: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمنمن هؤلاء؟ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا[رواه مسلم: 4825]، فكل واحد ولي ولاية عدل فيها فهو داخل في هذا الحديث.
وأحسن ما فسر به العادل، هو الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط.
وقدم في الذكر على الجميع؛ لعموم نفعه؛ لأن أنفع واحد في هؤلاء هو الإمام العادل، أنفع واحد على الإطلاق هو الإمام العادل.
والذي يتولى ولاية يعدل فيها يكون له نصيب في هذا المقام، فالأب يعدل بين أولاده في النفقات والأعطيات والهدايا، ويعدل بينهم في المعاملة لا يفضل أحدًا على أحد دون سبب شرعي، والزوج يعدل بين الزوجات في المبيت ليلة عند هذه، والأخرى عند الأخرى، وهكذا، والنفقة يعطي هذه مثل الأخرى ولا يميز إلا إذا صار سبب يدعو للتمييز؛ ككبر حجم إحدى العائلتين أو الأسرتين، أو زيادة عدد الأولاد، ونحو ذلك، أو قيمة علاج، ونحوه، مما قد تحتاجه إحداهما دون الأخرى.
وبلغ من عدل معاذ أنه لما ماتت زوجتاه في الطاعون أقرع بينهما أيتها يدخلها في القبر أولاً، أو قدم أكثرهما حفظًا للقرآن كما هي السنة عند الدفن يقدم الأكثر حفظًا للقرآن، فاهتم أيتهما يدخل في القبر أولاً، حتى العدل في الدفن، حتى عند الموت لما ماتت زوجتاه عدل في دفنهما!
والمدير العادل كذلك يعدل بين الموظفين في توزيع المهمات والأعمال، فلا يخفف على واحد ويثقل على واحد، ويعدل أيضا في الأذونات والإجازات، فيعطيهم جميعًا على ما يستحقون، لا يزيد واحدًا على واحد، وكذلك في العلاوات والترقيات، ونحو ذلك من الأشياء، المدير لا بدّ أن يعدل بين الموظفين الذين تحت يده.
فالمهم أن كل من تولى ولاية في وظيفة، في أسرة، ونحو ذلك، فعدل فيهم في رعيته، وفيمن ولاه الله عليهم، فيمن صاروا تحت يده كان في ظل العرش أيضاً.
وكذلك المربي يعدل بين من يربيهم يعدل بينهم في العطاء، فيعطي كل واحد على قدر حاله، وكذلك لا يميز أحدًا على آخر؛ حتى لا يكون شحناء ولا بغضاء، ولا يكون هذا قريب مدلل، وذاك مباعد مجحف في حقه، فكذلك الذي يكون متواليًا ولاية التربية؛ كالأستاذ والمربي مع الطلاب، فلا يميز طالبًا على طالب في الواجبات أو المعاملة أو الدرجات أو الأسئلة، فيسهل في الاختبارات الشفوية على هذا، ويشدد على هذا؛ لعداوة بينه وبين أبيه، أو لشيء شخصي بينهما، ونحو ذلك.
فإذًا، الأستاذ مع الطلبة قد تولى أيضاً منصبًا، وولاية عليهم، فإذًا هو مسؤول أمام الله-تعالى- عنهم، فإذا عدل بينهم فله نصيب أيضاً من هذا الحديث.
الشاهد: أن العدل في الرعية مهما كان إنسان متوليًا رعاية من تحته، فإن له أجرًا على عدله فيهم.
المقصود بقوله: وشاب نشأ في عبادة ربه
قال: وشاب نشأ في عبادة ربه،خص الشاب؛ لكون الشهوة عنده قوية، والباعث على الهوى قوي، فإذا خالف الشاب الشهوة المتوقدة في نفسه، والهوى المستعر الذي تحمله عليه نفسه، ولازم العبادة بالرغم من هواه وشهوته، فإن ذلك دليل على غلبة التقوى في نفسه، وعلى أنها هي التي تسيره وتتحكم فيه، فهذا دليل على أن هذا الشاب من أولياء الله، ما دام أنه قد قام بأمر الله -تعالى- في الوقت الذي تغلب الشهوات والهوى؛ ولذلك فإنه يكون في ظل العرش.
وقوله: في عبادة ربه[البخاري: 660].
وفي رواية: في عبادة الله[البخاري: 1423، 6806].
وفي رواية: حتى توفي على ذلك[الأحكام الشرعية الكبرى، لأبي محمد عبد الحق الإشبيلي: 3/266].
وفي رواية: أفنى شبابه ونشاطه في عبادة الله؛ لأن الشباب حيوية وطاقة، فإذا صرفها الإنسان في عبادة الله من قيام وصيام وجهاد، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، فإنه يكون قد صرف شبابه وأبلاه في طاعة الله، ولذلك هو يسأل عن هذه الفترة، مرتين، مرة بخصوصها، ومرة مع العمر عمومًا، يسأل عن شبابه فيما أبلاه، ويسأل عن عمره فيما أفناه، ومعلوم أن الشباب من العمر، لكن السؤال عنه سؤال خاص؛ لأجل أن سن الشباب هو سن العطاء والفتوة والقوة والقدرة على العمل، فهو أقدر من غيره، وكلما كانت الطاقة المعطاة للشخص أكثر كان الحساب والمسؤولية أكثر.
قال في شرح الموطأ: وقوله ﷺ: وشاب نشأ في عبادة الله يحتمل أن يريد به أنه أقل ذنوبًا، وأكثر حسنات ممن نشأ في غير عبادة الله ثم عبده في آخر عمره وعند شيخوخته.
فالشاب الذي نشأ في طاعة الله يجري عليه حسنات في هذا السن، أما الذي كان لاهيًا في شبابه ضائعًا منحرفًا صاحب هوى، متبع للشهوات، ثم في آخر حياته اعتدل واستقام، فقد فاته أجر كل الأعمال التي كان يمكن أن يعملها في شبابه ولم يعملها؛ فلذلك كان الذي يفني شبابه في طاعة الله من جهة عدد الحسنات أكثر؛ لأن هناك عمر مستغل أكثر، ومن جهة أنه خالف العادة، أو خالف الشهوة والهوى، وسلطانهما قوي، فلا يخالف الهوى والشهوة إلا قوي إيمان، فمن هذه الجهة جاءت أفضليته، ولذلك يكون في ظل العرش.
ولا شك أنه في هذا الزمان تكون نشأة الشاب في عبادة ربه أصعب؛ لأن المغريات كثيرة، والدواعي للفاحشة كثيرة، وأبواب الحرام كثيرة، والزينة التي تكون على الحرام كثيرة، الحرام متزين في هذا الزمان جذاب؛ ولذلك الذي يخالف كل هذه المغريات لا بدّ له من جزاء عظيم، لا شك أن هذه المشقة، وهي مشقة الصبر على هذه المحرمات والإغراءات، وعلى هذه الصور، وعلى الدعوات للحرام، وعلى هذه الأفلام، وعلى هذه المتابعات للفتيات، وعلى هذه الدعوات من رفقاء السوء للوقوع في المعاصي، وعلى كل هذه الأشياء التي يمكن أن تكون في حياة الشباب من المعاصي، لا شك أن الصبر عليها والاتجاه إلى عبادة الله ، لا بدّ أن يكون له أجر عظيم عند الله.
المقصود بقوله: ورجل قلبه معلق في المساجد
قال بعد ذلك -في الرجل الثالث-: ورجل قلبه معلق في المساجد.
شبه القلب بالقنديل، القنديل معلق في المسجد، كذلك قلب هذا الرجل معلق في المسجد، إشارة إلى أن هذا الرجل كثير الملازمة للمسجد، وحتى لو خرج من المسجد لأي سبب، فإن قلبه في المسجد وإن كان جسده خارج المسجد، فهذا يدل على شدة محبته للمسجد، وهو بيت الله ، وهذا التعلق القلبي في المسجد حتى لو خرج منه يدل عليه لفظ ورد في رواية مالك -رحمه الله- وهو قوله: إذا خرج منه حتى يعود إليه[رواه مالك: 1709، ورواه مسلم: 2428].
وفي رواية: من حبها[مصنف ابن أبي شيبه: 13/318]قلبه معلق في المساجد من حبها، إذا خرج منه حتى يعود إليه.
وهذا فيه فضل المساجد، وأنه ملازمة المسجد فيها خير عظيم، وأن استمرار الإنسان في المسجد مصليًا أو ينتظر الصلاة أو بعد الصلاة أو معتكف في المسجد، أو ينتظر، أو يحضر درسًا في المسجد، أو حلقة ذكر، أن هذا العمل التعلق هذا بالمسجد، وكون الانطلاقة من المسجد، والحرص على الارتباط بالمسجد، وأهل المسجد، والأخيار الذين في المسجد، والعلم الذي في المسجد والعبادة، والصلاة التي في المسجد، لا شك أن هذا دليل التقوى؛ لأن هذا بيت الله، ومن تعلق ببيت ربه فإن الله لا بدّ أن يكرمه أيضاً، فهذا إذًا التعلق بالمساجد وأنه لو خرج منها، ولو أخرجه المؤذن أو خادم المسجد قال: نريد أن نغلقه، فإنه يتحسر على خروجه، وعلى إخراجه، ويقول: لو أنه فتحه لكنت فيه، ولو لم يخرجني منه لما خرجت! فيؤجر على نيته ولا شك: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ... [النور: 36- 37].
فهذا الحديث أو هذا المقطع فيه تحريص لنا على الارتباط بالمساجد، وعمارة بيوت الله ، وإتيانها، والاجتماع فيها على الخير.
ولا شك أن للمجتمعين في المساجد على الخير أجر عظيم: تغشاهم الملائكة، والرحمة، والسكينة تنزل عليهم، ويكتبهم الله عنده، وهذه كرامة.
المقصود بقوله: ورجلان تحابا في الله
ثم قال ﷺ: ورجلان تحابا في اللههذان الرجلان اشتركا في المحبة، ليست هذه محبة إلف وعادة، أو محبة طباع متشابهة، أو تقارب نفسي، أو عواطف هوجاء، أو محبة لمصالح دنيوية أو مالية، وإنما هي محبة عبادة، يعني أنه يقصد بها العبادة، وينوي بها العبادة، فهناك محبة العبودية التي لا تجوز إلا لله، ومحبات مكملة لها تتبعها وهي المحبة في الله. فإذًا، محبة الله رأس المحبات الإيمانية، تتبعها محبات مكملة لها المحبة في الله، أما المحبة مع الله شرك.
فمحبة الله هي التوحيد، والمحبة في الله مكملة للتوحيد، والمحبة مع الله شرك، ومحبة غير الله أكثر من الله من أعظم الشرك: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ[البقرة:165].
هذان الرجلان اجتمعا من أجل الله، وتفرقا على ذكر الله ، اجتمعا لذكر الله، وتفرقا على ذلك، اجتمعا على المعاهدة على الطاعة، وتفرقا على ذلك، افترقا ولا زال معهما الحب، هذه المحبة الدينية لم يجتمعا فيها على أنساب تعارفا فيما بينهما عليها، ولا على مصالح، وإنما كانت محبة دينية، اجتمعا على خير، الاجتماع على الخير قد يكون على علم وعلى دعوة إلى الله، على أمر بالمعروف ونهي عن منكر،" تعال بنا نؤمن ساعة"، تربية...كل هذا من المحبة في الله.
إذًا، المحبة في الله تزيد الإيمان، فلو كان هناك محبة غلفت بقالب محبة في الله، ولكن في الحقيقة هي تشغل عن الله وعن الدار الآخرة، وتوقع في المحظورات والمحذورات، وتوقع في التعلق بغير الله ، توقع في العواطف العاطفية، فهذه ليست المحبة المقصودة في هذا الحديث، وكثير من يلتبس عليه الأمر أو يتعمد هو أن يلبس على نفسه أو على غيره هذا الأمر.
ولأن القلوب خاوية نتيجة المعاصي والفسق الموجود صارت النقلات التي ينتقل بها بعض الناس من الجاهلية إلى الإسلام، أو من الظلمات إلى النور، أو من الضلالة إلى الهداية، فيها غبش، من معالم الغبش هذا: أنه إذا عقد علاقات في الوسط الجديد تكون متأثرة بالخلفية السابقة التي كانت موجودة في أيام الضلالة أو أيام الجاهلية أو أيام الانحراف، ونظرًا؛ لأن تلك العلاقات أو تلك الأمور كانت هوى وعشق، فإن ذلك يتبعه بعضه بعضًا إذا لم تحصل التنقية، ولم يخلع الإنسان على عتبة الهداية كل ملابس الضلالة.
ومن علامات المحبة في الله إذًا: أنها متجردة لله وفي الله، ليست لشيء آخر من الدنيا؛ كما قال ابن عباس: "ولقد صار عامة مؤاخاة الناس اليوم على أمر الدنيا"[الآداب الشرعية3/531]، هذا في عهد ابن عباس -رضي الله عنهما- فانظر الآن كيف العلاقات تبنى على أي شيء؟ على المصالح، معروفة! العلاقات الآن في العالم على المصالح، لك مصلحة معه جاءك وعقد معك العلاقة وزارك، وعادك إذا مرضت، وعزاك إذا فُقد أحد من عائلتك، وعرض عليك المساعدة، ورأيته في الأعياد والمناسبات، واتصل بك في الهاتف، وأرسل لك الرسائل، وجاءك في البيت لأجل وجود المصالح، فإذا انعدمت المصالح انعدمت العلاقة، ولذلك ترى بعض المتقاعدين، إذا تعاقد من وظيفته لم يسأل عنه أحد، ما جاءه أحد، وبعض الناس لو تقاعد من وظيفته فإن زواره في البيت لا ينقصون، ولكنهم قلة، هؤلاء قلة؛ لأن العلاقة التي بناها مع الناس في أثناء الوظيفة كانت علاقة عدل، فلما انتهت الوظيفة بقيت آثار العلاقة موجودة، والمحبة في قلوب الخلق موجودة؛ فلذلك ما تركوه، لكن عندما تكون القضية قضية دنيا ومصالح، إذا أفلس التاجر..تقاعد الموظف، انتهت العلاقة، لم يعد ينتفع منه بشيء في الدنيا فتركوه، فإذًا المحبة في الله المحبة الإيمانية هذه مهمة جداً:
أولاً: في مواجهة الجاهلية؛ لأن الجاهلية لها ضغط نفسي كبير، يتمثل في إرهابها وتخويفها وإرجافها، ويتمثل كذلك في إغوائها وإغرائها وفتنتها، فالمحبة في الله تكون حاجزًا، وتكون واقيًا وعازلاً وتحصينًا ضد هذه الأشياء الموجودة في الجاهلية المحيطة، ولذلك كان بناء المجتمعات على البر والتقوى، وعلى العروة الوثقى هو الطريقة في مواجهة هذه الانحرافات والجاهليات الموجودة، فإنها لا يمكن أن تواجه إلا بتكوين بيئات قائمة على الأخوة الإسلامية والأخوة الدينية؛ لكي تصد السهام وتحصل المواجهة.
ثم إن القضية ليست قضية حماية ودفاع؛ لأننا نحن مطالبون بالهجوم أيضاً، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنهي عن المنكر هجوم، مطالبون بجهاد الكفار وجهاد المنافقين، وهذا نوع من الهجوم بل هو هجوم، ولذلك فإن المسلم لا يمكن أن يتحصن ويهاجم بدون أن يكون هناك رباط أخوي إيماني، فالرباط الأخوي الإيماني هو الذي يعزل المؤثرات السلبية ويقاومها، وهو الذي يقوي الجبهة الداخلية فيمكن الصمود وتمكن المواجهة، ثم الهجوم أيضاً، ولذلك فإن المحبة في الله ليست قضية سهلة! إنها قضية خطيرة، ولها شأن عظيم! ولم يحصل هذا الأجر لهذين الرجلين من شيء قليل؛ بل حصل لأجل شيء كبير، تحابا في اللهاشتركا في جنس المحبة وأحب كل منهما الآخر حقيقة، وكانت المحبة -كما قلنا- ليس لجمال جسد، ولا لخفة دم وظرافة نفس، ولا لمال وعلاقات، ولا لأنساب وقرب، ولا لعواطف ومصالح، وإنما هي لله وفي الله، فلو كان عبدًا حبشيًا مجدعًا مشلولاً، أفطس أعور، فإنه يحبه في الله محبة عظيمة، يحبه في الله مع أنه قد لا يكون عنده من جمال الخلقة شيء ولا من الدنيا والمال، أمر يؤبه له، لكنه مع ذلك يحبه في الله.
-طيب- من الأشياء التي توضح لهؤلاء الناس الذين يزيفون قضية المحبة ويميعونها وينقلونها إلى أودية أخرى ومهاوي: أن الحديث قال فيه: اجتمعا على خير في رواية الحميدي في الجمع بين الصحيحين[ينظر: فتح الباري: 2/145]،فاللذان بينهما علاقة متلبسة بلباس المحبة في الله، ولكنها في الحقيقة علاقة عواطف أو مصالح، لا يجتمعا على خير، يجتمعا على هوى، يجتمعا على دنيا، يجتمعا على كلام فارغ، وسهرات فارغة، ولذلك قال في شروطها: اجتمعا على خير فإذا قلت: أنا أريد أن أميز لنفسي: هل محبتي لفلان هذه محبة في الله وإلا لا؟
فنقول: اعرضها على السنة والكتاب، انظر الضوابط، قال هنا: اجتمعا على خيرانظر هو وأنت إذا اجتمعتا، تجتمعا على أي شيء؟ فإن وجدت سهرات وضياع أوقات وكلام كما يقولون لتوسيع الصدر، فاعلم أن القضية ليست من هذا الباب، وإنما هي مسألة تقارب نفسي وعاطفي، وليست محبة في الله! المحبة في الله من شروطها: أن يجتمعا على: خير.. علم.. دعوة.. تربية.. جهاد.. أن يجتمعا على أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.. على نصيحة .. "تعال بنا نؤمن ساعة".. جلسة ذكر.. اجتمعا على خير .. منفعة الخلق.. مساعدة المحتاجين.. إغاثة الملهوفين..تقديم النصيحة للآخرين.
إذًا، اجتمعا على خير، هذا من آيات المحبة في الله اجتمعا على خير، عدت هذه الخصلة واحدة مع أن متعاطيها اثنان؛ لأن المحبة أصلاً لا تمم بين أقل من اثنين، ما يمكن تكون من طرف، يعني شخص واحد، لا بدّ أن يكون فيها اثنان على الأقل، لكن لما كانا بمعنى واحد والعبادة واحدة وهي المحبة في الله، صارت وعدت واحدة؛ لأن المقصود عد الخصال وليس عد من اتصف بها.
المقصود بقوله: ورجل طلبته ذات منصب
ثم قال: ورجل طلبته ذات منصب.
وفي رواية: دعته امرأة[البخاري: 1423، ومسلم: 2427].
وفي رواية: دعته ذات حسب[مالك في الموطأ: 1709].
أما: ذات منصبمعروف معناه، وأن القضية فيها جاه، عند المرأة هذه جاه.
أما قوله في الرواية الأخرى: ذات حسب،فإن الحسب يطلق على النسب والأصل، ويطلق على المال.
-طيب- وجاء في الرواية قوله: وجمال فصار الآن كم داعي من الدواعي للانجذاب لهذه المرأة؟
أصل وحسب موجود، مال موجود، منصب وجاه موجود، وجمال موجود، أربعة أشياء: جاه، مال، حسب، جمال.
ثم إن القضية جاءت من ها هي، فهي التي طلبته، وهي التي عرضت عليه، هذا فيه إزالة للعائق النفسي؛ لأن أي عملية فاحشة تقع بين رجل وامرأة فيها حاجز نفسي، لا بدّأن يكون فيها تراض حتى تحصل إذا كانت في أحوالها المعروفة، وهذا التراضي سينتج عن علاقة، والعلاقة سيكون فيها دعوى من الطرفين أو أحدهما، والرجل إذا أراد أن يفعل الفاحشة بامرأة سيصعب عليه إذا لم تكن راضية، فكيف إذا كانت هي الداعية لذلك؟! ولذلك قال: دعتهدعته إلى الفاحشة هذا هو الظاهر.
وقول بعضهم: إنها دعته إل التزوج بها فخاف على نفسه أن يبتعد عن العبادة، ويشتغل بها عن العبادة! هذا بعيد، ويؤيد ذلك أنه قال في الحديث: إلى نفسها، ولو كان المراد التزويج لصرح به، لقال: لدعته للزواج، لدعته مثلاً لزواجه، لدعته للزواج بها، لكن قوله: إلى نفسهايدل على أن القضية ليست قضية زواج، وإنما هي قضية فاحشة، وبالرغم من ذلك فإن الرجل أبى، وقال: إني أخاف الله.
وفي رواية: رب العالمين يقول ذلك بلسانه مع قوله في قلبه؛ ليزجرها عن الفاحشة.
إني أخاف الله رب العالمينمعناه أنه عليكِ أن تخافي الله أيضاً!
وإعلان المبدأ يبعد ما يخالفه، فلا يكتفي في ذلك في قلبه، وإنما يقول: إني أخاف الله رب العالمين؛ حتى يبين لها أنه لا يمكن أن يفعل ذلك: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ[يوسف:23]وهذا لا يصدر إلا عن شدة خوف من الله، ودين متين، وتقوى وحياء.
وقوله: إني أخاف الله رب العالمين هذا نهي عن منكر، يتضمن نهيًا عن الفاحشة، وزجرًا لها عن الفاحشة، ويلتحق بهذه الخصلة من وقع له شيء مشابهة، كمن دعي إلى فاحشة لواط، وذكر ابن حجر-رحمه الله- قال: "كالذي دعا شابا جميلا لان يزوجه ابنة له جميلة كثيرة الجهاز جدا -يعني أغراه ببنته الجميلة وبالمال والجهاز الذي جهزها به-لينال منه الفاحشة-يعني هذا رجل سوء يريد الشاب، ويريد أن يجذبه عن طريق ابنته-قال: فعفى الشاب عن ذلك وترك المال والجمال وقد شاهدت ذلك!"[فتح الباري، لابن حجر: 12/113]يعني كان نموذجا واقعيا، وحصل في عهده رحمه الله، وقال: شاهدت ذلك، أنه حصل هذا، فبعض الناس يمكن يبلغ بهم السوء مبلغا عظيمًا من مثل هذا.
فإذًا، القضية ليست فقط امرأة تدعو رجلاً يمكن أن يقع في أشياء أخرى من أنواع الشذوذ، فيقول: إني أخاف الله رب العالمين، فيكون من الذين يضلهم الله .
و-طبعًا- هذا الكلام في هذا الزمان مهم جدًا؛ لأن الآن الدعوة للفاحشة ليست من قبل الرجال، وإنما هناك أيضاً دعوات من قبل النساء، بل ربما تدخل إحداهن المحل وتدعو البائع للفاحشة، وتدخل إحداهن المطعم وتدعو الخادم للفاحشة، وفي البيت السائق؛ ولذلك إذا طغى الفساد، فلا تأمن من شيء!
ولذلك لا بدّ من تذكير الناس، ولا بدّ أن يتنبه الجميع لهذه القضية؛ لأنه يمكن الآن يحدث في أي وقت، وأي مكان دعوة للفاحشة، فجأة! تجد نفسك في وسط أو ظرف فيه دعوة للفاحشة، مع عموم الفساد يقع! فإذا لم تكن النفس متحصنة، فإن المحذور والمحظور سيقع!
المقصود بقوله: تصدق بصدقة فأخفاها
لا وننتقل بعد ذلك إلى الرجل الذي تصدق أخفى يعني تصدق في حال إخفائه.
والرواية الأخرى توضحه: تصدق بصدقة فأخفاها.
وقوله: بصدقة نكرة تفيد العموم، تشمل الصدقة القليلة والصدقة الكثيرة، الصدقة المندوبة، والصدقة المفروضة، لكن بعض العلماء قالوا: الصدقة المفروضة إظهارها أولى من إخفائها.
حتى لا تعلم شمالَه ما تنفق يمينههذا هكذا جاء في معظم الروايات في البخاري وغيره، ووقع في صحيح مسلم مقلوبًا في رواية: حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله[مسلم: 2427]، وهذا النوع من أنواع علوم الحديث الذي يمكن أن يسمى بالحديث المقلوب.
تصدق الصدقة باليمين، والإعطاء باليمين، وقد جاء في رواية سلمان الفارسي بإسناد حسن موقوفًا عليه، لكن لها حكم الرفع: تصدق بيمينه.
وقال ابن حجر -رحمه الله-أنه قد جاء في مسند الإمام أحمد من حديث أنس بإسناد حسن مرفوعًا: إن الملائكة قالت: يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟! قال: نعم، الحديد، قالت: فهل أشد من الحديد؟! قال: نعم، النار، قالت: فهل أشد من النار؟! قال: نعم، الماء، قالت: فهل أشد من الماء؟! قال: نعم، الريح، قالت: فهل أشد من الريح؟! قال: نعم، ابن آدم يتصدق بيمينه، فيخفيها عن شماله! يقول -أي ابن حجر: "جاء من حديث أنس بإسناد حسن مرفوعًا"[فتح الباري: 2/147]، [رواه الترمذي: 3369، وأحمد: 12275، وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح: 1923].
فإذًا، الصدقة الخفية قوية، الحث على إخفاء الصدقة بحيث أن شمالك مع قربها من يمينك وملازمتها لها لا تعلم ماذا أنفقت اليمين! فهذا المقصود به شدة المبالغة في إخفاء الصدقة، لماذا؟! لأنها من علامات الإخلاص، كأنما أخفى يمينه من شماله.
ولا شك أن الصدقة الخفية عظيمة عند الله -تعالى-، فهي تطفئ غضب الرب ، وربما تصدق على ضعيف مكتسب في صورة الشراء؛ لترويج سلعته، يأتي إلى واحد مسكين ضعيف عند باب المسجد وإلا في مكان آخر على رصيف، أو في دكان وضعه بائس، يبيع شيئًا بريال فيشتريه منه بخمسة، هي صدقة في صورة شراء، هذه من أنواع الصدقات الخفية، أو أن يدعو الناس للشراء من سلعة هذا الفقير؛ ليتوصل إلى أن يربح ويكسب.
فإذًا، الصدقات الخفية هذه أنواع، والله-تعالى- قد حث على الإخفاء، فقال: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ[البقرة:271].
وقد خرج رجل من بني إسرائيل من قبلنا بصدقته، فوضعها في يد سارق، ثم زانية، ثم غني، فرآه بعض الناس في المنام، وتحدثوا بحاله مع أنه أخفاها، لكن أراهم الله في المنام ماذا فعل هذا الرجل، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق! تصدق الليلة على زانية! تصدق الليلة على غني! ثم حصل ما وراء ذلك نفع كبير، فالزانية لعلها أن تعفف عن الزنا، بما أعطيت من المال، والغني لعله أن يخجل من نفسه وينفق في سبيل الله، والسارق لعله أن يستعف عن السرقة بما جاءه من المال[ينظر البخاري: 1421، ومسلم: 2409]فيكون فعل العبد الصالح تربية للعباد.
وأحيانًا الله يوفقه؛ لئن يترك بعض الناس المنكرات على يديه، أو يفعل الطاعات على يديه، أو يهتدون على يديه من تصرفاته وأفعاله، مفتاح للخير، لقد وقعت صدقة هذا الإسرائيلي المسلم في الليل أصبحوا يتحدثون بهذه الصدقة، وهو قد عاهد نفسه في الليل، قال: لأتصدقن الليلة! كشفها الله، في حديث في الصحيح يُقرأ ويتلى على المسلمين، كانت صدقة سرية من ذلك الرجل كانت درسًا للأجيال، فكانت صدقته سرًا، ولدرجة أنه خفي عليه في الظلام أن هذا غني، وخفي عليه أن هذه زانية، وخفي عليه أن هذا سارق، ظلام الليل قد أخفى عنه ماهية ونوعية المتصدق عليه، ولكن كانت لها فوائد، وصدقة السر، وصدقة التطوع -كما قلنا- الأفضل فيها الإخفاء.
صدقة الفرض، مثل صدقة الفطر، الجهر بها أو جمعها؛ لأنها من شعائر الإسلام، الإعلام بها من السنة.
أما صدقة التطوع على العكس، اللهم إلا أن يكون في إظهار صدقة التطوع مزيد فائدة، مثل أن يشجع الآخرين مع إخلاص نيته لله ، فإذا كان الإنسان المتطوع:
1- ممن يقتدى به.
2- وتنبعث همم الآخرين على التطوع إذا أظهرت تطوعه.
3- وكان قصده سليمًا.
فإن إظهار صدقته أفضل، في غير ذلك إخفاء الصدقة أفضل.
أما بالنسبة للزكاة، فقد رأى بعض العلماء أن إخفاء الصدقة مطلقًا هو الأفضل، وقال أبو إسحاق الزجاج: إن إخفاء الزكاة في زمن النبي ﷺ كان أفضل! فأما بعده فإن الظن يساء بمن أخفاها، وربما يتهم أنه مانع للزكاة يعني، فلهذا كان إظهار الزكاة المفروضة أفضل!
وقال ابن عطية: ويشبه في زماننا أن يكون الإخفاء بصدقة الفرض أفضل! فقد كثر المانع بها وصار إخراجها عرضة للرياء، العكس يعني، نلاحظ أن الكلام العلماء اختلف باختلاف الأحوال والوقت، فصار في زمان إظهارها أفضل، وفي زمان إخفاؤها أفضل!
قال ابن حجر-رحمه الله-: "وأيضاً فكان السلف يعطون زكاتهم للسعاة" الآن الإمام يبعث من بيت المال موظفين؛ لجمع الزكاة، فإذا أخفاها الشخص اتهم وكان من أخفاها اتهم بعدم الإخراج، أما اليوم هذا في القرن التاسع يقول ابن حجر: "وأما اليوم فصار كل أحد يخرج زكاته بنفسه فصار إخفاؤها أفضل!"[ينظر: فتح الباري: 3/289].
فإذًا، متى يكون إظهارها؟ عندما تجبى من قبل العمال الذين يرسلهم الإمام لجباية الزكاة، فلا بدّ أن يعطيها لهم، فتظهر، لكن إذا صار الأمر أن كل واحد يظهر زكاته بنفسه فيكون إخفاء الزكاة أفضل!
فلو قيل: إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال لما كان بعيدًا.
المقصود بقوله: رجل ذكر الله خاليًا
أما الصنف الآخر والرجل الآخر فهو: رجل ذكر الله بلسانه وبقلبه خاليًا؛ ليكون أبعد عن الرياء، وربما يحتمل أن يكون خال من غير ذكر الله، يعني أن ذكر الله في نفسه فقط، لا يذكر شيئًا آخر معه، خلا قلبه إلا من ذكر الله: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا[القصص:10]، فذكر الله في الموضع الخالي دليل على مراقبة العبد لربه، وأن يكون القلب خال إلا من ذكر الله دليل على قوة إيمان العبد أيضاً، لما ذكر الله تفاعل القلب مع الجسد، ففاضت العينان، فاضت عيناه من الدمع، العين هي التي فاضت؛ لأن حال الذاكر في إيمانه وحرارته في قلبه عظيم، ولذلك فاضت عيناه من خشية الله .
إذًا، ذكر في خلوة مع دمعة يكون في ظل العرش.
وقد استعاذ النبي ﷺ من عين لا تدمع.
وهذا السابع نهاية السبعة الذين يظلهم الله -تعالى- في ظله، كان هذا الرجل في ظل العرش لإخلاصه أيضاً.
نلاحظ أن عددًا من الأعمال هذه يتضح فيها الإخلاص، مثلاً الذي ذكر الله خاليًا، والذي تصدق بصدقة فأخفاها، هذا دليل على أهمية الإخلاص في الأعمال، وأن يريد وجه الله-تعالى- بها.
شمولية العبادات والأجور المذكورة في حديث السبعة للرجال والنساء
-طيب- فإذا قالت بعض النسوة: وكل هذا الكلام لمن؟ هل هو للرجال؟ الإمام العادل، الإمام ما يكون امرأة، ورجل قلبه معلق في المسجد، تقولون لنا: النساء صلاتهن في البيت أفضل، ورجلان تحابا في الله، ورجل ذكر الله خاليًا -طيب- وماذا لنا؟!
الجواب:
قال العلماء: إن ذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له، ومعنى: لا مفهوم له، أنه ليس مقتصرًا عليهم، بل هو كان جرت به العبارة ذكرًا لا تحديدًا وقصرًا على الرجال، بل يشترك النساء معهم فيما ذكر، إلا فيما لا يكون من الأفضل للمرأة أن تتصف به؛ فمثلاً المساجد-طيب- لو قالت المرأة: -طيب- خرجنا من هذه الصفة بالكلية حرمنا من هذا البند؟!
فالجواب: لا، إذا كانت ملازمة الرجل للمسجد أفضل، وتصيره بهذه المنزلة، فإن ملازمة المرأة لبيتها في العبادة يجعلها بهذه المنزلة.
-طيب- إذا قالت المرأة: طيب الإمام العادل والخليفة لا يكون امرأة؟!ماذا لنا في هذا البند؟!
فالجواب: أن المرأة إذا عدلت في عيالها وذريتها تكون داخلة في هذا أيضاً.
-طيب- الرجل الذي دعته امرأة لو حصل العكس، فالمرأة دعاها رجل إلى الفاحشة، فقالت: إني أخاف الله رب العالمين! أيضاً.
-طبعا- الصدقة الخفية تدخل فيها، وذكر الله خاليًا تفيض عيناها تدخل فيها.
فإذًا، يمكن للمرأة أن تدخل في كل هذا الحديث.
وقوع العبادات المذكورة في حديث السبعة على الإنسان قدرا واختيارا
وهذا الحديث ذكر أنواعًا من الأعمال؛ ليتحمس العباد لها، ويعتبرونها ويعملون بها ويحرصون عليها، وبعض هذه قد تقدر للشخص بدون أن يسعى إليها، يعني -مثلاً-: دعته امرأة ذات منصب وجمال، هو لا يسعى لئن يوقع نفسه في الفتنة، ويعرض نفسه لامرأة تدعوه حتى يأبى، ولكن لو حصل.
وأما الصدقة الخفية إذا كان عنده مال، وذكر الله خاليًا، يتمكن منه دائمًا، والمحبة في الله يتمكن منه، المرأة مع المرأة، والرجل مع الرجل، أما إعلان محبة المرأة للرجل الأجنبي -طبعًا- فهي طريق إلى الفساد، فهي يمكن أن تكون دون احتكاك بينهما ألبتة، كمن أحبت عالماً، كمن أحبت خلفاء، وكمن أحبت الصالحين، ونحو ذلك.
نكتفي بهذا القدر من الكلام في هذه الصفات، أو هذه الأعمال المذكورة.
ونسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من أهلها، ويدخلنا في رحمته، إنه هو أرحم الراحمين.