الثلاثاء 9 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 10 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

أحكام صلاة الجمعة - الدرس الحادي عشر


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد تحدثنا في الدرس الماضي عن بعض المسائل المتعلقة بآداب الجمعة، ومنها الاغتسال لصلاة الجمعة، وأنه مستحب عند جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة، وأن مذهب الظاهرية وجوب غسل الجمعة، واختار هذا القول ابن خزيمة والشوكاني وآخرون من أهل العلم، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مذهبًا وسطًا فقال بوجوب غسل الجمعة على من يتأذى المسلمون من رائحة عرقه أو ريحه، وللحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - كلام مشابه.

وذكرنا أن وقت الاغتسال يبدأ من بعد طلوع الفجر، فمن اغتسل بعد ذلك أجزأه، وإن اغتسل قبله لم يجزئه عن غسل الجمعة، وأن العلماء اتفقوا على أن الأفضل تأخير غسل الجمعة إلى وقت الذهاب، يعني الأفضل أن يغتسل قبل الذهاب إلى الجمعة مباشرة، وإذا اغتسل ثم أحدث فلا إعادة عليه للغسل؛ لأنه قد صح.

وذكرنا أن أحوال اجتماع غسل الجمعة مع الجنابة كما يلي:

أولًا: أن ينوي بغسله الجنابة والجمعة معًا، ففي هذه الحال يجزيه الغسل عنهما جميعًا عند جماهير أهل العلم.

الثاني: أن ينوي بغسله رفع الجنابة فقط دون أن ينوي غسل الجمعة، ففي إجزائه عن غسل الجمعة خلاف بين أهل العلم، ومذهب الحنابلة والحنفية أنه يجزيه واختاره من المعاصرين الشيخان ابن باز وابن عثيمين؛ لأن مقصود غسل الجمعة التنظيف وقد حصل بغسل الجنابة.

الثالث: أن ينوي غسل الجمعة فقط دون رفع الجنابة، وفي هذه الحالة لا ترتفع الجنابة؛ لأن النية ليس فيها رفع الحدث، وإنما هي لغسل الجمعة فقط .

وقلنا: إن استحباب الغسل يوم الجمعة خاص بمن يحضر الصلاة ولو لم تكن واجبة عليه، فقد يحضر المريض، أو تحضر المرأة، أو يحضر المسافر مثلًا الجمعة، فيشرع له الاغتسال لأجل الحضور.

 وإذا لم يجد الماء للغسل فهل يتيمم؟

قلنا: الراجح لا؛ لأن المقصود من غسل الجمعة التنظف، وليس رفع الحدث، ولذلك فإن التيمم لا يحصل به المقصود،

وعرفنا أيضًا من آداب وسنن الجمعة التطهر والتطيب والتجمل.

قوله:  ويتطهر ما استطاع من طُهر ، والمراد بالتطهر المبالغة في التنظف، وإزالة الوسخ، وتقليم الأظفار، وإزالة الشعر، وحلق العانة، ونتف الإبط، وقوله: ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته  يعني أنه مخير بين الادهان أو التطيب، ولا خلاف بين العلماء في استحباب لبس أجود الثياب لشهود الجمعة .

ومن سنن الجمعة أيضًا: التبكير إليها وأن  من خرج في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة [رواه البخاري: 881، ومسلم: 850]، وأن حساب هذه الساعات من متى يبدأ؟ من بعد طلوع الشمس إلى صعود الإمام المنبر، يقسم الوقت إلى خمسة أجزاء متساوية، فهنا نعرف الساعة الأولى والثانية والثالثة، فإذن لا يشترط أن تكون ستين دقيقة، وعرفنا أيضًا أن من جاء في أول ساعة من هذه الساعات، يعني من جاء في أول الساعة الأولى غير من جاء في آخر الساعة الأولى، ومن جاء في أول الساعة الثانية غير من جاء في آخر الساعة الثانية، وبناء على هذا تكون بدنة ذاك غير بدنة هذا، وبقرة ذاك غير بقرة هذا، وهكذا، وإن كانوا مشتركين في الأصل، حتى بيضة هذا غير بيضة الآخر، وعرفنا أن السنة للخطيب أن لا يبكر بالحضور إلى المسجد، لأن المنقول عن النبي ﷺ أنه كان يخرج من بيته حين إرادته الخطبة، وهذا لا يعني أنه غافل عن ذكر الله أو أنه لاه أو ساه، كلا ولكنه يخرج إلى الناس حين الخطبة.

ومما يستحب يوم الجمعة مما لم يذكره المصنّف أيضًا: أن يأتيها ماشيًا وأن يدنو من الإمام لقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود : من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة صيامها وقيامها  وهذا الحديث يبين الفضل العظيم فيمن حرص على هذه الأمور، قال النووي - رحمه الله -: "اتفق الشافعي والأصحاب وغيرهم على أنه يستحب لقاصد الجمعة أن يمشي وأن لا يركب في شيء من طريقه إلا لعذر كمرض ونحوه"، [المجموع: 4/544].

وقال ابن قدامة - رحمه الله - في المغني: "والمستحب أن يمشي ولا يركب في طريقها وروي عن النبي ﷺ أنه لم يركب في عيد ولا جنازة، والجمعة في معناهما" [المغني لابن قدامة: 2/222] .

قال ابن قدامة: "ويستحب أن يكون عليه السكينة والوقار في حال مشيه لأن الماشي إلى الصلاة في صلاة، ولا يشبك بين أصابعه، ويقارب بين خطاه لتكثر حسناته"[المغني لابن قدامة: 2/222]؛ لأن كل خطوة فيها زيادة حسنة ورفع درجة وتكفير سيئة، فمقاربة الخطا يعني تقريب المسافة بين القدمين عندما يمشي، فلو قال: الأفضل أن أوسع الفتحة بين القدمين أو أصغر الفتحة؟ نقول: الأفضل تقليلها، "ويكثر ذكر الله في طريقه، ويغض بصره" هذا كلام ابن قدامة في المغني، وقال النووي: "يستحب الدنو من الإمام بالإجماع لتحصيل فضيلة التقدم في الصفوف واستماع الخطبة محققًا" [المجموع: 4/546].

وقد سبق ذكر قصة بعض الجهال في مسجد في قرية، ذكر بعض أهل العلم أنه دخل الجامع، فوجد مع كل شخص في الجامع قفة وفيها سكينة وفأر، فسألهم بعد الصلاة ما هذا؟ قالوا: علمنا شيخنا، قال: أين هو؟ قالوا: في تلك الحجرة فذهب إليه ووجد رجلًا كبيرًا في السن، قال: أنت علمتهم أن يأتي كل واحد منهم الجمعة ومعه قفة فيها سكينة وفأر؟ قال: نعم، قالوا: من أين لك هذا؟ قال: فنشر الكتاب، والكتابة من زمان ما كان فيها النقط، فإذا فيه يأتي الجمعة بعفة وسكينة ووقار، فهذا قرأها قفة وسكينة وفأر.

ضبط الكتابة سواء كان بالنقط في الحروف، أو الحركات الفتحة والضمة والكسرة والسكون والشدة، مهم للغاية في المعنى وإلا يتغير تغيرًا عظيمًا .

ومن السنن أن يصلي ما قدر عليه من النفل المطلق قبل حضور الإمام، فقد جاء في صحيح البخاري عن سلمان قال: قال النبي ﷺ:  لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرّق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى [رواه البخاري: 883]، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: فصلّى ما قدّر له [رواه مسلم: 857]، ونحن الآن في قضية  ثم يصلي ما كتب له  أو  صلى ما قدر له  حول هذا نتكلم من المستحبات في الجمعة، قال النووي - رحمه الله -: "وفيه -في الحديث- أن التنفُّل قبل خروج الإمام يوم الجمعة مستحب وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، وفيه أن النوافل المطلقة لا حدّ لها لقوله ﷺ: فصلّى ما قُدِّر له " [شرح النووى على مسلم]، يعني: ثنتين أربع ست ثمان عشر اثنا عشر عشرين، قد يأتي مبكرًا جدًا ويصلي كثيرًا، ولا مانع أن يجمع بين الصلاة وتلاوة القرآن، وبين الصلاة وتلاوة القرآن والدعاء، وبين الصلاة وتلاوة القرآن والذكر، وبين الصلاة وتلاوة القرآن والدعاء والذكر والفكر فيتفكر ويتدبر، على أية حال الأمر واسع في هذا ماذا يفعل بانتظار الصلاة في انتظار الخطيب، لكن إذا صلى ما قدر له، ما كتب له، فهذا طيب، وهذا لا يعني أن للجمعة سنة قبلية، فليس للجمعة سنة قبلية، ولكن يستحب التنفل قبلها، واختار بعض أهل العلم أن وقت النهي يوم الجمعة في الصلاة هذه غير موجود، يعني وقت النهي قبيل صلاة الظهر معروف إذا استوت الشمس في وسط السماء حتى تزول إلى الغرب، هذه المدة قد تكون قرابة ربع ساعة هي من أوقات النهي، فلا صلاة عندها في النفل مثل الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروب الشمس وعند استواء الشمس في وسط السماء، لا صلاة، لا نافلة، فقال بعض العلماء كابن القيم وغيره إن هذا النهي يوم الجمعة يزول؛ لأن النبي ﷺ كان يصلي إذا زالت الشمس وقوله:  يصلي ما كتب له أن يصلي  قد يقع وقت النهي، فقال بعضهم: إن من خصوصيات يوم الجمعة أنه لا نهي عن الصلاة لمن جاء المسجد قبل صعود الإمام، ولو كانت الشمس في كبد أو في وسط السماء، أما إذا كان يصلي ظهرًا كالمرأة في بيتها فالنهي في حقها ثابت، كذلك المعذور، كذلك المسافر الذي يصلي ظهرًا النهي في حقه باقٍ، لكن هذا خاص لمن حضر الجمعة، وتكون ميزة لمصلي الجمعة، وذكر الشيخ الألباني-رحمه الله-في كتابه الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة هذه المسألة وقال: "فهو دليل صريح أو كالصريح على جواز الصلاة قبل الزوال يوم الجمعة، وذلك من خصوصيات هذا اليوم كما بينه المحقق ابن القيم في الزاد، واحتج له بهذا الحديث فقال عقبه: "فندبه إلى صلاة ما كتب له ولم يمنعه عنها إلا في وقت خروج الإمام لانتصاف النهار"، وعلى هذا جرى عمل الصحابة - رضوان الله عليهم - فروى ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح على شرط مسلم عن صافية قالت: "رأيت صفية بنت حيي وهي من أزواج النبي ﷺ وماتت في ولاية معاوية صلت أربعًا قبل خروج الإمام وصلت الجمعة مع الإمام ركعتين"، وفي الزاد: قال ابن المنذر: روينا عن ابن عمر أنه كان يصلي قبل الجمعة اثنتي عشرة ركعة، وعن ابن عباس أنه كان يصلي ثمان ركعات وهذا دليل على أن ذلك كان منهم من باب التطوع المطلق، وقال أبو شامة:"ولذلك اختلف العدد المروي عنهم في ذلك" والخلاصة أن المستحب لمن دخل المسجد يوم الجمعة في أي وقت أن يصلي قبل أن يجلس ما شاء نفلًا مطلقًا غير مقيد بعدد ولا موقت بوقت حتى يخرج الإمام، أما أن يجلس عند الدخول بعد صلاة التحية أو قبلها، فإذا أذن المؤذن بالأذان الأول قام الناس يصلون أربع ركعات فمما لا أصل له في السنة بل هو أمر محدث وحكمه معروف" [الأجوبة النافعة: 60].

هذا الكتاب للشيخ اسمه الأجوبة النافعة على أسئلة لجنة مسجد الجامعة، هذه أسئلة وجهتها له لجنة جامعة دمشق فأجاب عنها بكتيب، أو كتاب لطيف، مسألة جعل ما بين الأذانين مدة يسيرة جدًا يقوم فيها الناس لصلاة ركعتين كما في الحرم ليس من السنة، يعني يجعل الأذان الأول قبل الثاني بينهم خمس دقائق فقط، الأذان الأول ثم كل الناس تقوم تصلي ركعتين، ثم يؤذن الأذان الثاني، يطلع الخطيب المنبر خلاف السنة؛ لأن الأذان الأول ما فائدته؟ أن يتهيأ الناس للصلاة وليس للصلاة ركعتين بين الأذانين، ما تكاد تجد أحداً في الحرم إلا يقوم يصلي ركعتين، بمجرد انتهاء الأذان كلهم يقومون يصلون ركعتين، عربهم وعجمهم، كبيرهم وصغيرهم، ثم يؤذن الأذان الثاني، السنة أن يكون بين الأذانين وقت، وأن يكون الأذان الأول فيه تنبيه الناس، مثلًا الاستيقاظ من النوم لغسل الجمعة، للتبكير، وإلا ما تحصل به الفائدة إذا كان فقط خمس دقائق بينهما، وكل الناس يظن أنه فيه ركعتين بين الأذانين وركعتان فقط، فهذا ليس من السنة، أحيانًا فيه أشياء تحصل من قديم ويمضي عليها العمل والأمر والناس يمضون عليها ولكنها في الحقيقة ليست من السنة .

ومما ينبغي يوم الجمعة أن لا يفرق بين اثنين كما جاء في الحديث: ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين والتفرقة بين اثنين تشمل أمورًا منها:

أولًا: القعود بينهما فلا يزاحم الرجلين فيدخل بينهما لأنه ربما ضيق عليهما خصوصًا في شدة الحر واجتماع الأنفاس والمسافة بينهما لا تتحمل شخصًا إضافيًا، قال ابن رجب - رحمه الله -: "فإن كان ذلك من غير تضييق عليهما مثل أن يكون بينهما فرجة - يعني تتسع لشخص - فإنه يجوز بل يستحب؛ لأنه مأمور بسد الخلل في الصف وإلا - يعني أن يدخل بينهما والمكان لا يتسع ويصير كتف الواحد أمام كتف الآخر بالعرض ما يستطيع لا مكان له - قال: "وإلا فهو منهي عنه إلا أن يأذنا في ذلك" [فتح الباري لابن رجب: 8/206]؛ لأنهما سيتحملان ضيقًا.

ثانيًا: النهي يشمل أيضًا إخراج أحدهما والقعود مكانه لحديث ابن جريج قال: سمعت نافعًا يقول: سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: نهى النبي ﷺ أن يقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه" قلت لنافع الجمعة؟ قال: الجمعة وغيرها" [رواه البخاري: 911، ومسلم: 28 ]. "فمن سبق إلى موضع مباح في المسجد وغيره يوم الجمعة أو غيره لصلاة أو غيرها مثلًا درس علم فهو أحق به، اعتكاف هو أحق به، ويحرم على غيره إقامته لهذا الحديث" هذا كلام النووي في شرح صحيح مسلم. [شرح النووي على مسلم: 14/160].

ثالثًا: أن يتخطاهما ويتجاوزهما إلى صف متقدم، وفي التخطي زيادة رفع رجليه على رأسيهما وأكتافهما، وربما تعلق بثيابهما شيء مما برجليه، فتح الباري لابن حجر [فتح الباري لابن حجر: 2/392].

فيحرم تخطي رقاب الجالسين يوم الجمعة؛ لأنها لا شك أن فيه إيذاء وعن عبد الله بن بسر قال جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي ﷺ يخطب فقال النبي ﷺ:  اجلسْ فقد آذيت  [رواه أبو داود: 1118، وابن ماجة: 1115، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 155].

وفي هذا الحديث النهي عن تخطي رقاب الجالسين لصلاة الجمعة، ومذهب كثير من العلماء أن التخطي مكروه، وقيد مالك الكراهة بما إذا كان الخطيب على المنبر ووصف النبي ﷺ لعمل الرجل بالإيذاء، يعني لما قال: آذيت  يدل على أكثر من الكراهة ولهذا قال الترمذي: "والعمل عليه عند أهل العلم كرهوا أن يتخطى الرجل يوم الجمعة رقاب الناس وشددوا في ذلك" [سنن الترمذي: 513].

إذن هذه كراهة تحريمية وليست كراهة عادية، كراهة تحريم، والقول بالتحريم هو ما رجّحه جمع من المحققين كابن المنذر وابن عبد البر والنووي وشيخ الإسلام ابن تيمية، كما في الاختيارات الفقهية وغيرهم.

قال ابن المنذر - رحمه الله -: "تخطي رقاب الناس غير جائز لحديث عبد الله بن بسر، ولا فرق بين القليل والكثير منه؛ لأن الأذى لا يجوز منه شيء أصلًا" [الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف: 4/86]، يعني لو تخطى بين اثنين فقط لا يجوز، وقد يزيد يتخطى بين أربعة وستة وثمانية وعشرة، ويتخطى ويتخطى، ويواصل التقدم فيزداد إثمًا، وقال ابن عبد البر - رحمه الله - في قول النبي ﷺ للمتخطي يوم الجمعة:  آذيت  "بيان أن التخطي أذى ولا يحل أذى مسلم بحال في الجمعة وغير الجمعة" [التمهيد: 1/316].

وقال النووي:" المختار أن تخطي الرقاب حرام للأحاديث فيه"، روضة الطالبين. [روضة الطالبين: 11/224].

وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: "تخطي الرقاب حرام حال الخطبة وغيرها، لقول النبي  ﷺ لرجل رآه يتخطى رقاب الناس:  اجلس فقد آذيت  ويتأكد ذلك إذا كان في أثناء الخطبة؛ لأن فيه أذية للناس وإشغالًا لهم عن استماع الخطبة، ويكون في أثناء الخطبة أشد؛ لأن فيه بالإضافة إلى الإيذاء إشغال عن استماع الخطبة". [الشرح الممتع: 5/95].

وأما إذا كان التخطي لعذر فلا بأس به، ويدخل في ذلك عدة صور:

أولًا: وجود الحاجة للتخطي قال عقبة: "صلّيتُ وراء النبيﷺ بالمدينة العصر فسلّم ثم قام مسرعًا فتخطى رقاب الناس إلى حُجَر بعض نسائه، فقال ذكرت شيئًا من تبر ذهب عندنا - يعني من الصدقات - فكرهتُ أن يحبسني فأمرت بقسمته" [رواه البخاري: 851]. قال ابن حجر: "وفيه أن التخطي للحاجة مباح" [فتح الباري لابن حجر: 2/337].

قال ابن قدامة: "إذا جلس في مكان ثم بدت له حاجة أو احتاج إلى وضوء فله الخروج" [المغني لابن قدامة: 2/260]؛ لأن الذي يكون في الصف المتقدم يحتاج إلى وضوء لا شك أنه سيتخطى كيف سيذهب إلى المواضئ وهو في الصف المتقدم؟ وكيف سيعود إلى مكانه بعد ذلك؟ ومن الحاجة إذا كان الإمام لا يجد طريقًا إلى موضعه إلا بالتخطي، وكذلك إذا كان جالسًا شخص في موضع متقدم ثم قام منه لعارض ثم عاد إليه جاز له التخطي، قال ابن رجب - رحمه الله -: "ومتى احتاج إلى التخطي لحاجة لا بد منه كالوضوء أو غيره، أو لكونه لا يجد موضعًا للصلاة بدونه، أو كان إمامًا لا يمكنه الوصول إلى مكانه بدون التخطي لم يكره" [فتح الباري لابن رجب: 8/205].

ثانيًا: من الأعذار المبيحة للتخطي وجود فرجة في المكان المتقدم، ولا يوصل إليها إلا بالتخطي.

قال ابن قدامة - رحمه الله -: "قال أحمد: يدخل الرجل ما استطاع، ولا يدع بين يديه موضعًا فارغًا، فإن جهله فترك بين يديه خاليًا فليتخطى الذي يأتي بعده ويتجاوزه إلى الموضع الخالي، فإنه لا حرمة لمن ترك بين يديه خاليًا وقعد في غيره" [المغني: 2/259]، يعني أنت إذا دخلت مسجدًا الأصل أن تذهب إلى سد الفرجة المتقدمة أقصى ما يمكنك، تدخل أقصى ما يمكنك إلى سد فرجة متقدمة، حتى لا تحوج الذي بعدك أن يتخطى لسدها؛ لأنك إذا جلست في الخلف وتركت الفرجة المتقدمة ستحوج الذي يأتي بعدك ويرى الفرجة، وستوجد له مبررًا وعذرًا في تخطيك وتخطي من بجانبك ليسد هذه الفرجة، فالأصل أن الواحد إذا دخل مسجداً يتقدم إلى أقصى موضع إلى الأمام، إلى أقصى ما يمكنه أن يتقدم، قال الحسن - رحمه الله -: "تخطو رقاب الذين يجلسون على أبواب المساجد فإنه لا حرمة لهم" [المغني: 2/259].

من زمان هؤلاء يأتون ويجلسون عند الباب، ويريدون أن يكونوا أسرع الناس خروجًا، وأولهم فرارًا، ولذلك لا حرمة لهم، يجلسون عند المداخل، ويتركون الأماكن المتقدمة، يقول: إذا جئتم ووجدتم المواضع خالية في الأمام تخطوهم فلا حرمة لهم، فالذين يصفون في آخر المسجد ويتركون بين أيديهم صفوفًا خالية خالفوا أمر النبي ﷺ في الدنو من الإمام ورغبوا عن الفضيلة وخير الصفوف وجلسوا في شرها؛ ولأن النبي ﷺ أمر بأن تتمم الصفوف الأول فالأول، وهذا ليس خاصًا بالصلاة، حتى ما قبل الصلاة تتمم الصفوف الأول فالأول، وقال النووي - رحمه الله – "وإن رأى فرجة قدامهم لا يصلها إلا بالتخطي، قال الأصحاب: لم يكره التخطي؛ لأن الجالسين وراءها مفرطون بتركها وسواء وجد غيرها أم لا، وسواء كانت قريبة أم بعيدة، لكن يستحب إن كان له موضع غيرها أن لا يتخطى، وإن لم يكن موضع وكانت قريبة بحيث لا يتخطى أكثر من رجلين ونحوهما دخلها، وإن كانت بعيدة ورجا أنهم يتقدمون إليها إذا أقيمت الصلاة يستحب أن يقعد موضعه ولا يتخطى، -وإلا إذا كانوا لا يريدون التحرك، ما هم منقولين من مكانهم كسل فعند ذلك- قال: "وإلا فليتخط"، [المجموع: 4/546].

وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: "فإن قال قائل: الحديث عام  اجلس فقد آذيت لأن ظاهر الحال أن هناك فرجة؛ لأنه ليس من العادة أن يتخطى الإنسان الرقاب إلا إلى فرجة ولكن الفقهاء - رحمهم الله - استثنوا هذه المسألة فقالوا: لأنه إذا كان ثمة فرجة فإنهم هم الذين جنوا على أنفسهم؛ لأنهم مأمورون أن يكملوا الأول فالأول فإذا كان ثمة فرجة فقد خالفوا الأمر، وحينئذ يكون التفريط منهم وليس من المتخطي، ولكن الذي أرى أنه لا يتخطى حتى ولو إلى فرجة، لأن العلة وهي الأذية موجودة، وكونهم لا يتقدمون إليها قد يكون هناك سبب من الأسباب مثل أن تكون الفرجة في أول الأمر ليست واسعة ثم مع التزحزح اتسعت فحينئذ لا يكون منهم تفريط- يعني واحد كان جالساً متربعًا والذي بجانبه متربع أيضًا، الفرجة يسيرة جدًا، قام هذا احتبى، والآخر جلس مفترشًا، نشأت فرجة، يعني ليست من تفريط في المتقدمين فحينئذ لا يكون منهم تفريط- فالأولى الأخذ بالعموم، وهو أن لا يتخطى إلى الفرجة، لكن لو تخطى برفق واستأذن ممن يتخطاه إلى هذه الفرجة فأرجو أن لا يكون في ذلك بأس، الشرح الممتع، [الشرح الممتع: 5/96].

يعني من كلامه وكلام النووي - رحمه الله - المتقدم التخطي إلى الفرجة المتقدمة جائز وليس مندوبًا إليه أو مؤكدًا عليه؛ لأن الأفضل عدم الإيذاء والأفضل الانتظار، ولكن لو تخطى جاز لأنهم فرطوا.

قال المصنف - رحمه الله - وفي الصحيحين : إذا قلت لصاحبك أنصِت يوم الجمعة فقد لغوت  [رواه البخاري: 934، ومسلم: 851]. ومن الواجبات على من حضر خطبة الجمعة الإنصات وعدم الكلام مع من حوله من الحضور، وجمهور العلماء على حرمة الكلام عند سماع الخطبة، وأن الإنصات واجب كما في المغني وبدائع الصنائع والمجموع والكافي لابن عبد البر، واستدلوا على وجوب الإنصات وحرمة الكلام بجملة من الأدلة ومنها قول الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ  [الأعراف: 204]، وقد ذكر جماعة من التابعين أن الإنصات المأمور به في هذه الآية المقصود به الخطبة، ونقل ذلك عن مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء، قال ابن جرير الطبري: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال أمروا باستماع القرآن في الصلاة إذا قرأ الإمام، وكان من خلفه ممن يأتم به يسمعه، وفي الخطبة-يعني أن الخطبة داخلة في الآية وخصوصًا أن الخطبة لا تخلو من الآيات أو هكذا المفترض أن يكون-، ثم قال ابن جرير - رحمه الله -: "وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لصحة الخبر عن رسول الله ﷺ أنه قال: إذا قرأ الإمام فأنصتوا  وإجماع الجميع على أن من سمع خطبة الإمام ممن عليه الجمعة الاستماع والإنصات لها مع تتابع الأخبار بالأمر بذلك عن رسول الله ﷺ وأنه لا وقت يجب على أحد استماع القرآن والإنصات لسامعه من قارئه إلا في هاتين الحالتين"، [تفسير الطبري: 13/352]، فإذا قرأ في الخطبة أو قرأ في الصلاة يجب أن تنصت يجب أن تنصت لكن لو قرأ في خارج ذلك وما أردت أن تنصت أو تذهب افعل لا حرج عليك.

ثانيًا: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت  ومعنى: فقد لغوت  اللغو هو الكلام الساقط الباطل المردود الذي لا قيمة له، قال ابن حجر - رحمه الله -: "وقال الزين ابن المنير: اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يُحسن من الكلام" [فتح الباري لابن حجر: 2/414]، قال النووي: "ففي الحديث النهي عن جميع أنواع الكلام حال الخطبة" [شرح النووي على مسلم: 6/138]، ونبّه بهذا على ما سواه يعني كلمة أنصت ما تجوز، إذن الكلمات الأخرى لا تجوز؛ لأنه إذا قال: أنصت وهو في الأصل أمر بمعروف، وسماه لغوًا، فيسيره من الكلام أولى" [شرح النووي على مسلم: 6/138]. فدلّ الحديث على وجوب الإنصات وتحريم الكلام حال الخطبة، قال الصنعاني - رحمه الله -: "والمراد بالإنصات قيل: من مكالمة الناس فيجوز على هذا الذكر وقراءة القرآن" يعني لو واحد قال: من قال لصاحبه يوم الجمعة: أنصت، يعني كلام مع الناس، وإذا أنا أتكلم مع نفسي، أريد أن أقرأ القرآن أثناء الخطبة، أذكر الله، قال الصنعاني : "والأظهر أن النهي شامل للجميع سواء تكلم مع نفسه أو مع غيره" . [سبل السلام: 1/405]،

ثالثًا: من الأدلة على وجوب الإنصات ومنع الكلام وتحريم الكلام، عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ أنه قال: من اغتسل يوم الجمعة ومسّ من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كانت كفارة لما بينهما ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرًا  رواه أبو داود وابن خزيمة وحسّنه الألباني. يعني ليس له ثواب جمعة.

قال ابن وهب-أحد رواة الحديث-: "معناه أجزأت عنه الصلاة وحُرم فضيلة الجمعة"، [تحفة الأحوذي: 3/31]، أي أن الفضيلة التي كانت تحصل له من الجمعة لا تحصل له بكلامه هذا لفوات شروط الفضيلة، قال ابن بطال: "وجماعة أئمة الفتوى على وجوب الإنصات للخطبة"، [شرح صحيح البخاري لابن بطال: 2/518]، وذهبت الشافعية إلى أن الإنصات للخطبة مستحب وليس بواجب، ولكن الراجح الوجوب خلافًا لمذهبهم، للأدلة الصريحة الواردة في ذلك، ويستثنى من تحريم الكلام وقت الخطبة أمور منها :

 أولًا: الكلام مع الخطيب نفسه لكن للحاجة، ما هو مثل واحد رجع من أمريكا وجلس في خطبة جمعة ثم قال:  أين الديمقراطية؟ أنا سأعبر عن شعوري، هو طرح،  يمكن أنا معارض، أصحاب العقليات الوافدة، والتي صيغت هناك لا يتقيدون بالأدلة الشرعية، ما يفهم أن الإنصات واجب، فيظن أنه حرية، تكلم وقت ما تريد، اعترض، اشجب، أيد، ندد، عارض، وافق، افعل، تكلم، الكلام مسموح، لا يوجد كلام ممنوع، هذه تربيتهم، وبالتالي لا يوجد عندهم قيود فلو قلت له: الحديث، يقول: هذا يقيد الحرية، وقد روى البخاري - رحمه الله - عن أنس بن مالك قال: أصابت الناس سنة على عهد النبي ﷺ يعني قحط- فبينا النبيﷺ يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال -هذا مثال على الكلام مع الخطيب للحاجة-: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا"، [رواه البخاري: 933، ومسلم: 897]. فالنبي ما أنكر عليه، ولو كان هذا حرامًا لأنكر عليه، فدل على جواز كلام الحاضر مع الخطيب للحاجة، وعن جابر بن عبد الله قال: جاء رجل والنبي ﷺ يخطب الناس يوم الجمعة فقال ﷺ: أصليت يا فلان قال : لا، كلمة لا كلام مع الخطيب، قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين  [رواه البخاري: 930، ومسلم: 875]. فسليك الغطفاني   إذن تكلم مع النبي ﷺ والنبي ﷺ هو الذي سأله فيجوز إذن للحاجة، ويجوز له الرد على سؤال الخطيب، وقد يخطئ الخطيب خطأ فادحًا، ولا يسع السكوت عنه، مثلًا في آية فيغير معناها تمامًا، فلو أنهم فتحوا عليه وصححوا له فلا بأس بذلك، وبالتالي فيجوز عند الحاجة أن يتكلم المأموم مع الإمام والخطيب فيرد على سؤاله ويفتح عليه، ولا بأس للخطيب أن يكلّم من شاء من المأمومين عند الحاجة"، فتاوى نور على الدرب لابن عثيمين. [فتاوى نور على الدرب للعثيمين: 8/2].

قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: فالرد على الإمام في الخطبة أو سؤاله عن شيء في الخطبة أو طلبه شيئًا في الخطبة ليس من اللغو في الخطبة وليس بممنوع"، فتاوى نور على الدرب للشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - [مجموع فتاوى ابن باز: 30/244]. مثال الثاني الكلام الواجب، استثنى الفقهاء من تحريم الكلام حال الخطبة في الجمعة ما كان لأمر واجب ناجز كتحذير ضرير من الوقوع في بئر، من أول ممكن وأنت في المسجد تشاهد خارج المسجد، قد يكون أحيانًا البئر موجوداً في المسجد، بئر للوضوء والشرب في المسجد، المهم تحذير أعمى من الوقوع في البئر، أو التحذير من حية أو عقرب ظهر، أو حريق اشتعل، ونحو ذلك، فلا بأس بالكلام، لأن الكلام هنا واجب، مثل تحذير المسلمين من الخطر والضرر، مثل السيل، لو جاء السيل في خطبة الجمعة، لو جاء الخبر بقصف على المسجد فيكون الكلام جائزًا هنا؛ لأن التحذير واجب، قال ابن قدامة - رحمه الله -: "فأما الكلام الواجب كتحذير الضرير من البئر أو من يخاف عليه نارًا أو حية أو حريقًا ونحو ذلك فله فعله؛ لأن هذا يجوز في نفس الصلاة مع إفسادها فهاهنا أولى"، المغني. [المغني لابن قدامة: 2/240].

ثالثًا: مما لا يوجب الإنصات أن يتكلم الخطيب بكلام باطل شرعًا، وقد ورد أن بعض السلف، والآثار موجودة في مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة، كانوا لا ينصتون للحجاج إذا قام يلعن عليًا على المنبر؛ لأن الحجاج كان يلعن عليًا على المنبر، فكان بعض السلف جالسين فيتكلم بعضهم، بعض الناس استشكل، يقول لهم: كيف تتكلمون؟ قالوا: إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا"، [مصنف عبد الرزاق الصنعاني: 5432]. قال ابن حزم - رحمه الله -: كان الحجاج وخطباؤه يلعنون عليًا وابن الزبير - رضي الله عنهما - [المحلى بالآثار: 3/271]. وذكر ابن عبد البر أن عبد الله بن عروة كان ينصت للخطيب فإذا شتم عليًا تكلم ويقول: إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا" [التمهيد: 19/35]، وإذا كان في مكان لا يسمع فيه كلام الخطيب أو انقطع الصوت فهل يلزم الإنصات؟ جمهور العلماء على حرمة الكلام أثناء الخطبة حتى لو كان لا يسمعها لبعد أو غيره، خالف الشافعية في هذا، لكن الجمهور على عدم الكلام وحتى لو ما سمع، طبعًا هو قد يسمع وقد لا يسمع، وقد يسمع كلامًا غير مفهوم، ما هو دليل الجمهور؟ عموم الأدلة الدالة على تحريم الكلام في خطبة الجمعة، فهذا يشمل من يسمع ومن لا يسمع، من يفهم الكلام ومن لا يفهم، يعني لو كان أعجميًا والخطيب يخطب بالعربية وهذا لا يفهم شيئًا هل يجوز له أن يتكلم لأنه لا يفهم شيئًا؟ لا، قد روى الإمام مالك - رحمه الله - في الموطأ عن عثمان بن عفان أنه كان يقول في خطبته -قل ما يدع ذلك إذا خطب- : إذا قام الإمام يخطب يوم الجمعة فاستمعوا وأنصتوا فإن للمنصت الذي لا يسمع من الحظ مثل ما للمنصت السامع، فإذا قامت الصلاة فاعدلوا الصفوف وحاذوا بالمناكب"، [رواه مالك في الموطأ: 441].  

إذن يستمع وينصت، ولو ما فهم، أو ما سمع الصوت، أو ما كان يعرف معنى الكلام، وعدد من الحاضرين أحيانًا قد تكون بعض أجزاء الخطبة فوق فهمهم، يعني ربما يقول الخطيب شيئًا نقلًا عن بعض العلماء، ينقل كلاماً متيناً أو كلاماً صعباً ما يفهم، عامي جالس ليس لأنه لا يسمع الصوت، لكن لأنه لا يفقه الحديث، إذًا يجب الإنصات في كل الحالات، والاستماع شيء والإنصات شيء آخر، ولذلك فرق الله تعالى بينهما فقال: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ  [الأعراف: 204]، فالحاضر مأمور في الخطبة بشيئين الاستماع والإنصات، فمن قرب من الإمام فقد قدر عليهما، ومن بعد عنه فقد قدر على أحدهما وهو الإنصات، فيجب عليه أن يأتي بما قدر عليه، قال الشيخ السعدي - رحمه الله -: والفرق بين الاستماع والإنصات أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه، وأما الاستماع له فهو أن يلقي سمعه ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع، يعني ممكن واحد ينصت ولا يستمع، ما يتكلم أبدًا ولا يشتغل بأي شيء، لكن القلب في وادٍ آخر، فالمأموم مطالب بالأمرين بالاستماع وبالإنصات، أن يحضر قلبه، ويلقي سمعه، ويكف عن كلام غيره، وعن الإشغال للآخرين، والانشغال هو أن ما يشغل نفسه، والإنصات يكون الخطيب الذي يريد أن يصلي عنده، يعني لو قال: مكبرات الصوت توصل الصوت اليوم إلى أماكن بعيدة، أنا إذا أوقفت سيارتي على بعد مائة متر من المسجد اسمع الصوت، فلو كنت أنا وصاحبي، أو أنا وابني آتين إلى المسجد هل يلزم أن ننصت من بعد أو لا يلزمنا الإنصات إلا إذا دخلنا المسجد؟ وقد آتي إلى مسجد فأسمع خطبة غيره وأنا في طريقي إلى المسجد الذي أريده فهل يلزمني أن أنصت إلى خطبة الغير أيضًا؟ الجواب : إذا مر الإنسان من عند مسجد والخطيب يخطب وهو لا يريد أن يصلي في ذلك المسجد، وإنما يريد الصلاة في مسجد آخر، فلا يلزمه الإنصات، ويبدأ الإنصات من لحظة سماع الخطبة في المسجد الذي يقصده وإن لم يصل إليه، قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: الكلام والإمام يخطب حرام لا يجوز سواء كنت في المسجد أو مقبلًا إلى المسجد، إلا إذا كنت تريد أن تصلي عند شخص آخر ومررت بمسجد قد شرع خطيبه في الخطبة فلا يلزمك أن تنصت؛ لأنك لا تقصد هذا المسجد، ويلزمك الإنصات للخطيب حتى وإن كان الصوت غير واضح، لكن إذا كان غير واضح لا شك أنه أهون، لأنك لو أنصت لا تستفيد شيئًا، لقاءات الباب المفتوح [لقاء الباب المفتوح: 115/11]. فإذن أنت لو جئت إلى مسجد قاصدًا أن تصلي فيه وسمعت الخطبة من خارج المسجد تنصت من حين سماعك، فلو كنت مع ولدك أو صاحبك ماشيين إلى المسجد، والخطيب يخطب، والصوت مسموع فلا تحدث صاحبك ولا ولدك بل أنصتا .

هنا تأتي مسائل في قضية الإنصات للخطبة، ما حكم رد السلام؟ وما حكم السلام؟ وما حكم الحمد بعد العطاس؟ وما حكم التشميت؟ وما حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ونحو ذلك، قال الترمذي - رحمه الله - في سننه: "اختلفوا في رد السلام وتشميت العاطس، فرخّص بعض أهل العلم في ردّ السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب، وهو قول أحمد وإسحاق، وكرِه بعض أهل العلم من التابعين وغيرهم ذلك وهو قول الشافعي" [سنن الترمذي: 2/388] واختارت اللجنة الدائمة للإفتاء عدم الجواز فقالت في فتواها: لا يجوز تشميت العاطس ولا رد السلام والإمام يخطب على الصحيح من أقوال العلماء؛ [فتاوى اللجنة الدائمة: - 1 (8/ 242]. لأن كلاً منهما كلام، يعني رد السلام كلام، وتشميت العاطس كلام، وهو ممنوع والإمام يخطب لعموم الحديث، يعني حتى لو كان بذكر الله، لو قال واحد: الإمام يخطب أنا أريد أن أقرأ الفاتحة، لماذا ما أعلم الذي جنبي سورة من القرآن؟ نقول: لا يجوز أن تتكلم ولو بالقرآن، وجاء أيضًا في فتاوى اللجنة الدائمة: "لا يجوز لمن دخل والإمام يخطب يوم الجمعة إذا كان يسمع الخطبة أن يبدأ بمن في المسجد بالسلام وليس لمن في المسجد أن يردوا عليه والإمام يخطب". [فتاوى اللجنة الدائمة:  - 1 (8/ 243]. وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: السلام حال خطبة الجمعة حرام، فلا يجوز للإنسان إذا دخل والإمام يخطب الجمعة أن يسلم ورده حرام أيضاً". [لقاء الباب المفتوح: 56/17]. يعني لا يجوز للإنسان إذا دخل والإمام يخطب أن يسلم، والرد عليه حرام أيضًا، ووجه كون رده حرام أنه كلام، وهذا خطاب شخص لا يستحق أن يرد عليه، لأنه خالف، لا لأن الكلام الذي يقوله باطل، لكن التوقيت باطل، والقاعدة أن كل من سلم في حال ليس له أن يسلم فيها فإنه لا يستحق الرد، لو سلم عليك واحد وأنت تقضي حاجتك، هو يعرف أنك داخل الخلاء يسلم عليك، فلا يستحق ردًا، وأيضًا فإنه قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت [رواه البخاري: 934، ومسلم: 851]. مع أنك ناه عن منكر، يعني لو واحد يتكلم وقلت له: أنصت، أنت وإياه تأثمان، وإثمه أشد، ولذلك ابن عمر قال : أما صاحبك فحمار، وأما أنت فلا جمعة لك، هذا قاله عندما قال واحد لشخص يتكلم في الخطبة: أنصت، واحد يتكلم، قال له الذي بجانبه: أنصت، قال له : أما صاحبك فحمار؛ لأنه ينشغل ويتكلم أثناء الخطبة كالحمار يحمل أسفارًا، ما يستفيد شيئاً من العلم،  وأنت لا جمعة لك للحديث، فتسقط عنه ولا أجر له فيها، فإذن إذا كان النهي عن المنكر بقول أنصت لا يجوز، فكذلك رد السلام وتشميت العاطس، وحول تسمية النبي ﷺ للأمر بالإنصات لغوًا مع أنه كلام شرعي في الأصل فلماذا سماه لغوًا؟

قال الشيخ الألباني - رحمه الله -: فإن قول القائل أنصت لا يعد لغة من اللغو؛ لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومع ذلك فقد سماه ﷺ لغوًا لا يجوز، وذلك من باب ترجيح الأهم وهو الإنصات لموعظة الخطيب على المهم وهو الأمر بالمعروف في أثناء الخطبة، وإذا كان الأمر كذلك فكل ما كان في مرتبة الأمر بالمعروف فحكمه حكم الأمر بالمعروف، فكيف إذا كان دونه في الرتبة فلا شك أنه حينئذ بالمنع أولى وأحرى وهو من اللغو شرعًا. [جامع تراث العلامة الألباني في الفقه: 6/167].

وجاء في الآثار عن بعض السلف أنه لا حرج إذا رأى شخصًا يتكلم أن يذكره بوضع أصبعه على شفتيه لأنه ليس كلامًا، هذه إشارة، فتكون هذه هي الحل بالنسبة لقضية لو رأى شخصًا يتكلم أو أكثر، ناس يتكلمون أثناء الخطبة يذكرهم يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر بوضع أصبعه على شفتيه، ومن عطس فليحمد الله في نفسه ولا يشمته أحد من الحاضرين والإمام يخطب، فإن شمته بين الخطبتين عند سكوت الإمام أو بعد نزوله من المنبر فلا بأس بذلك، يعني أخر رد السلام، أخر التشميت، إلى أن ينتهي الإمام من كلامه، إلى أن يسكت الخطيب عن الكلام، قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: لا يشرع تشميته لوجوب الإنصات [مجموع فتاوى ابن باز: 12/339].

يعني أثناء الخطبة فكما لا يشمت العاطس في الصلاة كذلك لا يشمت العاطس في حال الخطبة، تفاجأ أحيانًا بشخص والإمام يخطب وأنت جالس أن يمد يده للمصافحة فهل تصافح أم لا؟ قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: تضع يدك في يده إذا مدّها بدون كلام وتعلمه بعد انتهاء الخطبة أن هذا لا ينبغي له، وأن المشروع له إذا دخل والإمام يخطب أن يصلي ركعتين تحية المسجد ولا يسلم على أحد حتى تنتهي الخطبة.

وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: وأما مصافحة من مد يده فهو أهون، والأولى عدمه لأنه مشغل إلا أن يخشى من ذلك مفسدة فلا بأس أن يصافح اتقاء المفسدة لكن بدون كلام، وتبين له بعد الصلاة أن الكلام حال الخطبة حرام، فتاوى الشيخ ابن عثيمين، [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين: 16/150].

إذا عطس الخطيب هل يختلف الأمر أم لا؟ قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "فإذا كان العاطس الخطيب فحمد واستمر في خطبته فالحكم كذلك - يعني إذا ما ترك لهم مجالًا ليشمتوه وما سكت سكتة يتمكنون فيها من تشميته فلا يشمتوه وإن حمد فوقف قليلًا ليشمت فلا يمتنع أن يشرع تشميته" [فتح الباري لابن حجر: 10/606].

إذن إذا عطس الخطيب أثناء الكلام وقال: الحمد لله، وسمعه المأمومون وسكت سكتة بعد حمده بحيث يتمكنون من تشميته فلا بأس بذلك، لماذا؟ لأنهم تكلموا لما سكت، وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - الذي أراه في هذه المسألة أنه ينبغي للإمام أن يحمد سرًا حتى لا يوقع الناس في الحرج، فإن حمد جهرًا فإن استمر في الخطبة فلا يشمت لأجل ألا يشغل عن استماع الخطبة وإلا يعني إذا سكت سكتة فلا بأس"، [الشرح الممتع: 5/109].

، ماذا بالنسبة للصلاة على النبي ﷺ وقت الخطبة؟ قلنا: إن العامة الآن عندهم أخطاء كثيرة، الخطيب إذا قال: فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، كلهم لا إله إلا الله، هذا ما يحصل منهم ،كل المساجد تقريبًا يجهرون مع أنه ما انتهى من الخطبة لا زال، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر، هو لا يزال يتكلم، وهم يتكلمون بل ويجهرون، وكذلك القول لما يقول: وصلوا على نبيكم،كلهم اللهم صل على محمد، ويجهرون وهو يتكلم وهم يتكلمون، ينبغي للمسلم عند سماعه اسم النبي ﷺ أن يصلي عليه هذه قاعدة وتكون الصلاة عليه في أثناء الخطبة في نفسه يعني سرًا؛ لأن ذلك مما لا يشغل عن سماع الخطبة أن تصلي عليه سرًا" [بدائع الصنائع: 1/264]، وشرح منتهى الإرادات [شرح منتهى الإرادات: 1/ 323]، وبدائع الصنائع في فقه مذهب الأحناف، وشرح منتهى الإرادات في مذهب الحنابلة، قال الإمام أحمد: "لا بأس أن يصلي على النبي ﷺ فيما بينه وبين نفسه"، [المغني لابن قدامة: 2/239]، وفي فتاوى اللجنة الدائمة: "إذا صلّى الخطيب على النبي ﷺ فيصلي المستمع من غير رفع صوته" [فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (8/217].

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في فتاويه: "تشرع الصلاة على النبي ﷺ إذا مر ذكره ﷺ في خطب الجمعة والعيد ومجالس الذكر لقولهﷺ رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي"ﷺ [مجموع فتاوى ابن باز: 12/338]. وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: "إذا ذكر الخطيب النبي ﷺ: "فإن المستمع يصلي عليه سرًا حتى لا يشوش على من حوله" [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين: 16/166].

فإذن واضح الكلام مطرد وواحد، لا جهر من المأموم، لا جهر لا بذكر ولا تهليل ولا صلاة على النبي ﷺ ولا تشميت عاطس ولا رد سلام، وهؤلاء المأمومون في المساجد، اسمع وهو يقول في الخطبة: صلوا على نبيكم، كلهم يقول: اللهم صل على محمد جهرًا، وأحيانًا حتى بعض طلبة العلم ينسى مع المجموعة، وكذلك إذا قال: اذكروا الله، كلهم رفعوا الصوت بالتهليل، هذا خطأ واضح، لكن هذا مثال كيف أن العامة -سبحان الله- يغلبون؟ ولو نبهتهم في الخطبة وقلت بعدها خالفوك، التأمين على الدعاء عندما يدعو الخطيب ينبغي أن يؤمن المأموم سرًا حتى لا يشوش على الحضور، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "والسنة في الصلاة على النبي ﷺ أن يصلي عليه سرًا كالدعاء" [مجموع الفتاوى: 22/468].

يعني أيضًا التأمين يكون سرياً، وفي شرح منتهى الإرادات كذلك أن التأمين على الخطيب سرًا"، [شرح منتهى الإرادات: 1/ 190] وقال الشيخ ابن عثيمين: "وكذلك التأمين على دعاء الخطيب لا بأس به بدون رفع الصوت لأن التأمين دعاء"، [لقاء الباب المفتوح: 56/17]. من الذي يفعل هذا في المساجد الآن؟ من الذي يطبقه؟ اللهم أعز الإسلام والمسلمين آمين، العن اليهود وال... آمين، وصوت التأمين يرتفع بحسب حساسية الدعاء، من أمركم بهذا؟ خلاص مخالفة ولكن لا في فائدة؛ لأنه شيء استمرؤه واستمروا عليه، وانتشر وشاع وتعودوا عليه، والعاطفة لها دور، الصلاة على النبي ﷺ وكذلك قضية التأمين، خصوصًا إذا جاء على المسلمين مصائب ونكبات ومذابح، ودعوت على أعدائهم الذين فعلوا ذلك، يقول لك: لازم التفاعل بالجهر/ مع أنه مخالف للأمر النبوي، ولا كلمة أنصت .

ما حكم الكلام وقت صعود الإمام المنبر وقبل الشروع في الخطبة وبعد الانتهاء منها وبين الخطبتين؟ إذا صعد الإمام المنبر وشرع في الخطبة فلا يجوز الكلام، أما وقت صعوده المنبر، وقبل أن يشرع في خطبته، أو بعد أن ينتهي منها فالجمهور على جوازه، الكلام جائز، أثناء الأذان عطست، حمدت الله، شمتك من بجانبك، هل يوجد مانع بعد ما انتهى المؤذن وقبل أن يبدأ الخطيب دخل واحد وسلم رديت السلام؟ ما في مانع بين الخطبتين، كان فيه واحد مزعج طول الخطبة الأولى من وراء، فقلت : يا أخي أنصت، اتق الله، بين الخطبتين لا مانع، فإذن إذا سكت الإمام قبل أن يتكلم أثناء الخطبتين، بعد انتهاء الخطبة فلا حرج، قال النووي - رحمه الله -: "واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه لا بأس بالكلام بعد خروج الإمام وجلوسه على المنبر ما لم يشرع في الخطبة؛ وبهذا قال جمهور العلماء وهو المنقول عن الصحابة رضوان الله عليهم"، [المجموع: 4/555]، والنبي ﷺ قال: إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب  هذه واو الحال: والإمام يخطب يعني: حال كونه يخطب فقد لغوت [رواه البخاري: 930، ومسلم: 851]، فهذه الجملة الحالية كما قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في شرح الحديث تخرج ما قبل خطبته من حين خروجه، وما بعده إلى أن يشرع في الخطبة" [فتح الباري لابن حجر:2/414]. فلو خرج عليهم وهو يمشي، وهو يصعد المنبر، وهو يجلس، والمؤذن يؤذن ولما انتهى المؤذن قبل أن يقوم، وإذا قام لا بأس بالكلام، إذا شرع بالكلام الإنصات والاستماع التام، قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - يجوز الكلام قبل الخطبة، وبعد الخطبة، ولو بعد حضور الخطيب، ولو بعد الأذان، ما دام لم يشرع في الخطبة، ويجوز كذلك بعد انتهاء الخطبة، وسواء كان ذلك بعد انتهاء الخطبة الأولى، أو بعد انتهاء الخطبة الثانية، لأن النبي ﷺ قيد الحكم بما إذا كان الإمام يخطب والمقيد ينتفي الحكم به بانتفاء القيد، الشرح الممتع، الجزء والصفحة& المقيد ينتفي الحكم به بانتفاء القيد، وأما حديث : إذا صعد الإمام المنبر فلا صلاة ولا كلام  فهو حديث باطل لا أصل له، وبعض الأحناف يأخذ به، ويمنع من جاء متأخرًا من صلاة الركعتين، وهذا ترك للحديث الصحيح حديث سليك الغطفاني: ركعت ركعتين؟ قال : لا، قال:  قم فاركع ركعتين  تخريج الحديث& ترك للحديث الصحيح والأمر، وأخذ بحديث باطل لا أصل له :  إذا صعد الإمام المنبر فلا صلاة ولا كلام  .

ما حكم كلام الخطيب إذا كان خارجًا عن موضوع الخطبة؟ أما المالكية فقد قالوا: لا يجوز للخطيب أن يتكلم بغير الخطبة إلا لحاجة، وقيل: يباح، وذهب إليه جمهور الشافعية وبعض الحنابلة، ولعل الأول هو الراجح؛ لأن الخطيب مأمور بمواصلة الخطبة إذا لم تكن حاجة لكي لا يفوت على المستمع فائدة الاستماع، أما وقت الحاجة فلا بأس به لما روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: جاء رجل والنبي ﷺ يخطب الناس يوم الجمعة فقال: أصليت يا فلان؟  قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين [رواه البخاري: 930، ومسلم: 875] قال الإمام النووي - رحمه الله -: في الكلام على رواية الحديث "وفي هذه الأحاديث أيضًا جواز الكلام في الخطبة لحاجة، وفيها جوازه للخطيب وغيره" [شرح النووي على مسلم: 6/164]. يعني إذا كان للحاجة يتكلم المأموم مع الخطيب، لا مانع، قال ابن القيم - رحمه الله -: "وكان يقطع خطبته للحاجة تعرض، أو السؤال من أحد أصحابه فيجيبه، ثم يعود إلى خطبته فيتمها، وكان ربما نزل عن المنبر لحاجة ثم يعود فيتمها، كما نزل لأخذ الحسن والحسين - رضي الله عنهما - فأخذهما ثم رقي بهما المنبر فأتم خطبته، وكان يدعو الرجل في خطبته فيقول : تعال يا فلان اجلس، يا فلان صل، يا فلان، وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم بالصدقة وحضهم عليها"، [زاد المعاد: 1/413]، فإذن كلام الخطيب في غير موضوع الخطبة جائز للحاجة: أنصت يا فلان مثلًا، واحد جواله شغال موسيقى، موضوع الخطبة في شيء آخر لكنه ينهى عن المنكر، ناس يقفون في الشمس فأراد أن يقترب من هؤلاء لا مانع، وكما أن المسلم مأمور حال الخطبة بالاستماع والإنصات فهو مأمور بقطع الحركة، وهذا تنبيه على شيء يقع فيه بعض الناس في الخطبة، وينبغي تربية الأولاد عليه، وهو أن المطلوب من الحاضر الجمعة ليس فقط السكوت، وإنما السكون أيضًا، بمعنى عدم الانشغال بالحركة؛ لأن بعض الناس قد تكثر منه الحركة وهو جالس في الخطبة، فإذًا المطلوب أمران السكوت، والسكون، والهدوء، وعدم الحركة والإزعاج، وعدم العبث، فكما أنه لا يتكلم والإمام يخطب، فكذلك لا يعبث، ولا يمس الحصى، ولا يلعب بكذا، ولا يخطط في الأرض، وما أشبه ذلك لقول النبي ﷺ:  من مس الحصى فقد لغا [رواه أحمد: 1025، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح].

ومعلوم أن مس الحصى ليس كلامًا، ومع ذلك جعل الخطبة لاغية، جعل فعله لغوًا؛ للعبث، قال النووي - رحمه الله -: "فيه النهي عن مس الحصى وغيره من أنواع العبث في حالة الخطبة" [شرح مسلم : 6/147]. قال الشيخ صالح الفوزان في الملخص الفقهي: " ولا يجوز له العبث حال الخطبة بيد أو رجل أو لحية أو ثوب أو غير ذلك، لقولهﷺ‏ :‏ من مس الحصا فقد لغا ومن لغا؛ فلا جمعة له ‏‏ وفي حديث أخر: ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً ؛ ولأن العبث يمنع الخشوع، وكذلك لا ينبغي له أن يتلفت يمينًا وشمالًا، ويشتغل بالنظر إلى الناس، أو غير ذلك؛ لأن ذلك يشغله عن سماع الخطبة ولكن ليتجه إلى الخطيب كما كان الصحابة يتجهون إلى النبي ﷺ حال الخطبة". [الملخص الفقهي: 1/142]، وإذا وجدت الحاجة للحركة أثناء الخطبة فلا حرج كما إذا عرضت للمصلي حاجة كدفع نعاس فأراد أن يبدل مكانه مع من بجانبه للحديث الوارد في ذلك، أو قام لقضاء حاجة أو أوجعه شيء فاحتاج إلى حركة فلا بأس والدليل قول النبي ﷺ  إذا نعس أحدكم يوم الجمعة فليتحول من مجلسه ذلك [رواه أبو داود: 1119، والترمذي: 526، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 809]. وجاء: وليتحول صاحبه مكانه  [رواه البيهقي في السنن الكبرى: 5928، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 812].

وهذه يفهمها من عنده فقه؛ لأن الذي ما عنده فقه في المسألة لو واحد نعس وأراد يبدل يقول ذاك: ما عندك؟ ما هو فاهم، بل قد ينكر عليه، بل قد يتكلم، قد تصبح القضية أسوأ مما لو بقي في مكانه فقوله: إذا نعس أحدكم يوم الجمعة [رواه أبو داود: 1119، والترمذي: 526، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 809]. زاد البيهقي المرجع&: والإمام يخطب  [رواه البيهقي في السنن الكبرى: 5928، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 812]. تجوز صلاة تحية المسجد أيضًا، ويؤمر بها، وإن كان الخطيب على المنبر يخطب، لحديث سليك الغطفاني المتقدم : صلّ ركعتين وتجوز فيهما  هذا لفظ ابن ماجه: [رواه ابن ماجة: 1114، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة: 1114].

وأيضًا من الحركة الجائزة الإشارة بالأصبع لمن يتكلم كما تقدم، فعن أنس بن مالك قال: دخل رجل المسجد ورسول الله ﷺ على المنبر يوم الجمعة فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فأشار إليه الناس أن اسكت فسأله ثلاث مرات كل ذلك يشيرون إليه إن اسكت فقال له رسول الله ﷺ عند الثالثة: ويحك ماذا أعددتَ لها ، السنن الكبرى وصحيح ابن خزيمة. [رواه البيهقي في الكبرى: 5837، وابن خزيمة في صحيحه: 1796، وصححه الألباني في التعليقات الحسان: 8]. 

ومن الحركة المباحة إصلاح مكبر الصوت إذا احتيج إلى ذلك، إغلاق الجوال لمن نسيه فرنّ؛ لأن في إبقائه تشويشًا على الخطيب والمصلين وإشغالًا لهم عن سماع الخطبة وحينئذ لا يكون لغوًا، بل لابد أن يفعله، بل يجب أن يفعله إذا كان يخرج منه صوت الموسيقى، حرام عليه إبقاؤه لكن الذي يعبث بالساعة، ويعبث بالجوال، ويعبث بالملابس، ويعبث بالأرض والفراش، هذا الذي حذر منه النبي ﷺ لقوله: من مسّ الحصى فقد لغا [رواه أحمد: 1025، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح]، وقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - في فتح الباري عن جمهور العلماء أنهم قالوا فيمن احتاج أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وقت الخطبة أنه يفعل ذلك بالإشارة" [فتح الباري لابن حجر: 2/415]، وعلى هذا فالحركة اليسيرة لغرض صحيح جائزة وليست عبثًا، واحد عطش وأراد أن يشرب الماء، عطش أدركه العطش، قال طاووس - رحمه الله -: "يشرب الرجل الماء إذا عطش والإمام يخطب يوم الجمعة" [أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: 5434]، ومسألة السواك، بعض الحاضرين يستعمل السواك في الخطبة، قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في فتاويه: السنة ترك التسوك وسائر العبث من حين الشروع فيها -يعني في الخطبة- إلى أن يفرغ منها عملًا بالأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك" [مجموع فتاوى ابن باز: 12/336].

وقال الشيخ ابن عثيمين: "السواك أثناء خطبة الجمعة مما يشغل الإنسان عن استماع الخطبة، واستماع الخطبة واجب، ولكن إذا كان السواك من أجل استماع الخطبة بحيث أصابه نعاس فتسوك لإيقاظ نفسه وطرد النعاس فهذا لا بأس به" [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين: 16/167].

من المحرمات أثناء الخطبة التشاغل بالبيع والشراء، وقد نهى الله تعالى عن البيع إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فقال سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ  [الجمعة: 9]، ومذهب جمهور العلماء أن التحريم متعلق بالنداء الثاني الذي يكون بعد جلوس الإمام على المنبر؛ لأنه لم يكن على عهد النبي ﷺ إلا أذان واحد فيتعين أن يكون هذا هو المراد بالآية  إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ  [الجمعة: 9]، يعني النداء الثاني عندنا الآن، ولأن البيع عند هذا الأذان يشغل عن الصلاة ويكون ذريعة إلى فواتها أو فوات بعضها، قال ابن قدامة - رحمه الله - والنداء الذي كان على عهد رسول الله ﷺ هو النداء عقيب جلوس الإمام على المنبر فيتعلق الحكم به دون غيره، ولا فرق بين أن يكون ذلك قبل الزوال أو بعده"، [المغني لابن قدامة: 2/220].

وتحريم البيع ووجوب السعي يختص بالمخاطبين بالجمعة، فأما غيرهم من النساء والصبيان والمسافرين فلا يثبت في حقهم ذلك؛ لأن الله تعالى إنما نهى عن بيع من أمره بالسعي، وبناء عليه لو كان المسافر في المطار أثناء خطبة الجمعة فسحب عملة من الصراف بدل عملة بعملة، وضع ريالات وأخذ دولارات، واسم هذه العملية بيع، وكذلك الدراهم والدنانير والذهب والفضة صرف، بيع، لو اشترى تذكرة ببطاقة ائتمانية، اشترى علبة بيبسي، علبة عصير من المكينة، هذا بيع فحرام أن يعمله لو كان أثناء الخطبة بعد النداء الثاني، وهو من أهل الوجوب، لكن المسافر في المطار مثلًا لا تجب عليه الجمعة، ولو كان الإمام يخطب في جامع المطار، عند من يقول -وهم الجمهور- إن المسافر تسقط عنه الجمعة، وبعض الأحيان تكون الرحلة أصلًا أثناء وقت الصلاة، على أية حال هذا غير المخاطب بالجمعة، يعني الذي لا تجب عليه الجمعة لو باع واشترى جائز لأنه ليس ممن تجب عليه الجمعة، في بعض الأحيان يجوز الشراء ولا يجوز البيع، لأن الطرف الآخر مخاطب بالجمعة فلا يجوز، وهنا تأتي قضية هل العقد باطل ويبطل على من؟ لأن فيه طرف جائز التصرف، وطرف ممنوع من التصرف شرعًا، على أية حال التحريم متعلق بالنداء الثاني، وهذا يختص بالمخاطبين بالجمعة، فأما غيرهم من النساء والصبيان والمسافرين فلا يحرم، افرض امرأة تبيع على الرصيف، عندها صرة تبيع منها، هي يجوز لها أن تبيع بعد النداء الثاني، لكن المشتري منها إذا كان رجلًا من أهل الوجوب يأثم لو اشترى، فلو أن امرأة اشترت من امرأة بعد النداء الثاني جاز، فإذًا النساء والصبيان والمسافرون من ليس من أهل الوجوب لا يثبت في حقه ذلك؛ لأن الله إنما نهى عن البيع من أمره بالسعي، فغير المخاطب بالسعي لا يتناوله النهي؛ ولأن تحريم البيع معلل بما يحصل له من الاشتغال عن الجمعة، وهذا معدوم في حقهم، وإذا كان أحد المتبايعين مخاطبًا والآخر غير مخاطب حرم في حق المخاطب وكره في حق غيره، لما فيه من الإعانة على الإثم، يعني المرأة خارج المسجد ما تبيع للرجل بعد النداء الثاني حتى لا تعينه على الإثم، ويحتمل أن يحرم أيضًا، يقول ابن قدامة في المغني: لقول الله تعالى  وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المغني لابن قدامة: 2/220].

فيكون حرام عليها أن تبيع الرجل لئلا تعينه على الإثم وهذا -يعني التحريم-  قول مالك والشافعي، وهو مذهب أحمد، وعند الجمهور يصح البيع ويأثم الطرفان وعند أحمد البيع باطل ويأثم الطرفان، البيع باطل، لا السواك انتقل إليه، ولا الثمن انتقل إلى البائع، البيع باطل لا السواك صار ملكًا للمشتري، ولا الثمن صار ملكًا للبائع.

هذا ما كان تبقى لدينا من أحكام الجمعة، نسأل الله أن يفقهنا في الدين وأن يرزقنا اتباع سنة سيد المرسلين، والله تعالى أعلم، وصل الله على نبينا محمد