الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
قصة طالوت وجالوت من خلال آيات سورة البقرة
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة: 246 - 249].
المعنى الإجمالي لقصة طالوت وجالوت في آيات سورة البقرة
تشير هذه الآيات الكريمة إلى قصة وقعت لبني إسرائيل في فترة من فترات حياتهم في الأرض المقدسة، كانوا مضطهدين مهزومين أمام أعدائهم، وقد سلب أعداؤهم منهم التابوت الذي فيه سكينة من الله وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وقد شعر القوم بالذل ومرارة الهزيمة والهوان، وكان هذا الشعور عند الجميع العامة والملأ، فأرادوا أن يغيروا واقعهم الذليل، وأن يبدلوا ذلهم عزة، وهزيمتهم نصراً، وعلموا أن السبيل الوحيد لذلك هو: الجهاد في سبيل الله.
فهذه قصة بداية الصحوة في هذه الفترة، استيقظت العقيدة في نفوس وجهائهم، وكانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما مات نبي خلفه نبي.
ولا شك أن شدة الذل والاستضعاف يولد في النهاية التحدي، وإرادة التغلب والإنقاذ من هذه الورطة التي يعيش فيها المستضعفون.
وهذا النبي الذي لا نعلم اسمه كان معهم في فترة الاستضعاف، وليس من المهم معرفة اسمه، ولذلك أبهم في الكتاب العزيز، وقال الله: إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ليس المهم ما هو اسم النبي، المهم أنهم قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [البقرة: 246] أرادوا أن يقاتلوا مع ملك ولم يريدوا أن يقاتلوا مع النبي، هات ملكاً نقاتل في سبيل الله.
ولما كان النبي فيهم هذا يعلم طبيعتهم المائعة، وهمتهم الرخوة، وأنهم لو أمروا بالقتال فسوف يرتدون عنه، وينكصون ويقعدون، قال لهم متأكداً: هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ ؟ يريد التأكد من هذه الهمة وهذه الروح الجهادية التي استيقظت الآن؛ لأنهم قالوا: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يعني القوم يريدون الجهاد، وهذا النبي الكريم يريد أن يتأكد من حالهم، فقال: هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ ؟ فأظهروا الإيمان، وحب الجهاد، وإرادة الخلاص من الذل والصغار، ولكنهم في أول اختبار ظهرت طبائع نفوسهم التي امتلأت بحب الدنيا والظهور فيها، وعدم التسليم لأمر الله -تعالى-.
هم طمأنوا نبيهم أنهم سوف يقاتلون ولا يتخلفون، وإنما فقط الذي يمنعهم من عدم الجهاد هو عدم وجود ملك، لو وجد ملك سيسارعون للقتال، وبينوا له الباعث القوي للقتال وقالوا: إنه الذل الذي يعيشونه: وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا [البقرة: 246]؟
فلما سمع نبيهم بذلك، ولاحظ حماستهم، واندفاعهم، جاء الوحي من الله -تعالى- بأن الملك الذي عينه الله لقيادتهم في الجهاد هو طالوت، وأنه هو الذي سيقودهم إلى النصر والعزة وتحرير أرضهم من المغتصبين، لكن هؤلاء القوم لم يتخلصوا من حب الدنيا أبداً، ولذلك في أول اختبار بمجرد أن أعلمهم باسم الملك الذي سيقودهم قالوا: أنى يكون له الملك علينا؟ اعتراض أولي وفوري على اسم القائد، لماذا فلان؟ بدلاً من أن يسلموا لأمر الله جاءت الطبيعة اليهودية -كما مر معنا في قصة البقرة- لتعترض: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ [البقرة: 247]؟
بعد أن استعدوا قبل قليل للقتال إذا بهم يعترضون على القائد الذي عين من عند الله -تعالى- لأنه قال: إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [البقرة: 247] فلم يكن منتخباً منهم أو معيناً من نبيهم فقط وإنما كان من الله. وهذا الاعتراض ولا شك كان دليلاً واضحاً على تلكؤ القوم في تنفيذ الأوامر.
وتمضي القصة لتبين بأنهم فوجئوا إذ كانوا يتوقعونه ملكاً قادماً من بيت الملك، وأن هذا طالوت ليس من هذا البيت، ثم إنه فقير.
وبين القوم تعلقهم بالدنيا بقولهم: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ، عجب النبي لموقف القوم الذين كانوا يريدون ملكاً يقاتلون وراءه، فبين لهم نبيهم المواصفات التي تؤهله للملك، وأنه أنسب الناس حسب الميزان الرباني: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ومتمكناً منه، وَالْجِسْمِ يعني: قدرة على القيادة وتحمل أعباء القتال: وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 247].
وأراد نبيهم أن يبين لهم بالتأكيد آية وعلامة على صحة تولي هذا الملك عليهم، فقال لهم: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ [البقرة: 248] يأتيهم التابوت بدون قتال ولا حرب، الملائكة ستحمله وتأتي به إليهم، وهذا دليل على أن طالوت هو الملك من عند الله.
و سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ السكينة: هي الراحة والرضا واليقين.
وفي هذا التابوت أشياء مادية ورثوها عن آل موسى وآل هارون.
ولما جاءت الآية سلم القوم مكرهين، وافقوا على تملك طالوت.
وتسلم الملك والسلطان، وعبأ قومه للقتال وجهزهم لمحاربة الأعداء، ولما خرج بهم للمعركة الفاصلة أراد أن يختبر حماستهم وطاعتهم، وأن يبلوا هذا الفورة التي حصلت في البداية؛ لأنه لا بد قبل المعركة من اختبارات للتأكد من حماسة الجند واستعداداتهم للمواجهة، لا بد من اختبارات صغيرة قبل الاختبار الكبير، {فلما فصل} بهم وغادر البنيان والعمران، قال: إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ، فعندما تمرون عليه لا تشربوا منه، فمن خالف أمري فليذهب عني وليس من جيشي ولا يتبعني؛ لأنه ليس جندياً يستحق أن يكون في هذا الجيش، لكن الذي لم يشرب والتزم الأمر وأطاع فإنه يبقى معي ويقاتل.
ثم إنه أراد أن يجعل فرجة وفسحة في الأمر؛ لأن في القوم عطشى فقال: إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة: 249] يبل بها فمه ويطفئ عطشه.
ولما وصلوا النهر عصوا طالوت وشربوا منه إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ التزموا الأمر وأطاعوه.
ترك طالوت جموع العصاة المخالفين، وسار بالقلة الباقية المطيعة حتى وصل بهم إلى أرض المعركة، فلما نظر جنوده إلى جنود الأعداء خافوا قتالهم، وجبنوا عن مواجهتهم، وكان أعداؤهم الكفار بقيادة جالوت الكافر، وكانوا أكثر عدداً منهم، فهنا حصل امتحان آخر قبل أن تنشب المعركة وهي أن بعضهم قالوا: لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ ، وهم الأكثرية، ولا قدرة لنا على حربهم.
وبعضهم هؤلاء الخائفون جبنوا عن المعركة، وبقي مع طالوت قليل من القليل الأول من القليل الأول، وهم الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ وهؤلاء القلة: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ [البقرة : 249] دخلوا المعركة مؤمنين بالله، صابرين على بلواه، وبدأت المعركة، فطلبوا النصر من الله واستغاثوا به، وتضرعوا إليه، وقالوا: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 250].
وحقق الله وعده، وأنزل نصره، فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ .
وبرز في المعركة داود ولم يكن نبياً ولا ملكاً وقت ذاك.
برز بقوته وشجاعته وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وآل إليه الأمر بعد طالوت، ومن الله على داود بالملك والحكمة، وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء [البقرة: 251].
بعض الفوائد والدروس المستفادة من قصة طالوت وجالوت
وبعد هذا الملخص للقصة نأتي إلى ذكر بعض الفوائد والدروس المأخوذة منها:
مرحلة الاستضعاف تولد التحدي
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [البقرة: 246]: إن مرحلة الاستضعاف تولد التحدي، وإن شدة الطغيان من الأعداء لا بد أن توقظ أشياء في بعض النفوس، وتنتفض العقيدة في القلوب، ويستيقظ الإيمان.
وهذا ما هو موجود الآن في المسلمين، فإن المسلمين اليوم يعيشون ولا شك مرحلة استضعاف كبرى، فقد تسلط عليهم الأعداء من كل جانب.
ولا شك أننا في هذه المرحلة ينبغي أن نستلهم بعض ما في هذه القصة من الفوائد التي تعين على مواجهة الاستضعاف الذي نعيشه في هذه المرحلة.
لا شك أن التحدي يجب أن يكون موجوداً في نفوسنا، وينبغي علينا ونحن نعيش في هذا الذل الذي فرضه علينا أعداؤنا أن نسعى للخلاص منه، لا يصح أن نستسلم للواقع بأي حال، ولذلك قالوا: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ، فإذا وضحت النية، ووضح الطريق، وأنه الجهاد في سبيل الله هو سبيل الخلاص من الذل، عند ذلك ينقطع نصف الطريق إلى النصر، فإن الهدف لابد أن يكون واضحاً فلا يغشاه الغبش الذي لا يدري معه الشخص أين يسير.
ولما أنهكت الحروب وقهرت الأعداء أولئك القوم، سألوا نبيهم رجلاً يقاتلوا وراءه، وعندما قال لهم نبيهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ [البقرة: 246]؟ ما الذي يمنعنا من القتال ونحن نعيش في غاية الذل؟ ما فائدة العيش في هذا الذل؟
فنلاحظ هنا -أيها الإخوة- أنهم تولوا أول ما تولوا عندما أنكروا إمرة طالوت، كانوا يتوقعون شخصاً، وإذا بشخص آخر يخرج، وأظهروا التولي عن طاعته من البداية أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا ؟
تأسيس الميزان العقدي الإيماني للاصطفاء
ولذلك لا بد أن يتأسس في النفوس الميزان العقدي الإيماني الرباني للاصطفاء، ولا يجوز أبداً أن ننظر إلى قضية المال على أنه ميزان أو على أنه ميزة: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ إذاً، هو فقير.
قال: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء .
طعنوا في طالوت لأمرين:
الأمر الأول: أنه ليس من أهل بيت ملك.
والثاني: أنه فقير.
والله -تعالى- رد هذه الشبهة بقوله: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ .
وقوله: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ بينت أن للقائد صفتين مهمتين:
الأولى: العلم.
والثانية: القدرة.
ولا يستحق أن يكون قائداً ملكاً عليهم إلا إذا جمع بين العلم والقدرة.
هذا العلم والقدرة أهم من الجاه والمال، هم اعترضوا قالوا: هذا ليس بذي جاه: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ [البقرة: 247]؟
والاعتراض الثاني: أنه فقير وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ .
العلم والقدرة أهم من الشرف والمال
الله رد عليهم بصفتين أهم من الصفتين التي اشترطوها هم وفكروا فيهما، فقال لهم: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة: 247] فلماذا كان العلم والقدرة أهم من الشرف والمال؟ أهم من النسب والمال، أهم من الجاه والمال؟
لأسباب:
أولاً: أن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية، يعني كمال حقيقي أن يوجد في الشخص علم وقدرة بخلاف الجاه والمال.
وثانياً: أن العلم والقدرة من الصفات الذاتية للشخص، بخلاف الجاه والمال الذي هو أمر منفصل عن الإنسان، فإن الإنسان قد يكون بغير جاه ولا مال ثم يكتسب جاهاً ومالاً، يكتسبه من شيء خارجي، لكن العلم والقدرة صفات ذاتية في الشخص لا تنفك عنه.
ولذلك من الأسباب: أن العلم والقدرة لا يمكن سلبهما عن الإنسان، لكن المال والجاه يمكن سلبهما عن الإنسان.
الانتفاع بالقوي العالم بأمر الحروب في حفظ البلد ودفع شر الأعداء
وكذلك: فإن العالم بأمر الحروب القوي الشديد على المحاربة يحصل الانتفاع به في حفظ البلد ودفع شر الأعداء أكثر من الانتفاع بصاحب النسب والغني إذا لم يكن عنده علم ولا قدرة على دفع الأعداء.
وقوله تعالى: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ يدل على خلق الله لأعمال العباد وأنها من عنده، الله خلقها فيه، الله خلق فيه العلم، وخلق فيه البسطة في الجسم.
قال بعضهم: إن المراد بالبسطة في الجسم طول القامة، وأنه سمي طالوت؛ لأنه كان طويلاً، وأن طالوت مبالغة من الطول.
ولكن هذا كلام فارغ، فإن طالوت اسم أعجمي وليس مشتقاً من الطول.
ولذلك فإن القول الراجح في البسطة التي آتاها الله طالوت: أنها القوة والشدة.
ولا شك أن العلم والقوة أجل صفات القائد.
وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء ولا يعترض عليه أحد وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 247].
وتأمل كيف ختمت الآية بصفتين من صفات الله مناسبة لما في الآية فقوله: اللَّهُ وَاسِعٌ ، هذا مقابل لقولهم: إنه فقير وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ [البقرة: 247] فقال: الله واسع الفضل، أنتم طعنتم فيه لكونه فقيراً والله واسع الفضل والرحمة، والله يعلم أن القيادة لا تتأتى بالمال، والله قادر أن يفتح عليه من أبواب الرزق والسعة ما يريد.
والله عليم فعلم هذا الشخص، وعليم فيمن يصلح للقيادة، وعليم باصطفائه واختياره سبحانه وتعالى.
وفي قوله: وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ يعني: علامة ملكه، أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وهو صندوق التوراة، فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ الوقار والجلال والهيبة.
وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ لا يهمنا ما هي هذه البقية، هل هي عصا موسى؟ هل هي بقية الألواح التي تكسرت؟ ما هي هذه البقية؟
الله أعلم.
تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ [البقرة: 248] في هذه الخارقة التي تدل علامة ملكه.
وكذلك فإن في قوله: فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ [البقرة: 249]، قد ورد في الحديث عدد هؤلاء، فقد روى البخاري -رحمه الله تعالى- عن البراء، وروى ابن جرير أيضاً عنه قال: كنا نتحدث أن أصحاب محمد ﷺ الذين كانوا معه يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جازه معه إلا مؤمن" [جامع البيان: 5/346].
فإذاً، كم عدد الذين جاوزوا مع طالوت النهر؟
ثلاثمائة وبضعة عشر شخصاً، مثل عدد المسلمين في بدر.
الإيمان في المعركة هو المرجح
ولما غلبت الفئة القليلة في بدر الفئة الكثيرة وهي المشركين كان هذا مثالاً آخر مضافاً إلى الأمثلة التي سبقت مثل قصة طالوت على القاعدة العظيمة التي ذكرها الله بقوله: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249].
وانكسر العدد الكبير أمام العدد اليسير.
وفي هذا دليل على أن الإيمان في المعركة هو المرجح.
وقال أبو الدرداء : "إنما تقاتلون بأعمالكم".
وقال النبي ﷺ: هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم [رواه البخاري: 2896].
فإذا كانت الأعمال فاسدة، والضعفاء مهملون، والصبر قليل، والتوكل ضعيف، والتقوى زائلة؛ فلا سبيل إلى النصر البتة.
فإن الله ذكر أسباب النصر، فقال: اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ [آل عمران: 200]، وقال: وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة: 23]، وقال: إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل: 128]، وقال: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [الحـج: 40]، وقال: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ [الأنفال: 45].
فهذه أسباب النصر وشروطه لما كانت ضعيفة وضئيلة لم يأت النصر، وانحسر سلطان المسلمين.
قال القرطبي -رحمه الله- في وقته وكان وقت قوة للنصارى، كان في أواخر العهد الأندلسي، قال: "فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا، بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد، ولكثرة الطغيان، وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقاً وغرباً، براً وبحراً، وعمت الفتن، وعظمت المحن، ولا عاصم إلا من رحم"[تفسير القرطبي: 3/255].
وفي قوله تعالى: لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ [البقرة: 249] أراد عز وجل أن يقوي قلوب هؤلاء الذين قالوا هذه الكلمة بقوله: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ [البقرة: 249]؟ فالعبرة ليست بكثرة العدد ولكن بالتأييد الإلهي، ولذلك إذا جاءت الهزيمة فلا ينفع كثرة العدد، وإذا جاء النصر فلا يمنعه قلة العدد.
وفي قوله تعالى: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا [البقرة: 250] فائدة بلاغية بليغة، وهي: أنهم طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر، أي: يغمرهم به من فوقهم، فتستقر قلوبهم ولا تقلق، وأن يثبت أقدامهم من الأسفل.
إذاً، أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا من فوقنا، أَفْرِغْ عَلَيْنَا ، يعني أنزله علينا كثيراً عامراً كما يفرغ الإنسان الإناء كله، أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا [البقرة: 250]وثبت أقدامنا ، فسألوا تثبيت الظاهر والباطن.
فإذاً، إذا جاء الصبر من فوق، وثبات الأقدام من الأسفل جاء النصر.
وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة: 250] المبارزة: أن يبرز كل واحد منهم لصاحبه في وقت القتال.
دور العلماء والأقوياء
نلاحظ هنا دور العلماء والأقوياء إيمانياً لما قالوا: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً [البقرة: 249].
ونلاحظ تضرعهم إلى الله بإفراغ الصبر، وإنزال النصر؛ كما قال الله في آية أخرى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 146 - 148].
وكان النبي ﷺ يلجأ إلى ربه في هذه المواطن الشديدة، ويجأر إليه، ويلح عليه إلحاحاً شديداً، ولذلك كان يستنجز نصر الله وموعوده، ويقول إذا لاقى العدو: اللهم إني أجعلك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم [رواه أحمد: 19719، وقال محققو المسند: "حديث حسن"]، وكان يقول: اللهم بك أصول وبك أجول [رواه الطبراني في الكبير: 11980، وهو في السلسلة الصحيحة: 4167].
فإذاً، الإفراغ هو الصب وإخلاء الإناء مما فيه.
فإذاً، أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا [البقرة: 250] المبالغة في طلب الصبر من وجهين:
الأول: أنه إذا صب الشيء في الشيء فقد أثبت فيه بحيث لا يزول عنه أَفْرِغْ عَلَيْنَا يعني صبه فينا صباً بحيث لا يخرج، بل يبقى مستقراً في أنفسنا.
والثاني: إفراغ الإناء هو إخلاؤه، معنى ذلك صب كل ما فيه، ولذلك سألوا صبراً كثيراً وداخلاً، ولذلك قالوا: أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وهذا أبلغ من قولهم: "صبرنا"، أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا .
فالإفراغ إذاً طلب الكثرة من الصبر، وأن يكون فيه داخله، ممتلئاً فيه بحيث إنه لا يخرج منه.
الأمور المطلوبة عند المحاربة
وكذلك فإنه يتبين أن من الأمور المطلوبة عند المحاربة:
أولاً: أن يكون الإنسان صبوراً.
ثانياً: وكذلك أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات ما يعينه على المواجهة.
وثالثاً: أن تزداد قوته على قوة عدوه، فيحصل عند ذلك الانتصار.
فأما الأولى فهي المذكورة في قوله تعالى: أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا .
والثانية: وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا (250) سورة البقرة }.
والثالثة: وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ .
فإذا تحقق الصبر وثبات الأقدام والغلبة الزيادة على العدو، الزيادة العامة يحصل الانتصار.
وقوله تعالى: فَهَزَمُوهُم يعني: هزم هؤلاء الأقلون أولئك الكثيرين بِإِذْنِ اللّهِ يعني: ليس بقوتهم ولا بعددهم، وإنما بإذن الله، فهو الذي شجع القليلين وجبن الكثيرين: وَقَتَلَ دَاوُودُ وهو واحد فرد عادي من جنود طالوت جَالُوتَ وهو عظيم الكفار ومقدمهم وقائدهم وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة: 251] والملك صار ملك بني إسرائيل، والحكمة هي النبوة، وعلمه مما يشاء صناعة الدروع من الحديد ونحو ذلك.
ولا شك أن في ذلك دليلاً على شجاعة داود ، وأنه قتل جالوت قتلاً أذل به جيشه وكسره وهزمه، فإنه إذا قتل ملك الجيش وقائدهم فإن ذلك أدعى لفرارهم وانحسار أمرهم.
وهذه غنائم كثيرة ساقها الله -تعالى- بعد أن قتل جالوت ورزقها المسلمين.
وفي قوله تعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ تِلْكَ إشارة إلى ما سبق ذكره في الآيات من إماتة الألوف منهم ثم إحياؤهم، تمليك طالوت، إتيان التابوت، انهزام جالوت، وقتل داود له، وتملك داود، هذه آيات الله، أخبار غيب أخبرنا بها الله .
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ليس بالباطل.
وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة: 252] هذه الآيات تنزل على النبي ﷺ، وفيها تسلية له، ومواجهة لأعدائه من الكفار والمنافقين، فكأنه يقول له: هذه آياتنا وهكذا نصرنا أولياءنا فاصبر يا محمد ﷺ، وإنك لمن المرسلين المنصورين بإذننا.
ما ورد في الإسرائيليات في قصة طالوت وجالوت
وما ورد في الإسرائيليات في قصة طالوت وجالوت أشياء كثيرة جداً، ولكنها رجم بالغيب، والله أعلم بصحتها، مذكور فيها أسماء، ومذكور فيها أشياء عجيبة، كما أنهم قالوا في إسرائيلياتهم: إن داود رمى جالوت بحجر واحد كسر الخوذة التي على رأسه، ودخلت رأسه، وفتتت دماغه، وخرجت من الخلف، وأصابت وراءه ثلاثين رجلاً فقتلتهم، ثم تفتت الحجر، وأصابت كل قطعة من الحجر المفتت جندياً من جنود جالوت فقتلته. هذا شغل الإسرائيليات، ولذلك لا يعول عليها البتة.
ثم إن من الإسرائيليات الخطيرة جداً الموجودة عندهم في هذه القصة أنهم يقولون: إن طالوت بعد عدة محاولات حسد داود، قالوا: طالوت حسد داود وكاد له بعدة محاولات لقتله ولكنها فشلت كلها إلى آخر القصة الباطلة، فلذلك لا يعول على الإسرائيليات البتة.
ثم إن هذه القصة التي فيها مبهمات يعني مثلاً متى حدثت؟ وهو قال: مِن بَعْدِ مُوسَى [البقرة: 246] لكن متى بعد موسى بكم سنة؟
الله أعلم.
ما اسم هذا النبي؟
الله أعلم.
ما تفصيلات السكينة والبقية التي ستكون في التابوت من آل موسى وآل هارون؟
لم يذكر.
ما اسم النهر؟ كم عدد الذين خالفوا وشربوا؟ كيف كانت نهاية طالوت؟ طالوت ماذا حصل له بعد ذلك؟
لم تذكر.
فإذاً، كل شيء لم يذكره الله -عز وجل- فليس فيه فائدة لنا ولو كان فيه فائدة لذكره، وما ذكره يغني عما لم يذكر من التفصيلات.
تطلع الأمة للقائد الناجح
وذكر العلامة محمد رشيد رضا -رحمه الله- من فوائد هذه القصة أشياء كثيرة؛ فمن الفوائد قال: أن الأمم إذا اعتدي على استقلالها، وأوقع الأعداء بها فهضموا حقوقها؛ تتنبه مشاعرها لدفع الضيم، وتتوجه إلى شخص يقودها للخلاص.
إذاً، تطلع الأمة لقائد يقودها في مرحلة الذل هذا هو الشيء المفترض أن يحصل، ولذلك فإن كثيراً من الناس ينتظرون الخلاص على يد قائد، وأنه لا بد من قائد يقود، وأن عدم وجود القائد مشكلة كبيرة.
لكن هل نقف مكتوفي الأيدي حتى يظهر قائد يقودنا؟
الجواب: لا، لابد من أخذ العدة والاستعداد.
وقد يكون القائد واحد من هؤلاء المسلمين الذين يقودهم إلى النصر.
ولذلك قد يكون القائد مغموراً، هذا طالوت أول الأمر لا ملك ولا من سبط النبوة، ولا كان صاحب مال، كان رجلاً مغموراً من الناس، لذلك فوجئوا به، ولذلك يمكن أن يكون الذي يقود الأمة رجل من أغمار الناس، يظهره الله -تعالى- في حادثة أو مناسبة أو مناسبات فيعظم أمره ويقود الأمة.
داود متى برز؟
برز في المعركة، برز وعظم شأنه لما قتل جالوت، فالأحداث تظهر الأشخاص وتظهر القادة، وهذا درس آخر فإن القادة والذين يتولون الأمة ويقودونها لا يظهرون من كسل، لا يظهرون من فراغ، لا يظهرون بدون خلفية، يظهرون من الأحداث، الأحداث هي التي تظهرهم.
ولذلك فإن أحداث المعركة هي التي أظهرت داود برز لما قتل جالوت، شجاعته وشكيمته أبرزته، وتطلعت الأنظار إليه.
إدراك الأمة للخطر العام
وكذلك فإن من فوائد هذه القصة: أنه عندما يحدث البلاء بالأمة فإن الخطر يدركه الكبير والصغير، والخاص والعام، ولذلك قال الملأ من بني إسرائيل: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [البقرة: 246] فالملأ هم الذين قالوا، هم الذين يريدون الخلاص أيضاً وليس فقط العامة.
وأنه متى عظم الشعور بوجوب دفع الظلم والقيام على الأعداء فإنه لا يلبث أن يسري إلى العامة حتى يكون شعوراً عاماً.
الاختلاف على قائد القوم من شأن الأمم
وكذلك: فإن الاختلاف على مقدم القوم وقائدهم من شأن الأمم.
ولذلك جعل الإسلام انتخابه إلى أهل الحل والعقد، والناس تبع لهم، وليس للغوغاء والعامة أن يرشحوا أحداً أو ينتخبوه كما هو شأن الديمقراطيات الغربية، فإنهم قد يكون عندهم شاذون كثر، وغوغاء وهمج، ومع ذلك يشتركون في انتخاب رئيس لهم، فقد ينتخبون شاذاً أو عربيداً مثلهم أو شخصاً يحقق لهم أهواءهم.
ولا يهم هؤلاء الشواذ والشذاذ أن يكون عالماً أو حكيماً أو تقياً أو يعرف المصلحة.
ولذلك تنطلي كثير من حملاتهم الانتخابية على هؤلاء الناس في الشارع فيرشحونهم.
ولذلك في الإسلام معروف كيف يكون انتخاب الإمام، وكيف يكون إظهاره لأهل الحل والعقد وليس للعامة من الناس.
وكذلك فإن الأمم في طور الجهل تتغير عندها الموازين وتضطرب.
ولذلك هؤلاء كانوا يرون أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة، ولذلك قالوا: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ [البقرة: 247] لكن الميزان الرباني يختلف.
خطر تجهيل الأمة
ولذلك فإن التجهيل الذي يصيب الأمة خطير في إفقادها الموازين الشرعية، وهذه قضية مهمة، يجب أن تبين الموازين الشرعية للناس الذين يعيشون في طور الجهل؛ لأنهم في طور يفقدون القدرة على التمييز، والعمل بحسب الموازين الشرعية، ولذلك قال لهم نبيهم: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ فبين الشروط التي تبين اختيار القائد وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء .وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 247].
طاعة الجنود للقائد من طاعة الله
وكذلك يتبين من القصة: أن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه مما هو من طاعة الله هو شرط للنصر واستقامة الأمر، ولذلك الرماة في أحد لما عصوا أمر النبي ﷺ هزموا، كانوا من أسباب الهزيمة، ولذلك كان لا بد من تجريد الجيش من هؤلاء المنهزمين.
وهؤلاء العصاة قبل دخول المعركة، أنه لو دخل بهم المعركة فسيكونون من أول الفارين، وسيشيعون روح الهزيمة في بقية الجيش، ولذلك تلقاهم بقلة ثابتين أحسن من كثرة ينهزم أكثرهم فيتبعهم البقية، وإذا صارت هزيمة صارت فوضى، وإذا صارت فوضى ما عاد من الممكن ترتيب صفوف ولا توزيع الجيش ولا مقاومة، ولذلك كان من الحكمة أن يقول: فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي [البقرة: 249] فليخرج عني وعن جيشي لا أريده أن يقاتل معي.
ولذلك كان النبي ﷺ يأخذ العهد عليهم أن يطيعوه في منشطهم ومكرههم.
ولذلك كان لا بد أن يطاع القائد في طاعة الله -تعالى-.
التوجه إلى الله في القتال
ومن فوائد هذه القصة كذلك: أن التوجه إلى الله في القتال مهم في النصر ومفيد جداً، ولذلك بعد أن سألوا الله قال: فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ ، وجاءت "الفاء" عاطفة على آية الدعاء رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ [البقرة: 250 - 251].
إذاً، "الفاء" هذه التي تفيد التعقيب، معناها أن الله يستجيب الدعاء ويستجيب بسرعة، لكن المهم أن يكون الدعاء من قلب خالص.
البقاء للأصلح
وكذلك فإن في قوله تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [البقرة: 251] بيان لسنته العامة ، وهذه التي يعبر عنها علماء الاجتماع المتأخرين بتنازع البقاء، يعبرون عنها بتنازع البقاء، وأن هناك مصادمات تفيد في النهاية بقاء هذا وزوال ذاك.
وقوله : لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة: 251] فيه دليل على السنة الربانية أن البقاء للأصلح، وأن الأمثل هو المستحق لأن يستمر، فلذلك الحوادث ونيران التنازع هذه تطير زبد الباطل وتقشعه، ليبقى إبريز الحق واضحاً متلألئاً يحصل في ظله الأمان والنمو.
التمكين يأتي بعد مرحلة الاستضعاف
ولا شك أن هذه القصة تبرز من ضمن ما تبرز أو في ضمن ما تبرز أن بعد مرحلة الاستضعاف التي تكون فيها الصحوة والانتفاضة على الواقع الباطل يأتي التمكين، فإن أعلى قمة وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض في عهد داود وسليمان، وكانت هذه الفترة الذهبية لهم بعد مرحلة المحنة التي حصلت فيها الفورة والحماس لإنهاء هذا الوضع وهو وضع الذل، ولذلك التمكين لا يأتي إلا بعد الاستضعاف، هذه من آيات الله وسننه الكونية، التمكين لا يأتي إلا بعد الاستضعاف، يكون قوم مستضعفين فيمكن الله لهم، ولذلك فنحن نتفاءل من الواقع الموجود أن التمكين سيكون حليف الإسلام وأهله بإذن الله -تعالى-.
حكمة القيادة المؤمنة
وكذلك تبرز من هذه القصة: حكمة القيادة الصالحة المؤمنة التي تخبر النفوس، ولا تغتر بالحماسة الظاهرة، فإن طالوت لم يغتر بهذه الكمية من الناس التي خرجت معه وبهذا العدد، وإنما ابتلاهم وخبرهم، والتجربة الأولى لما كتب عليهم القتال تولوا، هم قالوا: نريد أن نقاتل؟ لما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم، طالوت أخذ القليل وسار بهم، وابتلاهم واختبرهم في قصة النهر، فتولوا إلا قليل، ساروا للقاء الأعداء، لما رأوا كثرة الأعداء وقلتهم كثير من هذه القلة المتبقية قالوا: لا طاقة لنا اليوم بـجالوت وجنوده، البقية هم الذين كتب الله النصر على أيديهم.
إذاً، التمحيص يمر بفترات لأنه ممكن الإنسان ينجو في اختبار ويتعداه، لكن يسقط في الاختبار الثاني أو الثالث، لكن في النهاية الذين تبقوا بعد التمحيص هم الذين ينتصرون مهما كانوا قلة.
وكذلك فإن هذا الملك العظيم وهو طالوت لم يضعف ويتخاذل لم يضعف وينكمش لما يرى جنوده يتخاذلون ويتساقطون في موقف بعد آخر، تضاءلوا في تجربة بعد تجربة ولم يثبت معه في النهاية إلا قلة، فئة مختارة خاض بها المعركة ثقة بالله -تعالى-، وهذه الفئة الصغيرة القليلة هي التي تلقت النصر واستحقته من الله -تعالى-.
تدبير أمير الجهاد لأمور الجيش
وكذلك فإنه في هذه القصة كما ذكر القاسمي -رحمه الله- في تفسيره: أن الأمير يحتاج إليه في أمر الجهاد لتدبير أمور الجيش، ولذلك كان النبي ﷺ إذا بعث سرية أمر عليها أميراً، وأنه لا بد منه ولولا ذلك لانفرط عقد الجيش، وتنازعوا، وكل واحد ادعى الرئاسة، فلا بد من واحد يقود، ولا بد للبقية من السمع والطاعة له فيما هو من طاعة الله حتى يحدث النصر.
كلما عظم الأمر كلما عظم أمر الإمارة
كذلك فيه: أنه كلما عظم الأمر كلما كان أمر الإمرة أخطر، ولذلك فإن إمرة الجيش أخطر من إمرة السفر، وإمرة المسلمين أخطر من إمرة الجيش، فكلما عظم الأمر كانت الإمرة أعظم، ولا بد أن تكون الشروط فيه أدق وأشد؛ لأن هذه مسؤوليات كلما عظمت لا بد أن يعظم الرجال المنتخبون لحملها.
عزاء للصحوة الإسلامية المعاصرة
وكذلك فإن في هذه القصة: عزاء لهذه الصحوة الإسلامية المعاصرة، فإن بني إسرائيل هم الذين قالوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [البقرة: 93]، وهم الذين قالوا: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا [المائدة: 24] فهؤلاء بعد فترة من الزمن نصرهم الله.
فإذا كان المسلمون الآن ليس عندهم هذه البذاءة وليس عندهم هذا الحد من التردي فإنهم أقرب إلى نصر الله، ولذلك قرب النصر من المسلمين الآن أقرب إليهم من بني إسرائيل على ما فعلوه من تقتيل الأنبياء وقالوا: حنطة، وسمعنا وعصينا، ويد الله مغلولة، واذهب أنت وربك فقاتلا، وإلخ..، ففيه شيء من العزاء لأبناء المسلمين في هذا الزمان، وأن الله -تعالى- يكلل جهود الساعين بالنجاح، وعمل العاملين بنصرة الدين ولا شك.
وكذلك فإننا نلاحظ أيضاً: أن الله يبتلي عباده، ويختبرهم في الأعداء، ويختبرهم في أنفسهم فإنه ابتلى بني إسرائيل بطالوت، وابتلاهم بالعدو الذي لاقاهم، فيكون الابتلاء من الداخل ومن الخارج.
عدم الاغترار بالحماسة الجماعية
وكذلك في هذه القصة درس عظيم: أنه لا يصلح الاغترار بالحماسة أبداً، فإن الحماسة الجماعية قد تخدع، ويقوم جمهور من الناس يهتفون ويقولون: سنفعل! ونفعل! لكن القيادة الإسلامية لا تغتر بهذه الحماسة أبداً، وإذا كان هؤلاء بنو إسرائيل بمجرد أن كتب عليهم القتال تولوا قبل أن يقاتلوا، بمجرد فرض القتال تولوا، وسقط كثير منهم في امتحان شرب النهر، وكذلك كثير منهم عندما رأوا الجيش تخاذلوا وقالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده.
فإذاً، الحماسة لا يجوز أن تخدع المسلم، وإنما العبرة بالحقيقة.
وكذلك: فإن مصير المعركة ينقلب، والموازين تنعكس بإرادة الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ [البقرة: 249].
الناس لا يتفقون في التقيم
وكذلك فإن في هذه القصة: أن الناس لا يتفقون في التقيم، وكل واحد يفكر بحسب مصلحته، ولذلك لما قيل لهم: إن طالوت ملك عليكم تنازعوا الأمر واختلفوا على نبيهم، كل واحد ينظر من جهة المصلحة، ينظر من جهة الدنيا، ولذلك فلا بد من التوعية، إذا كان الناس همجاً ورعاعاً وجهلة الاختلاف فيهم أسهل ما يمكن، أما إذا كان عندهم وعي وعلم تتحد قلوبهم على الاختيار ويتفقون، ويعلمون مضرة الاختلاف، لكن إذا كانوا جهلة غوغاء ما يعلمون مضرة الاختلاف فيختلفون، فيتفرقون فينهزمون.
سنة التداول بين الناس
وكذلك: أن الله يداول الأيام بين الناس، فبينما كانت القوة لجالوت وجنوده فإذا بها تصبح لطالوت ومن معه، ويزول سلطان الظالمين، ويورث الله الأرض للصالحين، وهذه مشاهد متكررة ومواقف متعددة عبر التاريخ.
سنة التدافع بين الحق والباطل
وكذلك: فإن بقاء الكفار مسلطين على المسلمين فيه فساد للأرض، ولذلك لم يشأ الله ذلك ولم يقدره، وإنما قدر الله أن تكون المعركة والأيام مداولة بين الناس: وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140]، وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة: 251].
إذاً، سنة التدافع مهمة لتصحيح الأوضاع، والله قادر أن ينزل النصر بلا جهاد، لكن لا بد من الجهاد لإزالة ما في النفوس من الشوائب، ويعلم الله الصابرين، ويتخذ شهداء، ويعلم المنافقين.
لو بقيت الأرض تحت سلطان الكافرين ما عبد الله
وكذلك: فإن قوله تعالى في آية أخرى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [الحـج: 40] دليل على أن الأرض لو بقيت تحت سلطان الكافرين ما عبد الله، وهدمت كل أماكن العبادة من الصوامع والبيع والصلوات والمساجد، ولأجل هذا فإن الله لم يقدر أن الكفار يستولون على الأرض دائماً وأبداً، بل إنه عز وجل يداول الأيام بين الناس، والدول تكون مرة لأهل الحق، ومرة لأهل الباطل، وكل ذلك فيه فائدة للمسلمين، فإذا كانت الدولة لأهل الصلاح والغلبة لهم، طبقوا شرع الله، وفتحوا الفتوحات، وجيشوا الجيوش، وحكموا الناس بشريعة الله، وعدلوا وأقاموا العدل، فاستقرت الأحوال، وظهرت البركة في الأرض، وزال الفقر والجهل.
انكشاف المنافقين
وكذلك: عندما تكون الغلبة لأهل الباطل ينكشف المنافقون، ويظهر إخلاص المخلصين، ويشتد السعي والحماسة؛ لأن هناك تحدٍ يوجب المداومة في الأعمال، والمواصلة عليها، ومضاعفة الجهود لأننا في ضعف، ويتخذ الله شهداء، ويظهر علم الله في الواقع من الذي يثبت ومن الذي لا يثبت.
ولا شك أنه عندما يكون في محنة يزداد الذين آمنوا أجراً، "للصابر فيهن أجر خمسين".
القابض على دينه كالقابض على الجمر
وكذلك: فإنه يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر، ويكون لهم الأجر العظيم بثباتهم وقبضهم هذا، فسواء كنا في محنة أو في نعمة، سواء كان المسلمون في انتصار أو كانوا يعيشون تحت قهر العدو فإنه فيه خير في الحالتين للمسلمين، والدفاع عن الحق لا يكون إلا إذا صار هجوماً.
الشهادة والقتل في سبيل الله لا يكون إلا إذا صار هناك قتال مع الكفار، وإظهار غلبة الدين على المبادئ الأخرى عندما يكون هناك مناقشات ومحاجات ومصادمات فكرية وعقدية.
مواجهة المواقف الجديدة بخبرات قديمة
وكذلك فإن الله يعلمنا بهذه القصة خبرة يضيفها إلى خبراتنا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة: 246] وهذا التعليم مهم جداً إضافة الخبرات لكي نواجه المواقف الجديدة بخبرات قديمة.
مواجهة المواقف الجديدة بخبرات قديمة يثمر النجاح في المواجهة.
الفراسة من طبيعة المؤمنين
وكذلك: فإن قوله : فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ منه فراسة النبي الذي قال لهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ ؛ لأنه لما كتب عليهم القتال قال الله: تَوَلَّوْاْ ، فكانت فراسة نبيهم فيهم صحيحة.
فالفراسة من طبيعة المؤمنين وشيء يجعله الله -تعالى- في نفوسهم فيستشفون به شيئاً مما يمكن أن يحدث في المستقبل يتوقعونه، لا علماً غيبياً، فعلم الغيب لله، لكن أن تقدم على الشيء وأنت تتوقعه بخلاف ما يفاجئك، ولذلك هذا النبي بالتأكيد ما فوجئ لما تولى بنو إسرائيل عن القتال؛ لأنه توقعه من أول، وأعرب لهم عن ذلك، قال: هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ ، وفعلاً ما توقعه حصل، فلما كتب عليهم القتال تولوا.
الأمم المتنعمة قد يأتي عليها وقت تتمنى الحرب
وكذلك: فإن الأمم التي تعيش متنعمة تميل إلى الدعة قد يأتي عليها وقت تتمنى الحرب، لكن إذا حضرت الحرب انهزمت، كان بعض المسلمين يتمنون الجهاد فلما فرض الجهاد ماذا حصل؟
قال الله -تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى [النساء: 77].
البعد عن الوعود والأمنيات الجهادية الكاذبة
وهذا يعلمنا ألا نكثر من الوعود والأمنيات الجهادية، ولا نسرف في إظهار الرغبة في القتال، بل كما قال النبي ﷺ: يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف [رواه البخاري: 2966، ومسلم: 1742].
أما أن نتوعدهم وأن نظهر أننا سنفعل ونفعل ونفعل، ونرمي في البحر، ونفعل..، فهذا كله هراء؛ لأن العمل الحقيقي عند اللقاء وليس قبل.
وكذلك: فإن الناس الذين قالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ [البقرة: 247] ذكر بعض المفسرين: أن فيها دلالة على بطلان قول من يقول: إن الإمامة موروثة.
الإمامة ليست موروثة، وإنما هي من أهل الحل والعقد بناء على العلم والقوة.
المظهر ليس دليلاً على الجوهر
وفيه أن المظهر ليس دليلاً على الجوهر فقد يكون الشخص نحيلاً لكنه قوي، ولذلك قال الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه | وفي أثوابه أسد هصور |
ويعجبك الطرير فتبتليه | فيخلف ظنك الرجل الطرير |
وقد عظم البعير بغير لب | فلم يستغن ذي العظم البعير |
فزيادة الجسم كانت في كثرة معاني الخير والشجاعة، وليست فقط أنه طويل وعريض، ومفتول العضلات.
إذا أردت أن تطاع فمر بما يستطاع
وفي إباحة طالوت لجيشه أن يشربوا غرفة فيه دليل على قاعدة: "إذا أردت أن تطاع فمر بما يستطاع"، وأن من حكمة القائد ألا يمنعهم من شيء يحتاجون إليه منعاً باتاً، وإنما يبقي لهم فرصة لإزالة ما يحتاجونه من الحاجة، ولذلك فإن طالوت لم يقل: لا تشربوا أبداً ولو متم من العطش، قال: إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة: 249]، ولذلك لا بد أن يكون القائد حكيماً في أمره، ألا يكون تعسفياً؛ لأن التعسف يؤدي إلى النفور والخروج عن طاعته، وإذا منعهم من شيء مباح لفائدة فإنه لا يمنع منعاً نهائياً وإنما يبقي فيه بقدر الحاجة.
ولم يشتط عليهم في التكليف ويغلق كل الوسائل، وإنما لما منعهم من شيء أباح لهم شيئاً آخر، وهذا يدل على حنكته وكياسته وخبرته بالنفوس، وأنه فعلاً أهل لما أعده الله له، ونزله فيه وهو منزلة قيادة الجيش.
ولا شك أن هناك فرق بين من يشرب ويعب عباً، وبين من يغترف غرفة بيده يروي بها ظمأه، ويقتل بها عطشه.
الشراب يقوم مقام الطعام
وفي قوله تعالى: ومن لَّمْ يَطْعَمْهُ [البقرة: 249] عبر عن الشراب بالطعام؛ لأنه في حال شدة العطش يكون كالطعام، وقد قال النبي ﷺ في ماء زمزم: إنها طعام طعم [رواه مسلم: 2473].
وقيل لأبي ذر: فمن كان يطعمك؟ لما جاء مكة وجلس، قال: "ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع" [رواه مسلم: 2473].
طبعاً هذا من بركة ماء زمزم: أنه سمن حتى تكسرت عكن بطنه، يعني سمن سمناً حتى صار شحم البطن غليظا، وتكسر صار طبقات، وصار بعضه فوق بعض.
وهذا خاص بماء زمزم ولا شك، لكن الذي عطش ولم يجد إلا الماء فإنه يقوم مقام الطعام بالنسبة له.
ثم إن الحكمة أن الإنسان إذا عطش جداً ألا يهجم على الماء هجمة واحدة فربما يهلك، ولذلك لو وجد الإنسان في متاهة، في صحراء، وصار له فترة طويلة ما شرب فإنه يعطى قليلاً من الماء، ولا يمكن من شرب الكثير فربما يموت.
وكذلك: فإن على القائد أن يكون موضوعياً في تكليفاته ليس بتعسفي ولا مرهق، ولا يستغل الإمرة في إذلال من تحته أو التحكم به بتجبر، ولكنه يأمر ما بما فيه حكمة.
اليقين العظيم للفئة التي ثبتت مع طالوت حتى النهاية
وكذلك: فإن هذه القصة تبين شدة يقين الذين بقوا في النهاية، ولذلك معنى قول الله قال: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ [البقرة: 46] الظن ليس هنا الشك وإنما هو اليقين؛ لأنه يأتي بمعنى اليقين، وبمعنى الشك، ففي هذه الآية قال: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ [البقرة: 46] يعني يعتقدون اعتقاداً جازماً أنهم ملاقو الله.
الأدوار العظيمة لا تأتي من بيئات الترف
وكذلك: فإنه يتبين أيضاً من هذه القصة: أن الأدوار العظيمة لا تأتي من الفُرش الدافئة، ومن بيئات الترف والنعومة والراحة، وإنما تأتي من ميادين المعركة، فالميدان هو الذي يكشف عن المواهب، ولذلك برزت حكمة طالوت من خلال القيادة، وبرز موقع داود من خلال المعركة، فهذا الذي يؤهل الشخصيات.
أما الذي يظن أنه ممكن أن يكون داعية عظيماً وقائداً مرموقاً، وهو جالس على أريكته متكئ، فهذا إنسان مسكين لا يدري من أين يبدأ الطريق.
هذه بعض الفوائد.
ونسأل الله أن يبصرنا بكتابه، وأن يرزقنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا من الذين يتعلمون كتابه ، ويستفيدون من العبر التي قصها علينا في هذا الكتاب.
والله -تعالى- أعلم.