حب الشهرة والصيت
أما القسم الثاني: حب الشهرة: وقد ذكرت أن له ارتباطاً بالقسم الأول ارتباطاً وثيقاً.
حب الشهرة والصيت هذا المرض موجودٌ في نفوس الكثيرين.
وهذا المرض موجود عند الفسقة، وقد يكون موجوداً أيضاً عند بعض أهل الدين.
فعند الفسقة الآن هناك شيء اسمه: عالم الأضواء وعالم الشهرة، ويقال: فلان أو فلانة من الممثلين والممثلات دخل عالم الشهرة بفلم كذا، وفلانة من المغنيات دخلت عالم الشهرة بأغنية كذا، وفلان من اللاعبين دخل عالم الشهرة وعالم الأضواء بهدف من الأهداف الرياضية، بمباراة كذا.
وهكذا من أنواع الشهرة الدنيوية المذمومة القبيحة المضيعة للوقت الصارفة للجهد بغير طاعة الله، والمورثة للإثم والعدوان، والمثيرة للشهوات والأهواء التي تؤدي إلى إضلال الناس.
عالم الشهرة الآن يدخل فيه كثيرٌ من أهل السوء والباطل كما هو معروف وواضح جداً.
وهؤلاء الذين يحبون الأضواء والكاميرات، ويحبون أن تسلط إليهم الأنظار، كثيرٌ منهم تافهون جداً، إنما يعملون على الإضرار بالمجتمع، ويعملون في حقل المعصية وخطوات الشيطان وسبيل إبليس.
كثير من المشهورين الآن لا شك ولا يخفى عليكم هذا الحال فيه، وهؤلاء أمرهم واضح، ولا يحتاج إلى تبيين، لكن نحن نلتفت الآن إلى مسألة حب الشهرة وحب الصيت عند الأوساط التي يكون فيها شيءٌ من التدين أو الدين والعلم، فلا شك أنه يخترق هذه الأوساط شيءٌ من هذه النوازع: حب الشهرة، وحب الصيت.
قال الذهبي -رحمه الله- تعالى- في صاحب العلم الذي تعجبه مسألة من علمه، قال: "فليتكتم بها ولا يتراءى بفعله، فربما أعجبته نفسه وأحب الظهور فيعاقب ويدخل عليه الداخل من نفسه، فكم من رجلٍ نطق بالحق وأمر بالمعروف فيسلط الله عليه من يؤذيه" [سير أعلام النبلاء: 18/192].
لاحظ: الآن كم من رجل نطق بالحق وأمر بالمعروف فيسلط الله عليه من يؤذيه، لماذا؟ كيف هذا؟ كيف ينطق بالحق ويأمر بالمعروف والله يسلط عليه من يؤذيه؟
قال الذهبي -رحمه الله-: "لسوء قصده وحبه للرئاسة الدينية، فهذا داءٌ خفيٌ سارٍ في نفوس الفقهاء، كما أنه داءٌ سارٍ في نفوس المنفقين من الأغنياء، وأرباب الوقوف" الأوقاف الذين يعملون الوقف والترب المزخرفة وربما بنوا المساجد، "وهو داءٌ خفي يسري في نفوس الجند والمجاهدين" [سير أعلام النبلاء: 18/192] أي: حتى المجاهدون الذين يقاتلون، فتراهم يلتقون العدو.
فـالذهبي يصور حالة في عهده، نحن الآن عرفنا الشهرة هذه في أوساط أهل السوء لا تحتاج إلى بيان، لكن حب الشهرة في أوساط أهل الطاعة عند بعض طلبة العلم، أو بعض المنفقين يطبع اسمه على الكتب التي يطبعها، أو يكتب اسمه على مسجدٍ يبنيه، أو وقفٍ يعمره، أو نهرٍ يجريه، هذا يحب الصيت والشهرة، ليقال: فلانٌ بناه، وفلانٌ طبعه، ونحو ذلك.
وربما كتب على نفقة المحسن الكبير، ما هذا؟
حب الشهرة وحب الصيت ينافي الإخلاص، أين إخفاء العمل، الذي يوفر الأجر؟
غير موجود؛ موجود بدلاً منه حب الشهرة، وحب الصيت، يدمر العمل تدميراً، ويفني الأجر إفناءً، فيأتي الله وليس له حسنة، قد استهلكت في الدنيا، قالوا عنه: محسن وكريم، ويحب الخير، أخذها في الدنيا، قال الذهبي: "ويصطدم الجمعان وفي نفوس المجاهدين مخبئاتٌ وكمائن من الاختيال وإظهار الشجاعة ليقال: فلان شجاع وفلان جريء، والعجب، ولبس القراقل المذهبة" وهي نوعٌ من الثياب يستخدمها العسكر، "والخوذ المزخرفة، والعدد المحلاة، على نفوسٍ متكبرة، وفرسانٍ متجبرة، ويضاف إلى ذلك إخلالٌ بالصلاة، وظلمٌ للرعية، وشربٌ للمسكر، فأنى ينصرون؟ وكيف لا يخذلون؟" [سير أعلام النبلاء: 18/192].
الذهبي -رحمه الله- يقول هذا عن صورة في عهده، وأشياء موجودة.
فإذاً، حب الشهرة والصيت يمكن أن يتطرق إلى طلاب العلم وإلى الدعاة وإلى المنفقين، والمقاتلين في سبيل الله يخرجون لقتال الأعداء والكفار.
ولذلك هذا حب الظهور وحب الصيت والشهرة مرض يقدح في الإخلاص ويجرح الإخلاص.
هذا مرض ينافي الإخلاص من أساسه؛ ولذلك يقول الله يوم القيامة: أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معي فيه أحداً غيري تركته وشركه [رواه مسلم: 2985].
ولذلك لاحظ وانتبه لهذه النقطة، الأعمال التي فيها شرك لا يثيب الله الشخص على المقدار الذي لم يشرك فيه، فأي واحد عمل عملاً فيه شيء لله وشيء لغير الله؛ في عمل واحد، لا يثيبه الله عن الجزء الذي له، ويحبط الجزء من العمل الذي ليس له، وإنما يحبطه كله، بنص الحديث: من عمل عملاً أشرك معي فيه أحداً غيري تركته وشركه [رواه مسلم: 2985] ويقال له يوم القيامة: خذ أجرك من الذين أشركت معي في هذا العمل، خذ أجرك منهم، الله لا يقبل إلا العمل الخالص لوجهه.
يقول الله في الحديث القدسي: أنا خير الشركاء [رواه أحمد: 7999، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط مسلم"] فيتركه يقول: أشركت معي فلاناً، هذا الشخص ما عملها لفلان عملها لله ولفلان، لاحظ، ليس له أجرٌ عليها مطلقاً.
فإذا صلى إنسان لله لكن طول الركعات من أجل من يراه من الحاضرين، فليس له شيء أبداً، هو لا يقول: فلان أكبر، يقول: الله أكبر، لا يقول: سبحان فلان، يقول: سبحان الله، لكن لما طرأ الرياء عليه في الصلاة وما قاومه بل استمرأه واستمر معه، فذلك يحبط العمل، إذا كان العمل متصلاً أوله بآخره يحبط العمل كله، أما لو عمل عملاً لله وعملاً منفصلاً لغير الله، قبل الله العمل الذي له، وأحبط العمل الذي ليس له، كمن تصدق بخمسين ريالاً لفقير لله، ثم رأى الناس يخرجون من المسجد، فأحب أن يقال عنه كريم، فأخرج خمسين أخرى تصدق بها، يعني: لأي شيء للناس؟ فماذا يقبل الله منه؟
الخمسين الأولى، هذه صدقة مستقلة.
والخمسين الثانية حابطة وآثم عليها، وليس فقط لا أجر له، يأثم إثم الشرك الذي حصل فيها، والشرك خطير: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] لا يغفر إلا بالتوبة، وخصوصاً هذا الشرك، سواء كان شركاً أكبر أو شركاً أصغر، ولذلك يجب على العبد أن يتوب من جميع أنواع الشرك: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] ما قال: أكبر أو أصغر: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] لابد أن يتوب منها، وإلا سيبقى عليه إثم شركه، لا يغفره الله، لا تكفره الحسنات، بل لابد من توبة.
مظاهر حب الظهور
حب الظهور مرض، وله مظاهر كثيرة:
ذكرنا نقلاً عن الذهبي -رحمه الله- شيئاً منها، ويدخل فيها الناس الذين يحبون أن يظهروا في المجامع والمحافل، وحول المشايخ، ليقال: من طلاب فلان، ومن طلاب فلان، دون مناسبة، ويظهرون عند مكبرات الصوت، أو يرفعون أصواتهم، ويفعلون حركات استعراضية.
وبعضهم عندما تأتي كاميرا تليفزيون لتصور تجد بعض الناس وضع وجهه أمام الكاميرا، ليقال ماذا؟ ليقال: ظهر في التليفزيون، هذا من حب الشهرة، هذا داء يمكن أن يولد للإنسان المهالك.
روي أن أعرابياً بال في ماء زمزم، فقام الناس عليه فأمسكوا به، وقالوا: ما حملك؟ قال: أحببت أن يذكرني الناس ولو باللعنات، يعني: المهم عنده الصيت.
ولذلك هذا المرض الخطير يمكن أن يجعل الإنسان يعمل من البلايا ما الله به عليم، لأجل فقط أن يخرج صيته، يعمل أي شيء، له حاجة أوليس له حاجة، له داع أو ليس له داعٍ، يحرك ساكناً ويسكن متحركاً المهم أن يخرج صيته أمام الناس.
ولا شك أن هذا المرض يفضي إلى الرياء والسمعة؛ لأن الذي يطلب الصيت والشهرة سيسمع بأعماله، يقول: والله إني اليوم صليت في الجماعة، وأنا صائم، وجاء والله ذاك اليوم واحد يجمع تبرعات الحمد لله تصدقنا بألف وأعطيناه، وكفلنا يتيماً، وهل رأيت المسجد هذا الذي في الحارة؟ نحن قائمون فيه من أوله إلى آخره، وشفت العائلة في ذلك الطابق في تلك العمارة، هذه نحن اللي نمشي لها راتباً، فهذا يسمع بأعماله.
ولذلك يقع في التسميع الذي يقول النبي ﷺ في خطورته: من سَمَّع، سَمَّع الله به [رواه البخاري: 6499 ، ومسلم: 2986] ماذا يعني سمع الله به؟
جاء في الحديث: سمع الله به، مسامع خلقه وصغره وحقره يعني يوم القيامة: يفضحه على رؤوس الأشهاد، جزاء وفاقاً، والجزاء من جنس العمل، هو أراد الشهرة في الدنيا، وأراد الصيت، قيل له يوم القيامة: يا منافق يا مرائي على الملأ، فعلت ما فعلت وقلت ما قلت رياءً وسمعةً، فيقال على مسامع الناس يوم القيامة على مشهد من جميع الخلق: هذا المرائي فلان، من سمع في الدنيا بأعماله سمع الله به يوم القيامة فشهر به، وجعل ذكره سيئاً في الأولين والآخرين.
ويمكن أن يكون هناك عند بعض من يطلب العلم شيء من هذا، عنده دافع طلب العلم من أجل الشهرة، كيف؟
يقول النبي ﷺ: من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله في النار [رواه الترمذي: 2654 ، وحسنه الألباني فب صحيح الجامع: 6383].
فهو تعلم لأي شيء؟
ليقعد فيسأل فيجيب، فيقال: فلان عنده جواب.
أو ليتصدر فيتكلم ويدرس ويقال: فلان صاحب علم.
قد لا يظهر لنا نحن شيئاً، فنظن أنه إنسان يتكلم بكلامٍ طيب.
ما هو الفرق بين إنسان يتقدم ليحمل الأمانة ويعلم الأمة؛ يتعلم العلم لأجل سد الفراغ، فالناس في جهل، والمسلمون يحتاجون إلى علماء وطلبة علم، وبين هذا الرجل المذكور في الحديث؟
الفرق: إنما الأعمال بالنيات [رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907] هذا نيته في التعلم إصلاح نفسه وإصلاح الخلق، أن يعبد الله على بصيرة ويعلم الناس، هذا مأجور مثابٌ على فعله، من ورثة الأنبياء.
وهذا تعلم لكي إذا ناقشه عالم يأخذ ويبين له للعلم: أنا اطلعت وقرأت كذا، وعندي خبر من الذي تقوله.
أو يماري به السفهاء يجلس مع الناس ويماريهم ويتشاكس معهم ويتناقش، ويقال: فلان عنده ذخيرة، وعنده اطلاع وعنده حصيلة.
أو يصرف به وجوه الناس إليه ويتصدر المجالس ويتكلم ويلعلع بصوته قصده الشهرة، والصيت، وقصده أن يرفع من نفسه.
قال إبراهيم بن أدهم -رحمه الله-: "من طلب العلم لله كان الخمول أحب إليه من التطاول" [سير أعلام النبلاء: 7/394].
فإذا طلب الإنسان العلم لله فعلاً يكون الخمول عنده أحب إليه من التطاول.
كثرة الكلام وتصدر المجالس
ومن مظاهر حب الظهور وحب الشهرة: العمل لكي يكون مشتهراً- كما قلنا- بكثرة الكلام والتسميع والتعليق والظهور أمام الملأ وتصدر المجالس: قال النبي ﷺ: اتقوا هذه المحاريب يعني: صدور المجالس؛ فإذا جاء الإنسان يسلم على القوم فعليه أن يجلس حيث انتهى به المجلس، ولا يقيم إنساناً ويجلس مكانه، أما أن يقول: أنا بصدر المجلس، ما أجلس إلا في صدر المجلس، فهذه المحاريب مذابح، هذه مذابح تذبح الإخلاص وتذبح الدين، وتذبح العلاقة التي تكون بين الإنسان وربه؛ لأنه يجعلها حطاماً محطمة، من أجل أن يكون المكان عنده بين الناس.
وكثرة الكتابات والظهور في القنوات المختلفة.
الفرح بالمدح وإن كان باطلاً
ومن مظاهرها الفرح بالمدح وإن كان باطلاً: الفرح بالمدح وإن كان باطلاً، هذا موضوع حب الظهور.
والسعي لنشر ذلك ونشر مناقبه أو ما تكلم الناس به عنه، والتألم لفوات المديح، لو فاته مدح يتألم.
والغضب من النصيحة، هذه من علامات الذين يحبون الظهور والغضب من النصيحة، فلو وجهت له النصيحة جادل وراءى وقال: ليس عندي هذا الكلام الذي تقوله وهذه الصفة والخصلة غير موجودة في نفسي ويدافع عن نفسه بالباطل.
نسج قصص كاذبة تحكي بطولاته
ومن مظاهر حب الشهرة: افتعال المواقف لإبراز النفس، ونسج القصص والخيالات التي تحكي من البطولات المكذوبة ويكثر في كلامهم قول: أنا..! أنا..! أنا..! ولي..! عندي..!.. مثل ما قال فرعون وهامان وقارون.
والمبالغة في وصف مواقفه وسرعة بديهته وذكائه وفطنته وتخلصه ومقدرته، ويقول لك: حصل..، ويعطيك أشياء يظهر فيها بطولته ومواقفه ومآثره ومناقبه، أو أنه قد يشترك في عمل مع آخر فينسب الفضل له، ولا يذكر الآخر بشيء، ويستغل في الذكر مع أن فعل غيره ربما يكون أجود من فعله، وربما يكون غيره هو الذي أنقذ الموقف في الحقيقة، لكنه ينسبه إلى نفسه.
ظهر الآن انتحال المؤلفات الذين يسرقون علم السلف أو علم العلماء وينسبونه إلى أنفسهم، ويقول: فلان كذا.
ومن الأشياء المضحكة أن بعضهم مثلاً: ينتحل كتاباً لغيره والكاتب هذا يكون قد مات قبل أن يولد صاحبنا؛ صاحب الكتاب الأصلي مات قبل أن يولد صاحبنا المنتحل الذي يريد الشهرة والصيت، والكاتب يقول: ولقيتٌ فلاناً، فقال لي كذا وكذا.
وهذا يمسح اسم المؤلف الحقيقي ويضع اسمه، ويصبح عند الناس مضحكة، ويلعنونه، يقولون: هذا كذب، ووضع اسمه على الكتاب وداخل الكتاب يقول: لقيت فلاناً وهو ولد بعد ما مات صاحب القصة، كيف هذا؟!
وكثير من الذين يسرقون مجهودات الآخرين، فهذا من المرض سرقة مجهودات الآخرين، عملية أو مشروع أو بحث كتاب أو رسالة، سرقة مجهودات الآخرين من قضية حب الشهرة، وحب الصيت.
بعض صفات محبي الرئاسة
وهؤلاء من صفاتهم أنهم يتحرجون قولة: لا أعلم، بل إنه لا يقولها أصلاً كلمة لا أعلم ليست واردة على لسانه.
وكذلك من صفاتهم: مصاحبة حدثاء السن، قليلي الخبرة والتجربة ليظهر بينهم ويبرز عليهم، ليس غرضه نصحهم وتربيتهم، ليته فعل ذلك وكان قصده ذلك، لكنه قصده يعاشر هؤلاء الصغار حتى يكون بارزاً عليهم ويكون له بينهم شأن.
وكذلك من صفات الذي يريد الشهرة: انتقاص الآخرين ليرفع نفسه، ويؤثر أن يبقى من معه على جهلهم ولا يدلهم على من هو أفضل منه، ليبقى دائماً هو الأفضل في نظرهم.
ومن سماته: الحسرة إذا منع من الظهور وفاته المجال والمناسبة، فإذا فاتهم المجال بالمناسبة كان يمكن لتصدر وفات عليهم قال: لقد فاتني، يا ليتني كنتُ هناك فأفوز فوزاً عظيماً.
وهؤلاء من سماتهم أيضاً: إضفاء هالات الأهمية الزائفة كادعاء المواعيد الكاذبة والانشغالات التافهة، تجده دائماً يقول: مشغول، مشغول، عندي مواعيد، أنا غير فاض لك، هذا حاله يريد أن يقول: أنا رجل مهم، عندي مواعيد وانشغالات وهو كذاب ما عنده شيء، يمكن أن يذهب ويختبئ في غرفته ويقفل على نفسه الباب، أو يذهب يلعب ويقول: عندي مواعيد، وعندي انشغالات، فهذا المرض منتشر.
أيها الإخوة: هذا من الأمراض الاجتماعية المنتشرة في المجتمع: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور [رواه مسلم: 2129] كما قال النبي ﷺ.
يقول: كنت مع الشيخ فلان، وهو ما كان معه، وحصل لي الموقف الفلاني، وهو ما حصل له، ويدعي بطولات زائفة،
وكذلك من صفاتهم: أنهم يلبسون ملابس الشهرة، ويركبون مراكب الشهرة.
قال شهر بن حوشب -رحمه الله-: "من ركب مشهوراً من الدواب، ولبس مشهوراً من الثياب أعرض الله عنه، وإن كان كريماً" [سير أعلام النبلاء: 4/375].
قال الذهبي -رحمه الله- معلقاً: "من فعله بذخاً وتيهاً وفخراً أذله الله، وأعرض عنه، فإن عوتب ووعظ فكابر وادعى أنه ليس بمختال ولا متباهٍ فأعرض عنه فإنه أحمق مغرورٌ بنفسه" [سير أعلام النبلاء: 4/ 376].
هذا لابس ثوب شهرة.
وهذا في النساء كثير أن يقال عنها: صاحبة الثوب الفلاني، أو أنهم يعملون حفلة زفاف ما سمع بها الأولون والآخرون ليقال: إن هؤلاء عملوا، ليشتهر ذكرهم بين الناس.
قال النبي ﷺ: أعلن النكاح لكن ما قال: أسرفوا وابذخوا وارموا الطعام، وغالوا في الملابس، والفقراء من المسلمين يموتون من فقرهم.
فلذلك هذه قضية الشهرة وأن يذيع صيته بين الناس ويتكلمون عن حفلته وعن وليمته وما حصل فيها.
أسباب حب الرئاسة والظهور
ولا شك أن من الأسباب المشتركة بين حب الرئاسة وحب الظهور: الإعجاب بالنفس، يعني من الدوافع: الإعجاب بالنفس: عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: ثلاثٌ مهلكات، وثلاثٌ منجيات، وثلاثٌ كفارات، وثلاثٌ درجات: فأما المهلكات: فشحٌ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه [رواه الطبراني في الأوسط: 5754، وقال الألباني: "حسن لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 2607]
فمن المهلكات: إعجاب المرء بنفسه، فيرى لنفسه من الميزات والفضائل، وذلك من وسوسة الشيطان، ويرى أنه صاحب فضل، وأنه صاحب ميزة، أنه إنسان شريف، إنسان صاحب قدرات، يتوهم هذا، ولابد أن ينشر فضله في العالمين.
وكذلك من أسبابه: الرغبة في ثناء الناس، وإرادة المنزلة عندهم.
ومن أسبابه أيضاً: التربية الخاطئة في البيت أو المجتمع كأن يُقَدِّم ويُثْنَى عليه في حضوره وليس بذاك، فيتوهم أنه فعلاً إنسان مهم، ويتصرف بناءً على هذا الأساس.
ومن الأسباب القريبة من هذا أن يبتلى بأناسٍ أحداثٍ أغرار، يضعونه في غير موضعه ويرفعونه ويقولون: شيخنا المبجل، وقال شيخنا، وهو ليس بشيء.
والواقع -أيها الإخوة- الواقع السيئ يساعد على الشهرة والرئاسة.
الناس إذا جهلوا العالم والعلماء الحقيقيين.
العلماء العارفون ندرة.
خلا لك الجو فبيضِي واصفري | ونقري ما شئت أن تنقري |
ويتكلم أي واحد من الدهماء والرويبضة ينطق في أمور العامة.
والواحد يبرز بسرعة من الجهال، ويدرس ويجلس إليه ويستفتى ويفتي، والناس في حاجة.
المجتمع أحياناً يساعد على بروز هذه النوعية، ويقال: فلان، والمحاضر فلان، المؤلف فلان، وكثيرٌ منهم أئمة ضلالة.
فما أسهل مهمة الأعور الدجال في هذه الأمة؟!
وسائل علاج المصاب بحب الشهرة لنفسه
وينبغي أن يعالج المرء المصاب بحب الشهرة نفسه بكثيرٍ من العناية، ومن ذلك: التواضع لله.
العلماء كانوا يتكلمون في كتبهم عن أبواب مهمة بعنوان: "خمول الذكر " ما المقصود به؟
أن يسعى الإنسان إلى إخفاء عمله، وإخفاء ذكره، ومحو اسمه فلا تبقى إلا عبوديته لله، عن ثوبان قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن حوضي من عدن إلى عمان البلقاء، ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربةً لا يظمأ بعدها أبداً، أول الناس وروداً عليه فقراء المهاجرين، فقال عمر بن الخطاب : من هم يا رسول الله؟ قال: هم الشعث رؤوساً، الدنس ثياباً، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب السدد حديثٌ صحيح [رواه الترمذي: 2444، وأحمد: 22367].
قال ابن الأثير -رحمه الله- في شرح العبارة الأخيرة في حديث واردي الحوض: هم الذين لا تفتح لهم السدد أي: لا تفتح لهم الأبواب، لو جاء إلى مكان طردوه، قالوا: هذا فقير هذا مسكين، ليس له مكانٌ عندنا، لا تفتح لهم الأبواب هؤلاء والوعد الحوض حوض النبي ﷺ.
وقال النبي ﷺ: رب أشعث مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره [رواه مسلم: 2622] هذا الشخص الذي يظهر أمام الناس أنه مهين وذليل ليس له قيمة، لو جاء إليهم دفعوه عن الأبواب وقالوا: اذهب عنا، هذا الرجل ربما لو أقسم على الله لأبره.
من العلاج المهم لهذه المسألة: إخفاء العمل؛ فعن عوف بن مدرك قال: "كنت عند عمر إذ جاءه رسول النعمان بن مقرن- قائد الإسلام في الفتوحات- فسأله عمر عن الناس، فقال الرجل: أصيب فلان وفلان، وآخرون لا أعرفهم، فقال عمر: "لكن الله يعرفهم" ما يضرهم أن عمر ما عرفهم؛ لأن الله يعرفهم، فهذا من إخفاء العمل.
قصص رائعة في إخفاء السلف لأعمالهم
إخفاء العمل أمرٌ مهمٌ فقد كان السلف يحرصون عليه رحمهم الله تعالى، وسنسوق بعض الأمثلة على ذلك:
ومن أعظم من كان يمثل هذا المعنى أويس القرني -رحمه الله- تعالى-، هذا الرجل عجيب وسيرته عجيبة، ومع إخفاء الرجل لنفسه إلا أن الله أبقى لنا ذكره، فنحن نقتدي به ونتأثر من سيرته، قال ﷺ: إن خير التابعين رجلٌ يقال له: أويس، وله والدة، وكان به بياض -يعني: برص- فأذهبه الله عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم، فليستغفر لكم [رواه مسلم: 2542].
وفي روايةٍ لـمسلم: له والدةٌ هو بها بر [رواه مسلم: 2542] من أسباب سعادة الرجل هذا: بره بأمه، لو أقسم على الله لأبره.
هذا الرجل من أهل اليمن، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، قال عمر لأويس : فاستغفر لي، فاستغفر له.
قال عمر: أين تريد؟ -هو خارج من اليمن مع الأمداد إلى الجيوش الإسلامية في الشمال في الشام والعراق- قال عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها -وصية أعطيك توصية- قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، قال: فلما كان العام المقبل حجّ رجل من الناس من تلك الناحية التي ذهب إليها أويس، فسأله عمر عن أويس قال: تركته رثَّ البيتِ، قليل المتاع، ثم جاء الرجل هذا إلى أويس -ذهب إلى أويس - فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدثُ عهدٍ بسفرٍ صالح، فاستغفر لي أنت.
أويس يعلم أن النبي ﷺ قال عنه: يا أيها الناس اطلبوا من أويس أن يستغفر لكم .
وعندما قال له هذا الرجل هذا: يا أويس، استغفر لي، قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنت حديث عهدٍ بسفرٍ صالح، قال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدٍ بسفرٍ صالح، قال: استغفر لي، قال أويس: لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له، ففطن له الناس فانطلق على وجهه واختفى. هذه رواية مسلم أيضاً [رواه مسلم: 2542].
وفي رواية للحاكم: لما أقبل أهل اليمن جعل عمر يستقرئ الرفاق- عمر حافظ للحديث فمنذ زمن، والحديث في ذهنه، عمر يريد أن يعرف الرجل- فيقول: هل فيكم أحدٌ من قرن؟ حتى أتى عليه قرن، فقال: من أنتم؟ قالوا: قرن، فرافع عمر بزمامٍ أو زمام أويس فناوله عمر، فعرفه بالنعت - عمر كان فطناً وكان عنده فراسة لا يقول لشيء هو كذا إلا كان- فقال له عمر: ما اسمك؟ قال: أنا أويس، قال: هل كان لك والدة؟ قال: نعم. قال: هل بك من البياض؟ قال: نعم، دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي -الله أبقى موضع درهم في سرة أويس من البرص ليتذكر نعمة الله عليه، أبقاه في موضعٍ خفي من نعمة الله عليه ليس في وجهه عيبه بل في سرته- دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي، فقال له عمر: استغفر لي؟ قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنتَ صاحب رسول الله ﷺ! فقال عمر : "إني سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: ((إن خير التابعين رجلٌ يقال له: أويس القرني، وله والدةٌ، وكان به بياضٌ، فدعا ربه فأذهبه عنه إلا موضع الدرهم في سرته" قال: فاستغفر له، قال: ثم دخل في أغمار الناس فلا يدرى أين وقع -ذهب أويس واختفى- قال: ثم قدم الكوفة، فكنّا نجتمع -راوي القصة عند الحاكم أسير بن جابر- قال: كنا نجتمع في حلقة فنذكر الله في الكوفة، وكان يجلس معنا أويس ولا يدري أحد أنه أويس، فكان إذا ذكّرهم، وقع حديثه من قلوبنا موقعاً لا يقع حديث غيره، ففقدته يوماً، فقلت لجليسٍ لنا: ما فعل الرجل الذي كان يقعد إلينا؟ لعله اشتكى -أي: مريض- فقال رجلٌ: من هو؟ فقلت: من هو؟ وصفه؟ قال: ذاك أويس القرني، فدللت على منزله فأتيته، فقلت: يرحمك الله، لماذا تركتنا؟ فقال: لم يكن لي رداءٌ، فهو الذي منعني من إتيانكم، قال: فألقيتُ إليه ردائي، فقذفه إلي -رفض أن يأخذه- قال: فتخاليته ساعة، يحاول في أخذ الرداء، ثم قال أويس: لو أني أخذتُ رداءك هذا فلبسته فرآه علي قومي، قالوا: انظروا إلى هذا المرائي لم يزل في الرجل حتى خدعه وأخذ رداءه، لو أخذت رداءك سيتهموني بهذا، فلم أزل به حتى أخذه، فقلتُ: انطلق، فقال الرجل -هذا أسير بن جابر-: انطلق اسمع ما يقول الناس عنه، فلبسه -لبس أويس الرداء- فخرجنا فمر بمجلس قومه، فقالوا: انظروا إلى هذا المرائي لم يزل بالرجل حتى خدعه وأخذ رداءه، فأقبلت عليهم، فقلت: ألا تستحيون لماذا تؤذونه؟ والله لقد عرضته عليه فأبى أن يقبله، قال: فوفدت وفودٌ من قبائل العرب إلى عمر، فقال: فكان فيهم سيد قومه في هذا الوفد الذي جاء إلى عمر ، فقال له عمر بن الخطاب: أفيكم أحدٌ من قرن؟ فقال له سيدهم: نعم أنا، فقال له: هل تعرف رجلاً من أهل قرنٍ يقال له: أويس، من أمره كذا ومن أمره كذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما تذكروا من شأن ذا؟ ومن ذاك؟! فقال له عمر: ثكلتك أمك، أدركه، أدركه -مرتين أو ثلاثا- ثم قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لنا: إن رجلاً يقال له: أويس القرني، من أمره كذا ومن أمره كذا، فلما قدم الرجل هذا الذي تحدث مع عمر لم يبدأ بأحد، لما قَدِم على بلدة أويس لم يبدأ بأحدٍ قبله، فدخل عليه، فقال: استغفر لي، فقال: ما بدا لك؟ قال: إن عمر قال لي كذا وكذا، قال: ما أنا بمستغفرٍ لك حتى تجعل لي ثلاثة؟ قال: وما هن؟ قال: لا تؤذيني فيما بقي، ولا تخبر أحداً بما قال لك عمر، ونسيت أنا الثالثة -الراوي- قال الذهبي : "إسناده على شرط مسلم" [رواه الحاكم: 5720، ].
روى الإمام أحمد وهو حديثٌ صحيح، قال: ليدخلن الجنة بشفاعة رجلٍ ليس بنبيٍ مثل الحيين ربيعة ومضر قبيلة ربيعة كلها عن بكرة أبيها وقبيلة مضر كلها عن بكرة أبيها، كم عددهم؟
هناك واحد من أمة محمد ليس بنبي، سيدخل بشفاعته عدد مثل عدد ربيعة ومضر يدخلون الجنة بشفاعة هذا الرجل يوم القيامة، انتهى الحديث بقول ﷺ: إنما أقول ما أقول [رواه أحمد: 22250، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3647].
قال الحسن البصري : إنه أويس القرني.
وقد ورد في رواية: أنه أويس، لكنها ضعيفة.
هؤلاء الناس إذا فقدوا طلبوا، وإذا طلبوا هربوا.
كان السلف -رحمهم الله- حريصين على إخفاء أعمالهم، ويكرهون الشهرة؛ فعن عبدة بن سلمان المروزي قال: كنا في سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل- يعني: من المسلمين- فقتله، ثم آخر خرج من الكفار خرج إليه نفس الرجل من المسلمين فقتله، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله -المسلم قتل ثلاثة- تحدٍ أمام الجيشين، فازدحم إليه الناس -إلى هذا المسلم- فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه -يخفي وجهه بكمه- فأخذت بطرف كمه فممدته، فإذا هو ابن المبارك ، فقال عبد الله بن المبارك للرجل هذا: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا؟ [سير أعلام النبلاء: 8/394].
وعن أبي عمر الصفار قال: حاصر مسلمة حصناً فندب الناس إلى نقب منه، من يدخل ليفتح لنا؟ فما دخله أحد، فجاءه رجل من عرض الجيش فدخله ففتح الله عليهم، فنادى مسلمة: أين صاحب النقب؟ أين صاحب النقب؟ فما جاءه أحد، فنادى القائد بالجيش: إني قد أمرت الآن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء، فجاء رجل فقال: استأذن لي على الأمير، فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه، فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له، فقال له: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تسود اسمه في صحيفة الخليفة، ولا تأمروا له بشيء -يعني: من المال- ولا تسألوه ممن هو، ولا تستخبروا عن اسمه، قال القائد مسلمة: فذلك له، فقال الرجل: أنا هو، هذا الرجل لأن أمر القائد لابد أن يطاع، القائد قال: عزمت عليه أن يأتي، لابد أن يطاع، فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاةً إلا قال: "اللهم اجعلني مع صاحب النقب".
وكان السلف يبتعدون عن الشهرة قدر ما استطاعوا، قال عاصم الأحول: كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام فتركهم [سير أعلام النبلاء: 4/210].
وعن خالد بن معدان: أنه كان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة.
وقال محمد بن سيرين لـثابت: "يا أبا محمد، لم يكن يمنعني من مجالستك إلا مخافة الشهرة، فلم يزل بي البلاء حتى قمت على المصطبة" [سير أعلام النبلاء: 4/609].
قال معمر: كان في قميص أيوب بعض التذييل -يعني: فيه طول قليل فقط ولكن ليس بمسبل- فقيل له: ما السبب وأنت قدوة؟ فقال: الشهرة اليوم في التشمير[سير أعلام النبلاء: 6/22]؛ اليوم صارت الشهرة أنهم يحسرون يعني: ليقال هؤلاء يتبعون السنة.
وهذه قصة عن ابن نجيد القدوة المحدث وكنيته أبو عمرو، من محاسنه: أن شيخه الزاهد أبا عثمان الحيري طلب في مجلسه مالاً لبعض الثغور قال: يا أيها الناس، الثغر الفلاني يحتاج إلى مال، فتأخر ولم يأتِ أحد بمال، فتألم الشيخ وبكى في الدرس على رؤوس الناس، فجاءه ابن نجيد بألفي درهم، فدعا له الشيخ، ثم إنه نوه به، صارت مناسبة، فقال: قد رجوت لأبي عمرو بما فعل، فإنه قد نابَ عن الجماعة، يعني: ذكر اسمه وعرف به أنه هو الذي قدَّم المال، وعمل كذا وكذا، فقام ابن نجيد الذي قدَّم المال وسط الناس وقال: لكن إنما حملت من مال أمي وهي كارهة، فينبغي أن ترده لترضى، أرجع المال حتى ترضى أمي، فأمر أبو عثمان بالكيس فرد إليه، فلما جنَّ الليل جاء بالكيس، والتمس من الشيخ ستر ذلك، ارجع الكيس، هو أصلاً قال الكلام وورى استخدم التورية، لأجل أن ينفي عن نفسه التزكية التي زكاه بها الشيخ على الملاء، فلما صار الليل أرجع الكيس النقود، وكان الشيخ بعد ذلك يقول: أنا أخشى من همة أبي عمرو [سير أعلام النبلاء: 16/147].
وقال سهل بن المغيرة: رأيت شريكاً وقد خرج من دار المهدي، فاحتوشه أصحاب الحديث -تجمعوا- فتقدمت إليه وقلتُ له: اطردهم عنك يا أبا عبد الله؟ قال: وأنطرد معهم [العزلة، للخطابي، ص: 18].
فهذا شيء من حال السلف في هذه المسألة.
يجب أن يتعظ أصحاب الشهرة به، والذين يحاولون الصيت، والذين يلبسون ثياب الشهرة ينبغي عليهم أن يعلموا بما لصاحب ثوب الشهرة يوم القيامة من العذاب والنكال، قال النبي ﷺ: من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوباً مثله، ثم يلهب فيه النار [رواه أبو داود: 4029، وابن ماجه: 3607 وهو حديثٌ حسن].
حذر السلف من الشهرة وحبها، ولابد من سماع نصائحهم، فعن ابن محيريز أنه قال: سمعت فضالة بن عبيد وقلت له: أوصني؟ قال: خصالٌ ينفعك الله بهن، إن استطعت أن تَعرِف ولا تُعرَف، فافعل، وإن استطعت أن تسمع ولا تكلم، فافعل، وإن استطعت أن تجلس ولا يجلس إليك، فافعل.
وفي رواية: إن استطعت أن تَعرِف ولا تُعرَف، وتسأل ولا تُسأل، وتمشي ولا يُمشي إليك، فافعل، ما أحب الله عبداً إلا أحب ألا يشعر به يعني: يكتم أمره على الناس.
وسائل محاربة الشهرة
وعلينا -أيها الإخوة- بالتواضع، فإن الله مع المتواضعين، وقال النبي ﷺ في الحديث الحسن: ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، وإذا تكبر قيل للملك: دع حكمته [رواه البزار: 7847، والطبراني في الكبير: 12939، وقال الألباني: "حسن لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 2895] فإذا تواضعت يرفعك الله بين الناس، وإذا تكبرت يذلك الله بين الناس.
ولابد أن يكون عندنا من يعطينا النصيحة من المخلصين، عمر بن عبد العزيز قال لغلامه: إن الولاة قد جعلوا العيون على العامة، وإني جعلتك عيني على نفسي، ما ترى عيباً علي إلا وتنبهني عليه؟
وينبغي أن ننظر في قصور أنفسنا، وأن نجالس المتواضعين والعلماء الصالحين؛ لأن الإنسان يعرف قدره عند ذلك.
وأن نحاسب أنفسنا بالكلمة والحركة.
وإذا عوتبنا في شيء، لا ننفي عن أنفسنا التهمة، وإنما نسأل الله السداد.
وينبغي علينا أن نمنع المداحين الذين يمدحون في وجوهنا ونسكتهم ولا نرضى بمدحهم.
وينبغي أن نربي الناس على هذا المفهوم، وأن نضع الشخص المناسب في المكان المناسب.
ونسأل الله في الختام أن يرزقنا الإخلاص.
اللهم اجعل عملنا خالصاً لوجهك، ولا تجعل لأحدٍ من الناس فيه نصيباً يا رب العالمين.
اللهم عظم أجورنا واغفر زلاتنا.
اللهم إنا نستغفرك لما لا نعلم من الشرك، ونعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.