الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي دعا بدعوته، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وصلوات ربي وسلامه عليه صلاة دائمة إلى يوم الدين.
أيها الإخوة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحديثنا في هذه الليلة عن موضوع عظيم يرتبط بموضوع أعظم منه؛ وهو موضوع: "الإخلاص لله " وهو ركن الدين الذي إذا انهدم ضاعت الأعمال، وحلّ السّخط محل الرضا من العزيز الجبار، وقد أمر الله عباده بأن يخلصوا له العبادة فقال تعالى: لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5]، فأمرهم بالإخلاص في العبادة، وقال تعالى موضحًا سبب خلق الناس: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 1 - 2]، فقال السلف في معنى قوله - جل وعلا -: {أَحْسَنُ عَمَلًا} يعني: أخلصه وأصوبه، فالإخلاص هو الركن الركين من أركان العمل الذي إذا انهدم ضاع العمل وأصبح هباءً ووبالاً على صاحبه، تُبدّل حسناته سيئات.
وهذا الإخلاص معناه في اللغة: الخلوص والنقاء من الشوائب، والتميز والصفاء من سائر العلائق والعوائق، ألم تروا إلى قول الله - جل وعلا - ممتناً على عباده: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل: 66]، فهذا اللبن هو الطاهر الذي يخرج من بين نجسين، يخرج من بين دم وروث لا ينجس.
ولذلك - أيها الإخوة - الاخلاص صعب ويحتاج إلى مجاهدة، والقلوب لا تكاد تسلم من شوائب الإخلاص الذي منها الرياء، ولذا يقول سفيان الثوري - رحمه الله تعالى -: "ما عالجتُ شيئًا عليّ أشدُّ من نيتي؛ إنها تتقلب علي" [حلية الأولياء: 7/5].
ولذلك قال ﷺ في الحديث الصحيح: لقلب ابن آدم أشدُّ تقلُّبا من القِدْر إذا استجمعت غليانًا [رواه البيهقي في القضاء والقدر: 385، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 5147].
أرأيت القِدْر وهو يغلي على النار كيف يفور؟ ويأتي أسفل الماء إلى الأعلى، وأعلاه إلى الأسفل فيضطرب اضطرابًا شديدًا، ويغلي غليانًا شديدًا، هكذا حال قلب الإنسان في تقلِّبه، ولذلك كان ﷺ يستغيث بربه ويطلب منه أن يثبّت قلبه على الدين، فقال ﷺ في الحديث الصحيح: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك [رواه الترمذي: 2140، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 4801].
لأن القلب يتقلّب، وما سُمّي بهذا الاسم إلا لكثرة تقلُّبه.
وما سُمّي الإنسان إلا لنسْيه | ولا القلب إلا أنه يتقلّبُ |
قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن فهو يرينا - عز وجل - قدرتها على تصريف القلوب فيقولﷺ في الحديث الصحيح: ما من قلب إلا وهو معلّق بين أُصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه، والميزان بيد الرحمن، يرفع أقومًا ويخفض آخرين إلى يوم القيامة [رواه أحمد: 26576، والنسائي في الكبرى: 7690، وصححه الألباني في الصحيح الجامع الصغير وزيادته: 5747].
ولذلك - أيها الإخوة - جاء الإسلام بأمر المسلم بأن يجعل همه في الآخرة، وألا يلتفت إلى الدنيا إلا بقدر ما يحتاج إليه ليبقى على حياة كريمة بعيدة عن الإسراء، وبعيدة عن الظلم فيقول رسول الله ﷺ : من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدّر له [رواه الترمذي: 2465، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 6510]. وانقسام الغاية يشقي الإنسان، والإنسان إذا تشعبّت به الغايات وصار عنده أكثر من مطلب، صار الشقاء ملازمًا له في كل حين؛ لأن الإنسان له قلب واحد لا يمكنه أن يتخذ معبودين بأية حال، ألم تر إلى ربك عندما قال: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب: 4]، من معاني الآية: أن قلب الإنسان لا يمكن أن يستقيم إلا بمعبود واحد، فإذا تعددت المعبودات، وتعددت الآلهة فرّق الله شمل الإنسان وأزاغ قلبه، ولذلك كان الإخلاص في العمل واجبًا، وعدّه بعض العلماء مثل العز بن عبد السلام شرطاً لصحة الأعمال، وعدّه ابن تيمية فرضًا، فإذا عُدم الإخلاص ضاع العمل ولذلك العمل الذي يفتقد الإخلاص يصبح باطلاً، فيقول ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عن أناس يدفعون زكاة أموالهم إلى السلطان خشية أن تُضرب أعناقهم أو تُنقص حرماتهم أو تؤخذ أموالهم، وعن الذين يقومون يصلون خوفاً على دمائهم وأعراضهم، تحدّث عنهم واصفًا إياهم بالنفاق والرياء، ثم قال: "وعندنا وعند أكثر العلماء أن هذه العبادة فاسدة لا يسقط الفرض بهذه النية" يعني: واحد صلّى وهو يرائي الناس، صلّى أثناء الصلاة يرائي الناس، هذه الصلاة باطلة لا تُقبل، ولا يسقط الفرض بها، ويجب عليه أن يعيد الصلاة إذا أراد أن يُسقط عنه الفرض، يعني يقوم بحق الله؛ لأن رسول الله ﷺ يقول: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتُغي به وجهه [رواه البيهقي في الشعب: 6456، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1856].
فلذلك كان الرياء من الآفات العظيمة التي توعّد الله بها من يقع فيها.
فمثلاً: قال الله - جل وعلا - في محكم تنزيله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون: 4 - 7]، فوصفهم بالرياء وتوعدّهم بالهلاك والثبور، وهو الويل فويل لهم، وقال تعالى ناهيًا عباده ومحذّرهم عن الرياء في الصدقات فقال - جل وعلا -: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة: 264].
فصار الرياء مبطلاً للزكاة، ولذلك كان أول من تسعّر به جهنم يوم القيامة ثلاثة: قارئ ومجاهد، ومتصدّق، تُسعّر بهم النار يوم القيامة، أول من يُحكم فيهم، ويُساقون إلى جهنم، هؤلاء الثلاثة افتقدوا الشرط الأهم من شروط العمل، "فأما أحدهم فكان يجاهد سُمعة ليقول الناس عنه شجاع، وأما المتصدِّق فكان يتصدق ليقال عنه جواد، وأما القارئ فكان يقرأ ليقال عنه قارئ" [رواه مسلم: 1905]. اشتهر بين الناس بهذه، فلذلك أعجل لهم العذاب يوم القيامة، وجعل الإسلام القتال الوحيد الذي يُدخل صاحبه الجنة هو ما كان لإعلاء كلمة الله، ولما سُئل رسول الله ﷺ عن الرجل يقاتل رياء رفض عمل هذا الإنسان، ويقول رسول الله ﷺ وهو خارج على أصحابه وهم يتحدثون بفتنة الدجال، قال لهم: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟
فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي والشرك الخفي: أن يقوم الرجل فيصلي فيزيد صلاته لما يرى من نظر الرجل [رواه أحمد: 11252، وابن ماجه: 4204، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2607].
وفي رواية أخرى صحيحة: فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل [رواه ابن ماجه: 4204، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 2607]. واحدة: فيزيد صلاته ، والأخرى: فيزين صلاته .
وقال ﷺ في الحديث الصحيح: من سمّع الناس بعمله سمّع الله به مسامع خلقه وصغره وحقره [رواه أحمد: 6509، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2566].
وقال ﷺ فيما يرويه عنه محمود بن لبيد مرفوعًا: خرج رسول الله ﷺ فقال: يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر ، قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟
قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه فذاك شرك السرائر [رواه البيهقي في الشعب: 2872، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 31].
وفي حديث آخر صحيح: يقول الله تعالى للناس المرائين يوم القيامة: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ هل عندهم جزاء يجزونكم به عن الرياء الذي راءيتموهم به في الدنيا؟ [رواه أحمد: 23630، والطبراني في الكبير: 4301، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 1555].
تعريفات الرياء عند أهل العلم
فأما تعريف الرياء فهو: أن يقوم العبد بالعبادة التي يُتقرّب بها لله، يعني: عادة يتقرب بها إلى الله، مثل الصلاة والصدقة والحج، وغيره، لا يريد الله بل يريد حظاً دنيويًا.
والرياء هو: إظهار عمل العبادة لينال بمظهرها عرضا دنيويًا، إما بجلب نفع دنيوي أو تعظيم أو إجلال.
وعرّفه الصنعاني بقوله: "الرياء أن يفعل الطاعة ويترك المعصية، مع ملاحظة غير الله، أو يخبر بها، أو يُحبّ أن يطلّع عليها لمقصد دنيوي من مال ونحوه" [سُبُل السلام: 2/660].
فصار عندنا قضيتان: الرياء والسمعة.
الفرق بين الرياء والسُّمعة
ما هو الفرق بين الرياء والسمعة؟ يقول الرسول ﷺ في الحديث الصحيح: من سمّع سمّع الله به ومن يرائي يرائي الله به [رواه البخاري: 6499، ومسلم: 2986].
الرياء هو العمل من أجل رؤية الناس أن تعمل العمل حتى يراك الناس بأعينهم، والسُّمعة أن تعمل لأجل إسماعهم، أو لأجل سماعهم، يعني لأجل أن يسمعوا عنك، فالرياء يتعلق بحاسة البصر، والسُّمعة تتعلق بحاسة السمع، فالتسميع إذن لا يكون إلا في الأعمال التي تُسمع؛ كقراءة القرآن وذكر الله تعالى، هذا إذا قُصد به المخلوقين فيسمى: سُمعة.
أما الرياء فهي الطاعة التي يقصد بها فاعلها أن يراه الناس، وعلى ذلك فالرياء لا يدخل في العبادات القلبية مثل الخشية، والحياء، والخوف، والمحبة، هذه عبادات قلبية، هذه لا يمكن أن يدخل فيها الرياء؛ لأن الناس لا يرون إلا ظاهر الإنسان، ولكن ممكن أن تدخل فيها السمعة أو التسميع، كيف يكون ذلك؟ يقول العز بن عبد السلام: "أعمال القلوب مصونة عن الرياء؛ إذ لا رياء إلا بأفعال ظاهرة تُرى أو تُسمع، والتسميع عام لأعمال القلوب والجوارح؛: لأن العبد قد يحدّث عما يكنه قلبه" [مقاصد المكلفين: 437].
فقد يحدث الناس يقول: يا جماعة أنا أحب الله، وأنا أخشى الله، وأنا أستحي من الله، فيحدّث عما في قلبه، هذه سُمعة وتسميع، فهذا هو الفرق بين الرياء والسمعة.
والتسميع تسميعان: تسميع الصادقين، وتسميع الكاذبين.
أما تسميع الصادقين فهو أن يعمل الإنسان الطاعة من اجل الله تعالى، ثم يظهرها ويسمّع الناس بها؛ ليعظِّموه ويوقِّره وينفعوه، ولا يؤذوه، يعمل الطاعة خالصة خفية، بعد ما يعملها بفترة يأتي لفلان ويقول: أنا فعلت كذا، وفعلت كذا هذا تسميع، هو صحيح فعله، ولذلك سُمي: تسميع الصادقين، ولكنه يأثم إثما شديدًا، وينطبق عليه حديث: من سمّع سمّع الله به [رواه البخاري: 6499، ومسلم: 2986].
النوع الثاني من التسميع: تسميع الكاذبين، كأن يقول للناس: صليت ولم يصل، ويقول تصدّقت ولم يتصدق، أو يقول: صمتُ ولم يصم، وحججتُ ولم يحج، وهكذا، فهذا أشد ذنبًا من الأول؛ لأنه اجتمع مع التسميع الكذب، ولذلك يقول الرسول ﷺ في الحديث الصحيح: المتشبّع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور [رواه البخاري: 5219، ومسلم: 2129]. فهذا الذي لا يعمل العمل ثم يقول للناس: أنا فعلت كذا؟ يكذب ويسمّع، فهذا له إثم أعظم من الأول، وهو على خطر أعظم من خطر الأول، والذي يفعل الرياء يخالف قول الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5]، ما هو الفرق بين إياك نعبد ونعبد إياك؟ وما هو السر في تقديم قوله: إِيَّاكَ على كلمة: نَعْبُدُ هذا التقديم لكلمة: إِيَّاكَ أسلوب قصر، عندما تقول إياك نعبد يعني لا نعبد إلا إياك، أما عندما تقول نعبد إياك يمكن أن نعبدك، ونعبد غيرك نعبد إياك لكن ممكن نعبد غيرك إنما نعبد إياك لكن لما تقول إياك نعبد يعني: لا نعبد إلا إياك، فتأمل أسرار البلاغة القرآنية.
أسباب الرياء
ما هي أسباب الرياء؟ الداعي إلى الرياء قوي جداً بل إن الداعي إلى الرياء أقوى من الداعي إلى الشرك الأكبر، نفوس العباد مجبولة على حب الرياسة والمنزلة في قلوب الخلق، إلا من سلم الله - جل وعلا -، وقد صدق الشاعر حين قال
يهوي الثناء مبرّز ومقصر | حب الثناء طبيعة الإنسان |
الواحد يحب دائماً أن يُحمد بين الناس، وأن يُثنى عليه، وأن يُتكلم عنه بالأشياء، يحب النفس فيها هذا الميل هذا الميل بالنفس ميل غريزي، كل واحد أن يتكلم عنه الناس يحب أن يثنى عليه في المجامع وفي أوساط العالم، وهذه المحبة في النفس قوية جدًا لدرجة أنها تدفع الإنسان إلى الوقوع في الرياء، ولذلك قال الله - جل وعلا - موضحا هذه الحقيقة: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [الأعلى: 16]، وقال: بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخرَةَ [القيامة: 21]، تحبون المدح في الدنيا والثناء في الدنيا، فالذي يحمل على الرياء إذن ثلاثة أشياء: حب المحمدة وخوف المذمّة، والطمع لما في أيدي الناس، حب المحمدة، تعمل العمل الصالح حتى يحمدك الناس، والإثم عليك، أو تعمل العمل الصالح حتى لا يذمَّك الناس، أو تعمل العمل الصالح طمعًا لما في أيدي الناس من المال والمنصب، إلى آخره.
فإذن، الأفعال التي هي تلك العبادات التي يظهرها العبد، بعض العلماء استثنى من هذه العبادات ما يظهره الإنسان لكي يثبت به عدالته، يعني واحد تشكك الناس في أمره أنه؛ ما يصلي مثلا فهذا إذا ظهر للناس، وهو يصلي بقصد دفع التُّهمة عنه بالإضافة إلى المقصود الأساسي، وهو الصلاة لله فهذا لا شيء فيه.
إنسان اتُهم ببدعة أو افتري عليه افتراء، فقام في مجامع الناس، ووضح عقيدته، أو وضح فكرته حتى لا يُفترى عليه، وحتى لا يجد الطاعنون سبيلاً إلى الطعن فيه، مثل هذا التوضيح لا يسمى رياء إذا قصد بهذا المقصود الشرعي؛ وهو إبعاد التهمة عن نفسه.
الأمور التي يرائي الناس بها في العادة
فإن سألت يا أخي المسلم: ما هي الأمور التي يرائي الناس بها في العادة؟ في أي الجوانب يحصل الرياء؟ فأقول لك: الرياء قد يفعله العبد في النحول والاصفرار ليبين للناس أنه جاد في العبادة، وأنه كثير الخوف والحزن، وأنه يرائي بضعف الصوت يعني يبين لهم أنه يخشى الله، ويتصنع ليست طبيعته يتصنّع ضعف الصوت والتحزين في النغمة حتى يحسس الناس ويشعرهم بأنه يخشى الله ، وبأنه يخاف الله أو ذبول الشفتين واصفرار اللون ليُستدل بذلك على الصيام، يتعمد إبقاء آثار الصيام على وجهه لغرض أن يُعلِم الناس بأنه يداوم على الصيام، وبأن سبب هذه النحافة وسبب الاصفرار هو كثرة الصيام.
وقد يرائي الإنسان بتشعيث رأسه واستئصال شعره أو حلق شاربه، وهو بدعة؛ ليظهر بذلك تتبع زي العباد أنه عابد أو أنه ناسك، وقد يحرص على إبراز أثر السجود على جبهته، يحرص لاحظ الكلمة "يحرص" على إبراز أثر السجود على جبهه؛ حتى يعلّم الناس بأنه يكثر الصلاة والسجود، أو يتعمد لبس الخشن من الثياب أمام الناس حتى يريهم بأنه زاهد، وقد يكون رياؤه بالنطق بالحكمة وإقامة الحجة، وحفظ الأحاديث، وإظهار العلم، وإظهار الذكر، وحُسن الصوت بالقراءة، لماذا؟ حتى يعلّم الناس بأن عنده علم، لاحظ القصد، يفعل هذه الأشياء ليعلم الناس بأنه عنده علم لذلك يقول الرسول ﷺ في الحديث الصحيح: من تعلّم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم [رواه ابن ماجه: 253، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 5930]. من تعلّم العلم ، تعلم العلم شيء طيب واجب يأثم الإنسان بتركه لكن من جعل تعلمه للعلم ليباهي به العلماء يجلس مع العالم الفلاني يقول له: لكن قالوا: كذا، لكن موجود في الكتاب الفلاني كذا، مقصوده من ذلك من تعلّم العلم مباهاة العلم أو يماري به السفهاء يأتي بهذه الألفاظ، والقواعد الأصولية عند الجهال حتى يفتتنوا بها أو يصرف بها،وجوه الناس إليه يقول هذا العلم حتى يقول الناس: انظروا إلي أنا عندي علم، ويأتي أحياناً بعبارات ليس هذا محلها، من علامات هذا الإنسان: أن يأتي بكلام ليس من الموضوع أي شاردة وواردة يأتي بها؛ حتى يقول للناس: أنا علمي وسيع، انظروا إلى علمي، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم، وهذه المسألة أيها الإخوة خطيرة معرض أي طالب أن يقع فيها، ولا يكاد يسلم منها إلا من عصم الله، نسأل الله السلامة لنا ولكم.
وقد يرائي بالعمل كأن يطول الصلاة أو يزيد في الركوع والاعتدال من الركوع أو السجود، أو يرائي بالصيام والحج أو الغزو، وقد يرائي باصطحاب العلماء والاستكثار من طلبة العلم أو التلاميذ أو السير مع العلماء حتى يقال: انظروا إلى فلان هذا صاحب العالم الفلاني، يعني يصحب الشيخ لا ليستفيد منه ولا ليزداد علمًا، بل ليقول الناس عنه: فلان يعرف العالم الفلاني، أو هو من جلساء العالم الفلاني، أو هو من تلاميذ العالم الفلاني، وإنما جلس عنده وصحبه، أو زاره لا زيارة في الله أو طلب للازدياد من العلم، وإنما ليقال: فلان نجده دائماً في بيت الشيخ فلان، فلان نجده دائماً في مجلس الشيخ فلان، فلان نجده دائماً يمشي مع الشيخ، فلان المقصود أن يبين للناس منزلته، وأنه يرفع منزلته عند الناس بصحبة للشيخ الفلاني والعالم الفلاني، مع أن صحبة العلماء مطلوبة، والحرص على الجلوس في مجالسهم محمودة، والازدياد من علمهم بالسؤال أمر مطلوب شرعًا، لكن من كان مقصوده ما ذكرنا، فإنما هو يكون في النوع المذموم.
حكم العمل المرائى به
فما حكم العمل المرائى به، لو سأل الإنسان: وقع الرياء في عمل ماذا يكون حكم هذا العمل؟
قال بعض العلماء: إن كان العمل كله رياء، ما فيه طاعة لله، ولا إخلاص أبدا، من أول ما بدأ في العمل إلى أن انتهى من العمل وهو يرائي الناس، هذا العمل باطل، وهذا أمر متفق فيه عند جميع أهل العلم المعتبرين، أما لو اختلط العمل برياء وإخلاص حصل في العمل إخلاص ورياء فما هو الحاصل؟
بعض العلماء قالوا: يُنظر في الإخلاص والرياء، فإن صار الإخلاص أكثر والرياء أقل، صار العمل عليه ثواب بقدر الإخلاص وينقص منه بقدر الرياء، وإذا كان العكس الرياء؛ أكثر من الإخلاص، صار العمل مذموماً، وعليه من الإثم بقدر الرياء، ويُنقص من هذا الإثم قدر الإخلاص، وإن تساوى الإخلاص والرياء سقط العمل كأنه لم يعمله أصلاً، ولكن هذا الكلام فيه نظر لأدلة صحيحة ثبتت كما أوردناه آنفا، الله يقول في الحديث: من عمل عملاً أشرك فيه معي أحداً غيري تركته وشركه [رواه مسلم: 2985]، لاحظ أن الحديث بظاهره يعني: أن العمل لو شابته شائبة الرياء واختلطت به كانت كثيرة أم قليلة فسد العمل، وصار صاحبه مذموماً آثماً، وهذا هو الأقرب لظاهر الأدلة، وهو أفضل وأوضح من التفصيل الذي ذكرناه آنفاً، يعني العمل إذا شابته شائبة الرياء وما جاهده الإنسان، يعني استسلم للرياء، وأكمل العمل على أنه رياء، فإن العمل يبطل، فهذا العمل أو هذه العبادة إذا دخل فيها الشرك بطل ثواب العمل، وقد يعاقب الإنسان على العمل إذا كان العمل واجبًا فإنه ينزّل منزلة من لم يعمل العمل أصلاً، ويعاقب على ترك الأمر، ومن الأدلة على أن الرياء يسقط العمل قول الله وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5]، فصار الذي لا يُخلص في الدين قد خالف أمر الله بالعبادة.
هنا نقطة مهمة قد ترد في الأذهان؛ واحد حجّ وقصد بجانب الحج أن يتاجر، ورجل جاهد في سبيل الله وهو فقير بالإضافة إلى النية الخالصة في الجهاد يطمع في الحصول على شيء من الغنيمة يسد بها فقره، لكنه خارج للجهاد أساسًا ليس خارجًا للغنيمة، فهل هذا العمل باطل أو لا؟ أو هل يدخل هذا في الرياء أم لا؟
إنسان صام بقصد الصيام لكن دخل في نيته أن من فوائد صيامه إنقاص وزنه، أو أن الصوم يسبب ازدياد الصحة له، فهل صومه باطل أم لا؟ إنسان توضأ، وهو بجانب قصده في الوضوء قصد أن يتبرّد أو يتنظف، هل يبطل وضوؤه أم لا؟ الجواب: هذه المسألة زلّت فيها أقدام بعض أهل العلم، فزعموا بأن العمل باطل بالكلية، وسبب زلتهم هذه أنهم خلطوا في التشريك في العمل بين نفس العمل ومقصد شرعي آخر، وبين العمل ونظرة المخلوقين.
واحد صام من أجل أن يعرف الناس أنه صائم فيحمدوه، أو حجّ بقصد أنه يعلم الناس أنه حج فيثنوا عليه وترتفع منزلته عندهم هذا حجه باطل، وصيامه باطل، وحتى لو واحد توضأ ليقال عنه أنه متطهر، وأنه يجدد الوضوء دائماً أمام الناس، هذا قصده الناس، وضوؤه باطل، لكن لو اقترن مع العمل مقصد شرعي مثل الحج، واحد قصد الحج لوجه الله لا للناس، لكن قصد مع الحج أن يتاجر في الحج، هل عمله باطل؟ لا، ليس عمله باطلاً، والله قال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 198]، وأباح التجارة في الحج للحاج، فالفرق أن العمل إذا قُصد به الناس صار باطلاً، أما إذا قُصد مع العمل مقصود شرعي آخر مثل: أن يصح الجسم مع الصيام أو أن يتبرد ويتنظف مع الوضوء، أو أن يتاجر ويكسب الربح مع الحج هذا مقصود شرعي، التجارة والربح مقصود شرعي، والتبرّد، والتنظف مقصود شرعي، وأن يصح الجسم مقصود شرعي فلو جاء بنفس الإنسان شيء من هذا مع توجهه أساساً بالعبادة لله - عز وجل - وعدم النظر إلى المخلوقين فلا نستطيع أن نقول أن عبادته باطلة، بل إن عبادته صحيحة، ومن الأدلة على ذلك أيضًا: قول الرسول ﷺ: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء [رواه البخاري: 5065، ومسلم: 1400]، الصوم هنا ماذا يقصد به الصائم؟ هل يقصد الناس؟ لا يقصد الله ، لكن هو يريد مع صومه أن يحقق مقصد شرعي، وهو أن يعفّ نفسه ويضعف شهوته؛ حتى لا يقع في الحرام، هل نسمي صومه باطلاً؟ مستحيل؛ لأن الرسول ﷺ أمره بالصيام، والرسول ﷺ لا يأمر بالأعمال الباطلة، فالذي يعمل العمل ويشرّك فيه الخلق هذا يصبح عمله باطلاً، أما أن يشرك مع العمل مقصودًا شرعياً فلا يبطل العمل، فمثلا من فروع هذه المسألة: لو أطال الإمام في الركوع حتى يلحق به بعض المأمومين المتأخرين، إمام ركع سمع وقع الأقدام خلفه فأطال الركوع من أجل أن يلحقوا به وينالوا فضل الركوع وتُحتسب لهم الركعة، هل نقول عن عمل الإمام هذا بأنه باطل؛ لأنه قصد به المخلوقين؟ لا، هو ما قصد المخلوقين، هو قصد مقصدًا شرعيًا؛ وهو أن يدرك هؤلاء المتأخرون فضيلة الركوع، وتحتسب لهم الركعة ما قصدهم بذواتهم؛ ولأن يثنوا عليه قصد أن يلحقوا بالركع، فهذا مقصود شرعي يجوز للإمام أن يفعله بشرط ألا يطيل جداً بحيث يضايق الناس الموجودين أساسًا في الصلاة، لما دخل رجل إلى المسجد متأخراً قال الرسول ﷺ لأصحابه: من يتصدق على هذا، الآن الرجل الذي قام يريد أن يصلي معه ماذا يقصد؟ هو يقصد الصلاة لكنه قصد مع صلاته مقصداً شرعياً آخر، وهو أن يجعل لأخيه المسلم فضل الجماعة بأن يصلي معه، هذا مقصد شرعي، وهذا من الأدلة على أنه لو اشترك مع العمل العبادة مقصود شرعي لا يبطل العمل، ولكننا نقول مع ذلك وفي نفس الوقت بأن العمل الذي يصاحبه هذا المقصد أجره أقل من العمل الذي لا يصاحبه هذا المقصد، فإن من صام لله فقط ما دخل في نيته أن يصحّ جسمه ولا شيء، هذا أفضل من الذي يصوم ويقصد مع الصوم أن يصح جسمه، ومن صام بقصد الصيام فقط، مع غير قصد آخر فإن صيامه لوحده أفضل، ومن حجّ بدون تجارة فهو لا شك أفضل من الذي يحج بالتجارة، وأرجو أن تكون المسألة واضحة في هذا الدليل على النقطة الأخيرة قول الرسول ﷺ: ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجّلوا ثلثي أجرهم ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم [رواه مسلم: 1906].
أناس غزوا في سبيل الله إن أصابوا غنائم لهم ثلثي الأجر، إن لم يصيبوا غنائم لهم الأجر كله، هذا الدليل على أن العبادة عندما تصفو فيها النية تماماً من أي مقصد حتى لو كان شرعياً فإنها تكون أفضل وأكمل.
الرياء في أوصاف العبادة
قد يحدث أن يرائي الإنسان بأوصاف العبادة مثل الذي يدخل في الصلاة ويطيل الركوع والسجود لرؤية الناس، هذا يرائي بأوصاف العبادة، هذا الرجل اختلف في أمره العلماء، يعني واحد دخل في الصلاة لله ، وهو راكع دخل واحد من الناس فرآه، لما دخل هذا الرجل أطال في الركوع زيادة، قال بعض العلماء: هذا العمل باطل، وبعضهم قال: لا يحبط، وربما كان الأرجح أن العمل لا يحبط، ولكن الإنسان لا يأثم؛ لأنه لما دخل أساساً في العمل كان مقصوده خالصاً لله ،وإنما طرأ عليه شيء من الرياء، ولا يبعد أن يكون مع ذلك على خطر عظيم.
علامات المرائي ومراتبه
فالمرائي عموماً له ثلاث علامات: أولاً: أن يكسل إذا كان لوحده، وينشط إذا كان بين الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص من العمل إذا ذُمّ، إذا كان لوحده تكاسل، إذا كان بين الناس نشَط، عمومًا، وإذا أثني عليه زاد في العمل، وإذا تعرض للذم أنقص العمل، أحياناً الرياء مراتب في السوء ليس مرتبة واحدة، من مراتب الرياء أن يحسن العبد صلاته وعمله لما يرى من نظر الناس حتى ينظروا إليه بعين الوقار، ولا يزدروه، وهذا هو الرياء الظاهر لا يخفى على أحد، النوع الثاني: أن يكون العبد قد عمل الرياء الظاهر فيأتيه الشيطان من زاوية أخرى يخدعه ويدعوه إلى إحسان الصلاة وإطالتها لكي يراه الناس، هذا أخف من الأول لكنه يبقى آثم، تشبه المسألة التي ذكرناها قبل قليل؛ أن يكون أصلاً داخلاً في الصلاة ثم يطرأ عليه طارئ الرياء، من الناس من يكون مقصوده من العبادة التمكن من المعصية كالذي يظهر للناس التقوى والورع والابتعاد عن الشبهات؛ حتى يعرفه الناس بالزهد والتقوى والورع، فيولونه القضاء أو يولونه الأوقاف أو يولونه مال اليتيم حتى يأكله، يعني يظهر للناس الورع، وكذا حتى يثقوا به فيعطوه أموالاً، مثلاً مال اليتيم أو أي ولاية أخرى فيأخذ منها بالحرام، ومن الناس من يشتغل بالوعظ والتذكير لتُبذل له الأموال أو ليزوج مثلاً، يعني واحد يريد أن يتزوج بنت عالم فيصحب هذا العالم ويرافقه ويجلس معه يسأله عن مسائل في العلم لا ليتعلم منها، ولكن حتى يتقرب من هذا العلم فيزوجه ابنته، أو واحد شريف إلى آخره فهو يقصد بهذه العبادة اللي هي السؤال عن العلم لأن سؤال العلم عبادة، ومصاحبة العلماء عبادة، والجلوس معهم عبادة، وزيارتهم عبادة يقصد بها أن يزوجه هذا أخف من الذي قبله لكنه أيضاً واقع تحت العتاب.
الكلام الآتي الآن كلام مهم جدًا، نحن ذكرنا جانب الترهيب، ذكر جانب الترهيب قد يوقع بعض الناس في مزالق خاطئة، ويذهب بهم في متاهات من وراء الكلام عن الرياء.
فمثلاً: هناك قاعدة عند العلماء قالوا: من ترك العمل لأجل الرياء فهو رياء، ومن عمل لأجل الناس فهو شرك أو كما يقول الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما" العمل من أجل الناس شرك هذا واضح، لكن نقف هنا عند عبارة: "ترك العمل من أجل الرياء رياء"؛ لأن الإنسان بعدما يتشبع بهذه المفاهيم أو هذه المفهومات، الآن الشيطان يأتيه من مدخل خبيث جدًا ، ومن أخبث ما يكون؛ لأنه يتلبس بصورة طيبة يأتي لمن يريد أن يصلي السنة، وفيه ناس موجودين فيقول له الشيطان: لا تصل أمام الناس؛ لأنك لو صليت كان رياء فلا تصل، نحن بشر وفطرنا على محبة الثناء وعلى أن ينظر الناس إلينا، لكن لا نستسلم لهذه الوساوس، لا يمكن أن نطهر أنفسنا تماماً من الرياء، قد يأتي الرياء لكن ندافعه، ونجاهد هذا الدخيل على أنفسنا، فنسلم إن شاء الله، لكن ما نترك العمل، ولا نستسلم للرياء، نجاهد الشيطان ونحن في الصلاة، ونحن نتصدق، ونحن نصوم، إلى آخره.
وقضية ترك العمل من أجل الرياء، بعض الناس يحتجون بها بحجج مضحكة جداً، تأتي لإنسان لا يصلي في المسجد تقول له: يا أخي قم صل في المسجد، صل مع الجماعة، يقول لك: لا ما أصلي في المسجد، لماذا؟ يقول: لأني لو صليت في المسجد مع الجماعة الناس سينظرون إليّ، ويعرفون أني أصلي في المسجد، وهذا رياء، أصلي في بيتي أحسن ما يراني بعض الناس، قد يقول هذا بحسن نية، فعلاً ضحك عليه الشيطان، ولبّس عليه، هذا الكلام باطل، وهذا كلام فارغ يجب عليه أن يأتي ويصلي مع المسلمين كما أمره الله ورسوله، لكن بعض الناس للأسف يقول لك هذه الجملة حتى يقطع عليك الطريق لدعوته إلى الله، تحاول أن تقنعه بالصلاة في المسجد، يقول لك لكن هو قصده أن يتجنب الرياء ولا هم يحزنون، قصده ألا تتكلم معه، وأن يغلق الباب في وجهك؛ حتى لا تنصحه يقول لك: هذه رياء وكذا فيحتج بالرياء.
قضية أخرى مهمة يقع فيها بعض الإخوان الطيبين من الشباب الذين هداهم الله فاستقاموا على طريق الإسلام، وينفذون أوامر الله ، ويدعون إليه ما هو هذا المزلق؟ هذا المزلق، وأرجو أن تنتبهوا معي لهذه النقطة؛ لأنها نقطة مهمة وعسيرة وعميقة؛ بعض الشباب أو الصالحين عمومًا إذا كان مع إخوانه نشط في العبادة، ونشط في الدعوة، ونشط في تعلم العلم، فإذا رجع إلى بيته وخلا بنفسه مع أهله الذين قد لا يكونون من أهل الصلاح، ولا يعينون على الخير والبر والتقوى، فإنه يضعف ولا يعمل نفس الأعمال التي كان يعملها مع إخوانه، يعني لما يختلي بنفسه أو يسافر أو يرجع إلى البيت يهبط مستواه، فما يندفع في الدعوة، أو تعلم العلم، حتى الصلاة كما يندفع عندما يكون مع إخوانه عندما يقع في هذه المرحلة يأتيه الشيطان فيقول له: أنت مراء، أنت منافق، ماذا يعني عندما تكون مع الناس ومع إخوانك تجتهد في العمل وعندما تصير لوحدك وتظهر على حقيقتك، وتنكشف إذا بك تكسل إذن أنت طبيعتك الكسل، وهذا النشاط الذي جاءك في طارئ من أجل الناس، لولا إخوانك حولك كان ما صليت هذه الصلاة، ولا تعلمت هذا العلم،ولا نشط في الدعوة هذا النشاط فيبدأ يفكر، وهذه الفكرة الجهنمية أو الشيطانية ترسخ في ذهنه، فماذا يفعل؟ يترك رفقته الصالحة، ويقول في نفسه: ما الفائدة إذا كنت مع إخواني نشطت، وإذا صرت لوحدي تقاعستُ؟ معناها: أني أنشط من أجلهم، إذن لا، إذن أتركهم، أنا منافق، أنا مرائي، أنا لا أصلح أن أكون بين هؤلاء الناس الطاهرين الطيبين الصالحين، أنا إنسان مقاصدي خبيثة، تكشفت لي حقيقة نفسي فيترك إخوانه الطيبين، ويبدأ يتردى في المهاوي واحدة تلو الأخرى، والسبب أنه جاهل.
ولذلك العابد يزل في أشياء لا يمكن أن يزلّ بها العالم، لو أن هذا الرجل يعلم بالضبط حقيقة الخدعة الشيطانية ما فعل هذا الفعل، ولو أنه يعلم حديثًا واحدًا؛ حديث حنظلة، لو يعلم حديث حنظلة فقط لما فعل هذا الفعل، حديث حنظلة واضح، خرج إلى الطريق وهو يمشي ويقول: "نافق حنظلة" [رواه مسلم: 275]، ولقيه أبو بكر وقال له: نافق حنظلة، قال: ما هذا الكلام؟ قال: نكون مع الرسول ﷺ فنكون كأنا على رؤوسنا الطير ونسمع المواعظ ونخشع ونتأثر، وعندما نعود إلى البيت ونختلط بالزوجات وبالأولاد والأموال ننسى، إذن نحن منافقون! أبو بكر وجد مثل هذا الكلام، فالرسول ﷺ كشف لهم وأوضح لهم السبب، وأن هذا لا يعتبر رياء، ولا يعتبر نفاقًا؛ لأنه عندما يكون الإنسان له عادة في العبادة والتهجُّد، عندما يكون الإنسان يختلط بأناس على مستوى إيمان عالٍ، طبيعي جدًا أن يتأثر بهم، بل الخطأ أن ما يتأثر بهم، طبيعي أن يتأثر بهم وينشط، وعندما يبتعد عن مصدر الشحنة يضعف، ولذلك يقول الرسول ﷺ: الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد [رواه أحمد: 114، والترمذي: 2165، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 430].
والشيطان لا يكون مع الجماعة يكون مع الواحد، لذلك الذي يترك أصحابه الصالحين، ورفقته الطيبة من أجل هذا المدخل، هو إنسان جاهل أولاً، ثانياً: قد استحوذ عليه الشيطان.
ثالثاً: الشيء الذي كان من أجله يخشاه وقع فيه، الشيطان يريدك أن تبقى لوحدك، أُمنية الشيطان التي يتمناها أن أحد الشباب الطيبين أو الدعاة الصالحين أو الناس الذين فتح الله عليهم بالهدى أن يبتعد عن مصدر القوة التي تشحنه ويبقى لوحده، هذه أُمنية الشيطان، عندما تصدِّق هذه اللعبة الشيطانية، وتبتعد عن إخوانك تقع فيما أراده الشيطان بالضبط، هو يريدك أن تبقى لوحدك يتمنى الشيطان أن تبتعد وتبقى لوحدك؛ لأنه يعرف بأنك إذا بقيت لوحدك ستصبح ضعيفًا، يتمنى أن تبقى لوحدك، فأرجو أن يتأمل هذا كل أخ وجد بنفسه شيئاً من هذه المهزلة الشيطانية التي يريد أن يوقعه فيها، كذلك الكلام عن الرياء أحياناً بكثرة، وهذه قضية تربوية مهمة، الكلام عن الرياء بكثرة، دائمًا في المجالس، الرياء والخوف والترهيب من الرياء قد يوقع الإنسان في الرياء فعلاً وهو لا يقصد أن يقع في الرياء، واحد على خير، صلاته طبيعية من أجل الله وصيامه وحجه، ليس صحيحًا أنك كل ما تجلس معه تذكره بالرياء، والرياء، والرياء، فيفكر في مسائل ما كان يفكر فيها من قبل، وتنفتح له أشياء، وآفاق ما هي منفتحة من قبل عن قضية الرياء، ولذلك تجد أحدهم يقول: يا جماعة من كثرة كلامكم في الرياء شككتونا في إخلاصنا، أصبحنا نشك في الإخلاص من كثرة الكلام على الرياء، لذلك قد يكون من الجوانب السلبية للموضوع كثرة الكلام عن الرياء، وتضخيمه عند الناس بالذات منهم الذين نيتهم طيبة، يعني إذا أحسست أنت صدق نية الإنسان، وأن عبادته طيبة، وأحواله مستقيمة؛ لا داعي لأن تكثر عليه وتكرر على مسامعه قضية الرياء، تكررها على شخص وضح منه الرياء، وأفعاله واضح منها أنه يتقصّد ثناء الناس عليه، وأن يحمدوه على أفعاله، هذا تكرر على مسامعه الرياء، لكن ما تأخذ إنساناً مستقيماً وماضٍ على طاعة الله على أحسن ما تكون، وتكرر الرياء على مسامعه، وأن الواحد لا بد يحاسب نفسه ويفتش، وقد يكون الرياء خفي وهو لا يشعر، فيشعر الرجل فعلاً بأنه مراء، يبدأ فعلاً الرجل يحس بالرياء وهو بريء منه ثم يقع فيه فعلاً، يكون ما هو باله ما هو مع الناس، فيبدأ الآن يفكر في كل صلاة هل الناس ينظرون إليّ ما ينظرون إليّ؟ هل الركوع طويل أكثر من هذا، وإلا ما هو أكثر من هذا؟ واحد يفتح الكتاب ويقرأ، وبعد ذلك يبدأ يتشكك يا ترى هل لا بد أني أقفل الكتاب ولا أقرأ الآن؟ لأنه دخل عليّ فلان؛ فيبدأ يتشكك إذاً كثرة تضخيم الموضوع من الأشياء السلبية.
قضية أخرى أن الناس لو حمدوا الإنسان على خير بدون أن يقصد هذا الحمد فليس برياء، يعني واحد ما يقصد حمد الناس لكن حمده بعض إخوانه على خصلة فيه، ما يقول: وقعت الآن في الرياء، وبدأ الناس يمدحوني، لا، ما دام أنك ما قصدت أن يحمدك الناس فلم تقع في الرياء، وفي صحيح مسلم أن أبا ذر سأل رسول الله ﷺ فقال له : أرأيت الرجل الذي يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن واحد دخل في العمل ليس من أجل الناس ثم حمده الناس عليه يقول الرسول ﷺ هذه عاجل بشرى المؤمن.
كذلك من اشتُهر بين الناس وهو لا يقصد الشهرة، ولكن اشتهر بشيء من الأشياء الطيبة، إذا كان يقصد الشهرة فهذا ليس من الرياء فلا تكون أحيانا هذه المسألة أن فلانًا اشتُهر بين الناس بأنه يجيد شيئاً معيناً فيقول في نفسه: ما دام أنا اشتهرت ينبغي أن أتوقف عن العمل، وأترك العمل؛ لأني وقعت في الرياء وانتهينا! هذا أيضاً من ألاعيب الشيطان.
طلب الإنسان لمنصب يرى أنه أهل له أكثر من الآخرين، إذا كان فعلاً قصده الإخلاص في المنصب من أجل مصلحة المسلمين لا من أجل حظ نفسه، فإنه ليس برياء، ألم تر إلى يوسف نبي الله ﷺ قال للملك ملك مصر: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: 55]، خاف إذا أخذ هذا المنصب غيره أن يعبث فيه، وأن يخون، ولذلك سارع هو الذي يعرف من نفسه الإمكانية والتأهيل لشغر هذا المنصب، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ عنده إمكانية لشغر المنصب فطلبه هذا الطلب إذا ما كان من أجل المصلحة الشخصية، وكان هو في نفسه قادراً عليه أو أكفأ من غيره، فطلب المنصب لهذا السبب مباح لا شيء فيه.
كذلك تحسين الثياب والنعال، تحسين المظهر ليس من الرياء، وليس من الكبر، كما أخبر الرسول ﷺ من سأله عن ذلك.
هذه بعض الأمور المتعلقة بمزالق الرياء، وهي مواضيع مهمة جدًا وهذه القضية - مزالق الرياء -؛ لأنها تفضي فعلاً إلى ترك الأعمال الصالحة، والابتعاد عن الرفقة الطيبة.
العلاج الشرعي للرياء
نأتي إلى النقطة الأخيرة في الموضوع؛ وهي قضية علاج الرياء.
وعلاج الرياء في الحقيقة هو من أهم النقاط في الموضوع علاج الرياء نذكره على شكل نقاط:
النقطة الأولى: الاستعانة بالله على الإخلاص، والتعوُّذ من الرياء، قال الله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات: 50]، فالسبيل الأقوم لمن يريد أن يتخلص من الرياء أن يتجه إلى الله ويحتمي به ويلوذ بجنابه، ويطلب منه أن يخلصه من الرياء، وقال إبراهيم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم: 35]، وقال الله تعالى في سورة الفاتحة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]، فهو المستعان وحده في دفع المكروه سواء كان رياء أو غيره الشيء.
الثاني: معرفة أنواع التوحيد وأسماء الله وصفاته، فإن من أسماء الله ما يعني بأنه غني عن الشركاء، وأنه لا يقبل الشريك، وأن التوحيد معناه إفراد الله بالعبادة، معرفة أنواع التوحيد والعلم بها وبأسمائه هو دافع وحافز للإنسان بأن يترك الرياء، وعلمه بأن الله سميع بصير، يعلم داخلة نفسه أيضاً.
ثالثاً: من الأشياء التي تبعد الإنسان عن الرياء قضية الدعاء دعاء الله بأن يخلص الإنسان من الرياء هي من أهم الأسباب حقيقة لذلك يقول الرسول ﷺ في الحديث الصحيح: "خطب رسول الله ﷺ ذات يوم فقال: يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من الدبيب فقال لهم: من شاء الله أن يقول وكيف نتقيه، وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله قال: قولوا اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه [رواه أحمد: 19606، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 35].
هذا الدعاء من الأسباب القوية التي تخلص الإنسان من الرياء، والرسول ﷺ أخبر بهذا في الحديث. السبب الرابع: معرفة الرياء، والتحرز منه معرفة الرياء، وأنواع الرياء، ودرجات الرياء، والسبب الدافع على الرياء مثلما فصلنا معين على التخلص منه النظر إلى عاقبة الرياء في الدنيا إذا راءى الإنسان أمام الناس، وأوهمهم بأنه عابد، وهو ليس بعابد، أو أنه عنده علم وهو ليس عنده علم رياء، فإن الله لا بد أن يفضحه في يوم من الأيام أمام الناس، فإن الذي يتزين للناس بما ليس فيه، فإن الله يعاقبه بين الناس بإظهار باطنه فتظهر عورته، ويظهر جهله، ويظهر بُعْده عن الله أمام الناس فهو يفتضح، فإذا أراد أن يبتعد عن الرياء فليفكر في العاقبة الدنيوية قبل العاقبة الأخروية.
والرياء قد يُحل صاحبه عند الناس محل السخرية والاستهزاء؛ فقد حكى الأصمعي أن أعرابيًا صلّى فأطال الصلاة وإلى جانبه قوم، فقالوا له وهو يصلي، قالوا: ما أحسن صلاتك، فقال: وأنا مع ذلك صائم!
وهذاك الرجل التحفة الذي شاع بين الناس أنه يرائي، فجاء لأحد الناس يشتكي له هذا المرائي يقول له: الناس يقولون عني أرائي، غريب يا أخي ما فيني هذا البلاء، أمس أنا كنت صائماً، وما علمت أحدًا، فمثل هذه الأشكال تفضح في الدنيا قبل الآخرة، وهذا أحد علماء السلف يعلّم رجلاً، قال طاهر بن الحسين لأبي عبد الله المروزي: منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عبد الله؟ قال: دخلت العراق منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائمًا! فقال له مبكّتاً ومعلّماً وموبخاً : يا أبا عبد الله سألتك عن مسألة فأجبتني عن مسألتين؟ سألتك: من متى دخلت العراق؟ تقول لي: دخلت قبل عشرين سنة، وقبل ثلاثين سنة وأنا أصوم، ما علاقة الجواب الثاني بالسؤال؟ ما سألتك عن هذا.
وأين حال هؤلاء المرائين من حال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقد أحسّ على المنبر بأن ريحًا قد خرجت منه، موقف محرج أمام الناس فقال: "يا أيها الناس قد ميّلت بين أن أخافكم في الله تعالى، وبين أن أخاف الله فيكم، فكانت النتيجة - بعدما فكرت - أن أخاف الله فيكم أحب إليّ، ألا وإني قد أحدثتُ، وها أنا نازل أعيد الوضوء"، فكان ذلك منه زجرًا لنفسه لتكفّ عن نزاعها إلى مثله"
النظر إلى عواقب الرياء في الآخرة
النظر إلى عواقب الرياء الأخروية، من الأشياء التي تعين على ترك الرياء، فعندما يعلم الإنسان بأن الله يهتك ستر المرائين يوم القيامة ويفضحهم على الخلق، والفضيحة في الدنيا أهون من الفضيحة في الآخرة، يعني حتى لو فرضنا أنها في الألم والعذاب مثل بعض، فالآخرة أكبر بكثير، الآن لو فُضح واحد في الدنيا، كم الناس الذين سيعلمون عن فضيحته، لو فرضنا من الآن إلى قيام الساعة سيعلمون، الذين ماتوا ما يدروا عن فضيحته، لكن يوم القيامة يفضحه الله على رؤوس الخلائق، كل الخلائق الذي مضى والذي جاء، والأنبياء والصالحين، وكل الناس.
إخفاء العبادة وإسرارها
كذلك من الأسباب المعينة على تجنب الرياء: إخفاء العبادة وإسرارها.
وهذا من أهم الأسباب المعينة على تجنب الرياء وعدم الوقوع فيه أن الإنسان لا يخبر عن العبادة التي فعلها إلا لضرورة، وكان العلماء الأخيار يخفون أعمالهم، ويحرصون عليها، والرسول ﷺ جعل من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه [رواه البخاري: 1423، ومسلم: 1031].
وقال رسول الله ﷺ: فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس تفضُل أو مثل فضل المكتوبة على النافلة حديث صحيح. [رواه الطبراني في الكبير: 7322، والبيهقي في الشعب: 2851، وقال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني في الكبير، وفيه أحمد بن أسد وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وبقية رجاله رجال الصحيح] .
وقال: صلاة الرجل تطوُّعًا لاحظ كلمة: ((تطوُّعا)) حتى لا تشمل صلاة الفرض في المسجد، صلاة الرجل تطوعاً حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمسًا وعشرين درجة في صحيح الجامع. وفضل قراءة السِّر في القرآن على قراءة العلانية كفضل صدقة السِّر على صدقة العلانية ، وقال الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 271].
وكان بعض السلف يضحك أمام الناس في النهار، إذا جاءت مناسبة قد يضحك، لكنه في الليل كان يبكي دائمًا لا يضحك، يعني من خشية الله تعالى، وكان أحد السلف إذا مرض يرى عنده ما يأكله الأصحاء، يعني إذا مرض جاءت أنواع الفاكهة والطعام الذي ما يأكله إلا الأصحاء؛ حتى لا يري الناس بأنه مريض.
الحذر من بعض الأمور في هذا الباب
لكن يحذر الإنسان من أشياء في هذا الجانب:
الشيء الأول: أنه لا ينبغي للمسلم أن يبالغ في إخفاء العمل بحيث يزري على نفسه، يعني الواحد أمام الناس يقهقه ويأتي بحركات مثل الأبله ومثل المعتوه، وإذا خلا بنفسه رزين ويعبد الله، لا، ليس هذا هو هذا المطلوب، لكن المسلم قدوة، ما يصير أمام الناس أن تفعل هذه الأشياء، وليس مطلوباً منك حتى تخفي عبادتك أن تفعل فعل المجانين حتى ما يظن الناس أنك أنت إنسان تقي وإنسان رزين! لا أنت تظهر بمظهر الداعية أمام الناس، لكن هذه العبادات التي بينك وبين الله لا تظهرها بل تخفيها.
كذلك النقطة الثانية: قد يظن بعض الناس بأن ستره لذنوبه عن الناس رياء، يقول: لا بد أني أكشف لهم عن حقيقتي لا بد أقول أني فعلت كذا وفعلت كذا، أو هو واقع الآن في ذنب يأتي ويقول: أنا أفعل كذا من الذنوب - لاحظ النقطة - أنا إذا كتمت ذنوبي، الناس يظنوني إنسان تقي وما عندي ذنوب، لذلك حتى أبطل هذه الصورة يجب أن أصارحهم بما لديّ من ذنوب! لا، الإسلام جاء بالستر، ولو ابتُليت بشيء من المعاصي فالله أمرك بأن تستره، وليس عليك أن تشيعه وأن تفشيه، وليس إشاعته وإفشاؤه مما يجنبك الرياء، لا، فتخفي هذا العمل لا تبديه حتى لو أنت واقع فيه إلا إذا أردت الاستعانة على تركه بأخ صالح يعطيك نصيحة، بعملية ترك هذا المنكر، فهذا شيء آخر.
كذلك من الأمور أيضاً: قد يتساءل بعض الناس هل كل العبادات يجب أن نخفيها أم بعض العبادات نخفيها وبعضها نظهرها؟ ما هو الضابط في هذا؟ يجيب عن هذا السؤال العز بن عبد السلام فيقول: "الطاعات ثلاثة أنواع: نوع ما شرع مجهوراً كالأذان، والإقامة، والتكبير، والجهر بالقراءة في الصلاة، والخطب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجمعة والجماعة، والأعياد، والجهاد، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، هذا ما يمكن أن تسر به لا بد أن يجهر يعني لا بد أن يعلم بين الناس فهذا لا حرج في إظهاره لكن لا بد أن تكون نيتك طيبة.
النوع الثاني من العبادة: ما يكون إسراره خيرًا من إعلانه؛ كإسرار القراءة في الصلاة، وإسرار الأذكار، يعني في غير موضع الجهر مثل الأذكار التي بعد الصلوات، الأذكار العادية، واحد يذكر الله؛ سبحان الله والحمد لله مئة مرة أو غيرها من الأذكار المطلقة التي لم يرد سنية الجهر بها، فالإسرار بها أولى.
الثالث: ما يخفى تارة ويُظهر أخرى، كالصدقات، فإن خاف على نفسه الرياء أسرّ الصدقة، وإن أمِن الرياء وانضم إلى أمنه إلى الرياء مصلحة شرعية، مثل تشجيع الناس على الصدقة، فإظهار الصدقة في هذه الحالة أولى، ناس كسلانين نعسانين وما يريدوا أن يوتروا، قام واحد بينهم وأوتر، يأمن على نفسه الرياء، لكن أراد أن يشجعهم على القيام وصلاة الوتر، ليس في ذلك حرج؛ خصوصاً إذا كان ممن يُقتدى به، فإذا كان ممن يُقتدى به فيُشرع له أن يظهر هذه العبادة إذا أمن على نفسه إذا كان ما يقتدى به يفعل فعله لنفسه، فالأولى أن يسرها.
ملازمة أهل الإخلاص
ومن علامات القائم بالإخلاص، من علامات المخلصين، أو من ضمن العلاجات قبل أن أنتهي من قضية العلاجات مصاحبة أهل الإخلاص، الناس يتفاوتون، بعض الناس تشعر فعلاً أنه من المخلصين، هذا كثرة مصاحبتك له تتأثر منه وتتعلم منه الإخلاص، مثل ما تعلم واحد من البخاري درسًا في الإخلاص، قال: رأيت أبا عبد الله، وهو جالس في المسجد يحدّث الناس في حلقة العلم، فأخذ رجل من لحيته شيئًا أذى، فطرحه في المسجد قال: فرأيت عبد الله ينظر إلى وجوه الناس، وينظر إلى هذا الوسخ الذي في الأرض، وينظر إلى وجوه الناس، فلما تحين منهم غفلة الناس غفلوا أخذ هذه فدسها في كمّه، فلما خرج من المسجد طرحها، فالآن لاحظ تعلم هذا الرجل من البخاري درسًا عمليًا في الإخلاص. عبد الله بن المبارك في أحد المعارك كان يقاتل في الروم، ما كان معروفًا في المقاتلين، فخرج أحد الروم فطلب المبارزة، فتقدم واحد من المسلمين إليه فقتله، فخرج ثانٍ من الروم متحدياً فتقدم إليه نفس الرجل فقتله، فتقدم ثالث فقتله المسلم، فتقدم رابع فقتله، فازدحم الناس على هذا المسلم لينظروا من هو؟ فلما تزاحموا عليه غطى وجهه بكمه، قال الراوي: فأخذت يده فمددتها فإذا عبد الله بن المبارك، فقال: عبد الله بن المبارك: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنّع علينا"؟ [سير أعلام النبلاء: 8/395]. يعني ما تريد تتركنا في حالنا.
وذلك الرجل الذي اخترق نفقاً مهماً في أثناء حصار المسلمين لبعض الكفار حتى يأس المسلمون، وكادوا أن يستسلموا ويرجعوا عن الحصن، واحد من المسلمين تقدم فعبر نفقاً مائيًا وتسلق السور وقفز إلى الأسفل وقاتل وفتح الباب لوحده ثم أخفى نفسه بين جموع المسلمين المندفعة من الباب، كان قائد المعركة مسلمة بن عبد الملك، أراد أن يعرف هذا الرجل بأي وسيلة فنادى في الناس من صاحب النفق؟ ما أحد يجيب، استحلف بالله الناس صاحب النفق يخرج إليه، ما أحد يجيب، في اليوم الثالث قال: يا صاحب النفق إني آمرك بأمر القائد أن تخرج إليّ، صار طاعة، ففي الليل مسلمة كان استيقظ حتى يكاد يأس أن يأتي الرجل فنام بعد فترة إذا خادمه يوقظه يقول له: إن رجلاً بالخارج يقول أنه صاحب النفق، قال: عجّل عجّل، ائت به، فدخل عليه أول ما دخل عليه قال له: يا مسْلمة اتق الله أحرجتني فأخرجتني، ما كنت أريد الخروج هذه العبادة لله فالشاهد كان السلف يحفظ أحدهم القرآن ولا يدري الناس أنه حفظه، ويتفقّه في الفقه، ولا يدري الناس أنه قد تفقه، ويأتي إلى ناس ينامون عنده ويصلي الليل ولا يشعر الزوار بأنه يطيل الصلاة هكذا يجب أن تكون، هذه من علامات الإخلاص، قضايا عجيبة، الشافعي - رحمه الله - يقول: "وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم حتى لا ينسب إلي منه حرف، وقال أيضاً: "ما كلمت أحداً أو رددت عليه إلا وددت أنه يُسدد ويُعان ويكون عليه رعاية من الله تعالى".
وكان بعض السلف إذا تحاوروا مع بعضهم يتمنى أحدهم أن تكون الحجة على لسان الآخر، يعني أن يظهر الله الصواب على لسان الخصم، هذه منزلة ما يبلغها أي واحد من الناس.
وكان بعض السلف إذا حدث أحدهم بحديث استمع له كأنه يسمعه لأول مرة مع أنه قد سمعه قبل ذلك مراراً، وكان بعض السلف يسمع الحديث وينصت كأنه يسمعه لأول مرة، وقد سمعه قبل أن يولد الذي حدّث بهذا الحديث، فالشاهد هذه المراتب مراتب عظيمة، نسأل الله أن يبلّغنا وإياكم هذه المراتب العظيمة في الإخلاص، وأن يطهّر قلوبنا من دنس الرياء والشرك.