روى عنه خلْقٌ عظيم من أئمة الإٍسلام، دلالة على ما حباه الله به من القبول بين الناس، فإنه تأخرت وفاته، فألحق الأصاغر بالأكابر، وصار عدد من الخلْق تابعين لسببه ، ومن كبار أصحابه والرواة عنه الحسن وابن سيرين والشعبي ومكحول وعمر بن عبد العزيز وثابت البناني وبكر المزني والزهري وقتادة وابن المنكدر، وغيرهم كحُميد الطويل وسليمان التيمي ويحيى الأنصاري وعيسى بن طهمان، من عظماء الرواة في الإسلام، وقد خلّد الله ذكره، وبقي أصحابه الثقات إلى ما بعد مائة وخمسين للهجرة.
دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة لأنس
وكان أنس يقول: "قدِم رسول الله ﷺ المدينة وأنا ابن عشر، ومات وأنا ابن عشرين، وكل أمهاتي يحثثني على خدمة رسول الله ﷺ، فصحب النبي وأتمّ صحبته ولازمه أكمل الملازمة، منذ أن هاجر إلى أن مات ولازال معه، وبايع تحت الشجرة، وقد قال مولى لأنس: أشهدت بدراً، قال: لا أم لك وأين أغيب عن بدر؟ ولكن أنس قد خرج إلى بدر صغيراً وحضرها صبياً، ولذلك كان في رحال الجيش، وكانت تلك الأم العظيمة وهي أُم سليم التي تسببت بالخير لولدها بذلك الإجراء الخطير؛ وهو القدوم بهذا الصبي على النبي ﷺ، قائلة: يا رسول الله، هذا أُنيس ابني أتيتك به يخدمك، فادع الله له فقال: اللهم أكثر ماله وولده [رواه البخاري: 6334، ومسلم: 660]. أم سُليم التي تسببت في كون هذا الغلام يصبح صحابياً من أعظم الصحابة.
كل واحد كان يقدّم للإسلام؛ مالاً، عتاداً، جاهاً، عِلماً، كان يقدّم للإسلام، حتى النساء، فلما لم تجد أم سليم إلا ولدها أن تقدمه لهذا الدين، قدمته خادماً عند النبي ﷺ خادماً عنده وكانت البداية، بداية المشوار العظيم في دعوة كريمة، دخل النبي ﷺ على أم سليم، والنبي ﷺ من خصائصه النبوية أنه يجوز له الدخول على النساء الأجنبيات ﷺ، وإن كان له علاقة رضاع ونسب بعدد من النساء لكن ليُعلم أن هذا من خصائصه النبوية.
دخل على أم سليم، فأتته بتمر وسمن، فقال: أعيدوا تمركم في وعائكم وسمنكم في سقائكم فإني صائم ثم قام في ناحية البيت، فصلّى بنا صلاة غير مكتوبة، فدعا لأم سُليم وأهل بيتها، فقالت: يا رسول الله، إن لي خويصة -وهذا من المواضع النادرة التي يجوز فيها التقاء الساكنين- إن لي خويصة، قال: ((وما هي؟)) قالت: خادمك أنس، فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به" [رواه مسلم: 1982].
كان هذا المشوار بدايته من هذه الزيارة الكريمة التي عرضت فيها المرأة على النبي ﷺ بالطلب الخاص أن يقبل أنساً عنده خادما، والنبي ﷺ لما قالت له: إن لي خويصة -طلب خاص أرجو ألا ترده- خادمك أنس، ادع الله له، فالنبي ﷺ ما ترك شيئاً من خيري الدنيا والآخرة إلا دعا له به، فقال: اللهم ارزقه مالاً وولداً وبارك له فيه [رواه البخاري: 1982]، يقول أنس في رواية: وبارك له فيما أعطيته [رواه البخاري: 6334، ومسلم: 2480]، وفي رواية: اللهم أكثر ماله وولده [رواه البخاري: 6334، ومسلم: 2481]، يقول أنس مبيناً أثر هذه الدعوة: "فإني لمن أكثر الأنصار مالاً"، دعا له بالبركة في المال والولد، يقول: "فإني لمن أكثر الأنصار مالاً، وحدّثتني ابنتي أُمينة أنه دفن لصلبي مقدم حجاج البصرة بضع وعشرون ومائة" [رواه البخاري: 1982]. في حياته دُفن من أولاده وأولاد أولاد مائة وعشرين، قال: "وإن ولدي وولد ولدي ليتعادّون على نحو المائة اليوم" [رواه مسلم: 2481]. إذن، عنده من الأولاد وأولاد الأولاد مائة، وهناك مائة وعشرين دُفنوا في حياته، وهكذا حصلت البركة بالدعاء النبوي الكريم للصحابي الجليل أنس بن مالك، وبارك له فيما أعطيته ، فدعا لي بكل خير وكان آخر ما دعا لي به أن قال: اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيه [رواه مسلم: 660]، دعا لي بثلاث دعوات، كما جاء في صحيح مسلم، "قد رأيت منها اثنتين في الدنيا، وأنا أرجو الثالثة في الآخرة" [رواه مسلم: 2481]، لم يبينها أنس، لكن هي "المغفرة" كما قال شراح الحديث. [فتح الباري لابن حجر: 4/229].
وجاء أيضاً عند ابن سعد بإسناد صحيح: اللهم أكثر ماله وولده وأطل عمره واغفر ذنبه "فإني لمن أكثر الأنصار مالاً"، كان لا يملك إلا خاتماً فقط، لا يملك من الذهب والفضة إلا خاتماً، يقول: يا ثابت، الواحد إذا كان من الأخيار، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11]. لا يزال يتذكر ما كان فيه من الفقر ومِنّة الله عليه بالغنى، فيقول: "يا ثابت -وثابت ربما يكون أحب إليه من أولاده، هذا تلميذ أنس ، "يا ثابت، وما أملك صفراء ولا بيضاء إلا خاتمي" [الطبقات الكبرى: 7/14]، فصار من أكثر الناس مالاً.
وقال أبو العالية: "كان لأنس بستان يحمل في السنة المرتين" [فتح الباري لابن حجر: 4/229]. المحصول عادة يأتي في السنة مرة، إلا بستان أنس في السنة يحمل مرتين، الثمر يحمل على الشجر مرتين، ويحصد مرتين، وكان فيه ريحان، في بستان أنس يجيء منه ريح المسك" وفي رواية: "وإن أرضي لتثمر في السنة مرتين، وما في البلد شيء يثمر مرتين غيرها" [فتح الباري لابن حجر: 4/229]، وحدّثتني ابنتي أُمينة -تصغير آمنة- أنه دُفِن لصلبي -من ولده دون الأسباط والأحفاد- مقْدم حجاج البصرة هذا التأريخ بقدوم المجرم الكبير الحجاج إلى البصرة، يقول: كان قدوم الحجاج البصرة سنة خمس وسبعين، كان عمر أنس بن مالك فوق الثمانين سنة، وعاش أنس بعد ذلك إلى عام واحد وتسعين، وقد قارب مائة عام، دُفن له بضع وعشرين ومائة من الأولاد وقال: "دفنت مائة، لا سقْطاً ولا ولد ولد" [فتح الباري لابن حجر: 4/229]. غير السقط وولد الولد، وبقي في حياته مائة، وكثرة الموت في الأولاد لا ينافي إجابة الدعاء بطلب كثرتهم، ولا البركة فيهم؛ لأن ما بقي ما شاء الله كثير والذين ذهبوا حصل الثواب والأجر بموتهم والصبر على فقدهم وهكذا اجتمع لأنس كثرة الباقين والأجر في الصبر على الذاهبين واجتمع له من كثرة المال مع كثرة الولد مالم يحصل لغيره، فأي دعاء مثل دعاء النبي ﷺ كل ذلك بهذا الدعاء النبوي الذي حصل، وبارك الله في عمر أنس بن مالك، فعاش هذه المدة الطويلة مائة سنة محدثاً راوياً معلماً مجاهداً مربياً كان كثيراً ما يحدث عن النبي ﷺ، ولكنه ترك أشياء كثيرة ما حدث بها، مع أنه من الرواة المكثرين، يقول كما روى البخاري عنه: "إنه ليمنعني أن أحدّثكم حديثاً كثيراً أن النبي ﷺ قال: من تعمّد عليّ كذباً فليتبوأ مقعده من النار [رواه البخاري: 107، ومسلم: 2]. خشي من كثرة التحديث أن يسهو ويقع في خطأ، فقلّل من الرواية احترازاً، مع هذا مسند أنس من أكبر المسانيد في كتب الحديث، فكيف لو حدّث بجميع ما عنده؟ إذن، لبلغ أضعاف ما حدث به كما قال ابن حجر وهو أنس الذي قال: "لولا أني أخشى أن أخطئ لحدثتك بأشياء قالها رسول الله ﷺ" [رواه الدارمي: 241، وقال: إسناده صحيح].
فأشار إلى أنه لا يحدّث إلا ما تحققه ويترك ما يشك فيه. وكل حديث يحتاج إليه المسلمون قد نُقل إلينا، إذا ما جاء من طريق أنس جاء من طريق أبي هريرة وإذا ما جاء من طريق أبي هريرة جاء من طريق ابن عمر، لا يوجد حديث تحتاجه الأمة بقي مدفوناً أو ذهب على الأمة؛ لأن الله تكفّل بحفظ الدين، ومن حفظ الدين: حفظ القرآن، ومن حفظ القرآن حفظ الشرح، والشرح هو السنة، لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44]. ولذلك ذكر العلماء أن قرابة ما على وجه الأرض مما صح عن النبي ﷺ من غير المكرر يقارب عشرة آلاف حديث، والسر في كون هذا الصحابي العظيم بهذه المنزلة الكبيرة؛ لا شك إنها خدمته للنبي ﷺ خدمه منذ أن كان صغيراً لازمه حضراً وسفراً، حتى قضاء الحاجة كان يذهب معه يقول: "كان رسول الله ﷺ إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام منا معنا إداوة من ماء" [رواه البخاري: 151]. أجيء أنا وغلام مقارب لي في السن أذهب معه معنا إناء صغير من الجلد مملوء ماء، ليستنجي منه النبي ﷺ وهكذا يأتيه بحاجته من الماء وكان أنس حُراً ليس من العبيد، لكنه قد أرصد لخدمة النبي ﷺ وحصل له من التمرن هذا تواضع عظيم، وحصل له شرف ما بعده شرف في مرافقة النبي الكريم وخدمته ﷺ شرف كبير، أثنى أبو الدرداء على ابن مسعود عليه، ومن أجله كان -رضي الله تعالى عنه- معلّماً كبيراً ناقلاً للسنة، يأسف على ضياعها، مُنكراً للمنكر، باكياً على ما فات من أمر الإسلام.
يقول الزهري: "دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟
فقال: "لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيّعت" [رواه البخاري: 530].
الاحتراق على ما أصاب الإسلام من النقص، التأسف على المصيبة التي نزلت من التغير بحال المسلمين؛ لأنهم ابتلوا بأمثال الحجاج، من كان يخرج الصلاة عن وقتها، وهذا ما ذهب إليه الشرّاح في قول أنس: "وهذه الصلاة قد ضُيّعت" صحّ أن الحجاج وغيره كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، حتى أن الوليد أخرج الجمعة حتى أمسى، فيقول عطاء: "فجئت فصلّيت الظهر قبل أن أجلس، ثم صلّيت العصر وأنا جالس إيماءً وهو يخطب، وإنما فعل عطاء ذلك خوفاً على نفسه من القتل" وقال أبو بكر بن عتبة: "صلّيت إلى جنب أبي جحيفة فمس الحجاج بالصلاة، فقام أبو جحيفة فصلى" [فتح الباري لابن حجر: 2/14]. فالتألم للتغير الذي حدث يبكي أنس يقول له الزهري: ما يبكيك؟ قال: "لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ُضيّعت" لكن هذا التغيُّر كان في الشام والبصرة خصيصاً، أما أمر الحجاز في ذلك الوقت فكان على خيرٍ بالنسبة، ولذلك يقول أنس في أهل المدينة: "ما أنكرتُ شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف" [رواه البخاري: 724]. وكلما ابتعدتَ عن المركز -مركز العلم والإيمان- كلما حصل التغيُّر، أما مركز العلم والإيمان فيبقى خير وأحسن وأفضل من غيره، فيبقى خيراً وأفضل من غيره، ولذلك ما أنكر أنس إلا قضية التقصير في إقامة الصفوف، ومن الأسباب التي جعلت الخير في المدينة: وجود أمير عظيم عليها؛ وهو عمر بن عبد العزيز، كان أميراً على المدينة في وقت أنس، وكان يقوم بالصلاة، ويحافظ على أوقاتها، ولذلك كان الوضع فيها أحسن من غيره، غزا أنس ثمان غزوات، وهذا مجاهد عظيم في سبيل الله، حضر مع النبي ﷺ المواقف التي رضي الله بها وفيها عن الصحابة، وحازوا من الأجر الجزيل في نُصرة الدين، والدفاع عن النبي ﷺ، ما جعل ذنوبهم ممحية، ورضا الله نازلاً عليهم وبُشِّروا بالجنة لأجل ذلك، ولم يقتصر جهادهم مع النبي ﷺ، بل امتد إلى ما بعد النبي ﷺ رغم كبر سنِّهم، فهذا أنس يحضر فتح تُستر، كما جاء في البخاري، قال: "وقال أنس معلَّقاً: "حضرتُ عند مناهضة حصن تُستَر عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصلِّ إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا وقال أنس: "وما يسرًّني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها" [رواه البخاري: 944]
كانوا في الجهاد في الحصار، ما قدروا على الصلاة، قال الشراح: "يُحتمل أن يكون ذلك للعجز حتى عن الإيماء، ويُحتمل أنهم لم يجدوا إلا الوضوء سبيلاً، فلم يستطيعوا الصلاة إلا بعد ارتفاع النهار، أو انتصاف النهار؛ ولأن الذي شغلهم شيء من الدين أيضاً، فلذلك قال أنس: "ما يسرُّني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها".
اغتبط بما وقع؛ لأنه لم يشغله عن العبادة إلا عبادة أهم في ذلك الوقت فقدّمها، ثم تداركوا ما فاتهم فقضوه، وهو كقول الصديق: "لو طلعت لم تجدنا غافلين: لو طلعت الشمس لم تجدنا غافلين. فنحن في عبادة أيضاً، وإلا فإن الأصل أن الإنسان إذا خشي فوات الصلاة يصليها على حسب حاله، لا يوجد ما، يتيمم ما يستطيع أن يركع ويسجد يومئ إيماء، مثل صلاة الطالب والمطلوب، والهارب والملاحق للعدو، والهارب من العدو، يصلي إيماء ويركع ويسجد إيماء، ويحني ظهره، ما استطاع وهو يكبر ويذكر ويقرأ ويسبح راكعاً وساجداً.
أسلوب أنس رضي الله عنه في التعليم
لقد تميز أنس بأسلوب في التعليم، كان شخصاً عملياً وعالماً عملياً في تعليمه، والقدوات الصادقون حياتهم وأحداث سيرتهم يتأثر بها الناس، وكان أنس من الأشخاص المرموقين يعني يُرمقون بالأبصار، ويُنظر إليهم باستمرار، ويُنقل عنهم العلم والآثار وهكذا لأنه إنما يحكي ويحاكي قدوته محمد ﷺ، يقول أنس: "إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت النبي ﷺ يصلي بنا"، قال ثابت: "كان أنس بن مالك يصنع شيئاً لم أركم تصنعونه، كان إذا رأس من الركوع، قام حتى يقول القائل قد نسي وبين السجدتين، حتى يقول القائل قد نسي" [رواه البخاري: 821].
إذن، صلّى تلك الصلاة ليعلمهم استقرار الظهر بعد الرفع من الركوع، حتى يقول المأموم: الإمام نسي وهو الآن يقرأ الفاتحة، ويجلس بين السجدتين حتى يقول المأموم الإمام نسي وهو الآن يقرأ التشهد، ولكنه في الحقيقة كان اطمئناناً في هذين الركنين اللذين أخلّ بهما الناس؛ الرفع من الركوع، والجلسة بين السجدتين، وعلّمهم عملياً التنفُّل في الصلاة راكباً، ولو إلى غير القبلة وهكذا؛ لأنه رأى النبي ﷺ يفعل ذلك، يصلّي على حمار وهو متوجِّه إلى خيبر، فقال يحيى بن سعيد: "رأيت أنساً وهو يصلّي على حمار وهو متوجه إلى غير القبلة، يركع ويسجد إيماء من غير أن يضع جبهته على شيء" ما يضع جبهته لا على السراج ولا على ظهر الدابة، وإنما يومئ إيماء، ويجعل ركوعه أقل إنحناءً من سجوده
تواضع أنس رضي الله عنه
وكان متواضعاً لوصية النبي ﷺ، فلما جمع النبي ﷺ الأنصار بعد فتح هوازن، وأعطى قريشاً والمؤلّفة قلوبهم مائة من الإبل، وأعداداً كثيرة، وصار في نفس الأنصار شيء جمعهم، وخطب بهم تلك الخطبة المؤثرة، وهو يقول لهم: أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله ﷺ؟ قالوا: "رضينا" قال: إنكم سترون بعدي أثرة استئثار بالأموال واستمساك وشُح، وأن الناس سيتأثرون بالخلافة عنكم، ولا تصل إليكم أيها الأنصار، ولن يصبح منكم خلفاء، ولا ملوك، ولن يؤول إليكم الأمر، سيذهب منكم، وهكذا حصل، قال: إنكم سترون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله ﷺ على الحوض [رواه البخاري: 2377]. قال: موعدنا معكم على الحوض، قال أنس متواضعاً: "فلم نصبر" لأنه منهم من الأنصار، قال: "فلم نصبر" وكان فرحه بحديث النبي ﷺ فرحاً شديداً، أي حديث؟ يقول أنس أن رجلاً سأل النبي ﷺ عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددتَ لها؟ ليس المهم الآن ما هو الوقت؟ المهم: ماذا أعددت؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله ﷺ، فقال: أنت مع من أحببت ، قال أنس: "فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي ﷺ: أنت مع من أحببت قال أنس: "فأنا أحب النبي ﷺ وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم، بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم"
فهذا تمنيه لما أخبر به من أن النبي ﷺ قال: المرء مع من أحب [رواه البخاري: 6168، ومسلم: 2640].
وكان أنس حريصاً على ملاقاة النبي ﷺ في الآخرة، وربما خطر له سؤال لم يطرحه أحدٌ من الصحابة، لكن أنس سأله، قال: "سألت رسول الله ﷺ أن يشفع لي يوم القيامة، قال: أنا فاعل، قال: فأين أطلبك يوم القيامة يا نبي الله؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط وهذا السؤال مهم جداً بالنسبة لنا، نحن إذا ذهبنا إلى الله ورحلنا من الدنيا وقامت القيامة وبدأت مشاهد القيامة تترى، الأمة الناس كلهم من آدم إلى آخر واحد محشورين هناك، أين تبحث وترى؟ أين سترى النبي ﷺ؟ أنس سأل هذا السؤال، من هؤلاء البشرية والأعداد الكبيرة أين أجدك يا رسول الله ؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط أول محل تبحث فيه، قلت: "فإذا لم ألقك؟" قال: فأنا عند الميزان قلت: "فإن لم ألقك عند الميزان؟" قال: فأنا عند الحوض، لا أخطئ هذه الثلاثة المواطن يوم القيامة [رواه أحمد: 12825، والترمذي: 2433، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3625] .
فهذا سؤال أنس مهتم أين يجد النبي ﷺ يوم القيامة؟ فقدّم لنا هذه الفائدة العظيمة، فتذكّر إذن يا عبد الله يوم الدين أنك إذا أردتَ أن تبحث عن النبي ﷺ أن تتوجه إلى الصراط، ثم الميزان، ثم الحوض، لازم يكون موجود، واحد من الأماكن الثلاثة.
لقد كان أنس جريئاً وقوياً في الحق وكانت له مواقف تشهد بذلك؛ ومن تلك المواقف ما يلي: يقول أنس : "أُتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين ، فجُعل في طستٍ، فجعل ينكت، وقال في حُسْنه شيئاً، فقال أنس: "كان أشبههم برسول الله ﷺ، وكان مخضوباً بالوسْمة" [رواه البخاري: 3748]. والقصة بالتفصيل: عبيد الله بن زياد كان أميراً على الكوفة ليزيد بن معاوية، في عهد عبيد الله بن زياد قُتل الحسين، فأُتي برأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد الأمير، أخذ عبيد الله بن زياد قضيباً وجعل يضعه في أنف الحسين ورأسه في الطست، جعل يضع قضيباً في عينه وأنفه" كما جاء في رواية أخرى، فقال أنس : "ارفع قضيبك، فقد رأيتُ فمَ رسول الله ﷺ في موضعه"
وفي رواية: "فقلت له: "إني رأيت رسول الله ﷺ يلثم حيث تضع قضيبك" ارفع قضيبك وأخِّره عن هذا الموضع فإني أنا رأيت النبي ﷺ يقبّل هذا الموضع، قال: "فانقبض وأخر قضيبه" [رواه البخاري: 3748]. وكان الحسين مخضوباً بالوسمة، نبات يُخضب به غامق اللون، وهكذا أُتي برأس حفيد النبي ﷺ فلعنة الله على من قتله.
وكان أنس يحدّث ويقصُّ ويذكِّر الناس بالفضائل، وكان إذا رأى أحدهم من قوم له فضيلته تلا عليه فضيلة قومه؛ ليرفع من المعنويات، ويجر إلى التشبُّه، ويقول: أنت من كذا، فاصنع مثلهم، كما قال غيلان بن جرير قلت: لأنس: أرأيت اسم الأنصار كنت تسمَّون به، أم سماكم الله؟ قال: بل سمانا الله ، كنا ندخل على أنس فيحدّثنا بمناقب الأنصار ومشاهدهم، ويقبل عليّ أو على رجل من الأزد فيقول:" فعل قومك يوم كذا كذا وكذا وكذا؟" [رواه البخاري: 3776]. يعني: يحكي ما كان من مآثرهم في المغازي ونُصرة الإسلام، وهكذا إذا قلتَ: إن من أجدادك من فعل كذا وكذا في نصرة الإسلام، فإن ذلك يهيّج على التشبُّه بهم.
مراعاته رضي الله عنه لمشاعر الآخرين
كان أنس صاحب مشاعر رقيقة وكان يحافظ على مشاعر الآخرين؛ ومن ذلك محافظته على مشاعر فاطمة بنت محمد ﷺ، فلما ثقُل النبي ﷺ جعل يتغشاه، أي الموت، ينزل به من كرب ما ينزل، فقالت فاطمة: "واكرب أبتاه" فقال: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم إذا انتهى الموت سيدخل في النعيم فلا كرب عليه بعد اليوم، فلما مات قالت فاطمة: "يا أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه" فلما دُفن قالت فاطمة: "يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله ﷺ التراب؟ سكت أنس عن جوابها؛ رعاية لها، ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك، إلا أنّا قهرناها على فعله بالدفن وإهالة التراب امتثالاً لأمره ﷺ، الذي أمرنا بالدفن. [رواه البخاري: 4462]. قالوا في شرحه: "أنه إذا لم يكن من النياحة وكان في الميت ذلك حقيقة جاز وقد يغلب على الإنسان ما يغلبه من الشعور فيقول كلاماً قد لا يؤاخذ عليه لحاله الذي غلبه".
لما مات النبي ﷺ يقول أنس كما قال غيره من الصحابة: "ما نفضنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا" [رواه أحمد: 13312 والترمذي: 3618، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: 1631]. هذا شعور من فقد المربِّي، من فقد القُدْوة، من فقد المعلّم، من فقد الذي عهدوا في حياته الألفة والصفاء والرِّقة، تغيرت نفوسهم لفقدان ذلك المربِّي الذي كان يمدهم بالعلم والتأديب، "ما نفضنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا" هؤلاء الصحابة يقولون هذا الكلام.
كان أنس يربّي أولاده الكثُر؛ ذكورا وإناثاً، ويحدّثهم بحديث النبي ﷺ، يقول: "جاءت امرأة إلى رسول الله ﷺ تعرض عليه نفسها، قالت: يا رسول الله، ألك بي حاجة؟" هذا الحديث قاله أنس، بنت أنس كانت جالسة، فقالت: "ما أقلّ حياءها، واسوأتاه واسوأتاه، السوأة: الفعلة القبيحة، فقال أنس: "هي خيرٌ منكِ، رغبتْ في النبي ﷺ فعرضتْ عليه نفسها" [رواه البخاري: 5120].
فلم يسكت لمقالة ابنته وإنما عمد إلى هذا الكلام يؤدبها به، بلغت محبة أنس للنبي ﷺ درجة عظيمة حتى أنه صار يحب الأكلة التي يحبها النبيﷺ، يقول: "إن خيّاطاً دعا رسول الله ﷺ لطعام صنعه فذهبتُ مع رسول الله ﷺ، فرأيته يتتبع الدُّباء من حوالي القصعة، فلم أزل أُحب الدُّباء من يومئذ" [رواه البخاري: 2092، ومسلم: 2041]: "إن خياطاً دعا رسول الله ﷺ لطعام صنعه، فذهبتُ معه فقرّب إلى رسول الله ﷺ خُبزا من شعير ومرقاً فيه دُبّاء وقديد، فرأيت رسول الله ﷺ يتتبع الدباء من حوالي الصحفة، فلم أزل أُحب الدباء منذ يومئذ".
الدباء: القرع، وقيل: المستدير منه وهو اليقطين. لما رأى أنس النبي ﷺ يحبه جعل يجمعه بين يديه ويدنيه منه، كما جاء في رواية: "ولاأزال يحب الدُّباء بعدما رأى النبي ﷺ صنع ما صنع"، فكان ذلك القرْع من أحب الأكل إلى أنس، وكان ما استطاع أن يأتي به في طعامه أتى به، ماذا يؤخذ من الحديث؟ يقول ابن حجر -رحمه الله-: "وفيه الحرص على التشبّه بأهل الخير والاقتداء بهم في المطاعم وغيرها، وفيه: فضيلة ظاهرة لأنس؛ لاقتفائه أثر النبي ﷺ حتى في الأشياء الجبليّة، وكان يأخذ نفسه باتباعه فيها " [فتح الباري لابن حجر: 9/526].
إلى هذه الدرجة حتى الطعام الذي محبته نوع منه أو النفور من نوع منه أمر جبلي يتبع خلقة الإنسان، ما في نفسه، لكن إذا وصلت المحبة إلى درجة عالية يبدأ الإنسان حتى في الأشياء الدنيوية يفعل مثلما يفعل المحبوب، أين هذا مما يفعله هؤلاء السفهاء في العشق والتعلُّق والإعجاب، فيقلّدون من يقلّدون، حتى في أمور الفسق والمحرمات، وهم عن النبي ﷺ وسنّته معرضون، لا يخطر ببالهم البحث عما يقلّدون فيه من السنن، بقدر ما يعشعش في قلوبهم المريضة، ذلك العشق المحرّم، وهذا التعلُّق الرديء الذي يمارسونه، ولذلك من علامات الإيمان حب محمد ﷺ والتأسي به.
أمره رضي الله عنه بالمعروف ونهيه عن المنكر
كان أنس أمّاراً بالمعروف نهاءً عن المنكر، دخل مرة فرأى غلماناً أو فتياناً نصبوا دجاجة يرمونها، مخلوق حي، جعلوه هدفاً يصوّبون إليه، وهذا فيه تعذيب للحيوان، لا تجيزه الشريعة، فقال أنس: "نهى النبي ﷺ أن تصبّر البهائم" [رواه البخاري: 5513]. تُحبس بهذا الشكل الشنيع لترمى وهي ترى ما يقذف إليها، وشيء يجرح وشيء يؤلم في غير مقتل.
وكذلك فإن موقف أنس في كسر أواني الخمر معروف ومشهور، وذلك أنه كان ساقياً لأبي طلحة الأنصاري وغيره من قومه، وكان معه في أحد المجالس أبو عبيدة وأبي بن كعب، وقد قدم لهم الشراب قبل أن يُحرّم من فضيخ تمر، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حُرمت، قال أبو طلحة: "يا أنس" وبين أبي طلحة وأنس علاقة وطيدة، تأثر أنس من أبي طلحة بمواقف متعددة؛ لأن أبا طلحة من خيار الصحابة بمنزلة الأب لأنس؛ لأن أباه ما أعجبه تحريم الخمر، فذهب إلى الشام ومات وهلك من زمان، وبقي أنس مع أُم سليم، وتقدم أبو طلحة لزواجها، وحصل الزواج المبارك، وكان مهرها الإسلام، وحسُن إسلام أبي طلحة، فرأى أنس من أبي طلحة مواقف عجيبة؛ في مثل التصدُّق ببيرحاء، وغير ذلك في قصة تأثير قوله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [رواه البخاري: 2318].
وأبو طلحة ممن زكى أنس للنبي ﷺ، قال: "هذا غلام كيّس فطن ذكي، اتخذه عندك غلاما" [رواه البخاري: 6363، ومسلم: 1365]. وهكذا لما نزل تحريم الخمر قال أبو طلحة لأنس: "يا أنس قُم إلى هذه الجرار فاكسرها، قال أنس: "فقمتُ إلى مهراس لنا، فضربتها بأسفله حتى انكسرت" [رواه البخاري: 7253]. هذه إتلاف آنية المنكر.
ولذلك إذا عرف الإنسان حُكماً شرعياً في أدوات الغناء مثلاً يبادر فوراً إلى تكسيرها، وإذا تاب من شرب خمر يبادر فوراً إلى كسر آنيتها، وإذا تاب من صور محرمة بادر إلى تمزيقها، وإذا تاب من الاتصال بأرقام هواتف على ساقطات وغير ذلك، بادر إلى تمزيق المفكّرة وإحراقها، وهكذا لا بد من إتلاف كل ما يعين ويؤدي إلى المنكر، من حُب أم سُليم وأنس للنبي ﷺ كانت تتبرك بآثاره وبقايا من النبي ﷺ وأجزائه التي انفصلت عنه، وكان ذلك أمراً واضحاً جداً، يقول أنس: إن أُم سُليم كانت تبسط للنبي ﷺ نِطْعاً فيقيل عندها على ذلك النَّطْع، فإذا نام النبي ﷺ أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة ثم جمعته في سُكٍّ، فلما حضر أنس بن مالك الوفاة، أوصى أن يُجعل في حنوطه من ذلك السُّك فجُعل في حنوطه" [رواه البخاري: 6281].
كان النبي ﷺ يدخل بيت أُم سليم فينام على فراشها وليست فيه، فجاءت وقد عرِق، فاستنقع عرقه المبارك، فأخذت من هذا العرق تملأ القارورة، وتجعله في سُكِّها، تسلُت العرق وتجمعه وتأخذ مما بقي أو سقط من شعره فتجعله فيها، استيقظ فقال: يا أُم سُليم، ما هذا الذي تصنعين؟
قالت: "هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب" [رواه مسلم: 2331].
وفي رواية: "فتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريره، فأفاق فقال: ما تصنعين؟
قالت: نرجو بركته لصبياننا، فقال: ((أصبتِ)) فأخذ من هذا الطيب الطيِّب المبارك؛ ليُجعل فيه حنوطه وتجهيزه لموته ، وهكذا كان، وهذا من خصائص النبي ﷺ جواز التبرُّك بآثاره، لكن الآن لم يبق من آثاره شيء ثابت، فكل ما يُقال شعرة وسيف أو غير ذلك، في متاحف وغيرها، فلا تأكيد لذلك مطلقاً، والشك حاصل فيه، ولذلك لا يجوز التبرُّك الآن بشيء زعماً أنه من آثاره، إن هذا الباب قد سُدَّ، وهذا الطريق قد انقطع، فهنيئاً لمن فاز بذلك، ومن تمنّى أن يكون لحق بالركب فيؤجر على نيته.
منهج أنس العلمي
من منهج أنس العلمي أنه كان يكتب الفوائد ويحرص على جمعها، فيقول عِتبان بن مالك: قدمتُ المدينة فحدّث بحديث أنه أصيب في بصره، فبعث إلى النبي ﷺ ليأتيه، فأتاه في منزله وصلّى فيه، وأخبر أن النبي ﷺ قال ذلك الحديث فيمن يقول لا إله إلا الله، وفضل لا إله إلا الله، قال أنس: "فأعجبني هذا الحديث فقلت لابني اكتبه فكتبه" تقييد العلم وتقييد الفوائد. [رواه مسلم: 33].
وكذلك فإن أنساً كان يرى مشاهد من البركة من النبي ﷺ ما يرفع إيمانه؛ وخصوصاً أنه خادمه الملازم له، فتأمل معي في هذا الحديث الذي حسّنه الترمذي وصححه، عن أنس قال: "تزوّج رسول الله ﷺ فدخل بأهله، فصنعت أمي أُم سُليم حَيساً، فجعلته في تَور فقالت: يا أنس، اذهب بهذا إلى رسول الله ﷺ فقل له: بعثت به إليك أمي وهي تقرئك السلام، وتقول: إن هذا لك منا قليل يا رسول الله، فذهبت به إلى رسول الله ﷺ فقلت: إن أمي تقرئك السلام وتقول: إن هذا منا لك قليل، فقال: ((ضعه)) ثم قال: اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً وفلاناً ومن لقيته وأي واحد تجده في الطريق ناده فسمّى رجالاً، فدعوتُ من سمّى ومن لقيت، قلت لأنس: كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، وقال لي رسول الله ﷺ: يا أنس، هات التور ، فدخلوا حتى امتلأت الصُّفة والحجرة فقال رسول الله ﷺ: ليتحلّق عشرة عشرة وليأكل كل إنسان مما يليه ، فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم فقال: "يا أنس، ارفع، فرفعتُ فما أدري حين وضعتُ كان أكثر أم حين رفعتُ" [رواه الترمذي: 3218، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: 3387].
واحد يرى هذه الآيات والمعجزات كيف يكون إيمانه؟ ناس حضروا التأثير الإلهي المباشر في هذه الأطعمة والبركة النازلة من السماء بسبب النبي ﷺ هم يرون أشياء عجيبة، الصحابة ما قوي إيمانهم بشيء سهل يسير، رأوا أشياء عظيمة، ولذلك واحد يرى عشرة عشرة يأكلون والإناء لا ينقص، وهو صنع له ولزوجته، أُم سليم صنعته لشخصين له ولزوجته، وهكذا حصل من هذه الآيات التي رآها بطبيعة حال أنس في خدمة النبي ﷺ كان حافظاً لأسراره وكاتماً لها وفي ذلك تربية عجيبة.
روى مسلم رحمه الله عن أنس قال: "أتى عليّ رسول الله ﷺ وأنا ألعب مع الغلمان فسلّم عليّ فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي من أجل حاجة النبي ﷺ، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله ﷺ لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: "إنها سر" هذا غلام صغير يفهم أنه ما يقول الأمور الخاصة ولا يتكلم بها، إنها سر، الأم ماذا قالت؟ أنا أمك وكيف تخبي عليّ؟ هذه أم مسلمة تربي ولدها وتعين في التربية وهي حلقة من حلقات السلسلة قالت: لا تحدثن بسر رسول الله ﷺ أحداً، يقول أنس لثابت من محبته له: والله لو حدثت بها أحد لحدّثتك يا ثابت" [رواه مسلم: 2482].
وهذا يجعل التلميذ يحب الشيخ لمثل هذا الكلام الذي يقوله له.
ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم
وكانت ملازمته للنبي ﷺ فيها تعلم للأخلاق، أنس ما كان حسن الخلق من شيء يسير، من شيء عظيم رآه، وعظيم جداً، ولذلك كان رسول الله ﷺ من أحسن الناس خُلُقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب، فقلت: والله لا أذهب، الولد أحياناً يتمرد أو يظهر التمرد، "وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به النبي ﷺ" أنس كأنه أراد اختباراً، فخطر بباله خاطرة، النبي ﷺ أرسله في حاجة وهو غلام صغير، فقلت: والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب، إنما خبّأ الطاعة وأظهر خلافها، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله ﷺ قد قبض بقفاي من ورائي، فنظرتُ إليه وهو يضحك، فقال: يا أُنيس، أذهبتَ حيث أمرتك؟ قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: "والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته لم فعلت كذا وكذا؟ أو لشيء تركته هلا فعلت كذا وكذا؟" [رواه مسلم: 2310].
عندما يعامل الخادم هذه المعاملة ماذا يحدث في نفسه لمخدومه؟ عندما يرى الإنسان هذه الأخلاق، أي أثر يستقر في نفسه وتترسخ مثل هذه الأشياء التي تجعله يتعامل على مدى مائة سنة تعاملاً راقياً مع هؤلاء الخلق، فيحبونه أشد المحبة ويُقبل عليه طلابه وأهله أشد الإقبال، فهذا الحفظ للنبي ﷺ وحفظ أخلاقه وسيرته.
قارن بينه وبين ما يفعله كثير من المسلمين اليوم مع الخدم الذين في بيوتهم، الإهانة، والسب، والضرب، حتى أنك لتجد في أقسام الطوارئ من المستشفيات عدداً ممن كُسر أو جُرح أو فقد وعيه نتيجة الضرب، إذا لم يتعد ذلك إلى الاعتداء على الأعراض، فأين هذا من: "خدمتُه عشر سنين، ما قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟" كل المسألة كانت توجيهات وأشياء بالقدوة، والواحد ينفّذ وهو يستحي ألا ينفّذ؛ مما يرى من التعامل الراقي.
وكان أنس إماماً يؤخذ عنه العلم، إماماً يؤتمُّ به، وله نصيب إن شاء الله من قول الله تعالى: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74]. يقول همّام عن أبي غالب: "صليتُ مع أنس بن مالك على جنازة -جنازة رجل- فقام حيال رأسه عند رأس الرجل، ثم جاؤوا بجنازة امرأة من قريش فقالوا: يا أبا حمزة صلّ عليها، فقام حيال وسط السرير -يعني عند عجيزة المرأة-، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت النبي ﷺ قام على الجنازة مقامك منها ومن الرجل مقامك منه؟ قال: "نعم" فلما فرغ قال: "احفظوا" وهكذا كان إماماً متبوعاً يؤخذ عنه، وقد جاءت هذه القصة بتفصيل جميل في رواية أخرى: "عن أبي غالب يقول: كنت في سَكة المربد فمرت جنازة معها ناس كثير، قالوا: جنازة عبد الله بن عمير، فتبعتها فإذا أنا برجل عليه كساء رقيق على بُرَيْذِينَتِهِ، وعلى رأسه خرقة تقيه من الشمس، فقلت: من هذا الدهقان؟ قالوا: أنس بن مالك، فلما وضعت الجنازة قام أنس فصلّى عليها وأنا خلفه، لا يحول بيني وبينه شيء، فقام عند رأسه فكبّر أربع تكبيرات، لم يطل ولم يسرع، ثم ذهب يقعد، فقالوا: يا أبا حمزة، المرأة الأنصارية، فقرّبوها وعليها نعش أخضر، فقام عند عجيزتها، فصلّى عليها نحو صلاته على الرجل، ثم جلس فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان يفعل رسول الله ﷺ يصلي على الجنازة كصلاتك يكبّر عليها أربعاً، ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم، قال: يا أبا حمزة غزوتَ مع رسول الله ﷺ؟ قال: "نعم غزوتُ معه حُنيناً، فخرج المشركون فحملوا علينا حتى رأينا خيلنا وراء ظهورنا، وفي القوم رجل يحمل علينا فيدقنا ويحطمنا، فهزمهم الله، وجعل يجاء بهم فيبايعونه على الإسلام فقال رجل من أصحاب النبي ﷺ: إن عليّ نذراً إن جاء الله بالرجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا لأضربنّ عنقه، فسكت رسول الله ﷺ، وجيء بالرجل، فلما رأى رسول الله ﷺ قال: يا رسول الله، تبتُ إلى الله، الرجل هذا الذي كان ينكي بالمسلمين يقول: تبت إلى الله فأمسك رسول الله ﷺ لا يبايعه فليف الآخر بنذره فجعل الرجل يتصدى لرسول الله ﷺ ليأمره بقتله، وجعل يهاب رسول الله ﷺ أن يقتله، الرجل الذي نذر خائف يريد إشارة واضحة ولا إشارة، يريد أن يقتل الشخص فيهاب أن يقتله، في النهاية بايعه النبي ﷺ لما رأى أن الآخر لا يصنع شيئاً بايعه فقال الرجل: يا رسول الله نذري، فقال: إني لم أمسك عنه منذ اليوم إلا لتوفي بنذرك، قال: يا رسول الله، ألا أومضت إليّ؟ إشارة، فقال النبي ﷺ: إنه ليس لنبي أن يومض أو أن تكون له خائنة الأعين يعني: النبي صريح وواضح ولا يليق بالنبي أن يكون له غمزات وإشارات خفية، النبي صريح وواضح ﷺ. [رواه أبو داود: 3194، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 2412].
فكان أنس إماما يُؤتمُّ به، وهكذا حصل في هذه القصة التي سمعناها في صلاة الجنازة كيف كان التابعين؟ هذا درس كبير كيف كان التابعون ينظرون إلى الصحابة؟ يفعلون مثلهم ويأخذون عنهم العلم ويتواصى بعضهم من بعض يقولون: احفظوا احفظ هذه السنة أين رأيته يقف من الرجل؟ وأين رأيته يقف من المرأة؟ وهكذا، وكان أنس ينقل إلينا ممازحة النبي ﷺ له فقال: "ربما قال لي رسول الله ﷺ: يا ذا الأُذنين وكل واحد عنده أذنان" يا ذا الأذنين يمازحه. [رواه الترمذي: 1992، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 7909].
ومر معنا كيف أنه ﷺ أمره بشيء وأنه أظهر أنه لا يريد وهو في الحقيقة كان يريد، وأن النبي ﷺ تتبعه حتى فاجأه من خلفه قابضاً على مؤخر عنقه وضحك إليه وقال: ((يا أُنيس)) والتصغير هذا للملاطفة. بلغت الأخوة بأنس أنه كان يتذكر إخوانه ولو مضى عليهم سنين طويلة، وإذا رأى واحداً من أولاد إخوانه أو أحفادهم لا يزال يذكر له شيئاً من سيرة أبيه يتحفه بها.
كان واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ من أحسن الناس وأعظمهم وأطولهم، حفيد سعد بن معاذ، يقول: "دخلتُ على أنس بن مالك، فقال لي: "من أنت؟" قلت: "أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ"، قال: "إنك بسعد أشبه، ثم بكى وأكثر البكاء"، فقال -رحمة الله- على سعد: "كان من أعظم الناس وأطولهم، ثم قال: "بعث رسول الله ﷺ جيشاً إلى أكيدر دومة، فأرسل إلى رسول الله ﷺ هذا العظيم من عظماء الكفار تودد بإرسال جُبّة من ديباج منسوج فيه الذهب، فتعجب الناس من لينها، وجعلوا يلمسونها وينظرون إليها، فقال رسول الله ﷺ: أتعجبون منها؟ قالوا: ما رأينا ثوباً قط أحسن منه، فقال النبي ﷺ: لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن مما ترون [رواه أحمد: 12223، وصححه الألباني في التعليقات الحسان: 6998]. وهنا فائدة تربوية؛ إذا رأيت شخصاً فحدثته بصلاح أبيه أو صلاح جده، أيقظتَ في نفسه شعوراً بأهمية أن يكون مثله، وبعض الشباب يتمردون ويعصون، قد يكون أبوه من كبار الدعاة، أو طلبة العلم، أو الصلحاء، لا يفارق الصف الأول في المسجد، ابتُلي بولد عنده انحراف، عنده تقصير، فأنت لو جلست إلى هذا الولد وقلت: أبوك ما شاء الله عليه، أو أبوك رحمة الله عليه كان كذا وكذا وكذا، الولد يستحي، وربما توقظ كلماتك في الولد ضميره، ويريد أن يتشبه بأبيه، مثل تصرفات أنس أشياء مقصودة، فيها توجيهات، فيها أمور دقيقة، ما كان العبث عندهم، كلامهم مقصود، وفيه فوائد، أنس، كان يجالس الطلاب كما قلنا وفيهم صغير؛ لأنه عمر، وحضر عنده طلاب بينه وبينهم في السن شأواً بعيداً، لكن هل كان يأنف من الجلوس إليهم وهم صغار وهو كبير؟ أبداً.
يقول مالك بن دينار: "كنت عند أنس إذا جاءه شيخ فاستأذن عليه وتوكأ على عصاه من الكبر، وقال: يا أبا حمزة لقد أعهدك بين ظهراني قوم ليسوا كقوم أنت بين ظهرانيهم اليوم" أينك وأين الصحابة الذين أنت كنت فيهم لما كانوا أحياء، والناس هؤلاء الذين حولك الآن؟ فقال أنس: "يا أخي، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون [حلية الأولياء: 6/245]. يعني: ما داموا من المتقين والمحسنين صغار أو كبار ما يضر، عزائي لمن مضى هذا الجيل الجديد الناشئ على الدين والطاعة، عزائي فيمن رحل هؤلاء طلاب العلم المقبلين على سماع الحديث.
وهكذا نحن اليوم وقد مضت هذه السنة، والليلة هذه التي قد تكون ليلة الأول من محرّم، وتصرّمت السنة بوفاة مات فيها من العلماء والصلحاء والدعاة، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولم ينقضِ هذا العام حتى ودّعنا من ودّعنا من أهل العلم والفضل، ما هو عزاؤنا في هذا الكم الذي فقدته الأمة في عام 1420 للهجرة؟ ونحن الآن في ليلة السنة الجديدة ما هو عزاؤنا في وفاتهم؟ إن كان من عزاء فهو حال هؤلاء الذين يرتادون حلق الذكر، إن كان من عزاء فهم هؤلاء الشباب الأخيار أو الكبار، أو النساء الذين يحرصون على الخير وحلق العلم والحفظ، والتأسي والتخلُّق بأخلاق من سبق، جاءنا من أبناء من قد سبق وفيه ذكرٌ، فإذا كنا ممن ألقى السمع وهو شهيد، فلا شك أننا سنستفيد.
إن القلب الذي يعتصر ألماً لفراق أولئك الأفذاذ، ونحن نودّع هذا العام، إنه فعلاً يبحث عن تعويضات، والتعويضات لا تكون إلا بأشخاص نذروا أنفسهم لله، وباعوها لهذا الدين، وأوقفوا حياتهم على خدمة الإسلام والمسلمين، فقاموا بكتاب الله، وحفظوا سنة رسول الله ﷺ، وتعلّموا العلم، وفهموا الوحي على منهج السلف وقاموا بالدعوة، إذا كان هناك عزاء فهو هذا، وإذا كان نريد أن نعوّض فعلاً بعض ما خسرته الأمة، وإذا كان فينا خير فلا بد أن يوقظ فينا موت العلماء والدعاة، أن يوقظ فينا إحساساً بالمسؤولية، ونشاطاً زائداً في الدعوة وطلباً مضاعفاً للعلم، وإلا فما خير الحياة وما خير العيش؟!
كرامات أنس رضي الله عنه
كان لأنس كرامات؛ ومن ذلك أنه جاء قيّم لأرضه، مسؤول عن مزرعة أنس، فقال: عطشت أرضوك، فتردى أنس - لبس الرداء -، ثم خرج إلى البرية، ثم صلى ودعا، فثارت سحابة وغشيت أرضه ومطرت، حتى ملأت صهريجه وذلك في الصيف، فأرسل أنس بعض أهله، فقال: "انظر أين بلغت المطر"؟، فإذا هي لم تعد أرضه إلا يسيرا"، كلها في أرضه أفرغت. الحديث رجاله ثقات.
عبادة أنس رضي الله عنه
كان عابداً، كان يصلي حتى تتفطر قدماه مما يطيل القيام، تأسياً بالنبي ، كان أحسن الناس صلاة بالحضر والسفر وأشبه الناس صلاة بالنبيﷺ.
كان حافظاً لله وحافظاً لعبادات الإسلام، يقول همام بن يحيى: "حدّثني من صحب أنس بن مالك، قال: لما أحرم أنس لم أقدر أن أكلّمه حتى حلّ من شدة إبقائه على إحرامه" [سير أعلام النبلاء: 3/401].
من محافظة أنس على إحرامه ما كان يتكلم بكلمة زائدة أو ناقصة، كان حريصاً جداً، حتى أن الرجل ما استطاع أن يكلم أنساً في فترة الإحرام من حرص أنس على التوقي في الكلام، وكان أميناً متحمّلاً للمسؤوليات، وعندما يوجد ناس يتحملون المسؤوليات، شباب، هذه قصة ستأتي، هناك شباب يتحملون المسؤولية، عندما يوجد شباب يتحملون المسؤولية، يرتاح الكبير فيمن يولي؛ لأنه يجد أشخاصاً يوليهم ولا يكون المثل كما قال الشاعر:
إني لأفتح عيني حين أفتحها | على كثير ولكن لا أرى أحدا |
ما المقصود؟ ترى أعداداً، وأحياناً بعضهم ممن ظاهره الخير، لكن كم واحد فيهم يتحمّل المسؤولية؟ كم واحد فيهم مستعد أن يبذل نفسه ووقته لله تعالى؟ كم واحد فيهم يمكن أن يقوم بالمهمة دون إخلال؟ كم واحد فيهم ممكن توكله أن تضع على عاتقه المهمة ثم تنام قرير العين؟
عن موسى بن أنس أن أبا بكر الصديق بعث إلى أنس ليوجهه على البحرين ساعياً، بلد، وهو واحد، يرسل واحداً إلى بلد، من جودة شخصيات الصحابة حتى شُبانهم، شاب واحد يُرسل إلى بلد يكفي، بلد كامل، يقضي ويحكم ويقود ويؤم، مرجع، فدخل عليه عمر فقال: "إني أردتُ أن أبعث هذا على البحرين" أبو بكر يقول لعمر: "إن أردتُ أن أبعث هذا على البحرين وهو فتى شاب!، قال: "ابعثه فإنه لبيبٌ كاتب" فبعثه. [الإصابة في تمييز الصحابة: 1/278].
فلما قُبِض أبو بكر قدم أنس على عمر، فقال: هات ما جئت به؟ قال: يا أمير المؤمنين البيعة أولاً، فبسط يده"، كان عمر أنس لما ولاه عشرين سنة، يقود بلد على البحرين، أنس شاب، قال في الحديث: "وهو فتى شاب" [سير أعلام النبلاء: 3/401]. فأبغوني اليوم شباباً يتحملون المسؤولية، هناك أشخاص أو أمة من الناس يقومون بهم ويقومون فيهم بدين الله .، وكان أنس قد حصل له منقبة في وقت بقي في الدنيا يقول فيه: "ما بقي أحد صلّى القبلتين غيري" [رواه النسائي في الكبرى: 10938، وابن كثير في البداية والنهاية: 12/451، والذهبي في السير: 3/403].
وأيضاً أكرمه الله برؤى، أخرج ابن سعد برجال ثقات في السند عن المثنى بن سعيد، قال: "سمعت أنساً يقول ما من ليلة إلا وأنا أرى فيها حبيبي ﷺ، ثم يبكي" ما من ليلة، كم عاش هو؟ كم سنة؟ "ما من ليلة إلا وأنا أرى فيها حبيبي" [الطبقات الكبرى: 7/15]، وتكفّل الله بحفظه في هذه المدة الطويلة، ووقع له قصة مع الحجاج الظالم، والقصة رويت بأسانيد وفي بعضها ضعف، فإن ثبتت كانت تلك من كرامات الله لأنس بن مالك، أنه دخل مرة على الحجاج فلما وقف بين يديه قال له: إيه إيه يا أُنيس، واحد قزم حقير مثل الحجاج هذا يقول لصحابي أكبر منه في السن: إيه إيه يا أُنيس! يوم لك مع علي، ويوم لك مع ابن الزبير، ويوم لك مع ابن الأشعث، يعني: أنت علينا، مرة مع ابن الزبير، ومرة مع علي، ومرة على بني أمية، والحجاج من قوادهم، والله لأستأصلنك كما تُستأصل الشاة ولأدمغنك كما تُدمغ الصمغة، قال: "إياي يعني الأمير -أصلحه الله-؟" قال: إياك أعني صكّ الله سمعك، قال أنس: "إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لولا الصبية الصغار ما باليت على أي قتلة قُتلت، ولا على أي ميتة مت" ثم خرج فكتب إلى عبد الملك بن مروان بما حصل، فاستشاط عبد الملك غضباً وشفق عجباً، وكتب إلى أنس: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإنا يا أبا حمزة قد كتبتُ إلى الحجاج الملعون كتاباً إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك، وكتب: "أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت من شكايتك للحجاج، وإن عاد لمثلها فاكتب، وكتب عبد الملك خطاباً عنيفاً لما وصل إليه تغير لون الحجاج واستوى جالساً مرعوباً يعرق، وهذا هو حال من كان فوقه واحد ولو كان من كبار الظلمة، يرتجف ويعرق، فقال له: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف، أما بعد فإنك عبد طمت بك الأمور فسموت فيها وعدوت طورك وجاوزت قدرك وركبت داهية إدا، والله لأغمرنك غمر الليث الثعلب، والصقر الأرنب، وثبتَ على رجل من أصحاب رسول الله ﷺ فلم تقبل له إحسانه ولم تتجاوز له عن إساءته جراءة منك على الرب ، واستخفافاً منك بالعهد والله لو أن اليهود والنصارى رأت رجلاً خدم عزير وعيسى بن مريم لعظمته وشرفته وأكرمته وأحبته بل لو رأوا من خدم حمار العزير أو خدم حواري المسيح لعظموه وأكرموه، فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله ﷺ ثمان سنين يطلعه على سرِّه، ويشاوره في أمره، ثم هو مع هذا بقية من بقايا أصحابه، فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خُفه ونعله، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون" [البداية والنهاية: 9/155].
واعتدل الحجاج فوراً واعتذر تأسف، فلعل ذلك من حفظ الله تعالى لأنس -رضي الله عنه-.
أنس شارك في معركة كان الكفار يرمون من فوق السور كلاليب محمّاة لدرجة الاحمرار، إذا نشبت في شخص سحبوه، إذا نزلت على واحد من المسلمين المحاصرين نشبت في جسده سحبوه، فكان أنس تحت الكلوب، سقط الكلوب بادره البراء، فأمسكه وقطع الحبل، وما عاد يستخدمه الكفار؛ لأنه انقطع فوقى الله أنساً بتضحية البراء ماذا حصل ليد البراء؟ انكشف العظم، احترق اللحم، أمسك الكلُّوب وقطع الحبل، فاحترق اللحم وانكشف العظم .
كان تلاميذ أنس بن مالك قد يكون بعضهم أحب إليه من أولاده، ويقول ثابت: "كنا عند أنس وجماعة من أصحابه فالتفت إلينا فقال: "والله لأنتم أحبُّ إلي من عدتكم من ولد أنس، إلا أن يكونوا في الخير مثلكم".
ورُزق أنس قُرة عين في أولاده، واحد يجلس في علم، وواحد يرجع من جهاد، وآخر يقوم في عبادة قرة عين يقول علي بن زيد: كنا جلوساً إلى أنس بن مالك فقال لابنه أبي بكر بن أنس: "حدِّثهم بحديث عتبان بن مالك، فحدّثنا أبو بكر وأنس شاهد، وفي بغية الطلب في تاريخ حلب: "عن ثابت البُناني قال: "كنتُ عند أنس بن مالك وقدِم علينا ابن له من غزاة يقال له: أبو بكر، فسأله فقال: "ألا أخبرك عن صاحبنا فلان؟" الولد الآن ابن أنس يخبر أباه عن شيء عجيب رآه في الغزو، قال: "بينما نحن قافلين في غزاتنا إذ ثار وهو يقول وا أهلاه، واحد يقول: هذا صاحبنا فلان الذي تعرفه أنت يا أبت في الغزوة، كان نائماً وفجأة ثار وقال: وا أهلاه، ففررنا إليه وظننا أن عارضاً عرض له، فقلنا: مالك؟ فقلت: إني كنت أحدّث نفسي ألا أتزوج حتى استشهد، فيزوجني الله من الحور العين، فلما طالت عليّ الشهادة قلت في سفري هذا: إن رجعت هذه المرة سالماً الآن من الغزو تزوجت، ولكنه أتاني آت، وأنا في المنام فقال: أنت القائل: إن رجعت تزوجت، فقم زوجك الله العيناء وانطلق بي إلى روضة خضراء معشبة فيها عشر جوار لم أر مثلهن في الحُسْن والجمال، فقلت: أفيكن العيناء؟ فقلن: نحن من خدمها وهي أمامك، فمضيتُ حتى أتيت إلى ياقوتة مجوفة فيها سرير عليه امرأة، قلت: أنت العيناء، قالت: نعم مرحباً لم أر مثلها في الجمال فذهبت أضع يدي عليها، قالت: مه إن فيك شيئاً من الروح، ولكن تفطر عندنا الليلة، فانتبهت -يعني انتبه من النوم- يقول وا أهلاه.. فما فرغ الرجل من حديثه حتى نادى المنادي: يا خيل الله اركبي، قال: "فركبنا وصادفنا العدو، فإني لأنظر إلى الرجل وأنظر إلى الشمس وأذكر حديثه، فما أدري رأسه سقط أم الشمس سقطت؟ وقُتِل ذلك الرجل ".[بغية الطلب: 10/4344].
فأنس رُزق بأولاد مجاهدين، وعلماء ورواة أحاديث، قُرة عين؛ بحسن تربيته، وأنس بن سيرين أُتي به إلى أنس بن مالك، فسمّاه أنساً وكنّاه بأبي حمزة، وهي كنيته .
كانت تلك طائفة من أخبار هذا الصحابي الجليل في هذه السيرة العطرة التي حصلت له، وكان رجلاً يخضب بالحناء، فيه برص يغطيه بذلك الخضاب، وعاش ذلك العمر المبارك، وترك لنا هذه الذكريات الحسنة، فرضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه، ورفع درجته ومنزلته، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.