الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أيها الإخوة وأيتها الأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مقدمة
نحن نعيش في هذه الأيام ولا شك حالة عظيمة، وكرباً شديداً، وتسلطاً من الأعداء كبيراً، وإذا تلفتّ في المسلمين وجدت الحالة لا تبعث على السرور مما أصابهم من التردي في كثير من الأحوال، ولولا حديث من قال: هلك الناس فهو أهلكهم[1] إذن لقلنا: لا فرج، ولكن الله رحيم، يأتي بالفرج والناس فيهم رجاء، وفي المسلمين خير، لكنه يحتاج إلى بعث.
ولا بد من العلاج لهذه الحالة، ومن أمراضنا التي تحتاج إلى علاج تبلد الإحساس، بعد كثير من المسلمين عن دينهم وأصابنا الذلة لما تركنا الجهاد في سبيل الله وتبايعنا بالعينة، وتعاملنا بالربا، ورضينا بالزرع، فسلّط الله ذلاً لن ينزعه حتى نرجع إلى ديننا، وأصبح الحال كما قال الشاعر:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة | وليلك نوم والردى لك لازم |
وشغلك فيما سوف تكره غبّه | كذلك في الدنيا تعيش البهائمُ[2] |
لقد مات عند الكثير من الناس الشعور بالذنب، مات عندهم الشعور بالتقصير، حتى ظن الكثير منهم أنهم على خير عظيم، بل ربما لم يرد على خاطره أصلاً أنه مقصر في أمور دينه، فبمجرد قيامه ببعض الأركان والواجبات ظن نفسه قد حاز الإسلام كله وأن الجنة تنتظره، ونسي هذا المسكين مئات الذوب والمعاصي التي يرتكبها صباحاً ومساءً من غيبة وبهتان، ونظر لحرام، وشرب لحرام، واستماع لحرام، ولعب بالحرام، وأكل للحرام، وترك لواجب، وفعل لمحرم، وتأخر عن فريضة، وتهاون في حكم، وهكذا من المعاصي والمخالفات التي يستهان بها والتي تكون سبباً للهلاك والخسارة في الدنيا والآخرة، فضلاً عن الكبائر، والموبقات، والفواحش، والرشوة، والسرقة، والعقوق، والكذب، وقطع الأرحام والخيانة، والغش، والغدر، وغير ذلك.
إن هؤلاء المساكين الغافلين السابرين في غيهم قد أغلقت المادة أعينهم، وألهتهم الحياة الدنيا عن حقيقة مآلهم، وإذا استمروا على ما هم فيه فلا بد من وصول الندم.
إذا لم يتوبوا إلى ربهم ولم يفيقوا من غفلتهم فإن العذاب ينتظر.
أما والله لو علم الأنام | لما خلقوا لما غفلوا وناموا |
لقد خلقوا لما لو أبصرته | عيون قلوبهم تاهوا وهاموا |
ممات ثم قبر ثم حشر | وتوبيخ وأهوال عظامُ[3] |
تبلُّد الإحساس ظاهرة عجيبة، التبلد نقيض التجلد، إنه ذل واستكانة.
قال الفيروز أبادي: "التبلُّد ضد التجلد"[4].
وكذا قال ابن منظور، والإحساس: العلم بالحواس.
وفي لسان العرب: "بليد الحس ميت"[5].
وفي قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [سورة الأنعام:60].
قال البيضاوي: "ينيمكم ويراقبكم"، سمي النوم وفاة لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس"[6].
هناك أناس عاشوا في حياة فيها أكل وشرب، لكن قلوبهم ميتة، الإحساس بالذنب، الإحساس بالتقصير غير موجود.
الإحساس بما يصيب المسلمين مفقود، وهكذا تجد القلوب قاسية.
مظاهر تبلُّد الاحساس
إن لهذا التبلد في الإحساس مظاهر ومنها ما ذكره الله تعالى فيما عاتب فيه المؤمنين، فقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [سورة الحديد:16].
استبطأ الله قلوب المؤمنين، فعاتبهم بهذه الآية، وهكذا قسوة القلب بطول الأمد وبعد العهد من النبوة، والعبادة، والرسالة.
إن هذه الغفلة المستحكمة مسيطرة اليوم على الحال لا بد من علاجها، لا بد من زوالها، إن هنالك بعداً عن الدين، تبلد إحساس ضد تبلد إحساس يعيشه البعض في عالم المنكرات والمحرمات يعيشون فيه، ترك الواجبات يعيشون فيه، كثرة رؤية المنكرات يسلب القلب نور التمييز وقوة الإنكار.
المنكرات إذا كثرت على القلب لم يعد ينكرها، هذا التبرج، وهذا الاختلاط، وهذا الغناء، وهذا الفحش، وهذه الدعارة الفضائية.
إن الخوف، كل الخوف أن ينسلخ من القلوب كره المعصية وقبحها، لأن المعاصي إذا توالت على النفوس أنستها وألفتها وعاشت معها وتعايشت معها.
والواجب على كل مسلم ومسلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا رواه أبو داود وهو حديث حسن[7].
والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهينّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم[8].
ما حال شبابنا؟ بناتنا؟ ما حال أسواقنا؟ ما حال بيوتنا يا عباد الله؟
هذا التبلّد في الإحساس الذي أصابنا حتى لم نعد ننكر كثيراً من المنكرات، كثير من المنكرات منتشرة متفشية موجودة لا تجد من يقاومها ولا من يكرها، حتى النصيحة حتى الدعوة قد خفّت عند الكثيرين.
شغل بالتجارة، شغل بالوظائف، شغل بالدنيا، هكذا إذاً الأمور نوم، طعام، أكل، ثم ألعاب إلكترونية وغيرها، صفق في الأسواق، معاكسات، مغازلات، ثم سهر على القنوات، ثم نوم، وهكذا...
ثم نجد الكثير من التهاون والتفريط في الواجبات الشرعية، وارتكاب المحرمات، لدرجة أن يوجد في المسلمين شيء اسمه "عبادة الشيطان" هل كان أحد يتصور أن يوجد في المسلمين من يعبد الشيطان؟
هذه القضية أو هؤلاء القوم الذين ظهروا في بعض البلاد العربية، عبدة الشيطان يروجون للعلاقات الشاذة بين الرجال والرجال، ويصفون أنفسهم بأنهم أبناء قوم لوط، ويعتبرون الشاعر العربي القديم أبو نواس هو نبيهم، والمهندس الذي أنشأ تلك المجموعة يعتقدون بأنه سيلعب دوراً في حماية أتباع الأديان السماوية الثلاثة، يمارسون طقوسا منحرفة، وحفلات ماجنة في المراكب، ويتعاطفون مع اليهود باعتبارهم أصحاب دين سماوي.
وكذلك فإنهم يعتزون بنجمة داود، صلاتهم بالتوجه إلى البحر الميت، تبركاً بالاستحمام بمائه على أسس أنه يطل على أرض أسلافهم قوم لوط الأولين، يكرهون الإناث ويعتبرونهن مجرد مواعين للإنجاب، وهكذا.
البحر الميت قبلتهم! من كان يتصور أنه سيوجد في المسلمين مثل هذا؟ ستعود عبادة الشيطان الممارسة بالتلطخ بالقاذورات والنجاسات، وهكذا من الطقوس العجيبة الغريبة التي تمارس، ثم يأتي بعض من يعذر هؤلاء ويقول: لا تُطبّق عليهم حد الردّة، وهؤلاء لا يعاقبون، وإنما لا بد من الرأفة بهم، وأنهم شباب طائش، ولذلك فإن هذا الطيش لا بد أنه نقابله بتقبل والرأفة بحال هؤلاء.
فإذا قام بعض الذين عندهم غيرة على الدين بإنكار المنكرات قالوا: هؤلاء يطبّق فيهم حد الحرابة، يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ [سورة المائدة:33].
هكذا تقلب الأمور وتعكس القضايا ويطيش الميزان، وكل ذي لُبّ يرى كيف أن هؤلاء وصل بهم الأمر إلى هذه القضية، فلا بياناً ولا قياماً بحق الله في الدعوة والإنكار، وتفشٍ لهذه المنكرات حتى تصل إلى عبادة الشيطان.
تبلُّد الإحساس وعدم التأثر بالقرآن الكريم
يتبلد الإحساس عند الكثيرين إذا سمعوا القرآن، وما بعده، ولو سألت بعض الناس ماذا سيكون في القبر؟ لجهل كثيراً مما يكون، وماذا سيكون في الآخرة، لا يعرف كثيرا مما يكون، بل تراهم حتى في مواضع التذكر في المقابر يضحكون ويمزحون مع بعضهم، والعزيمة هنا، والبر زين، وهكذا تبلد إحساس وجوالات تعمل بالموسيقى عند القبر!
شباب لاهين في الشوارع، رافعين الأصوات الموسيقية، يرقصون على الأرصفة، تبرج النساء، تبلد إحساس، لا هم أصحاب المنكر يرتدعون ويخجلون من أنفسهم، ولا من يقوم ويبين حرمة هذا الذي يفعلونه، أو ينصحهم.
والغفلة في هذا المنصوح لو نُصح، شباب لاهين من هؤلاء، رافعين المنكر، مجاهرين به، نصحهم شخص فيه شيء من الشيب، قالوا: نحن شباب يا شايب اذهب عنا، نحن في هذا العمر نعمل، نمرح، في هذا اللعب، وهذه الأمور محرمة.
تبلد إحساس حتى في قضايا النعمة، ناس عندهم أموال، بيوت، أثاث، صحة، خير، عافية، وظائف، عندهم طعام، شراب، لباس، عندهم كماليات، عندهم أشياء عجيبة في بيوتهم، لكن الحقيقة نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ[9].
تبلُّد الإحساس عند سماع القرآن الكريم
من الذين يتأثرون اليوم بسماع القرآن الكريم؟ يتبلد الإحساس عند الكثيرين إذا سمعوا القرآن، وهو عند كثير منهم أصوات من مقرئين ربما يعجبهم لحنها وجمالها في الظاهر، لكن ليس لقلوبهم منها نصيب.
قال أبو موسى الأشعري في رسالته إلى قرّاء البصرة وكلامه معهم لما دخلوا أرسل إليهم فجاءوه، دخل عليه ثلاثمائة منهم قد حفظوا القرآن، قال: "أنتم خيار أهل البصرة، وقراؤهم، فاتلوه ولا يطولّن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنّا نقرأ سورة كنّا نشبهها في الطول والشدة ببراءة"... الحديث[10].
قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [سورة الأنفال:2].
من صفاتهم: إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، يخشعون لذكره وسماع آياته، والأصل في المؤمن التدبر، والتفكر، والعلم بما أزل الله، والعمل بهذا، أي أمر في الآية، أي نهي فيها.
إن حال المسلم ينبغي أن يكون ...كتاب الله اجتماع على تلاوته ومدارسته في مجالس وحلق تنزل عليها السكينة، وتغشاها الرحمة، وتحفها الملائكة.
تبلُّد احساس الوالدين في تربية الأبناء
هناك تبلّد في الإحساس في قطاعات كثيرة من الناس، تبلُّد إحساس عند أركان الأسرة، الأب لا يهتم لتربية أولاده، ولا بإيقاظهم للصلاة، لا يمنع المنكرات في البيت، تتصل المدرسة على الأب: تعال.
ماذا؟
القضية خطيرة، تعال!
عندي عمل.
اقطع عملك وتعال، المسألة كبيرة.
جاء، لماذا استدعيتموني؟ ماذا تريدون؟ ما هي هذه القضية الخطيرة؟
قالوا: هذا ولدك ضُبط في وضع مخلّ جداً بالدين، والأدب، والحياء في حمام المدرسة.
قال: على شان هذا قطعتم عليّ عملي وأتيتم بي؟ وقام وانصرف.
تبلد الإحساس، لا تقوم على حجاب بناتها، لا تمنع منكرات الحفلات، إحساس الابن الذي تعود على شلة السوء، وسماع الغناء، الألعاب المحرمة، والمعاصي داخل البيت وخارج البيت، مخدرات، وفواحش، حتى بعض الذين هم في سُدة التوجيه من معلم ونحوه، كم من ينكر المنكرات؟ كم منهم يعلم؟ يوجه؟ يربي؟ يعظ؟ يقص القصص؟ يذكّر؟
قليل الذين يبذلون من أوقاتهم في هذا، حتى طلاب تبلّد إحساس كثير منهم، لا يفيد ولا يستفيد، حتى في الشارع أحياناً لا تجد تفاعل مع قضايا المسلمين، وما يصيبهم من النكبات.
تبلُّد الاحساس تجاه قضايا وجراح المسلمين
وإذا وعظتَ الواحد في هذا، قال: يا أخي ما لنا ولهم، هؤلاء بعيدون عنّا، هؤلاء في بلد بعيدة، ما لنا ولهم!
أين مفهوم الأمة الواحدة؟ والجسد الواحد؟
المصائب هذه التي تصيب المسلمين، أليس الذي لا يهتم بأمر المسلمين ناقص الإيمان؟ أليس الذي لا يحزن لما أصاب إخوانه المسلمين من المصائب ناقص الإيمان؟.
أين حديث: مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؟[11].
جيوش الأعداء في البر والبحر والجو وكثير من المسلمين نائمون، الخطر يدق الأبواب وتبلد في الإحساس ولا كأن شيئاً وأخطار قريبة!
لما دخل الصليبيون بلاد المسلمين وعاثوا في الأرض فساداً من نهب وقتل وقتلوا في بيت المقدس 70 ألفاً من الحملات الصليبية الماضية، وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى بغداد مستغيثين بالسلطان منهم القاضي أبو السعد الهروي لما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا، ونظم أبو سعد الهروي كلاماً قرئ في الديوان وعلى المنابر فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الناس على الجهاد، ومنهم ابن عقيل خرج مع الفقهاء، فساروا في الناس.
الرواية تقول: فلم يفد شيئاً.
همم ساقطة، نفوس مغلقة، قال: فساروا في الناس ولم يفد شيئاً فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ويروي ابن تغري بردي، أن قائلاً قال يستنهض الهمم، ويصف الحال:
أحلّ الكفر بالإسلام ضيماً | يطول عليه للدين النحيب |
فحقٌ ضائع وحمى مباحٌ | وسيف قاطع ودمُ صبيب |
وكم من مسلم أمسى سليباً | ومسلمة لها حرم سليب |
أمورٌ لو تأملهن طفلٌ | لطفّل في عوارضه المشيبُ |
أتسبى المسلمات بكل ثغر | وعيش المسلمين إذن يطيب؟ |
فقل لذوي البصائر حيث كانوا | أجيبوا الله ويحكمُ أجيبوا[12] |
ويضيف ذلك المؤرّخ المسلم أن شعراء وخطباء استمروا يستثيرون الهمم، ولكن دون نتيجة، ثم علّق على ذلك بقوله: والمقصود أن القاضي ورفقته عادوا من بغداد إلى الشام بغير نجدة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وتقدم لنا المصادر الإسلامية صوراً أقبح من تقاعس بعض أولئك الذي تولوا مقاليد الأمور في تلك الفترة أمام الفظائع التي ارتكبها غزاة الصليبيين في السواحل الشامية في القدس وغيرها.
وقد جمع أحد الوفود المستنجدة كيساً كبيرة، انظر تبلد الإحساس إلى أي درجة وصل، مصيبة عظيمة!
أحد الوفود المستنجدة من المسلمين جمع كيساً كبيراً مليئاً بقحف الجماجم، جماجم المسلمين، جمعها، التقطها، وضعها في كيس، وشعور النساء والأطفال، ونثروها بين أيدي بعض أولئك الرؤساء، فكان جواب السلطان لوزيره: دعني أنا في شيء أهم من هذا، حمامتي البلقاء لي ثلاث أيام لم أرها!
وقد كان يلهو بالحمام مولعاً به، وكان ذلك شائعاً بين الناس، وهذا الخبر موجود في كتاب النجوم الزاهرة.
لما دخل التتار بلاد المسلمين مصيبة أخرى غير مصيبة الحملات الصليبية، وارتكبوا من المذابح ما لم يسمع به في التاريخ، وذهب الناس يستنجدون برؤوس المسلمين هنا وهناك، وقَدِم الشيخ محيي الدين ابن الجوزي إلى دمشق رسولاً إلى الملك عيسى صاحب دمشق، فقال له: إن التتار قد تغلبت على البلاد وقتلت المسلمين.
فقال له: دعني أنا في شيء أهم من ذلك، حمامتي البلقاء لي ثلاثة أيام ما رأيتها!
وهكذا، ولذلك لما سقطت بلاد المسلمين في الأندلس، لما نقرأ الشعر الذي كتب في وصف ذلك، كشعر أبي البقاء الرندي -رحمه الله- ستجد فعلاً حجم المأساة، حجم المأساة تبلد الإحساس الموجود عند بعض المسلمين الذين طلبوا لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه ونصرة إخوانهم.
هناك أناس أرسلوا بهذه الرسائل لاستنجادات من سواحل الأندلس إلى سواحل المغرب، والمسافة قريبة، يقولون لإخوانهم: هلموا إلينا. لكن المصيبة كبيرة.
لكل شيء إذا ما تمّ نقصانُ | فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ |
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ | من سرّه زمنٌ ساءته أزمانُ |
فجائع الدهر أنواع منوعة | وللزمان مسرات وأحزانٌ |
وللمصائب سلوان يهونها | وما لما حلّ بالإسلام سلوانُ |
دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاء له | هوى له أحدٌ وانهد سهلانُ |
فاسأل برنسية ما شأنُ مرسية | وأين قرطبة أم أين جيانُ[13] |
وأين حمصٌ وما تحويه من نزهٍ | ونهرها العذب فياض وملآن |
-كانت مدن في الأندلس على أسماء بلاد الشام–
كذا قنيطلة دار العلوم فكم | من عالمٍ قد سما فيها له شان |
وأين غرناطة دار الجهاد وكم | أسدٌ بها وهم في الحرب عقبانُ |
قواعد كُنّ أركان البلاد فما | عسى البقاء إذا لم تبقى أركانُ |
وعالمٌ كان فيه للجهول هدى | مدرس وله في العلم تبيانُ |
وعابدٌ خاضع لله مبتهلٌ | والدمع منه على الخدين طوفانُ |
وأين مالقة مرسى المراكب كم أرست | بساحتها فلكٌ وغربان |
وكم بداخلها من شاعر فطنٍ | وذي فنون له حذقٌ وتبيانُ |
وكم بخارجها من منزه فرجٍ | وجنة حولها نهر وبستانُ |
وأين جارتها الزهرا وقبّتها | وأين يا قومِ أبطالٌ وفرسانُ |
تبكي الحنيفية البيضاء من أسفٍ | كما بكى لفراق الإلف هيمانُ |
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة...
إذا تبلّد إحساس الناس، الجمادات لا تتبلد إحساسها.
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة | حتى المنابر تبكي وهي عيدانُ |
على ديار من الإسلام خالية | قد أقفرت ولها بالكفر عمرانُ |
حُوّلت المساجد إلى كنائس...
حيث المساجد قد أمست كنائس | ما فيهن إلا نواقيسٌ وصلبان |
يا غافلاً له في الدهر موعظة | إن كنتَ في سنةٍ فالدهر يقظان |
وسنعود لبعض أبياتها...[14]
إذا تبلد الإحساس كيف ينبغي أن تخاطب النفوس؟
تفسير الظواهر الكونية بتفسيرات طبيعية بحتة
إن من تبلد الإحساس أيضاً أن تٌفسر الأشياء التي تجري في الواقع من أحداث وأمور يخلقها الله بتفسيرات طبيعية بحتة، يعني مثلاً: الزلازل، يقولون: هذه ارتطام طبقات الأرض...
ما أحد - إلا من ندر- يقول: هل هذا عذاب؟ هل هذا انتقام إلهي؟
كذلك في الأوبئة والأمراض يقولون: هذه سببها كذا، وفيروس كذا، ودخل وفعل وحصل في الخلية، وأثر في المناعة
من الذي يفسر ذلك بأنه عقوبة إلهية لأهل الكبائر والمعاصي.
والبشر لما ابتعدوا عن الشرع بماذا ابتلاهم الله؟
تأتي أحياناً ريحاً حمراء، ريحاً صفراء، لا يتفكرون فيها، وعندما تحدث زلازل ويقوم بعض الدعاة بوعظ الناس يأتي بعض هؤلاء متبلدي الإحساس يقولون: تقولون لنا: اتقوا الله؟ نحن ماذا عملنا؟ هذه قشرة أرضية، وصفحات في الأرض ترتطم ببعضها، ما علاقة هذا؟ سبحان الله العظيم، إلى هذه الدرجة إذاً وصلت القضية في تبلّد الإحساس، وعندما يقع الكسوف، كاميرات، أناس تصور، نظارات تقي من الأشعة... أين أنت؟ ما هذا التبلد إلى هذه الدرجة؟ لماذا؟ لذلك
أسباب منها:
ضعف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، لو صح الإيمان باليوم الآخر ما غفل العبد.
نظر الحسن البصري إلى أهل زمانه وقد تكالبوا، بعضهم انشغل بالدنيا، غفل عن الآخرة، مع أن ذلك زمن فضل، وصحة للأمة.
قال: "أمؤمنون بيوم الحساب هؤلاء؟" كلا، كذبوا ومالك يوم الدين.
وكذلك فإن ما يصيب هؤلاء في الحقيقة نقص في العقل، لذلك يوم القيامة أهل النار يقولون: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير!
طغيان المادة وحب الدنيا على الناس
ثم من أسباب تبلد الإحساس طغيان المادة على الناس، حب الدنيا، الانشغال بها، الولوغ في أوديتها.
وهكذا صارت القضية مادة في مادة، وحتى إذا صارت المسائل في أمور دينية شرعية تدخل المادة فيها.
صارت صلة الرحم تقطع من أجل المادة، بر الوالدين ينسى لأجل المادة، إطعام المسكين ينسى، إكرام الضيف ينسى.
هناك أشياء كثيرة تحدث من التغيرات في حياة الناس.
الرسول ﷺ قال: ما الفقر أخشى عليكم، لكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما هلكتهم[15].
إذن: هذه الدنيا تلهي، وبعض الناس... أشراط الساعة منها كثرة المال، هكذا ينشغلون بها، تعس عبد الدينار.
لماذا سماه عبداً؟ تعس عبد الدرهم، لأنه صار يرضى من أجله ويسخط من أجله، يحب من أجله، ويبغض من أجله، يحيا من أجله، يعمل من أجله، عبد الدينار، عبد الدرهم.
هناك ناس عبدوا الوظائف وإنهم يتفانون فيها، ويتأخرون فيها، وينسون أهليهم ودينهم، حتى الصلاة التهوا عنها بهذا الجري وراء التجارات، والصناعات، والمساهمات.
ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لقال: أبغني ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب متى يملؤه؟ عند الموت، إذا أدخل عليه القبر وأهيل عليه التراب، لا يملاً جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب [16].
كثرة المعاصي وعدم قبحها واستقباحها
ثم ثالثاً من أسباب تبلد الإحساس: كثرة المعاصي التي انسلخ من كثير من القلوب قبحها واستقباحها، حتى صارت عادة لكثير من العصاة، يحيون عليها، يعيشون من أجلها، وفيها يرتعون، يجتمعون عليها.
واحد دخل مستشفى، المريض في العادة يقترب من الله، مبتلى، هذا في المستشفى يوزع سجائر ويبيع في المستشفى!
إذا كانت المسألة وصلت إلى هذه الدرجة من استيلاء المعاصي على هؤلاء يعصون الله حتى في وقت الابتلاء، إذا كان على سرير المستشفى، هو الآن يسمع الأغاني، ويرى النساء المتبرّجات، وهو في حال الكربة، ما معنى هذا؟
أي حال وصل إليه هؤلاء، هذا الضرب من الناس هل يتوب؟ هل يعافى؟ إذا كان في الوقت الذي يؤمل فيه أن يتوب ويمكن أن يرجع إلى الله هذا حاله، فما هي النتيجة المتوقعة؟
مسألة المجاهرة بالمعصية، الآن قضية المعاصي عند كثير من الناس ما عادت مستترة في البيوت، ما عاد يغلق بابه على معصية، يجاهرون بها في الشوارع، في الأسواق.
يعني هؤلاء النساء المتبرجات، تبرج هذا امام الناس ما هو؟ أليس مجاهرة بالمعصية؟ وهؤلاء الشباب بهذه المناظر العجيبة من التشبه بالكفار وتقليدهم، الذين يعملون المنكرات في الأسواق علانية، إذا كان هو يقترب من البنت في الشارع وفي السوق علانية ويأخذ رقماً ويعطي ويتكلم علانية، إذا كان يجلس بالمطعم أمام الناس من وراء الزجاج علانية.
ووجدت فواحش في مطاعم، ما معنى ذلك؟
رأيتُ الذنوب تميت القلوب | وقد يورث الذل إدمانها |
وترك الذنوب حياة القلوب | وخير لنفسك عصيانها[17] |
ولذلك فلا بد من الحذر من المعصية ومن التعود على المعصية؛ لأن التعود عليها مصيبة أكبر من اقترابها لأول مرة أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [سورة الأعراف:100].
قضية الطبع والختم مصيبة، يتبلد الإحساس، الواحد بعد ذلك لا يتأثر، لا يرعوي، لا يرجع، لا يتوب، لا يندم، لا يبكي، لا تدمع عينه تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً [18].
أرأيت توالي الأعواد في الحصير وراء بعض، كذلك المعاصي إذا جاءت عن قلب وراء بعض، ماذا يحدث؟ إذا قبلها وتشربها، نكت سوداء وراء بعض حتى يكون الران الذي ذكره الله كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين:14].
فيصبح القلب مجخيا مقلوباً، يصبح كالكأس المقلوبة لا يمكن ملؤه بأي شيء مفيد، يصبح مثل الصخرة الصمّاء لا يقبل شيئاً من الخير، يصبح أسود، مرباداً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
ولذلك بعض الناس تنصحه ويقول: ماذا فيها؟
وكأنك تتكلم عن قضية عادية مثل أكل أو شرب، مع أنه مقيم على كبيرة من الكبائر.
قال النووي: "إن الرجل إذا تبع هواه وارتكب المعاصي دخل قلبه كل معصية بكل معصية تعاطاها ظلمة، وإذا صار كذلك افتتن وزال عنه نور الإسلام"[19].
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [سورة طه:124].
الآن عصرنا عصر الإباحية، والتعري، وكشف العورات في هذه المواقع، وهذه القنوات، وهذه المجلات.
أثر الإباحية في تبلّد الإحساس
ما هو أثر الإباحية في تبلّد الإحساس؟ ودعونا ننتقل لكلام بعض الكفرة في هذا الموضوع لعله يكون عند بعض الناس أوقع...
وجد عالم النفس الدكتور إدوارد دورنستين من جامعة ويسكينسون بأمريكا بأن الذين يخوضون في الدعارة والإباحية غالبا ما يؤثر ذلك في أنفسهم عدم الاكتراث لمصائب الآخرين، وتقبّل جرائم الاغتصاب.
هذا الكافر هذا يلاحظ على قومه، انتشار الإباحية إنه تصير نفوسهم فيها تقبّل لجرائم الاغتصاب مع أن الاغتصاب ظلم واضح، يخطف فتاة ويفعل بها الفاحشة، لكن يصير عنده شيء طبيعي، كما وجد عدد من الباحثين بأن مثل هذه الإباحية تورث عدم المبالاة لهذه الجرائم، وتحقيرها.
وقام الباحث الكندي "جيمس شك" بدراسة عدد من الرجال الذين تعرضوا لمصادر مواد إباحية بعضها مقترفة بالعنف، وبعضها لا يخالطه العنف، وكانت نتيجة هذه الدراسة: أن الباحث وجد في كلتا الحالتين تأثيراً ملحوظاً في مبادئ وسلوك هؤلاء، وتقبلهم بعد ذلك لاستعمال العنف لإشباع غرائزهم.
هذا كلام أبحاث علمية من أناس كفار هناك رجال تعرّضوا لتوالي صور وأفلام مكثفة من المواد الإباحية، فكانت هذه النتيجة.
تبلُّد الإحساس يعني: تقبُّل الجرائم، تصبح الجريمة شيء عادي، ليست قبيحة؟، ليست مرفوضة، هنا الخطر، ألا يصبح المنكر مرفوضاً، ألا يصبح المنكر قبيحاً.
الظلم
ثم الظلم من أسباب تبلّد الإحساس، الواحد إذا صار يظلم الخادم، ويظلم العامل، ويظلم شريكه، ويظلم أخاه، تعوّد على الظلم، يظلم من تحت يده، تبلّد إحساسه.
الآن لو جاء واحد قال له: أما تخشى أن يخسف الله بك الأرض؟ أما تخشى أن ينزل الله عليك عذاباً؟ ما تخشى أن يأخذ الله روحك؟ إن الله يمهل ولا يهمل!
هناك تبلد إحساس في القضية وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ [سورة إبراهيم:42].
المسالة مسألة إمهال، إمهال ليزدادوا إثماً ثم يأخذهم، فإذا أخذهم كان الأخذ أليماً شديداً أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة هود:18].
قضية إدمان المخدرات وشرب الخمور المنتشرة الآن، هذه ما توجد تبلّد في الإحساس؟ الآن مدمنو المخدرات هؤلاء هل عندهم إحساس مثلاً بواقع المسلمين، والمعاصي، انتشار الفساد، وقضية النهوض بالأمة، وجوب النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، والدعوة إلى الله...؟ هل يحس هؤلاء بأهمية العلم الشرعي؟ وأهمية الإقبال على الله؟
هذه المسألة إذا انتشرت، إذا صار نسبة كبيرة يتعاطونها، هذه المخدرات بلاء عظيم، هذ الإحساس ماذا سيكون حاله؟
تحوّل العبادات إلى عادات
ثم من الأسباب: أن بعض العبادات تتحول عند بعض الناس إلى عادات، وتمر مروراً عاديا جداً، مثلما يحدث أحياناً نتيجة كثرة معاشرة بعض الأطباء للحالات الطارئة في أقسام الإسعاف والحوادث، فلو جيء له بواحد مقطّع في النهاية ما يجد أشياء تفاعلات في نفسه، مثل مغسّل الأموات، إذا كثر تغسيله للأموات في النهاية كما يخبرنا البعض، يقول: في مغسلة الأموات في أحد المستشفيات، يضحكون، هم يغسلون الميت ويضحكون، ويمزحون.
إذا كثر الإمساس قلّ الإحساس، لذلك لا بد الواحد دائماً يعمل مراجعة دورية لهذه القضايا التي يمر عليها يومياً، وربما يكون له فيها موعظة وعبرة وهو لا يعتبر ولا يستفيد.
لماذا قال النبي ﷺ: من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضّلني على كثير ممن خلق تفضيلاً إلا عوفي من ذلك البلاء كائنا ما كان[20]، وفي رواية: لم يصبه ذلك البلاء[21].
لو أنت كنت تراه كل يوم، افترض يا أخي واحد في معهد الصم والبكم يدرس مثلاً، وللمعاقين، الناس هؤلاء الذين يعاشرون المعاقين يومياً ربما يصير عندهم تبلُّد إحساس في قضية نعمة البصر والسمع.
بينما الذي يراها بين فترة وأخرى تحدث في نفسه تفاعلاً فيرى نعمة الله عليه، ولذلك فلا بد من مراجعة للنفس في هذه القضية.
كثرة ممارسة الأعمال الورقية وأعمال الكمبيوتر
وهناك من أسباب تبلّد الإحساس أيضاً أعمال آلية، لقد وجدت من نتائج بعض الأبحاث العلمية أن الأشخاص الذين يمارسون أعمالاً ورقية باستمرار أو أعمالاً متعلقة بجهاز الكمبيوتر باستمرار يحصل عندهم شيء من التبلد، وقد يكون هذا التبلد ذهنياً .
ولذلك ذكر ابن حجر -رحمه الله- في كتاب "شذرات الذهب" في ترجمة أحد أهل العلم، ولا داعي لذكر اسمه، قال: نشأ محباً في العلم وحفظ القرآن وعدة مختصرات، وتعانى الأدب فمهر فيه.
قال ابن حجر عنه: "وبالجملة كان عديم النظير في الذكاء وسرعة الإدراك إلا أنه تبلّد ذهنه بكثرة النسخ"[22] ، يعني: ما عاد تنقدح في ذهنه المسائل أو الاستنباطات، وتأتي في ذهنه هذه الأشياء بهذه المهارات نتيجة أنه كان دائماً يتعاطى الكتابة بطريقة نسخ، بطريقة آلية معينة، وهذه الأشياء الآلية أحيانا تفقد الذهن طراوته.
هذه مسألة قل إنها ربما لا تكون مباشرة في صلب موضوعنا، لكن الإنسان عليه أن يجدد، حتى الذين يمارسون بعض الأعمال الوظيفية أو التجارية إذا استطاع، وجد فرصة أن يجدد فليجدد، لأن ذلك يثري خبرته وتجربته ويحيي ذهنه.
عدم محاسبة النفس وطول الأمل ومخالطة البطّالين
عدم محاسبة النفس من أسباب تبلد الإحساس، طول الأمل، وعدم التفكر في الموت من ذلك، الأمنيات الزائفة، التسويف، مخالطة البطالين، كثرة الانشغال بالمباحات، عد الاشتياق إلى الجنة وإلى لقاء الله.
اللهو -مثلاً- لمناصب، الأموال.... إلى آخره، الألعاب هذه، الألعاب الإلكترونية، هذا السوني بلايستيشن جعلت عند أولادنا من تبلّد الإحساس ما الله به عليم.
فعلاً صار الولد أصلاً إذا خاطبته، إذا كلمته، كأنه في كرة من زجاج هو في الداخل وأنت في الخارج، فهو بالنسبة له يرى واحداً يشير بعينيه وأصابعه وكذا...
لكن شفتيه تتحركان، لكن لا يفقه شيئاً من الأشياء.
وربما نحن أطلقنا لهم العنان في أشياء أضرت بهم.
التساهل بالمنكرات والمحرمات
ثم من نتيجة تبلّد الإحساس أن المنكرات عند بعض الناس تخف شيئا فشيئاً، كان بعض الناس الذي عنده القنوات هذه القنوات المجاورة، يقول هذا يعتبر الآن شيء جيد بالنظر إلى ما جاء من قنوات عرب سات.
ولما جاءت قنوات عرب سات صار يقول: هذا ما عنده عرب سات، هذا طيب؛ لأن هناك واحد عنه ديجيتال.
فهكذا كل حال أنسانا ما قبله، وكلما جاءت قضية بعد قضية صار الذي كان يرتكب هذا المنكر من قبل جيد بالنسبة للأسوأ منه، وصارت المقارنة بالأسوأ، وهذه قضية لا تنتهي؛ لأنك الآن لو قلت: لا يصلي مع الجماعة.
قالوا: هذا طيب، هناك ناس ما يصلي الفجر أصلاً.
وإذا قلت: فلات ما يصلي.
يقول: هناك ناس ما يصلون الصلوات لخمس كلها.
وإذا جيت قلت: لا ما يصلي الصوات الخمس.
قال: فيه شيوعي ما يعرف الله!
فإذن، صارت المسألة مقارنات بالأسوأ وهذا من تبلد الإحساس، ما هو حال نبينا ﷺ وما هو سلفنا الصالح في هذه القضية؟
كيف كانت قلوبهم حية؟ كيف كانت نفوسهم مقبلة؟ كيف كان عندهم هذا الانتعاش القلبي الإيماني، كيف كانوا يحييون هذه الحياة الكريمة، كيف كان عندهم إقبال على الله والعبادة والطاعة ومحبة أهل الخير، والصلاح، والمسارعة في الخيرات، والتباطؤ وبعد عن المعاصي في المعاصي...؟
النبي ﷺ، القلوب الحية قضية معاكسة لتبلد الإحساس، القلوب الحية إذا رأت مظاهر أو أشياء حالات تتفاعل معها.
عن عائشة أنها قالت: "ما رأيت رسول الله ﷺ مستجمعا ضاحكاً حتى أرى منه لهواته".
ما حصل أنها رأته يقهقه حتى ظهرت اللهوات" أبداً. "إنما كان يتبسم"[23].
قالت: وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه.
فقالت: "يا رسول الله، أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء ان يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية.
قال: يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ قد عذّب قومٌ من ريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا عارض ويزول، مطر، سحاب، يمطر ويمضي، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة الأحقاف:24].
إذن، كان هذا فزعه ﷺ إذا رأى غيماً، غيم في المدينة النبوية التي فيها الرسول ﷺوالصحابة، ومعقل الإيمان، دار الإيمان، عاصمة الإسلام، إذا رأى فيها غيماً، قال: ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟[24].
ونحن تمر غيوم، وتمر سحب، وقطرات ماء، وأشياء كثيرة، وربما لا يخطر ببال الواحد أصلاً أن يفكر من هذه الجهة
وقبل يومين عندما تغير لون السماء قالوا: هذا كيماوي!
المسألة هنا قضية الاهتمام بالدنيا، بالصحة، لا يكون هذا مضر بالصحة لا سمح الله.
طيب والآخرة؟ ممكن يكون هذا مثلاً فيه شيء من العذاب.
النبي ﷺ من حديث أبي بكرة، قال: خسفت الشمس ونحن عند النبي ﷺ، فقام يجر ثوبه مستعجلاً حتى أتى المسجد.
قام مستعجلاً، فصلى ركعتين، فجلي عنها - عن الشمس - ثم أقبل علينا وقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا رأيتم منها شيئا َفصلوا وادعوا لله حتى يكشفها[25].
وروى مسلم، هذه رواية مسلم مهمة في توضيح المقصود وحال النبي ﷺ: "أن أسماء بنت أبي بكر قالت: "كسفت الشمس على عهد النبي ﷺ، ففزع، فأخطأ بدرع حتى أدرك بردائه.
كسفت الشمس، ففزع، أخطأ بدرعٍ حتى أدرك بردائه"[26].
معنى ذلك: لما وقع الكسوف فزع؛ لأن هذا الكسوف، زوال نور الشمس متى يكون؟ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [سورة التكوير:1]، يعني يوم القيامة، لُفّت وذهب نورها وضوؤها، وهذا الكسوف تذكير ليوم القيامة، وأصحاب القلوب الحية أدنى تفكير عندهم بيوم القيامة، أدنى مناسبة عندهم شيء كبير.
فقام إلى المسجد، ما معنى "أخطأ بدرعٍ" يعني من همه بالموضوع وسرعته وذهابه للمسجد، أخطأ وأخذ درع بعض أهله سهواً، من الاستعجال أخذ حجاب زوجته.
فأدرك بردائه، لحقه واحد بردائه، بدل ما يأخذ الرداء أخذ درع المرأة لاشتغال قلبه بأمر الكسوف.
فوات الطاعات كيف كان عندهم؟ يعني الواحد إذا فاتته تكبيرة الإحرام مثلاً من السلف كان يعزى عليها.
قال حاتم الأصم: "فاتتني صلاة الجماعة فعزّاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف"[27].
إذن، هو يتأسف أن يعزوه الناس على الأمور الدنيوية ولا يعزونه على فوات الدين.
يقول الولد قد يعزيني عليه عشرة آلاف. فمعارفه كثر جداً، طلابه كثر وفوات تكبيرة الإحرام!
ولذلك كانوا يشتاقون للطاعات، حتى العصاة في ذلك الوقت، وقت عافية الأمة حتى العاصي بالرغم من معصيته يشتاق للطاعة، هذا أبو محجن كان شجاعاً فارساً، لكن ابتُلي بالخمر، فأتي به إلى سعد بن أبي وقّاص، وكان في وقت المعركة، فأمر به إلى القيد، الآن يصعب إقامة الحدود في وقت المعركة، قال: يُسجن. جاء وهو سكران، يُحبس.
لما التقي المسلمون والفرس قال أبو محجن، هو ينظر من بعيد من بيت سعد ينطر إلى مكان المعركة، قال:
كفى حزناً أن تُطردَ الخيل بالقنا | وأترك مشدودا عليّ وثاقيا |
كفى حزناً أن الخيل تعدو في ميدان المعركة وأنا مشدود في الوثاق، فقال لامرأة سعد: "أطلقيني ولكِ والله علي إن سلمّني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قُتلتُ استرحتم مني".
فحلته حتى التقى الناس، وكان بسعد جراح، سعد يراقب المعركة، جريح، وصعدوا به من فوق ليشرف على الناس ويتابع سير المعركة، فوثب أبو محجن على فرس لسعد وسعد لا يدري، أنهم قالوا لها البلقاء، ثم أخذ رمحاً ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم.
وجعل الناس يقولون: هذا ملَك؛ لما يرونه من صنعه، وجعل سعد يقول: "الصبر صبر البلقاء" هذه ناقتي التي أنا أعرفها هذه دابتي التي أعرفها، صابرة في المعركة "والطعن طعن أبي محجن"، استغرب، الصبر صبر البلقاء والطعن طعن أبي محجن، وأبو محجن في القيد، كيف هذا؟
ثم إن سعداً لما انتهت المعركة، وهُزم العدو رجع أبو محجن حسب الوعد ووضع رجله في القيد.
فاستفسر، سأل سعد فأخبرته امرأته بما كان، فقال سعد: "لا والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاهم".
فخلوا سبيله.
قال أبو محجن: "قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد، وأطهر منها، أما إذ بهرجتني فلا والله لا أشربها أبداً".
يعني كنت من أول إذا شربتها جلدتموني، والحد كفارة، والآن أنت تقول: لن تعاقبني، إذن كيف التطهير؟ "فلا والله لا أشربها أبداً" وهكذا[28].
عبد الله بن مسعود ربى تلاميذ، كان من تلاميذه شخص يقال له: الربيع بن خثيم -رحمه الله-.
هذا من كبار المحدّثين العلماء الفقهاء العبّاد الزهّاد أهل الورع والخشية.
لما مرّ تلاميذ ابن مسعود مع ابن مسعود على حداد، والحداد عنده فرن النار لكي يدخل فيه هذا الحديد الخام ليزيل الشوائب، فجعل عبد الله ينظر إلى حديدة في النار، فنظر الربيع إليها فتمايل ليسقط مما تذكر من عذاب الله.
ثم أتوا على تنّور على شاطئ الفرات، فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه، الآن نحن إذا مرينا على خبّاز ورأينا فرناً مثلاً وهناك نار في الفرن، ما هي الموعظة من الموضوع؟ وما هي الفكرة التي ستأتي في نفوسنا؟
عبد الله لما مرّ على فرن الخبّاز والتنور، فرن النار فيه تلتهب قرأ هذه الآية: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا[سورة الفرقان:12- 14].
فصعق الربيع، فاحتملناه فجئنا به إلى أهله، يعني مريضاً، وهكذا لما مرّ على الحدادين ونظر إلى كير وصُعق، قال الأعمش: "فمررت بالحدادين لأتشبه به، فلم يكن عندي خير" يعني ما حصل في نفسي، ما أثر علي مثلما أثر عليه.
والله تعالى يقول عن نار الدنيا: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ [سورة الواقعة:73].
للمسافرين، يستفيدون من النار، والنار ماذا أيضاً نار الدنيا هذه؟ نحن جعلنا نار الدنيا نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ومعنى تذكرة يعني تذكر بنار الآخرة، يعني المفترض نحن إذا رأينا نار الدنيا أن نقول في أنفسنا: كيف نار الآخرة؟ وهكذا كانوا، حتى بعض الأطفال في عهد السلف، طفل من أطفالهم رأى أهله يوقدون ناراً للطعام، حطب، فلما نظر إليها جعل يبكي، فقالوا له: لماذا تبكي؟
قال: وجدتكم تبدؤون بصغار الحطب قبل كباره.
هذا مستوى طفل، قال: وجدتكم تبدؤون بصغار الحطب قبل كباره.
يعني يقول: يمكن يوم القيامة إذا مت أنا قد يُبدأ بي، الصغار قبل الكبار مثل حطب الدنيا.
أليس ناراً وقودها الناس والحجارة؟ ناس، الذي عنده يقظة يا إخوان غير، تفكيره تماما غيرـ، الذي عنده تبلد إحساس، بعيد تماماً عن الموضوع ولا يفكر في أمور مثل هذه.
كان هشام الدستوائي إذا فقد السراج يتململ على فراشه، ما يأتيه النوم، عندما يأتي ينام يكون هناك شيء من الإنارة في الغرفة، قالوا له: لماذا؟
قال: إذا تذكرتُ ظلمة القبر ما يأتيني النوم. قال: "إني إذا فقدتُ السراج تذكرتُ ظلمة القبر".
يعني إذا لم يوجد نور أبدا في الغرفة ما يأتيني نوم؛ لأن هذه الظلمة تذكره بالقبر إذن.
وقال عمرو بن ميمون: "خرجت بأبي أقوده إلى منزل الحسن يريد لقاءه"[29].
لما خرج الحسن اعتنقا، قال ميمون: يا أبا سعيد - كنية الحسن- إني قد آنستُ من قلبي غلظة.
يعني ليّن قلبي بشيء، فقرأ الحسن: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ [سورة الشعراء:205، 206]، يعني من العذاب مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [سورة الشعراء:205-207].
ما هو النعيم الذي مر به في الدنيا؟ ماذا أغنى عنهم، فسقط ميمون بن مهران مغشيا عليه.
ثم أخذت بيد أبي فخرجت، فقلت: أبت، هذا هو الحسن؟
يذكرون عنه الحسن والحسن.
قال: نعم.
قلت: قد كنت أحسبه في نفسي أنه أكبر من هذا. يعني ماذا سمعنا من الحسن؟ هي كم آية.
قال: فوكز في صدري وكزة، ثم قال: "يا بُني، لقد قرأ علينا آية لو فهمتها بقلبك لألفيتَ لها فيه كلوماً" يعني جراحاً، لو فهمت الآية لصارت جراح عندك في القلب.
ولذلك فإنهم كانوا في التفكر يأخذون وقتاً طويلاً.
يوسف بن أسباط يقول: "قال لي سفيان بعد العشاء: "ناولني المطهرة أتوضأ، فناولته، فأخذها بيمينه، ووضع يساره على خده، فبقي مفكراً، ونمت، ثم قمتُ وقت الفجر فإذا المطهرة في يده كما هي".
فقلت: هذا الفجر قد طلع.
قال: "لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الساعة"[30].
يعني في القيامة والأهوال التي ستكون يوم القيامة، وهكذا.
كانوا جالسين عند سفيان الثوري، وانطفأ السراج، واستمر فترة إلى أن أشعلوه مرة أخرى، فوجدوا سفيان يبكي، قالوا: مالك؟
قال: "تذكرتُ القبر وظلمته".
وهذا من كثرة تفكرهم وتذكرهم لله -عزو جل-.
هذه قصة في هذا الزمن عن عجوز من المسلمين، قرر الأطباء بعد فحصها أن فيها حصى في المرارة، ولا بد من عملية لتفتيت الحصى، والمرأة -العجوز- لا تريد عملية.
فذهبت إلى مكة، وفي الحرم أخذت كوبا من ماء زمزم، وقرأت فيه سورة الفاتحة، وشربته.
من يقينها أذهب الله الحصى، لما رجعوا، وجاء موعد الفحص، موعد المستشفى، عملوا صوراً للأشعة، لا يوجد فيها حصى، فدهش الأطباء ... الصور السابقة فيها حصى، هذه الصور ليس فيها حصى، كيف هذا؟
قالوا لها: ماذا فعلتِ؟
قالت: أخذت كوباً، قرأت سورة الفاتحة، شربت...
قالوا: وممكن تصل هذه الدرجة؟
قالت: هذا كلام الله الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، فكيف لا يفتت مثل هذه الحصيات؟
الناس الذين عندهم تفكّر، تصرفاتهم تختلف، أوضاعهم تختلف، أحوالهم تختلف، قلوبهم تختلف، سلوكهم يختلف.
ولذلك الإنسان يقارن حالة بالجمادات.
أليس الحجر كان يسلّم بمكة على النبي ﷺ، يقول: السلام عليك يا رسول الله؟.
أليس أحد جبلٌ يحبنا ونحبه؟
أليست النملة في جحرها والحوت وكل الكائنات والحيوانات والبهائم تدعو لمن يعلّم الناس الخير؟
أليس الشجر والدواب تستريحان بموت الفاجر؟
أليس الشجر والحجر إذا وقعت المعركة بين المسلمين واليهود في زمن عيسى سيقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله تعال، هذا يهودي ورائي، اقتله[31].
أليس الله قال: وَإِنَّ مِنْهَا -من الحجارة- لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه [سورة البقرة:74].
أنت فكر، بعض الناس الآن إذا قلت له: الحجارة تهبط من الجبل، قال: نعم، قال إسحاق نيوتن، قوانين الجاذبية! يفسرون الأشياء بقوانين الطبيعة العادية، عندك آية في سورة البقرة، لما ذكر الله قسوة قلوب بني إسرائيل، أراهم آيات بيّنات، بقرة تُذبح، ميت يُضرب بميت يحيا الميت بإذن الله.
اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [سورة البقرة:73]، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [سورة البقرة:74] يعني بعدما أراكم المعجزات والآيات والبراهين قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ -يعني: بل أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَة [سورة البقرة:74].
يعني ما فيه منفعة للناس وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ [سورة البقرة:74] يعني يسيل لكن دون النهر يتدفق وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [سورة البقرة:74].
الحجارة تتدحرج من الجبل، هذا ما هو فقط قوانين إسحاق نيوتن لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.
أليس كل شيء في الكون يسبّح لله ولكن لا تفقهون تسبيحهم.
الصحابة ما سمعوا تسبيح الطعام وهو يؤكل بين يدي النبي ﷺ.
سبحان الله البهائم تفعل أكثر من بعض الناس، سفينة...
من هو سفينة؟ خادم النبي ﷺ كان في بعض الأسفار حمل متاعا كثيراً، فسمّاه النبي ﷺ "سفينة" لحمله هذا المتاع الكثير.
هذا سفينة جاء في قصة سندها صحيح، بعد وفاة النبي ﷺ ذهب في رحلة بحرية، انكسرت سفينته، تعلّق بلوحٍ من ألواحها حتى طرحه الموج على جزيرة، مكان في غابة، ساحل فيه أجمة، أشجار ملتفة.
دخل فيها فوجد أسداً، قال: "فأقبل إليّ يريدني".
شخص خرج من أمواج كيف تكون حالته؟ هل يستطيع الهرب؟ فأقبل إليّ يريدني، فقلت: يا أبا الحارث -كنية الأسد عند العرب -أنا مولى رسول الله ﷺ.
أعرّفك بنفسي، أنا مولى رسول الله ﷺ فطأطأ رأسه، وأقبل إليّ يدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة ووقفني عل الطريق، دلّه على الطريق، ثم همهم فظننتُ أنه يودعني، وكان ذلك آخر عهده بي" رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم، ورواه الطبراني، وأبو نعيم، والبيهقي[32].
إذا كانت البهائم تفهم، هؤلاء الكفار ماذا يفهمون اليوم؟
العقوبات المترتبة على تبلّد الإحساس
ولذلك لا بد أن نفكر كثيراً وليس قليلاً بإحياء نفوسنا، إحياء القلوب، هناك عقوبات على تبلّد الإحساس.
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا حتى عفوا – وكثروا – وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ[سورة الأعراف:94، 95].
انظر الآن بعض الناس يقولون: عندنا ملايين.
طيب أبوك وجدك؟
يقول: أبي وجدي كان قبلُ، نعم أكلوا الميتة، لكن الآن نحن...
وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [سورة الأعراف:95].
قال الله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ [سورة الأعراف:97] يعني في حال الغفلة، يأتيهم العذاب أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [سورة الأعراف:98، 99].
هناك عقوبات بالطمس على الأموال وعلى القلوب، ولذلك قال موسى يدعو على فرعون وقومه: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [سورة يونس:88].
ونحن نقول اليوم: اللهم اطمس على دول الصليب، واشدد على قلوبهم، واطمس على أموالهم حتى يروا العذاب الأليم.
إن الله جعل على قلوب بعض الناس أكنّة، تغلف، ولذلك من يهدي من بعد الله؟ أبداً لا يوجد أمل، والإنسان عليه أن يتلمس الخطورة، يتلمسها يحس بها.
هذا الشاعر في عهد بني أمية لما كان دعاة بني العباس ينتشرون في الناس وبعض بني أمية غافلين، لاهين، قال:
أرى خلل الرماد وميض جمرٍ | ويوشك أن يكون لها ضرام |
فإن النار بالعودين تذكى | وإن الشر ينتجه الكلام |
أقول من التعجب ليت شعري | أأيقاظ أمية أم نيام؟ |
ولم يكونوا يدرون عما يُدبّر لهم، وبعض المسلمين اليوم في غفلة تامة عما يُدبّر لهم بالليل والنهار.
سبُل العلاج الشرعي لتبلد الاحساس
ونحن ينبغي علينا أن نعالج نفوسنا في هذه القضية لإذهاب تبلّد الإحساس بأمور كثيرة.
احتساب الأجر
ومن ذلك احتساب الأجر في الأعمال: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرتَ عليها حديث صحيح عن النبي ﷺ[33].
حتى ما تجعل في في امرأتك فاحتسب الأجر يا أخي.
قال الشيخ بن عثيمين -رحمه الله-: "وينبغي أن يستحضر النية في جميع العبادات، فينوي مثلاً الوضوء وأنه توضأ لله
امتثالاً لأمر الله، فهذه ثلاثة أشياء:
نية العبادة يؤجر عليها.
ثانياً:: نية أن تكون لله.
ثالثاً: نية أنه قام بها امتثالاً لأمر الله.
فهذا أكمل شيء في النية.
التوبة
كذلك التوبة، لعلها تزيل تبلّد الإحساس إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [سورة البقرة:222].
يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار[34].
التوبة سبب نور القلب ومحو أثر الذنب، واستجلاب محبة الله، وإغاثة الله للتائبين وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ [سورة هود: 52].
التوبة، أول صفات المؤمنين التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ [سورة التوبة:112].
ثم نتدبر القرآن العظيم أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [سورة محمد:24].
ما تستطيع تتدبر إلا بمعرفة التفسير، وإذا قلت التفاسير طويلة، خذ تفسيرا مختصراً على الأقل فيه معاني كلمات الآية، لكي تستطيع أن تتدبر.
ويلُ لمن قرأها ولم يتدبرها، عشر آيات آخر سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة آل عمران: 190، 191].
التفكُّر في خلق السماوات والأرض
هذه قضية ثالثة مهمة جداً لكي تزيل التبلّد وتحيي القلب: التفكر في السماوات والأرض.
هذه السماوات التي رفعها الله بغير عمد ترونها، وهذه النجوم زينة للسماء ورجوم للشياطين وتهتدون بها في ظلمات البر والبحر وفي الاتجاهات للعبادة.
الموعظة الحسنة
ثم لا بد أن نعتني بالمواعظ، لنوقظ هذا الإحساس وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الذاريات:55].
"وعظنا رسول الله ﷺ موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودّع، فأوصنا"[35].
الموعظة حتى للمنافقين، قال الله لنبيه: عِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [سورة النساء:63].
هذه الموعظة التي ينبغي أن تكون بالأسلوب المؤثّر، إنها بالآيات والأحاديث وليست كلام بشر فقط، إنها موعظة تحيي النفوس، لكن بعض الناس -سبحان الله- ممكن يسمع الموعظة يتأثر لحظياً، وإذا غادر المكان رجع إلى ما كان، لماذا؟
قال ابن الجوزي يعلّل: "المواعظ كالسياط، والسياط لا تؤلم إلا عند وقوعها، أما بعد الانقضاء يذهب الألم، وهكذا يجب أن تكون الموعظة لها أثر لما بعدها" يعني اتعظنا وخرجنا عملنا.
الجهاد في سبيل الله والرحلة في طلب العلم
ثم كذلك الجهاد في سبيل الله، قال النبي ﷺ: جاهدوا في سبيل الله فإن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة، ينجي الله به من الهم والغم حديث صحيح[36].
وكذلك الرحلة في طلب العلم، لقاء العلماء، لقاء طلبة العلم، هذه الرحلات العلمية فيها تغيير، وفيها مفاجآت، وفيها إذهاب التبلد، والإحساس، رحلات الطاعة عموما يعني، رحلة الحج.
رحلة الحج تذهب تبلد الإحساس، رحلات العمرة، رحلات طلب العلم، رحلات صلة الرحم.
قيل لأحمد -رحمه الله-: "رجل يطلب العلم يلزم رجلاً عنده علم كثير أو يرحل؟
قال: "يرحل يكتب عن علماء الأمصار، فيشامّ الناس ويتعلم منهم ".
ومعناه: ينظر لما عندهم.
قيل لأحمد: أيرحل الرجل في طلب العلم؟
قال: "بلى والله شديداً"، يرحل رحله طويلة.
ولذلك قال يحيى: "أربعة لا تؤنس منهم رشداً، رجل يكتب في بلده ولا يرحل لطب الحديث".
كانت الرحلة مهمة جداً في جميع الحديث، الآن جُمع في كتب وفي هذه الأسطوانات المدمجة، لكن من الذي يقرأ؟
وأنشد السمعاني -رحمه الله- لأبي عبد الله البراء الشافعي:
إذا رأيتَ شباب الحي قد نشأوا | لا ينقلون قلال الحبر والورقَ |
إذا رأيت الشباب ما في كتابة، وما معهم الأوراق والأقلام يذهبون بها للمحاضرات والدروس ويرحلون في طلب العلم.
ولا تراهم لدى الأشياخ في حلقٍ | يعون من صالح الأخبار ما اتسق |
فذرهم عنك واعلم أنهم همجٌ | قد بدّلوا بعلوّ الهمة الحمق |
إذن، لا بد أن "مع المحبرة إلى المقبرة" شعار العلماء.
"مع المحبرة إلى المقبرة" يحضرون في الدروس، يكتبون الفوائد، يراجعون، ويحفظون، ويسافرون.
تغرّب عن الأوطان في طلب العلوم | وسافر ففي الأسفار خمس فوائدِ |
تفرّج همٍ واكتساب معيشة | وعلم وآدابٌ وصحبة ماجدِ |
لكن الأسفار الآن إلى أين؟ قال ذهب دبي. وماذا يعمل هناك؟ يطلب العلم!
الآن إعلانات ملونة، ودورات علمية، وحافلات تنقل، وعشاء بعد الدرس، ومسابقات، وجوائز، واستراحة في الوسط، ثم حضور أحياناً قليل، كم حصّلوا من العلم الذي أخذوه؟ أحيانا يكون قليلاً.
إذن، ينبغي أن نحيي الهمم في هذه المسألة، وأن يكون عندنا محاسبة للنفس، نحاسب أنفسنا.
المحاسبة، تتذكر ماذا قمت من حق الله، ماذا قمت من حق الوالدين، وحق الناس، وحق الجيران، والأرحام، حاسب نفسك، كم آية حفظت؟ كم حديثاً قرأت؟ كم من مسألة علمية تعلمت؟ كم ركعة ركعت؟ هل قرأت وردك من القرآن؟ اسأل نفسك ثم الانتباه إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف:201] يعني الإنسان يقع في معاصي، بشر، يخطئ، لكن إذا وقع تذكر، هذا الفرق، الفرق بين معصية المؤمن ومعصية الفاسق الفاجر الكافر، أولئك إذا عصوا ما تذكروا، المؤمن إذا عصى تذكر فرجع، وكذلك النعم التي عندنا يجب أن تكون بالنسبة لنا مستعملة بالطاعة، وليس أن تطغينا وتجعلنا في تبلد إحساس، الواحد عنده سيارة، وجوال، وأثاث، وبيت، وشاشات، يا أخي تفكر، فكر، هذه النعمة، نعمات مغبون فيهما كثير من الناس.
يسرّ الفتى طول السلامة والبقا | فكيف ترى طول السلامة بفعل؟ |
يرد الفتى بعد اعتدال وصحة | ينوء إذا رام القيام ويحملُ |
فكّر، فكر في الصحة، أنت الآن شباب، الآن اعتدال وصحة، غداً إذا أردت أن تقوم، إذا أردت أن ترفع رجلك درجة السلم مجهود، وربما يحتاج إلى حمل، ما تستطيع تطلع الدرج.
والآن يقفزون كل ثلاث أربع درجات مع بعضإِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [سورة الإسراء:37].
فكّر، ثم نكثر من ذكر الموت، الرسول ﷺ قال: أكثروا من ذكر هادم اللذات[37].
يقول سعيد بن جبير: "لو فارق الموت قلبي خشيتُ أن يفسد علي قلبي.
أنا ما أستطيع أعيش من غير تذكّر الموت، لماذا قيل: القيام في جنازة؟
النبي ﷺ لماذا أمرهم أن يقوموا للجنازة؟ لماذا قال يعني: إذا رأيتم الجنازة فقوموا؟
قيل في بعض الطرق: إنما تقومون إعظاماً للذي يقبض النفوس.
في رواية: إعظاماً لله الذي يقبض الأرواح[38].
وفي رواية: إنما قمنا للملائكة[39].
قال الحافظ ابن حجر: "لا تنافي بين هذه التعليلات؛ لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله، وتعظيم للقائمين بأمر الله وهم الملائكة الذين يقبضون الأرواح، ملك الموت له أعوان.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- وسئل عمن يرى الجنازة في المسجد جيء بها هل يقوم؟
قال: "ظاهر الحديث العموم، فهو إذن مستحب، ومن تركه فلا حرج؛ لأن القيام لها سنة، والنبي ﷺ قام تارة وقعد أخرى، فدلّ ذلك على عدم وجوبه"[40].
من الأشياء المهمة أيضاً أن تكون أسماعنا وأبصارنا مرتبطة بقلوبنا، ومعنى ذلك على سبيل المثال: إذا سمعتم صياح الديكة . ديك، فكّر في هذا الديك إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطاناً[41].
أصحاب القلوب الحية إذا سمعوا أصوات مثل هذه البهائم تعني عندهم شيئا كثيراً، وفيه أذكار لها.
أصلاً الأذكار تدور مع الإنسان، إذا جُرح الإنسان، مسّته النار، ألم حرّ، سقط، تعثّر، ماذا يقول المسلم؟ باسم الله.
لسعه شيء، أول شيء "باسم الله" قبل أن يقول: أه، و... بل أن يصرخ "باسم الله" هذه صرخته أصلاً.
ولذلك لما أصيب طلحة في يده، قال: حس.
كلمة تقولها العرب للألم، قال: لو قلت باسم الله لرفعتك الملائكة.
عبد الله بن الزبير كان إذا سمع الرعد ترك الكلام، وقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته.
ثم قال: إن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض. صححه في صحيح الأدب المفرد موقوفا عليه.
ثم لا بد يكون عندنا دعاء لله، حديث: إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم[42].
هذا الحديث يحثنا على هذا، ونحن نقول: اللهم جدد الإيمان في قلوبنا، اللهم جدد الإيمان في قلوبنا، اللهم جدد الإيمان في قلوبنا.
الصحابة، معاذ يقول لصاحبه: "اجلس بنا نؤمن ساعة".
قال ﷺ: من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين إذا واحد قام في الليل صلى بعشر آيات، أول شيء نفى عن نفسه الغفلة وتبلّد الإحساس، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين [43]أي أصحاب الأجور العظيمة.
زيارة القبور
ثم زيارة المقابر لأنها تذكر بالآخرة، سئل الشيخ عبد العزيز -رحمه الله- عن حكم اصطحاب بعض الغافلين، يعني لو أخذنا بعض الشباب مثلاً على المقبرة في الدعوة والتأثير عليهم؟
قال الشيخ: ليس في ذلك مانع، وذلك حسن، وجزاهم الله خيرا هؤلاء الذين يصطحبون بعض الغافلين لزيارة المقابر.
قال: وهو من التعاون على البر والتقوى.
ثم ينبغي أن ندرك حجم المأساة التي تعيشها الأمة، هناك ناس بالرغم من كل المصائب العظيمة ما عندهم أي انفعال ولا تصرف، لا توجد ردة فعل إطلاقاً، ما لجرحٍ بميّت إيلام.
مهما وخزت فيه إذا كان ميتاً ماذا تنفع الوخزة؟ إذا كان ليس هناك إحساس ولا شعور.
وعندما يرى الواحد –مثلا- هجوم أعداء الإسلام عليه، هجوم أعداء الإسلام الآن على المسلمين، يعني ماذا يقولون؟
يقولون عن نبينا إرهابياً، والقرآن كتاب إرهاب، والإسلام دين إرهاب!
الآن يقولون هذا علناً، ويصرحون به في وسائلهم، كل هذا الهجوم على الدين ما أنشأ عندنا غيرة مثلاً؟ تحركنا للدفاع عنه؟ هذا جيري في برنامج ستون دقيقة، يقول: الرسول محمد ﷺ يصفه بأنه إرهابي!
وقال هذا كان رجلاً عنيفاً، رجل حرب... إلى آخره.
وبات روبرتسون هذا القائد اليميني المتطرف، أصلاً كلهم متطرفون، ما فيهم معتدل على الجادة أو على الوسط.
إساءات بالغة في قناة فوكس في 8 سبتمبر الماضي يصف النبي ﷺ بأنه مجرد متطرف صاحب عيون متوحشة، ويصفه بأنه سارق قاطع طريق.
إذا رأى المسلم أن الدين هكذا يعمل به كيف يجب أن يتحرك؟ ماذا يجب أن يتحرك في نفسه؟
فأنت لو كنت غير قادر على عمل شيء الله يثيبك على نيتك وعلى إحساسك هذا يا أخي، يعني الأحاسيس هذه عليها أجر، عليها أجر إذا نحن حزنّا لما أصاب المسلمين وفرحنا إذا انتصر المسلمون، هذا الفرح والحزن نؤجر عليه.
أما أن نمكث هكذا بلا شيء
فما المعنى بأن نحيا فلا نحيي بنا الدينا | وما المعنى بأن نجتر مجداً ماضياً فينا |
وحيناً نطلق الآهات ترويحا وتسكيناً.
إذا كان يمكن أن نعمل لا بد أن نعمل، وهناك مجال كبير للعمل في الإسلام، الدعوة باب مفتوح يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ [سورة المدثر:1، 2].
وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [سورة الأحقاف:29].
أين الإنذار؟ ما يمكن نكلم أحداً؟ ما عندنا جيران؟ أصحاب؟ أصدقاء؟ أقارب يحتاجون إلى الدعوة؟ ماذا بذلنا معهم؟
لكن أصحاب الهمم في الدعوة، قالوا: صعدوا الناس إلى القمر.
قالوا: والله لو سكنوا القمر واستطعنا أن نرسل إليهم دعاة لأرسلنا إليهم دعاة إلى القمر.
قالوا: برج بيزا هذا على وشك أن يسقط، برج بيغ بن فيه ميلان؟
أنا أتأسف، أنا مؤذن، أنا كنت في نيتي إذا دخلنا تلك البلاد أن أؤذن فوق البرج هذا.
هناك ناس مشاعرهم من الداخل مع الدين، يؤملون أن يفتحوا تلك البلاد، وأن يرفعوا فيها ذكر الله ، وما ذلك على الله بعزيز.
لكن المسألة تحتاج إلى عمل، وإذا سمع واحد التنصير ماذا ينفق عليه، وكذا مليار في السنة الفلانية، وميزانيات ضخمة، يعني لا بد أن يكون في المقابل هناك انفعال لأن تعمل لهذا الدين.
عام 99 فاقت ميزانية التنصير 200 مليار دولار، وأشياء تحدث كثيراً من المؤتمرات والجهود العظيمة.
ثم المسألة الآن في هذا الخضم من الهجمة الشرسة على الإسلام، وبلاد الإسلام، وأهل الإسلام، نرجع إلى تلك الأبيات التي قالها ذلك الرجل في الغافلين الذين تبلد إحساسهم:
يا غافلا وله في الدهر موعظة | إن كنت في سنة فالدهر يقضان |
وماشياً مرحاً يلهيه موطنه | أبعد حمص تمرّ المرء أوطانُ |
تلك المصيبة أنست ما تقدمها | ومالها مع طويل الدهر نسيانُ |
يا راكبين عتاق الخيل ضامرة | كأنها في مجال السبق عقبان |
وحاملين سيوف الهند مرهفة | كأنها في ظلام الليل نيرانُ |
وراتعين وراء النهر في دعة.. | لهم بأوطانهم عز وسلطان |
فكر فيها، وراتعين، صاحب المصيبة يخاطب إخوانه المسلمين وراء الضفة الأخرى: وراتعين وراء النهر في دعة
أعندكم نبأ من أمر أندلسٍ | فقد سرى بحديث القوم ركبانُ |
كم يستغيث صناديد الرجال وهم | أسرة وقتلى فلا يهتز إنسانُ |
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم | وأنتم يا عبد الله إخوانُ |
ألا نفوس أبيات لها همم | أما على الخير أنصار وأعوانُ |
يا من لنصرة قوم قسموا فرقاً | سطا عليهم بها كفر وطغيانُ |
بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم | واليوم هم في قيود الكفر عبدانُ |
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم | عليهم من ثياب الذل ألوانُ |
ولو رأيت بكاهم...
المسلمون أبناؤهم يباعون، بناتهم يباعون، عبيد عند النصارى.
ولو رأيت بكاهم عند بيعهم | لهالك الأمر واستهوتك أحزانُ |
يا رُب طفل وأم حيل بينهما | كما تفرّق أرواح وأبدانُ |
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت | كأنما هي ياقوت ومرجانُ |
يقودها العلج للمكروه مكرهة | والعين باكية والقلب حيرانُ |
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ | إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ |
هل للجهاد بها من طالب | فلقد تزخرفت جنة المأوى لها شانُ |
وأشرف الحور والولدان من غرف | فازن ورب بهذا الخير شجعانُ |
ثم الصلاة على المختار من مضرٍ | ما هب ريح الصبا واهتز أغصانُ[44] |
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
- ^ رواه مسلم: (2623).
- ^ أدب الدنيا والدين: (113).
- ^ الكبائر للذهبي: (133).
- ^ القاموس المحيط: (269).
- ^ لسان العرب: (3/ 96).
- ^ تفسير البيضاوي: (2/ 165).
- ^ رواه أبو داود: (4339)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: (4339).
- ^ رواه الترمذي: (2169)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: (2169).
- ^ رواه البخاري: (6412).
- ^ رواه مسلم: (1050).
- ^ رواه البخاري: (6011)، ومسلم: (2586).
- ^ النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: (5/ 152).
- ^ دولة الإسلام في الأندلس: (5/ 49).
- ^ دولة الإسلام في الأندلس: (5/ 49).
- ^ رواه الترمذي: (2462)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (1036).
- ^ رواه البخاري: (6436)، ومسلم: (1048).
- ^ المجالسة وجواهر العلم: (2/ 30).
- ^ رواه مسلم: (144).
- ^ شرح النووي على مسلم: (2/ 173).
- ^ رواه الترمذي: (3431)، وابن ماجة: (3892)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي: (3892).
- ^ رواه الترمذي: (3432)، وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة: (2737).
- ^ شذرات الذهب في أخبار من ذهب: (8/ 227).
- ^ رواه مسم: (899).
- ^ رواه م مسلم: (899).
- ^ رواه البخاري: (1041)، ومسلم: (901).
- ^ رواه مسلم: (906).
- ^ الكبائر للذهبي: (31).
- ^ إعلام الموقعين عن رب العالمين: (3/ 14).
- ^ حلية الأولياء: (4/ 82).
- ^ حلية الأولياء: (7/ 53).
- ^ رواه مسلم: (2922).
- ^ رواه الحاكم: (4235)، والطبراني في الكبير: (6432)، وأبو نعيم في الحلية: (1/ 369)، والبيهقي في الاعتقاد: (316).
- ^ رواه البخاري: (56)
- ^ رواه مسلم: (2759).
- ^ رواه أحمد: (17144)، وصححه محققه الأرناؤوط: (17144).
- ^ رواه أحمد: (22680)، وصححه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب: (1319).
- ^ رواه ابن ماجة: (4258)، وصححه الألباني في الإرواء: (682).
- ^ رواه ابن حبان: (3053)، وصححه الألباني لغيره في المشكاة: (3042).
- ^ رواه النسائي في الكبرى: (2066)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي: (1929).
- ^ فتح الباري لابن حجر: (3/ 180).
- ^ رواه البخاري: (3303)، ومسلم: (2729).
- ^ رواه الحاكم في المستدرك: (5)، والطبراني في الكبير: (84)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (1590).
- ^ رواه أبو داود: (1398)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (1264).
- ^ نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب: (4/ 488).