الخميس 20 جمادى الأولى 1446 هـ :: 21 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

الكليم من المهد إلى البحر


عناصر المادة
ابتلاء الله لأنبيائه
أنواع القصص في القرآن
موسى -عليه السلام- أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن
قصة موسى -عليه السلام-
 
 ولادة موسى -عليه السلام- في زمن الجور والظلم
إلهام الله لأم موسى -عليه السلام- بإلقائه في اليم
تربية ومعيشة موسى -عليه السلام- في قصر عدوه فرعون
مقارنة بين بيئة التي عاشها موسى -عليه السلام- وبين البيئة التي نعيشها في الوقت الحاضر
مهما بلغ اليأس والضعف فلابد من بالفرج
بلوغ موسى -عليه السلام- أشده وتحمله للرسالة
قصة دخول موسى -عليه السلام- مصر وأحداثها
خروج موسى عليه السلام- من مصر
قصة موسى -عليه السلام- مع بنتي الرجل الصالح
قصة رجوع موسى -عليه السلام- إلى مصر مرة أخرى
حاجة الأمة إلى التوجيهات الربانية

لحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.

ابتلاء الله لأنبيائه

00:00:11

الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[العنكبوت: 2]، وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً[الأنبياء: 35]، وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
هذه الحياة دار ابتلاء، خلقنا الله فيها ليبلونا، وجعل هذا الطريق طريق الأنبياء، فابتلاهم الله  بابتلاءات؛ منها: القتل:وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ[البقرة: 87]، ومنها: التكذيب:فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ، ومنها: الإيذاء: يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ  [الصف: 5]،  وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ  [التوبة: 61].
ابتلي الخليل بمعاداة أبيه وقومه له: لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 46]، وبالتحريق: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الأنبياء: 68]، وابتلي بالأمر بذبح ابنه.
فالطريق طويل، تعب فيه آدم، وسهر لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمنٍ بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد ﷺ.
الابتلاء من أول يوم في النبوة: "يا ليتني فيها جذعاً"، "ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك"، فقال ﷺ:  أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي" [رواه البخاري: 3، ومسلم: 160].
ابتلى الله أنبياءه ليستوجبوا كمال كرامتهم، وليكون خبرهم تسلية وتسرية لمن بعدهم، وليستوجب الكفار عذابهم بعصيان الأنبياء وإيذائهم.
وإذا تأملت حكمته تعالى فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجل الغايات، وأكمل النهايات، لعلمت أيضاً أن هذه الدار ليست بدار قرار، وإنما هي دار ابتلاء وعمل، دار امتحان وصبر.
وهكذا من تأمل سيرة نوح وما آلت إليه محنته، وما صبر به حتى أقر الله عينه بالنصر، والنجاة، وأغرق عدوه، وجعل العالم بعده من ذريته، وجعله خامس خمسة هم أولو العزم من الرسل.
ثم تأمل قبله حال أبينا الأول آدم وما آلت إليه محنته وذنبه من الاصطفاء بعدها، والتوبة، والاجتباء، والهداية، ورفعة المنزلة.


ثم تأمل حال أبينا الثالث إبراهيم -عليه السلام- إمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء، وعمود العالم، وخليل رب العالمين وما آلت إليه محنته، وصبره، وبذله لنفسه في الله -تعالى-.
ثم تأمل حال الكليم موسى -عليه السلام- وما آلت إليه محنته وفتونه من أول ولادته إلى منتهى أمره حتى كلمه الله تكليماً، وقربه منه، وكتب له التوراة بيده، ورفعه إلى أعلى السموات، واحتمل له ما ليس لغيره، فإنه رمى الألواح على الأرض حتى تكسرت، وأخذ بلحية نبي الله هارون، وجره إليه، ولطم وجه ملك الموت ففقأ عينه [رواه مسلم: 2372]، وجادل في شأن رسول الله ﷺ في فرض الصلاة على أمته: ارجع [رواه البخاري: 349، ومسلم: 163].
وربه مع ذلك يحبه ويجيبه، وما نزل شيء من مقداره لديه، ولا سقطت منزلته عنده، بل كان وجيهاً قريباً ولا يزال بما صبر، وقاد أمتين: بني إسرائيل، ومن آمن من قوم فرعون ضد فرعون.
ثم بعد ذلك لما عبروا النهر، حياة أخرى، حياة ثانية، ودعوة جديدة، وهكذا قيادة أخرى، وسيرة أخرى، صبر عليه السلام.
ومحمد ﷺ رأس الأنبياء الذي أوذي في الله ولم يؤذ مثله أحد، وتلونت الأحوال فصبر في سلم، وخوف، وغنى، وفقر، وأمن، وإقامة، وضعن، وقتل أحبابه، وأوذي أولياؤه، وأوذي هو، وافتروا عليه، ومع ذلك صبرﷺ.

أنواع القصص في القرآن

00:05:20

كانت القصص في القرآن الكريم وهي الأخبار المتتابعة التي لها مراحل يتبع بعضها بعضاً "أحسن الحديث"، قصها الله علينا؛ لاشتمالها على العبر العظيمة، ومنها: قصص الأنبياء وما تضمنته دعوتهم وسيرتهم.
ومنها: قصص أخرى لأناس من الصالحين، وغيرهم، فيها عبر كقصة طالوت وجالوت، وابني آدم، وأهل الكهف، وذي القرنين، وأصحاب السبت، ومريم، وأصحاب الأخدود، وأصحاب الفيل، والألوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، ونحو ذلك.
والنوع الثالث: قصص تتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن النبي ﷺ، كما وقع مما قصه الله علينا في غزوة بدر، وأحد، وحنين، وتبوك، والأحزاب، وكذلك الهجرة، والإسراء، هذه القصص بأنواعها تؤسس العقيدة، وتثبت القلوب، وتظهر فضل أولياء الله وأنبيائه، وكيف قارعوا أهل الباطل، وفيها حكم وأحكام تبين عدل الله، وتسلي أهل المصائب، وترغب المؤمنين في الثبات.
إنها -بالتكرار الذي فيها- دروس وعبر عظيمة، قوة الإعجاز مع هذا الأسلوب الجذاب والعرض الأخاذ، وهكذا المراعاة لحال المخاطبين، وربط الحال بما كان عليه الأمر في أصحاب القصص.

موسى -عليه السلام- أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن

00:07:09

وأكثر نبي قص الله علينا قصته موسى -عليه السلام-، ذكره في أكثر من 120 موضعا من كتابه، بينما كان ذكر غيره أقل من ذكره.
فقصة موسى أكثر القصص في القران ذكراً: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا [الزمر: 23].
وأكثر نبي ذكر اسمه في القران: موسى -عليه السلام-.
قصته فيها آيات بينات، وهي مراحل، ومن المهد إلى البحر، عجب عجاب، وأحداث جسام.

قصة موسى -عليه السلام-

00:07:51

 

 ولادة موسى -عليه السلام- في زمن الجور والظلم

00:07:51

 لقد ولد موسى -عليه السلام- في زمن مليء بالظلم في ظل حكم فرعون الذي طغى وبغى، وعلا في الأرض، وجعل أهلها شيعاً، فرق، يستعبد، ويستضعف طائفة منهم، يذبح الأبناء، ويستحيي النساء، ويستعملهم في السخرة، يذلهم، ويستعبدهم، وهكذا ضيّق، واضطهد، وقتل، وهكذا لم يرحم صغيراً ولا كبيراً، وكان يذبح ذكور بني إسرائيل ويترك النساء قيد الحياة للخدمة وليلدن الخدم في المستقبل.
وقيل: إن الحامل له على ذلك أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون في ما بينهم ما كانوا يأثرونه عن إبراهيم -عليه السلام- من أنه سيخرج من ذريته غلامٌ يكون له ملك مصر، وهلاك هؤلاء المستعبدين.
وتحدث الناس بهذا حتى وصل الأمر إلى فرعون.
وقيل: إنه رأى في منامه رؤيا فسرها من حوله له بأن غلاماً يولد من بني إسرائيل يكون هلاكه على يديه.
فلهذا ولهذا أمر بقتل الغلمان وترك النساء، قال ابن كثير -رحمة الله-: والمقصود أن فرعون احترز كل الاحتراز أن لا يوجد موسى، ولكن لا يغني حذر عن قدر.
ودقق في الأمر حتى جعل رجالاً وقوابل يدورون على الحبالى ويعلمون ميقات وضعهن فلا تلد امرأة ذكر إلا ذبحة الذبّاحون من ساعته.
وكان موسى -عليه السلام- كما ذكر غير واحد من المفسرين قد ولد في السنة التي يذبح فيها المواليد، وهارون ولد في السنة التي يترك فيها المواليد.
وذلك أن القبط بعد مدة من ذبح ذكور بني إسرائيل شكوا إلى فرعون قلة بني إسرائيل، وخشوا أن تتفانى الكبار مع قتل الصغار، فلا يصبح هناك من يقوم بالخدمة، ويُسخّر، ولذلك أمر فرعون -لعنه الله- أن يُترك غلمانهم سنة ويُذبحوا سنة.


وسياسة الذبح استمرت فإن موسى –عليه السلام- لما بُعث وجاء إلى فرعون، وأنذره، ودعاهُ إلى الله فرعون ومن معه:  قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [غافر: 25].
فإذاً، القتل زاد بعد بعثة موسى، وكان قبل ذلك يقتل الذكور سنة، ويتركون سنة.
وظلم فرعون قد علا وطغيانه قد زاد، ولذلك قال ربنا: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا  قال في آخر الآية: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 4].
وهذا القتل ولا شك مكروه ومبغوض، ولكن وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة: 216]، فاستضعاف بني إسرائيل الذين كانوا يكرهونه كان سبب لنصرتهم من الله؛ لأن الله ينصر المظلوم، ويجعل له العلو.
والله -تعالى- قدر أمراً وكان لابد واقع، ولا يقف أحد أمام إرادة الله -تعالى-، بل إن العجب أن ينجو موسى من فرعون، ويتربى في بيته، وينفق فرعون عليه وعلى أمه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يــس: 82]، ولن يغني حذر من قدر، وكأنه كان يقال له: يا أيها الملك الجبار، المغرور بكثرة جنوده، وسلطة بأسه، واتساع ملكه قد حكم العظيم الذي لا يغالب ولا يمانع أن هذا المولود الذي تحترز منه، وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى لا يتربى إلا في دارك، وعلى فراشك، ولا يتغذى إلا بطعامك، وشرابك، وفي منزلك، وأنت الذي تتبناه، وأنت الذي تربيه وتتعاهده، ولا تطّلع على سره إلا بعد فوات الأوان، ثم يكون هلاكك على يديه في دنياك وفي أخرتك لمخالفتك لما سيأتي به، ولتكذيبك بما سيوحى إليه.
وهكذا قدّر الفعال لما يريد وهو القوي الشديد سبحانه وتعالى، وإرادة الكونية لا يقف لها أحد: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص: 5]، فإذا أراد الله شيئاً سيكون: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ  [القصص: 5].

إلهام الله لأم موسى -عليه السلام- بإلقائه في اليم

00:13:09

 ولما ولدت أم موسى وليدها صارت في حيرة واضطراب، فهي خائفة أين ستذهب به من هؤلاء الذباحين؟ فأوحى الله إليها وحياً ليس بوحي نبوة، وإنما هو وحي إلهام وإرشاد: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص: 7].
وهكذا كان العمل من تلك الأم بما أوحى الله إليها وبما أمرها، فجهزت صندوق الخشب.
ما قال: ضعيه في اليم! قال:  اقْذِفِيهِ  [طـه: 39]، وإذا خفتِ عليه، ما قال: خبئيه! وإنما ترميه في البحر.
لكن بعد أن ترضعه: أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ  [القصص: 7]،  اقْذِفِيهِ ،  فيرتضع أولاً بلبان أمه، وأول الرضاع للطفل من لبان الأم مهم جداً في قوته، وكذلك لتكون الرضعة قبل الإلقاء حتى يصمد طيلة الطريق الذي سيعبره على سطح الماء.
وكذلك ليعتاد لبن أمه فإذا فقدها لا يقبل غير ثديها، فإنه كان قد رضع منها لتوّه قبل أن يلقى في اليم.
وهكذا أمر الله أم موسى: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص: 7]، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ  [طـه: 39] القذف: الرمي بالشيء.
تمام الثقة بالله -تعالى-.
وكان ذلك عند الولادة أمرها بما أمرها به.
والعجب: أن يكون الإلقاء باليم منجاة مع أنه مع هذا الصغير في العادة يكون مهلكة، والسبب اليسير، هذا الصندوق يكتب الله به نتائج عظيمة.
و"اليم" هو البحر، قالوا: هو النيل الذي كان يشق مدينة فرعون حيث منازل بني إسرائيل.
وفي كلام العرب: "اليم" يرادف البحر، وهو الماء العظيم المستبحر.
ولذلك كان النهر العظيم يسمى عند العرب: "بحرا"، قال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ [فاطر: 12]، وهذا لا يكون في البحر الكبير، وإنما هو النهر.
فـ "اليم" من الأنهار.
 أَرْضِعِيهِ  هذا أمر فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ  هذا أمر ثان. ثم جاء نهي:  وَلَا تَخَافِي ، ثم نهي ثاني: وَلَا تَحْزَنِي  لا تخافي عليه من الهلاك، ولا تحزني على فراقه. ثم جاءت بشارة: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ، ثم بشارة ثانية:  وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ  [القصص: 7].


فكانت هذه الآيات مثالاً على إعجاز القرآن، حتى أن الأصمعي سمع جارية أعرابية تقول: أستغفر الله لذنبي كلهِ، قتلت إنساناً بغير حلهِ، وانصرم الليل ولم أصلهِ، والسكر مفتاح لهذا كلهِ. فقال: قاتلكِ لله ما أفصحكِ، يريد ما أبلغكِ. فقالت: أو يعد هذا فصاحة مع قول لله:وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ[القصص: 7]، فجمع في آية واحدة: خبرين، وأمرين، ونهيين، وبشارتين.
 وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ [طـه: 37 - 39]، وهكذا كان صندوق الخشب التابوت سبباً، والله يأمر باتخاذ الأسباب: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ  فستكون النتيجة أن اليمّ سيلقيه في الساحل، لن يغرق في عرض البحر، ولن يبتعد إلى وسط البحر، بل إن البحر سيتجه به إلى الساحل، لماذا؟ ومن الذي سينتظره هناك؟ ومن الذي سيتلقاه؟ قال تعالى: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ [طـه: 39] هو أصلاً قد كلف الذابحين بذبحه، فسيأخذه، وهو عدوه، وهو عدو لله أيضاً لأنه قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى  [النازعات: 24]، مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38].
وتكررت كلمة: "العدو" لتأكيد عداوة فرعون لموسى، ولبيان عجائب قدر لله في هذا.
وانظر لحال المرأة المؤمنة التي أطاعت أمر الله، ووثقت به فامتثلت.
وهكذا قال ابن القيم -رحمة الله- عن منزلة الثقة بالله: وهي التي لقنها الله -تعالى- لأم موسى بقولة لها: فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص: 7] الآية "فإن فعلها هذا هو عين ثقتها بالله إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت ولدها، وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه" [مدارج السالكين: 2/142].
والله -عز وجل- يخصّ أنبياءه بالرعاية والعناية.

إذا العناية لاحظك عيونها *** نم فالمخاوِف كلّهن أمانُ

وأم موسى تريد الخبر، وعندها بنت قد ربتها: وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [القصص: 11] واتبعي أثره، واطلبي خبره، اقتفي أثر التابوت ولا تلفتي الأنظار، ولا يشكّ فيكِ أحد، فهو سبب من بعد ذلك السبب.
 فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ   [القصص: 11]، وكانت أختاً ذكية.
قال ابن عباس: "عن جانب" فجعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده، وهذا من تمام الحزم والحذر، وفي بيئة الاستضعاف يتربى الصغار على المعاني التي لا يجيدها في العادة إلا الكبار، فيحسنون ما لا يحسنه من هو في مثل سنهم في العادة. فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ [القصص: 11]، وهكذا لم تلفت النظر إليها وإلا لظنوا أنها هي التي ألقت التابوت، وأن لها علاقة به، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ  وفعلاً ما لاحظوا شيئاً، ولا ربطوا بينها وبين ذلك الصندوق.


ومع هذا أصبح  فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا [القصص: 10] من كُل شيء من أمور الدنيا إلا من ذكر موسى، وشدة اهتمامها بولدها، وتفكيرها به أنساها أي شيء آخر، وهي موقنة بوعد الله، ولكن اعتراها ما يعتري بقية البشر من الخوف الفطري الناتج عن عاطفة الأمومة، والشفقة على الولد.
وتكرر ذكر الخوف في قصة موسى في غير ما موضع: قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا [طـه: 45]، (قال موسى:  إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ  [القصص: 34]،  قَالَ لَا تَخَافَا [طـه: 46]،  أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ  [القصص: 31].
ومن فرط قلق أم موسى: إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ [القصص: 10] أن تظهر الأمر وأن تعلنه، وأن تقول: وضعت ولدي في صندوق، أين هو؟ ماذا حصل له؟ ابحثوا لي عنه!
ولكن الله ربط على قلبها فصار الجأش مقيداً، وهكذا حُفظت بقوة إيمانها، وكانت بوعد لله واثقة، فلم تبح ولم تعلن.
وحق الأمهات كبير، ولذلك قدمهنّ الشرعُ في البرّ.
فاعرف -يا أيها الولد- حق أمك عليك، وما قاسته، وما عانته من أجلك، وأنت تعبت أو مرضت أو جعت: لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا  [القصص: 10] صبرناها وثبتناها وملأنا قلبها يقيناً، فاطمأنت على ولدها ولم تفصح. والله لا يترك عبادة الصالحين في أحوال مذهلة مروعة إلا ويأتي لهم تعالى بالتثبيت، وربط الجأش، وربط القلب، والأمن النفسي، ثم يأتيهم بما يطمئنهم في النهاية.
وهذا العجب من قدر لله عندما يلتقطه من؟ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ  لتكون النتيجة ماذا؟ لام العاقبة:  لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8].
التقطته الجواري في هذا التابوت فوضعنه بين يدي امرأة فرعون "آسيا بنت مزاحم"، فلما فتحته رأت وجها يتلألأ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي[طـه: 39]، فأحبته مباشرةً فأخذته واستوهبته من فرعون، وقالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ  [القصص: 9].
وهذا من لطف لله بموسى، جعل كل من ينظر إليه يحبه:وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي، فجعل علية مسحة من جمال لا يكاد يصبر عليه من رآه إلا ويقبل عليه، ويحبه، ويتعلق به.
فجعل له من الحسن، والملاحة، والجاذبية.


وامرأة فرعون قالت: لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا [القصص: 9]! وكانت صاحبة فراسة، وفعلا نفعها الله به فأسلمت على يديه لمّا دعاها إلى الله.
عَسَى أَن يَنفَعَنَا[القصص: 9] بالخدمة، أو نرقيه عن رتبة الخادم ويصبح ولدا نتبناه: أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [القصص: 9].
لكن نفعها بدرجة أعلى مما كانت تتصور، ومما كان في بالها.

تربية ومعيشة موسى -عليه السلام- في قصر عدوه فرعون

00:25:19

 وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طـه: 39] ويعيش موسى في قصر عدوّ لله وعدوه، وفي متناول يده بلا حارس، ولكن لا تمتد إليه يدٌ بشرّ، ويبقى عزيزاً في القصر في غاية العناية والرعاية.
ويريد الله أن تعود البشارة إلى الأم المكلومة التي صار قلبها فارغاً، ولكن ليس بعودة ولدها إليها مثل ما أرسلته، وإنما عودة بمالٍ هذه المرة.
 وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ [القصص: 12]، فلم يقبل ثدياً، ولا أخذ طعاماً حتى حاروا في أمره، وأرسلوه مع القوابل، وأرسلوا إلى النساء لعلهم يجدون من يوافق رضعته، فلم يقبل ثدياً.
وبينما هم عكوفٌ حيارى جاءت أخته تسألهم: ما بالكم؟ فأخبروها، فقالت:هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ  [القصص: 12]؟ ما يدريكِ؟ قالت: طمعاً في منفعة، ويكفي فخراً أن يوجد من يرضع ولد الملك.
وهكذا رجعت البشيرة إلى أمها تبشرها بانتظارهم لها، فذهبت، فالتقم الثدي مباشرة، ففرحوا وأجري على أم موسى من النفقات والهبات، رجعت تحوزوه إلى رحلها، وجمع الله شمله بشملها، وتأخذ مع ذلك أجراً:فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [القصص: 13] هنا يزيد الإيمان عندما يرى المؤمن موعود الله يتحقق.
وبقيت البشارة الثانية:وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ[القصص: 7] فمتى سيكون؟ الأم تنتظر تحقق البشارة الثانية بعد الأولى! إذاً سيعيش هذا الولد، لن يموت، وسيصبح رسولاً، وأم موسى تعرف من أخبار الأنبياء في قومها، ومن قبل يوسف، وإسحاق، ويعقوب، وإبراهيم.
قيل: لم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل.
نشأ موسى في بيت العز بخلاف نشأة بقية بني إسرائيل الذليلة: وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [يوسف: 21] أراد فرعون أن لا يولد موسى فولد، وأراد فرعون أن لا يعيش موسى فعاش في صندوق خشبي مسدود، وفي ماء النيل الفائض، ثم في حضانة عدوه وتحت رعايته، وفي قصره، على فراشه، يتغذى بطعامه ويشرب من شرابه، مع زوجته: وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ  [يوسف: 21] تحدٍ للأسباب، ومنطق الأشياء.
ولد موسى في بيئة قاتمة انطبقت الدنيا على بني إسرائيل، وسدت في وجههم الأبواب، حاضرٌ شقي، ومستقبل مظلم، قلة عدد، وفقر، وبؤس، عدو قاهر، وسخرة ظالمة، لا قوة تدافع ولا دوله تحمي، والمصير؛ كأنهم للشقاء والفناء! ولكن الله قال: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص: 5] فلا بد أن يحدث هذا  وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 21]، والله  فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [البروج: 16].

مقارنة بين بيئة التي عاشها موسى -عليه السلام- وبين البيئة التي نعيشها في الوقت الحاضر

00:29:32

 من بيئة الاستضعاف التي عاشها بنو إسرائيل ننتقل إلى بيئة الاستضعاف التي يعيشها المسلمون اليوم.
عندما لا يرى بنو إسرائيل أي فرج ولا مخرج، محاصرون، عدوهم قاهر، مكبوتون، مغلوبون، مسخرون، لا يستطيعون أن يتصرفوا بالمال الذي في أيديهم، عدوهم أخذ منهم كل شيء، وسخرهم لخدمته، فكل الناتج الذي يخرج منهم يصب في جيب عدوهم، لا يوجد أي منفذ يرى وأي أمل في الأفق أبداً، إطلاقا.
ولا عند بني إسرائيل أي سلاح يقاومون به، بل حتى العدد هم إلى زوال، الأمور تسير إلى الفناء، العدد يقل والذبح مستمر، ثم النساء في استحياء:وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ[القصص: 4] حورب بنو إسرائيل حتى في أعراضهم، وكانوا هم الذين فيهم بقية الإسلام في ذلك الزمن، هم أفضل أهل الأرض في ذلك الوقت.
وما كان عندهم أي نوع من أنواع القوة التي يستطيعون استخدامها في مواجهة عدوهم، فإذا رأيت أن الطرق مسدودة، والمنافذ مغلقة، ولم تر أملاً في الأفق فاعلم بأن الله غالب على أمره.
وبما أنه وعد هذه الأمة بالفرج، وأخبر عن أمور في المستقبل كلها نصر لهذه الأمة، ولم تحصل بعد، فلا بد أن تحصل، ولو ما كان في منفذ، ولو ما كان في أي طريق، أو مهرب، أو مخرج من الأزمة، ولو ما في أي نور في نهاية هذا النفق؛ لأن الله فعال لما يريد:وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً[القصص: 5] في الدين، تمكين!  وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص: 5] الذين يرثون ملك فرعون، وتؤول إليهم تلك البلاد بما فيها من الثروات: وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ  [القصص: 6]، وزيادة على ذلك  وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: 6]، من زوال ملك آل فرعون على أيدي بني إسرائيل.
سنجعل الضعيف قوياً، والمقهور قاهراً، والذليل عزيزاً: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ ، وقد فعل تعالى:  وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ  [الأعراف: 137].
-طيب- وهؤلاء الذين كانوا مستولين على كل شيء أين هم؟  فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 57 - 59].

مهما بلغ اليأس والضعف فلابد من بالفرج

00:33:02

 مهما بلغت الأمة في الاستضعاف -أيها الأخوة-، ومهما بلغ المسلمون اليوم من ذلّ، وكبت، وقهر، وقتل، وغصب، وحصار، وإخراج من الديار، تشريد، إذلال، نهب، سلب، قرارهم بيد عدوهم، مهما بلغوا من حال اليأس والضعف فالله سيأتي بالفرج ولا بد.
وهذه الأمة خير من بني إسرائيل، وأفضل من بني إسرائيل، ونبيها أفضل من نبي بني إسرائيل، ولذلك فلا بد أن يأتي الفرج.
ولكن هناك أمور لا بد منها: بِمَا صَبَرُواْ [الأعراف: 137]، ولا بد أن يكون الصبر على منهاج النبوة، صبر مع أخذ بالكتاب، صبر مع عدم استعجال، صبر مع عدم التهور، صبر بكل معنى الكلمة!
نشأ موسى -عليه السلام- في قصر فرعون، وتربى في بيته من مهده حتى خروجه من مدينته؛ لأن الله قال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طـه: 39].

بلوغ موسى -عليه السلام- أشده وتحمله للرسالة

00:34:22

 ولما بلغ أشده آتاه الله فلم يُفسد ترف القصر شخص موسى -عليه السلام-، ما كان موسى -عليه السلام- طاغياً ظالماً.
لو كان مثل الذين تربوا في القصر فقد أفسد الترف نفوسهم، ولكن لموسى مناعة وحصانة بسبب حفظ الله ورعايته، فالتربية من الله: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طـه: 41].
ورزقه الله صفات كريمة، وأخلاق حميدة، صنعه على عينه، و "الاصطناع" المبالغة في إصلاح الشيء؛ كما قال الراغب الأصفهاني.
امتد العمر بموسى -عليه السلام- حتى بلغ أشده واستوى خلقاً وخُلُقاً، وصار أهلا لتلقي الرسالة، ولكن أين؟ ليس عند فرعون، ولا يأتيه الوحي في قصر فرعون، ولا في بلد فرعون.
الآن ستبدأ النبوة في مكان آخر بعيد؟ ولكن كيف سينتقل موسى من داخل القصر إلى ذلك المكان البعيد؟
إن الله إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه، هنالك في الطور مكانٌ مبارك أنزل الله فيه بركة، وجعل الله هذا المكان فيه الموعد، وفيه أحداث جِسام ستأتي، فانتقل موسى نقلة عجيبة جداً، كتب الله لموسى أن يتزوج، ولكن ولا واحدة من بنات القبط، ولا واحدة من بنات بني إسرائيل، لا تصلح له.
سيتزوج بنت رجل صالح من بلد آخر.
بقي لموسى إعداد عشر سنين في رعي الغنم ليتعود النبي على الرعاية، وينتقل من حفظ الغنم ورعي الغنم إلى رعاية الخلق، لكن هذه المدة في شظف من العيش، وقوة على التحمل، وخارج بيئة القصر، لا بد أن يقضيها عشر سنين، فكيف؟ وأين؟

قصة دخول موسى -عليه السلام- مصر وأحداثها

00:36:51

  وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ [القصص: 15] تسلّل من القصر إلى البلد، بلد فرعون، فوجد رجلين يتضاربان ويتنازعان، هذا من شيعته من بني إسرائيل.
 عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا  تسلل كان يوم عيد اشتغلوا فيه بلهوهم، أو دخل نصف النهار وهم في قيلولة، في وقتٍ ما كانوا منتبهين فيه، عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا  رأى الرجلين! وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ  من القبط من قوم فرعون يقتتل مع رجل من بني إسرائيل  فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ "الإسرائيلي" عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص: 15] "القبطي".
وموسى -عليه السلام- كان قوياً في البدن، صاحب عز، وجاه، ومكانة، ولذلك استغاث به الإسرائيلي فأدركت موسى الشفقة والعطف على المستضعف، فوكز القبطي وكزة قضت عليه، فَوَكَزَهُ [القصص: 15] وكزة واحدة قضت عليه، فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ  [القصص: 15] مات! ولم يكن موسى -عليه السلام- يريد قتله ولكن هكذا جرى قدر الله، فانتبه موسى من النتيجة، وأنه قتل نفسًا لم يؤمر بقتلها، فقال: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ  [القصص: 15].
وفطرتهُ سليمة فاهتدى بها ولم يكن قد بُعث في ذلك الوقت ولا صار نبياً، لكن عنده من خبر بني إسرائيل، ومن أنبيائهم، وما اكتسبه من أُمه، عنده أشياء، فعرف:  قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ  [القصص: 15].
رجع إلى ربه: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي  فندم  فَاغْفِرْ لِي  هذا هو الطريق لما أذنب، قال قتادة: عرف والله المخرج فاستغفَر، فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص: 16].
ولم يزل موسى -عليه السلام- يذكر ذنبه ذلك حتى إذا طلب الناس الشفاعة من الأنبياء وداروا عليهم، وجاء إلى موسى، يقول: إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا لم أؤمر بقتلها، مع أن الله تاب عليه، وأخذ موسى درساً عظيماً وعاهد ربه على شيء: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ[القصص: 17].
واستدل العلماء بهذه الآية على تحريم نصرة الظلمة، وعدم معونة الظالم.


قال ابن عطية: احتج أهل العلم والفضل بها في منع خدمة أهل الجور ومعونتهم في شيء من أمرهم [البحر المديد في تفسير القرآن المجيد: 4/238].
وكذلك قال الأئمة: لا يحلّ لأحد أن يعين ظالماً، ولا يكتب له، ولا يصحبه، وأنه إن فعل شيئاً من ذلك فقد صار معيناً للظالمين، وأعوان الظلمة ظلمة مثلهم؛ كما قال النبي ﷺ:  إن الناس إذا رأوا ظالماً فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم بعقاب منه [رواه الترمذي: 2168، وهو حديث صحيح].
وفي الآية: أهمية شكر النعم؛ لأن موسى لما غفر الله له تعهد بما أن الله أعطاه نعماً أن لا يستعملها في معصيته.
ولكن نتيجة ذلك القتل أنه أصبح في المدينة خائفاً يترقب، في مصر، وهو يخشى أن يعلم الملأ حال القتيل ومن قتله، فخشي على نفسه موسى، وصار يسير في المدينة خائفاً، فبينما هو كذلك إذ بالرجل الإسرائيلي نفسه الذي استنصره بالأمس يستصرخه مرة أخرى ويستغيثه، ولكن هذه المرة على شخص آخر، فقال له موسى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ [القصص: 18].
أنت صاحب مضاربات ومهارشات، وكل يوم تخرج بمشكلة جديدة، أنكر عليه هذه الاشتباكات التي لا تثمر، بنو إسرائيل عاجزون فلماذا الاستفزاز؟ ومن الخطأ الكبير: أن يقوم المستضعف باستفزاز عدوّه القويّ، ولذلك قال موسى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ [القصص: 18] تورّط نفسك ثم تريد أن تورطنا معك، وتجلب المصائب علينا نحن المستضعفين.
فلما تقدّم موسى لينصر الرجل ظن الإسرائيلي الأحمق أن موسى تقدم ليبطش به؛ لأنه قال له: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ  [القصص: 18].
فانفرط عقد الإسرائيلي، واعترف أمام ذلك الرجل الآخر:مِنْ عَدُوِّهِ [القصص: 15]،  قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ [القصص: 19]؟ غبي، كشف القضية، وكشف ما حصل أمام العدو أمام القبطي، فعرف القبطي أن موسى هو الذي قتل صاحبهم بالأمس.
ثم يقول الإسرائيلي: إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ [القصص: 19] هذا يبين سوء صحبة الأحمق الغوي، وأن بعض الناس لا يجلبون إلا المتاعب ويُورطون غيرهم فيها، وصحبتهم لا منفعة فيها، فوقع موسى -عليه السلام- في حرج عظيم، انكشف الأمر وصار مهدداً.

خروج موسى عليه السلام- من مصر

00:43:05

 وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص: 20] يقيض الله أشخاصاً في أوقات وأحوال عجيبة.
قيل: هو مؤمن آل فرعون!
جاء يسعى ويشتد رغبة في إنقاذ موسى -عليه السلام-؛ لأنه يحبه، قال: يا موسى إني لك ناصح: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ كبراؤهم ووجهاؤهم يتشاورون الآن بسببك، وقد عقدوا العزم على قتلك، فاهرب من البلد وانجُ بنفسك  فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ .
لم يقعد بهذا الرجل بعد الطريق عن نصرة موسى والنصيحة له، إنه صاحب رجولة وشهامة.
هل ذهب موسى ليودّع إخوانه ويأخذ ما أمكن أخذه من المتاع ويتزود و...؟ لا؛ لأن القوم الآن يبحثون عنه، الحكمة أن يبادر فوراً بالخروج على ما هو عليه:فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 21].
والإنسان إذا كان في مكان يخشى على نفسه القتل والهلاك ما يمكث فيه، ويجلس ينتظر أن يُقتل!
يخرج، ينجُو، وإذا كان لا بد للإنسان أن يرتكب أحد مفسدتين فليرتكب أخفهما دفعاً للأخطر والأعظم.
ولما دار الأمر بين بقاء موسى في مصر مع معرفته بها، أو ذهابه إلى بلد بعيد لا يعرفها، وليس معه دليل يدُله، ولا هادٍ يهديه، لكن هنا في موت محقق  إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص: 20]، وهناك إذا خرج علّه ينجو، في احتمال نجاة، ولذلك أخذ بأدنى الضررين وخرج، والخوف الطبيعي ملازمٌ للإنسان وليس من الشرك، فخرج خائفا، لكن يدعو الله، لما  تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ  إلى الجهة: قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ  [القصص: 22].
فدعا الله ، وقصد بوجهه مدين وهي جنوبي فلسطين.
وهكذا الإنسان إذا خرج من البلد فاراً من عدوه يدعو ربه أن يهديه الطريق الصحيحة حتى لا يهلك في الطريق، ولمّا تمالؤوا على موسى كان لا بد من الخروج، ويدعو الله، يقول:  عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ [القصص: 22] الطريق المختصر الموصل إلى المقصود بسهوله ورفق.
قال:  سَوَاء السَّبِيلِ ما قال: السبيل! سَوَاء السَّبِيلِ ؛ لأن بعض الناس يخرج قد يصل ولكن بعدما يتعب، ويمشي مسافات ما كان في داعي أن يمشيها، ولكن لجهله الطريق. يرجو من ربه أن يهديه سواء السبيل فهداه سبيل مدين، أقصر طريق، وهداه سبيل الحق.
خرج فاراً بنفسه، منفرداً، حافياً لا شيء معه، ولا يعرف الطريق، فأسند أمره إلى الله:عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ بركة الدعاء عظيمة، حسن الظن بالله نتيجته مثمرة، التوكّل على الله ينجّي: "وما توكل عبدٌ على الله حق التوكل إلا كفاه" خرج موسى متعلقاً بأسباب السماء؛ لأن أسباب الأرض مقطوعة.

قصة موسى -عليه السلام- مع بنتي الرجل الصالح

00:47:00

 فوصل ماء مدين، ووردها، ووجد عليها جماعة من الناس يسقون مواشيهم، ووجد المرأتين تحبسان الغنم، وتمنعانها أن تختلط بغنم الرجال، ولاحظ أنهما لا تريدان الاختلاط، ولاحظ ضعفهما، وتأخرهما، فرقّ لهما، ورحمهما، وسألهما: مَا خَطْبُكُمَا ؟
وكان السؤال موجزاً، والكلام مع الأجنبية بقدر: "ما خطبكما؟" كلمة واحدة، والجواب رد الغطاء: {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء}؟ وأين الولي؟ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص: 23] تقليل الكلام مع الأجنبية، وتقليلها الكلام مع الأجنبي، الأدب في التخاطب والحوار، حتى الذين يدخلون اليوم إلى مواقع الإنترنت، والى غرف التخاطب يجب أن يتعلموا من موسى -عليه السلام- ومن المرأتين الصالحتين درساً في الكلام بين الأجنبي والأجنبية:
أولا: للحاجة.
ثانيا: بأقل الكلمات.
ثالثا: تبيين الحال الذي يقطع أي طريق للشر، ويقطع أي طريق للوسوسة الخاطئة، ويبين العذر: قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء [القصص: 23]، تربينا على الحشمة، وعدم الاختلاط بالرجال، وليس مثل الآن رجل بجانب امرأة في الاستقبال، رجل بجانب امرأة في قسم الأجهزة، وهكذا.. يُراد الاختلاط لأجل الفساد، وتطبيع العلاقات بين الأجانب والأجنبيات، لتقوم العلاقات، وتنتهك الحرمات، وتقع الفواحش والموبقات.
وتقدّم الشهم للقيام بالمهمة بلا أي كلام آخر بعد ما عرف لماذا؟  وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ  لا قوة له على السقي، لا يستطيع العمل، وأن يباشر الغنم بنفسه، لو كان لنا رجال لزاحموا الرعاء، ولكن لا يوجد، أرسلنا للعمل اضطراراً وليس اختياراً لا نريد أن نعمل خارج البيت ولكن ليس لنا خيار آخر.
مباشرة: فَسَقَى لَهُمَا  [القصص: 24] ولا طلب أجرة، ولا اشترط شيئاً، ولا له قصد غير وجه الله.
قال عمر -رضي الله عنه-: إن موسى -عليه السلام- لما ورد مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين تذودان، قال:  مَا خَطْبُكُمَا ؟
فحدثتاه، فأتى الحجر، فرفعه ثم لم يستقِ إلا ذنوباً واحدا حتى رويت الغنم" [رواه أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح: 6/334، رقم: 31842].
موسى كان متعباً، كان في طريق سفر، ومع ذلك ما تأخر عن المساعدة، وقام بالإحسان والنفع بدون مقابل.
والإحسان ليس إلى من تعرفهم فقط، المسلم يقدّم إحسانه إلى كل أحد، والداعية إذا خدم الجميع أقبلوا عليه، والمساعدة تًقدم حتى بدون طلب، ولا يحوج الإنسان الطرف الضعيف لطلب المساعدة، وإنما يقدمها تبرُعاً مباشرةً.
ولا نجد في كلام المرأتين طلباً ولا نجد لموسى أي تأخر حتى تطلب المرأتان شيئاً وإنما تقدّم مباشرةً.
وإذا رأيتَ الكفرة حملة الصليب في الأدغال والصحاري والبراري والقفار يقدمون المساعدات إلى أُناس لا يعرفونهم من أجل صليبهم، فتعلم بأن بذل أهل الحق أنفسهم في إعانة الخلق الذين لا يعرفونهم يكسبهم المحبة، والطريق تنفتح لتقبّل الحق الذي يحملونه.
المرأة غير مكلفه أساساً في العمل والإنفاق، والعفيفة في البيت، لكن قد تدعو الحاجة إلى خروج لكن بضوابط، ولا اختلاط، ومع حياء وليس بقلة حياء.


لما سقى موسى -عليه السلام- وقت شدة الحر، ما هو الدليل أنه سقى في وقت الحر؟ ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ  إذً  كانت الشمس، تولّى إلى الظل مستريحاً بعد التعب، يشكي حاله لربه، ولا يلزم أن يقول الإنسان في دعائه: افعل لي كذا؛ لأن شكوى الحال أحياناً تغني عن السؤال: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24]، فأنا مُحتاج إلى خيرك يا رب، ما تسوقه لي وتيسره لي أنا فقير إليه.
والتوسل إلى الله لذكر حال الداعي، وافتقاره من أعظم أنواع التوسل، والله يحب من عبده أن يتضرع ويذكر فقره، ومسكنته، وحاجته لربه، يريد من عبده أن يذكر فقره إليه، قال ابن عباس: سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعامٌ إلا البقل وورق الشجر، وكان حافياً فما يصل حتى سقطت نعل قدميه، وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه للاصِقٌ بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لتُرى من داخل جوفه، وإنه لمحتاج لشق تمرة.
كان ما تعلمه موسى من الدين، ومن تلك المرأة الصالحة، ومما بقي عند قومه من الخير كافياً في تعليمه أدب الدعاء.
ثم توفيق الله لموسى -عليه السلام- وإلهامه حتى الكلمات التي يدعوه بها، فهذا من توفيق الله لموسى، قدم بين طلب يده "رب" إشارة إلى الإيمان، والتوحيد، ولتجرد من الحول والقوة  رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] رب إني فقيرٌ.
كيف جاء الفرج؟
لما رجعت المرأتان إلى أبيهما وأخبرتاه وقد رجعتا إليه مبكرتين على خلاف العادة، فسألهما وعلم ما حصل، وكان لا بد من جزاء الإحسان بالإحسان، فأرسل ابنته وهو غير قادر على الذهاب لكي يكافئ الشهم:فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء لا تبذر، ولا تبرج، ولا إغواء، ولا تهييج، لا خراجة ولاجة، ليست بسلفع، لا جريئة سليطة، تقول: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ ، ولم تقل: أنا ادعوك! تعال معي، هذه مريبة!
 إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ  لماذا؟ ما هو سبب الدعوة؟ ماذا يريد؟ الأجنبية تكلم الأجنبي، لا بد من توضيح كل شيء الآن: لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا[القصص: 25].
وهذا التأدب في العبارة، لا توهم أي ريبة، ونسبت الدعوة إلى أبيها، وجاء موسى وراءها ثم مشى أمامها تنعت له الطريق؛ كي لا يرى شيئاً إذا هبت الريح على ثيابها.
وبما إن القاعدة:ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه[رواه أبو داود: 1672، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 1469]، وجاء موسى إلى ذلك الشيخ الصالح والرجل الكريم أول ما سمع منه القصة، أول ما يحتاج إليه موسى الطمأنة، فطمأنه، قال: لا تخف.
هذا أول ما يحتاجه موسى؛ لأنه كان خائفاً، وخرج خائفاً، ولا زال عنده نسبة خوف لئلا يلحقوا به.
قال: لَا تَخَفْ[القصص: 25]، هذه البلد ليس لفرعون وجنوده لهم سلطان عليها، هذه بلد مستقلة، لا تخف، لن يستطيعوا اللحاق بك: نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 25]، والصالح يعرف أن فرعون كان ظالماً، وقد سمع التفصيل من موسى  نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ  [القصص: 25] طب نفساً يا موسى، وقرّ عيناً، نجّاك الله منهم.
والله ينجي أولياءه، وإذا حصل للعبد مكافأة على عملٍ صالح قام به من غير طلب منه ولا حرص على المكافأة، وإنما جاءت هكذا بقدر من الله دون أن يكون هلوعاً، متطلعاً، جاءه شيء من غير إشراف نفسٍ ولا مسألة، فليقبل.


ولذلك لما جاء العرض بإشارة البنت: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ  [القصص: 26] بعد ما رأت من موسى ما رأت وعرفت أنه قويٌ أمين، لا تفوت مثل هذه الفرصة، والبنت تشير على أبيها، وليست قضايا الزواج حِكراً في ابتدائها على الأب، بل يمكن أن تشير البنت، وتتكلم البنت، وتدلي البنت برأيها: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ  إشارة  يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص: 26]، وروت له ما حصل في رفع الصخرة، وفي كيفية مشيه معها، وهكذا تشير المرأة بالرأي الحصيف، وإهدار أقوال النساء وآرائهن ليس من الحكمةِ في شيء، وقصة أم سلمة في الحديبية تدل على أن من النساء من تأتي برأيٍ لا يأتي به الرجال.
قال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين تفرّس في عمر فجعله خليفة، وصاحب يوسف حين قال: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ [يوسف: 21]، وصاحبة موسى حين قالت: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ[القصص: 26].
وهكذا حصل العرض: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ، والمقابل: عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا  وتبرعت بسنتين إضافيتين  فَمِنْ عِندِكَ  [القصص: 27]، ومن فضلك، وتطوّع من قبلك وليس واجباً عليك.
وهذا فيه جواز: أن يعرض الرجل ابنته أو من هي تحت ولايته على الصالح ليتزوجها ولا غضاضة في ذلك، فعله صالح مدين، وفعله الصالحون من أمة محمد ﷺ فهي سنّه قديمة، وليس في ذلك ما يدعو إلى خجلٍ، وليس في ذلك عيبٌ.
ويجوز أن يكون المهر إجارةً في عمل، وأن تكون معينة، معلومة، رعي غنم ثمان سنين.
ووافق موسى -عليه السلام- ولكن أي الأجلين قضى؟ قال سعيد بن جُبير: سألت ابن عباس: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أخيرهُما وأوفاهما [جامع البيان: 19/568].
إذاً، نبيّ الله إذا قال فعل، وموسى شكر للرجل صنيعه وكافأه بهاتين السنتين زيادة، بذل موسى جهداً، ومشقة، وصبر في هذه السنوات.
ولا شك أن رعي الغنم وسقي الغنم فيه مجهود، وعشر سنين تربية، وهو يتأمل في تلك البادية، وإذا خرج لرعي الغنم، وقد قال ﷺ: ما بعث نبياً إلا رعى الغنم [رواه بالبخاري: 2262].
قال ابن حجر: الحكمة في إلهام الأنبياء رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرُّن برعيها على ما يكلفونهُ من القيام بأمر أمتهم، وأن في مخالطتها -تحديداً- ما يحصل لهم الحلم والشفقة؛ لأنهم إذا صبروا على رعيها، وجمعها في المرعى، ونقلها مِنْ مَسْرَحٍ إِلَى مَسْرَحٍ، ودفع عدوّها من سبعٍ، وغيره، كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها، وشدة تفرقها مع ضعفها ألِفوا مع ذلك الصّبر على الأُمة، وعرفوا اختلاف طباعها، وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعهد لها [فتح الباري: 4/441].
والنبي ﷺأخبر أن السكينة في أهل الغنم، والإنسان يقتبس من طباع من يخالطه ولو كان حيواناً، والخُيلاء، والفخر، والشدة في الفدادين الذين يصيحون بالصوت العالي، رعاة الإبل.
واكتسب موسى -عليه السلام- من السكينة والتجربة في حفظ الرعية وسياسة من تحته ما اكتسب حتى صار أهلاً أن يوحي الله إليه.

قصة رجوع موسى -عليه السلام- إلى مصر مرة أخرى

01:01:27

 ولما انتهت المدة أراد أن يرجع إلى مصر حيث أهلهُ وقومه، ولعل مضيّ هذه المدة بمضيها تكون الأمور قد تغيرت، لكن لمّا خرج موسى من مدين هذه المرة تاه، ولم يصل إلى مقصوده مباشرةً، حصل هناك تضييع في الطريق، وكانت ليلةً مظلمةً باردة، فجعل يحاول أن يوري الزناد لعله يرى شيئاً.
واشتد الظلام والبرد وهو يبحثُ عن شيءٍ يستدفئُ به أهله؛ لأن شهامة الزوج تقتضي البحث أولاً عمّا يريح الزوجة، ولذلك أراد لأهلهِ ناراً يستدفئون بها، فهو يفكر في زوجته قبل نفسه، وهذه أمانه وزوجهُ إياها رجل صالح، وهي امرأةٌ صالحة، فهي جديرة بالعناية، وهو يبحث عن حل لهذا أبصر ناراً تتأجّج في الجانب الغربي من جبل الطور، عن يمينه، فقال لأهله: امكثوا. وهذه اللفتة في إبقاء المرأة بعيداً عن الخطر؛ لأنه لا يدري من عند النار، ولو ذهب بامرأةٍ قد تمس بسوء. فقال لأهله: امكثوا. دَرسٌ للأزواج في رعاية الزوجات، وحماية الزوجات، والمحافظة على الزوجات، والمحرم مع المرأة هذه وضيفته، وهذا سفر: قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ واستعلم عن الطريق أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [القصص: 29].
فإذاً، تمكث ليذهب هُو، ليأتي بخبر الطريق، وجذوة من النار، ويستشعل شعلة ليستدفئ أهله ويصطلون في البرد، وقد أتى منها بخبرٍ لكن بأي خبر؟! خبر، هُدى، ونور، ونبوة. أقتبس منها نعم، لكن ماذا اقتبس؟ وأي شيء ٍ اقتبس؟
كان لتلك النار من الاضطرام وهي في خضرة الشجرة ما جعل موسى يبقى متعجباً ويقف يفكر، نارٌ تضطرم في أصل شجرة خضراء وليس عندها أحد! "في لحف الجبل" يعني في سفح الجبل، غربي الجبل عن اليمين: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ[القصص: 44] في وادي طوى كان الموعد.
كتب الله أن يضلّ موسى الطريق ليأتي هناك، حيث موعد الوحي على غير علم من موسى، فناداه ربهُ في ذلك الوادي المبارك، المقدس: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طـه: 12] تعظيماً لتلك البقعة المباركة لاسِيّما في تلك الليلة المباركة، وأخبره من هو:  إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ  [القصص: 30]،  إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا  ما في شك ولا مرية: فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طـه: 14]، وهكذا كلمه ربه مباشرةً، ولا شك أن ذلك الكلام، في ذلك الليل، عند هذه النار العجيبة، في ذلك الوادي المبارك سيكون له وقعٌ شديد في نفس موسى -عليه السلام-.
لكن جرت تهيئة عجيبة في قصر فرعون، وتهيئة عجيبة في مدين، وتهيئة عجيبة في هذه الرحلة لتلقي الوحي.


التربية تصنع الرجال، الله إذا أراد إن يصطنع أشخاصاً للقيام بأدوار عظيمة يقلبهم في أحوال، وينقلهم من مكان إلى مكان، ومن حال إلى حال لتنضج تلك النفوس، وتستوي، ويصبح عندها من التجربة، والقوة، والعلم، واستكمال الفضائل والأخلاق، تحمُّل، وصبر اكتسبه موسى كله، صار مؤهلاً الآن للنبوة، ولذلك قدر الله أن يضيع ليأتي لذلك المكان في ذلك الوادي ليوحي إليه ما أوحاه إليه، وليقول له: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي [طـه: 17 - 18] هذه عصاي أعرفها وأتحققُها  وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى  أدفعُ سبعاً، أقتل عدواً، حيةً أو عقرباً، أنشر عليها ثوباً، أُضلل بها على نفسي مع الثوب إذا أردت النوم في الشمس. وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى  وذكر بعضهم للعصا مائة فائدة، ومن فوائدها: السترة، والتأديبُ بالحقّ.
 أَلْقِهَا يَا مُوسَ * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [طـه: 19 - 20]، والخوف يبقى مهما كان الرجل شجاعاً شيءٌ موجود في النفس، حيهٌ حية، ثعبان عظيم يسعى ويتحرك.
 وَلَّى مُدْبِرًا  [القصص: 31] لما عاينها ولى هارباً بحسب طبيعته البشرية،  وَلَمْ يُعَقِّبْ  ولم يلتفت، فناداه ربّه: يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ [القصص: 31]، وهذا الأمان أعظم من ذلك الذي بشرهُ به الرجل؛ لأنّ هذا الأمان الآن والخبر من رب العالمين، و خُذْهَا [طـه: 21] لذلك لما جاءت هذه الوعود: أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ [القصص: 31] ما تردد موسى في أخذ الحية: إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ  لن تلسعك، ولن تلدغك، ولن يحصل لك شر: خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى [طـه: 21] فلما استمكن منها وأخذها رجعت عصا بشعبتين كما هي عصا الرعاة ذات الشعبتين المعروفة.
 أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا  [طـه: 18]، هذه عصا ذات الشعبتين  أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا  ويستريح، قال: خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى [طـه: 21] فسبحان الذي جعلها حية ثم أعادها عصا!
وهناك أمر آخر وبشارة جديدة وآية أخرى:  اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ  وأدخلها تَخْرُجْ بَيْضَاء تتلألأ، بيضاء كالقمر،  بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير برص، ولا بهقٍ، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ  ضع يدك على فؤادك يسكن جأشُك: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ  إذا خفت ضع يدك على فؤادك يسكن مهما كان الخوف، مهما كان المنظر الذي أمامك مخيفاً، مهما كان صاحب السلطان الذي أمامك ظالماً، مهما حصل من التهديد والوعيد:  وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ .
 وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ  أي من الخوف.
فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [القصص: 32].


هنا خوفٌ لا زال من ذلك الطاغية فصرّح به موسى لربه: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا [القصص: 33 - 34] ليس الآن تهرب، ويرسل هارون بدلاً منه: فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ تلقّى موسى المهمة، وقبل، وطلب العون.
 قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص: 35].
وهكذا آتى الله موسى النبوة.
وبقي أن نعرف ماذا يدور بين موسى وفرعون، وموسى وبني إسرائيل، وموسى والسحرة، وموسى والقلة المؤمنة.

حاجة الأمة إلى التوجيهات الربانية

01:11:34

 ولكن يبقى الدرس -أيها الإخوة- أن المسلمين اليوم في مرحلة الاستضعاف يحتاجون حاجة ماسة إلى توجيهات ربانية، وأن يأخذوا بالأسباب الشرعية، والأمة التي تعيش اليوم هذا الصراع، وقد تكالب أعداؤها عليها، فالصليبيون قد هيئوا المشركين منذ سنواتٍ طويلة ليقوم هؤلاء المشركون بدورهم اليوم، فبعثوا فيهم الرغبةَ في إقامةِ سلطانهم منذ سنين، فأقام المشركون سلطانهم على نظرٍ من اليهود والصليبين ليأتي اليوم الذي يطلق فيه اليهود والصليبيين هؤلاء المشركين كلاباً مسعورة على أهل السنة فيقتلونهم، ويستحيون نسائهم، ويُخرجونهم من ديارهم.
وهكذا يتظاهر أهل الشرك وأهل الصليب مع المخططين من اليهود الراعين لهذا الثالوث الفاسد في شن الغارة على أهل التوحيد وأهل الإسلام، فيتلفت أهل الإسلام من أين الفرج؟ هل من معين؟ من ينصُرنا؟  فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ [يونس: 83] حصل هنالك شك عند بعض أتباع موسى -عليه السلام- وهو يطمئنهم: عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ [الأعراف: 129] اشتد الأذى: أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا [الأعراف: 129] ما استفدنا، ما تغير الواقع  وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء [الأعراف: 128].
وكانت هنالك إجراءات كثيرة وجعلوا من بيوتهم قبله، وصبروا: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ [الأعراف: 137]، فجعلوا بيوتهم قبله، وصبروا، وما كانوا يستطيعون حتى أن يقاتلوا، لكن صبروا على ما أُوذوا حتى جاء النصر.
والأمة مطالبة أن تفعل ما بوسعها اليوم، حتى لو كانت قدرتها قليلة على الدفع، تدفع بما عندها.
وهذه الأُمة فيها خيرٌ عظيم، فإذا حققت التوحيد، وتخلصت مما يوجد فيها من ألوان الفساد؛ لأن بلاءنا منّا قبل أن يكون من عدوّنا، نحن البلاء فينا، لا زال في ناس لا يعرفون التوحيد، ولا أهمية التوحيد، ولا خطر الشرك، ولا يفرقون بين الموحد والمشرك.


فإذا وجد من المشركين اليوم من يعبد من في القبور والأضرحة، ويستغيث بهؤلاء من دون لله، ومن يعتقد أشياء من خصائص الألوهية والربوبية لناس من البشر، ويدعي لهم عصمة، فكيف سيتم نصرٌ وما تبين هذا أصلاً؟ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ [الأنفال: 42].
وسبحان الله! تُغش الأمة بغشاشين، ويصنع أبطال وهميون، ولكن يأبى الله إلا أن يكشف الحقائق، ويبين سبحانه وتعالى الحق من الباطل، ويجري الله أقداراً في الأيام والليالي عجيبة بحيث تعرف الأمة في النهاية من هم أعداؤها، من هم المنافقون؟ من هم المشركون؟ من هم الصليبيون؟ من هم اليهود؟ من هم أعداؤها؟ من هم الذين يتظاهرون مع أعدائها؟
لا بد تنكشف الأشياء، لازم، وهنالك مسلسلات وأحداث نتيجتها كشف الحقائق، فإذا زال البلاء منا، وعرفنا عدونا، واصطلحنا على التوحيد، وخرج من نفوسنا العُجب والغرور، واستعلاء بعضنا على بعض، والتفرقة بين المسلمين، وعدوان بعضهم على بعض، وزالت من النفوس أشياء من حب الرئاسة، والعجب، ومطامع الدنيا:مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا[آل عمران: 152]، وصار عندهم استعداد للتضحية وبذل بالنفوس، وانتشلوا أنفسهم من مستنقعات الترف الذي غرقوا فيه، وغرق أولادهم، وغرق أهلوهم، وغرق المجتمع.
ثم انتشلوا أنفسهم من مستنقعات المعصية، وأنواع الرذائل والفسق والفجور، وعرفوا أنه لا ينجيهم إلا الله، فتابوا إليه، ورجعوا إليه، وتضرعوا إليه.
ثم عرفوا كيف يصبرون، وعرفوا أن التهور لا يفيد، وعرفوا بالتجارب أن استفزاز العدو القوي عليهم بفعل منهم، هذا مناف للحكمة، بل يأتي بوبال، وصبروا على حسب السنن الإلهية فسيأتي النصر بلا شك.
فما يحدث الآن للأمة تمحيص بحيث يتبين العدو ويُستخرج ما في النفوس من أنواع الانحرافات، فإذا تبين العدو، وعرفنا تماماً من هو عدونا، وعرفنا قيمة التوحيد، والأساس الذي يقبل الله عليه العمل، والذي لأجله خلق السموات والأرض، والذي لأجله خلق الجنة والنار، والذي لأجله يحاسب العباد، ولأجله شرع الجهاد، ثم عرفنا هذه الآفات التي في أنفسنا نحنُ الآن، تخلصنا منها بفعل الأحداث؛ لأن حال الرخاء رُبما لا يخلص الأمة من ما أصابها، ومما في داخل النفوس.
فلا بد من أحداث كثيرة ضخمة تهز، ممكن تكون مذابح وتكون مآسٍ، ولكن تعرّفك من العدو.
وأيضاً يبدأ أهل الأيمان والإسلام تحت المحن يتوحدون، والمحنة يستخرج منها ما في النفوس من أنواع التفرق وإعجاب كل ذي رأي برأيه، والآفات النفسية، ويبدأ التوجه الحقيقي لنصرة لله ورسوله، فعند ذلك يأتي النصر.
وبنو إسرائيل ما كان عندهم سلاح، ولا خُطة عسكرية، ولا جيش، ما كان عندهم لا قليل ولا كثير، يعني موسى فقط مجرد جمع بني إسرائيل هرب بهم، ما عنده شيء يقاتل به أبدا،ً ما فيه ولا قطعة سلاح، فنجاه الله.
فالقضية ليست إذاً بعَدد أو عُدد، المسألة هل هؤلاء يستحقون النصر؟ هل توفر فيهم من الشروط ما يستحقون به نصر الله؟


ولا يوجد تمكين إلا بعد ابتلاء، والابتلاء قد يطول، ولكن التمكين بعده سيأتي.
وممكن أحياناً الجيل غير مستحق فيتيه في الأرض أربعين سنه، ويأتي جيل آخر أهل للنصر.
ولذلك على قدر ما نختصر الطريق بالتربية، والدعوة، والبيان، والنصيحة، والتعاون، والتآلُف؛ على قدر ما يقترب منا النصر.
فنسأل الله أن يلهمنا رُشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق، وأن يردهم إليه رداً جميلاً، وأن يعجل بنصرهم، ويعجل بالنصر لهم إنهُ سميعٌ مجيب.
وصلى الله على نبينا محمد.