الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ملخص الدرس الماضي
فقد تقدم معنا في الدروس الماضية شرح خمسة عشر حديثًا من الأحاديث في عظمة رب العالمين.
وكان آخر حديث، حديث: استووا حتى أثني على ربي -عز وجل- .
أما بالنسبة لمن صححه أو من ضعفه من أهل العلم، فقد صححه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في "نتائج الأفكار"، ومن المعاصرين الشيخ الألباني -رحمه الله-، وقال الهيثمي: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح".
وأما الذهبي -رحمه الله- قال: "الحديث مع نظافة إسناده منكر"، وأشار أحمد -رحمه الله- إلى إرساله، وقال الذهبي في تعليقه على "السيرة النبوية": "حديث غريب منكر"، وأشار النسائي في "الكبرى" إلى إرساله، لعله يقصد بالنكارة -رحمه الله-.
قوله في الحديث: اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب ؛ لأن الحديث كان في يوم أحد، وكانت المعركة مع المشركين وليس مع أهل الكتاب.
وعلى أية حال: هناك من صححه من أهل العلم -كما قلنا- كالحافظ ابن حجر -رحمه الله-، وما أشار إليه الهيثمي -رحمه الله- من أن رجاله رجال الصحيح، ولا مانع أن يدعو النبي ﷺ على بعض المشركين بمناسبة قتال مشركين آخرين.
وعلى أية حال تقدم هذا الحديث معنا مع شرحه.
نص الحديث السادس عشر
الحديث السادس عشر: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه؛ عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله الله منك، حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار [رواه أبو داود: 4699، وصححه ابن حبان -رحمه الله-، وكذلك ابن القيم والذهبي، وضعفه ابن رجب -رحمه الله-، قال محققو المسند: "إسناده قوي"، وقال الهيثمي: "رجاله ثقات".
شرح الحديث السادس عشر
والله هو العدل، وهو منزه عن الظلم، والظلم محال في حق الله: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء: 40]، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49]، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [فصلت: 46]، وقال في الحديث القدسي وقد مر معنا: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي [رواه مسلم: 2577].
وهو سبحانه الحاكم المتصرف يعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، له الخلق، وله الأمر، وله الحكم ، قال النبي ﷺ في هذا الحديث: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم [رواه أبو داود: 4699، وابن ماجه: 77، وأحمد: 21589] هنا نشير إلى أن المبتدعة في جانبين في مثل هذا، بعضهم وهو المعتزلة يردون مثل هذه الأحاديث أصلا، ولا يعترفون بها.
والأشاعرة في الجانب الآخر يقولون: يعذب بلا سبب، ولا حكمة، ولا تعليل، ولا يلزم لا وجود لا حكمة ولا تعليل، وهذا خطير أيضا القول هذا، فالله لا يمكن أن تكون أفعاله صادرة عن غير حكمة أو بلا حكمة أو يفعل أشياء عبثا أو يفعل أشياء بلا سبب، لا علة لها، ولا تعليل لها، لكن نحن قد تخفى علينا العلة، قد تخفى علينا الحكمة، لكنه لا يوجد جواز أن يفعل الله شيئا بلا حكمة، هكذا لمجرد المشيئة كما يقول الأشاعرة.
أهل السنة يقولون: لا، لا يمكن لا بد أن تكون، لا بد كل فعل لله صادر عن مشيئته وبإرادته -عز وجل-، لكن لا بد أن يكون لله فيه حكمة، ما يمكن أن يكون عبثًا أو بلا حكمة.
أما هم يقولون بمحض المشيئة المجردة، فلو قال قائل: هذا الحديث يعني لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل الأرض، طبعا لو أنه عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، معنى ذلك، يعني أنه -سبحانه- لا يعذبهم إلا لو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم؛ لأن هنالك سببا في الحقيقة يستدعي التعذيب، مثل أنهم لم يشكروا نعمه، الآن لو جمعت كل أعمالنا على نعمة واحدة ما أدتها، طيب بقية النعم؟ عباداتنا فيها وفيها، فيها الرياء، وفيها العجب، وفيها التقصير، وفيها خروقات كثيرة، يعني لو عذبنا على تقصيرنا في العبادة نستحق، لو عذبنا على عدم شكر النعم حق شكرها نستحق، لكنه -سبحانه- بفضله ورحمته وكرمه ومنته يغفر ويتجاوز ويقبل التوبة ، ولو شاء لعذبنا على الصغيرة والكبيرة، وعلى كل شيء، وحاسبنا على ذلك، على كل الأعمال، على كل التقصيرات.
فإذن، لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل الأرض، لو أنه عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ونعم الله على العباد كثيرة، وحقوقه عليهم كثيرة، ومع ذلك، فهو يعفو ويغفر ويتجاوز، والعباد ما قاموا بحق شكره، وأعمالهم كلها لا تفي شكر نعمة واحدة، فما بالك ببقية النعم؟ فما بالك إذا كان في أعمالهم معاصي؟ فما بالك إذا فيها كبائر؟ وأيضا قيامهم بحقوقه فيه تقصير إما جهلا أو تفريطا معصية تقصيرا؟ ولذلك قال ﷺ: لن ينجي أحد منكم عمله [رواه البخاري: 6463، ومسلم: 2816].
فإذن، لو عذبنا على تقصيرنا في العبادة، أو عذبنا على تقصيرنا في شكر النعم لكنا مستحقين وإلا لا؟
خلاص هذا من معنى هذه العبارة لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، فلو عذبهم لعذبهم بحق، عذبهم لحقه عليهم من تقصيرهم في حقه؛ وهو غير ظالم لهم، لو عذبهم في هذه الحالة هم يستحقون العذاب، وما كان تعذيبهم ظلما، كيف وأعمالهم لا توازي القليل من نعمه؟ كيف وهم مقصرون في طاعته؟ فتبقى نعمه الكثيرة ما لها مقابل في الشكر، ولو وزعت طاعات كل واحد على النعم التي أتاه الله إياها ما تفي بشكر النعمة، قال الله -تعالى-: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34].
وأشار أيضا في الآية الأخرى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: 18] أشار إلى أنه غفور رحيم على تقصير العباد في شكره لنعمه.
قال بعدها: ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم فإذن، رحمته ليست في مقابل الأعمال، ولا ثمن عليها، ولا تبلغ أعمالهم رحمته، فرحمته خير من أعمالهم، لو واحد قال: هل يرحمنا لأن أعمالنا تستحق رحمته، توازي رحمته، تكافئ رحمته؟ نقول: لا، رحمته خير وأعظم من أعمالنا، ولو كان على أعمالنا فقط ما ندخل الجنة، لكن رحمته، وأعمالنا ليست مكافأة للجنة، حتى لو الواحد من أهل الجنة عمله لا يكافئ الجنة، ولا ثمن للجنة، لكن سبب لدخول الجنة.
وإذًا بما ندخلها؟ برحمته، إذا أعمالنا ما تكافئ الجنة، يعني ما نستاهل مهما عملنا، مهما عملنا ولا شكر نعمة، يعني مثلا نعمة التنفس يعني كل الأعمال ما تكافئ نعمة، فسيكون دخول الجنة هذا زائد؛ لأنه الآن سيقال طيب وبقية النعم فضلا عن أن نستحق الجنة يعني بأعمال، فهذه الأعمال لو وزنت وحوسبنا عليها، يعني تماما ستسهلك كلها في شكر نعمة، وما أدينا بقية النعم، فضلا عن أن نكون فعلنا ما يساوي دخول الجنة.
إذن بم ندخل؟ خلاص كذا نقول ندخل برحمته، لكن في ناس ما يدخلون المشركون الكفار لا يدخلون أبدا، وفي ناس لا يدخلون إلا بعد عذاب، وأهل الكبائر، ومن لم تستثنه المشيئة، فهناك ناس يستحقون دخول النار، ولكن مشيئة الله يعني الله يشاء ألا يدخلوها برحمته، وناس يدخلون ثم يخرجون.
فإذن، كل الذين يدخلون الجنة لا يدخلون إلا برحمة الله، وإلا فالأعمال لا تنجيهم من النار ولا تدخلهم الجنة.
إذا جئت على قضية الحساب يعني هل تساوي؟
ما تساوي، كما قال ﷺ: لن يدخل أحد عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا ، يعني حتى عبادة الأنبياء ما توازي شكر النعم التي أنعم الله بها عليهم، لو أخذت نعمة النبوة فقط: وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113]، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء: 113]، وآتاه الله النبوة، وآتى أنبياء الملك والحكم والنبوة سليمان وداود.
إذن، حتى الأنبياء أعمالهم لا تكافئ الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة [رواه البخاري: 5673، ومسلم: 2816].
وجاء في رواية: لن ينجي أحدًا منكم عملُه [رواه البخاري: 6463، ومسلم: 2816].
فالأعمال الصالحة ليست مساوية للنجاة من النار، ولا لدخول الجنة، لكنها سبب، يعني لو واحد ما عمل، قال يعني خلاص ما في فائدة ما نعمل، نقول له: ما تعمل خلاص يدخل النار، ما عنده سبب للنجاة أصلا، يعني تدركه رحمة الله على ماذا؟ إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56].
فإذن، لا بد أن نحسن حتى يرحمنا ويدخلنا الجنة، لا بد أن نعبد حتى يرحمنا وينجينا من النار، لا بد أن نتوب حتى يرحمنا ويتجاوز عنا، ولو ما في توبة ولا في عمل صالح، خلاص، إذن، ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 32] الباء هذه باء السببية، وليست باء الثمانية، ليست ثمنا ولا مكافئا، السبب لأنه أمرنا وأعمالنا سبب نرجو بها عنده أن يدخلنا الجنة، نرجو بها عنده أن يباعد بيننا وبين النار، فدخول الجنة إذن برحمة الله وفضله، والنجاة من النار برحمة الله وفضله.
إذن، معنى الحديث: لو عذبهم لعذبهم وهم يستحقون كل أهل السماوات والأرض ولم يكن لهم ظالما، ولو رحمهم فهذا مجرد تفضل منه وكرم، لا لأن أعمالهم يستحقون بها الرحمة والجنة والنجاة من النار، لكن لو عذبهم لعذبهم لاستحقاقهم، ولو رحمهم لكان ذلك فضل منه وكرم، لا بأعمالهم، فرحمته خير من أعمالهم، فجميع العباد تحت عفو الله ورحمة الله وفضل الله، والذي ينجو منهم ينجو بفضل الله، وعفو الله، ما فاز أحد إلا برحمة الله، ما يفوز أحد بالجنة إلا برحمة منه وفضل.
وإذا كان هذا حال العباد فإذن، عليهم أن يشكروه، وأن يعلموا عظمته وقوته -سبحانه- وانتقامه وعذابه وتقصيرهم في حقه.
قوله ﷺ في الحديث: ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر
هذا يبين أن الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان وأصول الإيمان، وأن الإنسان لن ينجو إلا بهذا الإيمان، وأن الله قدر كل المقادير.
والحديث هذا له قصة: أن ابن عمر أتي فقيل له: "إنه قد ظهر قبلنا -أناس عندنا في جهتنا، السائل يقول- يقرؤون القرآن، ويتقفرون العلم -يعني: يطلبون ويجمعون- وذكر من شأنهم -أي أنهم يعني مجتهدين- لكن يزعمون أنه لا قدر، وأن الأمر أنف" يعني مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله، وأنهم لا يعلمه إلا بعد وقوعه، تعالى الله عن قولهم.
طبعا القدرية هؤلاء مجرمون في حق الله، لكن يزعمون أنهم يريدون تنزيهه، لما؟ يقولون ذلك يقولون يعني كيف نقول إنه علم بالمعصية قبل وقوعها، لما ما منعها؟، لو كان علمها كان منعها، سبحان الله! وهو سبحانه لا يبتلي؟ ولما خلق الشيطان؟ ولما خلق الشر؟
فإذن، الله علمه وشاءه وأراد خلقه، لكن لا يحبه، لماذا خلقه؟ لماذا أوجده؟ ابتلاء للعباد، يبتليهم من يطيع الشيطان ممن يطيع الرحمن.
فهؤلاء القدرية جاؤوا وقالوا: ما يعلم، ما يعلم الشيء إلا بعد وقوعه، لو قلنا: يعلم قبل وقوعه معناه كيف علم وما منعه؟ سبحان الله! أنتم تتحكمون فيه، تتحكمون في أفعاله، هو يفعل ما يشاء، حكمته اقتضت وشاء أن يخلق الشيطان، وأن يخلق الشر، وأن يقدر وقوع هذه الأشياء، حتى أصلا لو ما وقعت أهل النار يستحقون دخول النار على أي شيء؟ لو ما وقعت كيف تقوم حجته على خلقه؟
فهؤلاء مساكين أرادوا النجاة من شيء فوقعوا فيما هو أسوأ وأطم، ما هو؟ أنهم اتهموا الله بالجهل، إنه يفاجئ بالأشياء عند حدوثها -تعالى الله عن قولهم- ما هذه المصيبة؟
شف قارن بما فروا منه تجد كارثة كبرى، قولهم هذا سبة في حق الله، وأي سبة ونقص، قال ابن عمر: "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني -لا أنا منهم ولا هم مني-، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحد مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر" [رواه مسلم: 8] بدون إيمان الأعمال البر هذه ذاهبة، "لو كان له مثل أحد ذهبا وأنفقه ما قبله الله منه" حتى يكون يؤمن بالإيمان وأركانه، ومنها: أن يؤمن بأن الله كتب المقادير وعلمها وشاءها وخلقها وأوجدها، وما حصلت إلا بعلم منه ، وأنه شاءها لحكمة، وابتلاء للعباد، و لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال: 37]، وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ [آل عمران: 141]، ويظهر أصحاب النار في الواقع المستحقون لها، وتقوم عليهم الحجة.
ثم روى ابن عمر عن أبيه عمر حديث جبريل المشهور في أركان الإيمان الستة، فتبرأ عبد الله بن عمر من هؤلاء، وأخبر أن هؤلاء القدرية لا تقبل منهم أعمال بدون الإيمان بالقدر.
وكانت هذه النبتة الخبيثة طلعت في عهد الصحابة، يعني لو واحد قال: أول الفرق ظهورا الخوارج والقدرية.
أول الفرق ظهورا في عصر الصحابة الخوارج والقدرية، والخوارج أبوهم ظهر في عهد النبي ﷺ: ذو الخويصرة، الذي جاء يعترض على النبي ﷺ يقول: "اتق الله، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله" [رواه البخاري: 3150، ومسلم: 1062].
فإذن، أول الفرق ظهورا في الأمة هؤلاء الخوارج والقدرية، الصحابة وقفوا منها موقفا حاسمًا، يعني عمر بن الخطاب لما خرج هذا صبيغ بن عسل يسأل عن المتشابهات؛ يأتي يجلس إلى الناس حديث عهد بالإيمان، أو من العامة، ما عندهم علم، ويجي يسأل في المتشابهات، يعني يجي يقول: والمرسلات والعاصفات، ما هذا؟ والذاريات يعني الأشياء المحتملة؟ فلما بلغ عمر شأن هذا صبيغ استدعاه، تعال، فلما جاء جلس قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال: "وأنا عبد الله عمر"، وكان عمر قد أعد له عراجين النخل، وأخذ العرجون يضرب به على رأسه، حتى سال الدم، قال: "حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب والله الذي في رأسي" خلاص، ثم نفاه ومنعه من الكلام ومقاطعة كاملة، وغربه عن بلده، وأبعده عن أهله، وحكم عليه بأن يهجر، فما كان أحد في عهد عمر يتجرأ أنه يطلع بدعة.
بعد عمر يكسر الباب، كما في حديث حذيفة كسر الباب بمقتل عمر ، ودخلت الفتن على المسلمين، خرجت نابتة القدرية، ونابتة الخوارج، لكن الصحابة كانوا لها بالمرصاد، يعني مثلا عبد الله بن عمر موقفه من القدرية واضح جدا، يعني صارم، صارم، "أني بريء منهم، وأنهم برآء مني"، ما في علاقة.
عبادة بن الصامت صحابي آخر كان له موقف حاسم من أهل البدع في القدر، فإنه قال لابنه: "يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك" ثم قال سمعت رسول اللهﷺ يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، ثم قال: يا بني إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: من مات على غير هذا فليس مني، من مات على غير هذا فليس مني [رواه أبو داود: 4700، وصححه ابن حجر، من المعاصرين الألباني، ومحققو المسند].
في رواية الترمذي: "يا بني اتق الله، واعلم أنك لن تتقي الله حتى تؤمن بالله، وتؤمن بالقدر كله خيره وشره، فإن مت على غير هذا دخلت النار" [رواه الترمذي: 2155، وهو حديث صحيح].
مضى معنا في الإيمان بالقدر أن له أربع مراتب: علم الله، وكتابته، ومشيئته، وخلقه وإيجاده للأحداث والأقدار: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يــس: 12]، وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ [الأعراف: 145]، في الذكر، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105].
ما المقصود بالذكر؟ اللوح المحفوظ، هنا في هذه الآية، والإمام المبين: اللوح المحفوظ، وكذلك الكتاب المبين، الله أجرى القلم على اللوح المحفوظ بكتابة ما هو كائن، وكل ما يجري في هذا الكون صادر عن إرادته ومشيئته الدائرة بين رحمته وحكمته، كل ما يقع في هذا الكون صادر عن إرادته ومشيئته الدائرة بين رحمته وحكمته، وكل ما يقع في الكون مطابق لما هو مكتوب في اللوح المحفوظ، لا يخرج عنه، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا يخرج عن إرادته شيء، وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ [البقرة: 253]، وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ [الأنعام: 107]، وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة: 253]، ومشيئة العباد داخلة في مشيئة الله: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 29]، كل ما يجري من خير أو شر أو كفر أو نفاق أو طاعة أو معصية كله شاءه الله قدره -سبحانه وتعالى- حكم عظيمة: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2]، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62].
ما يخرج العباد عن هذا؛ ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، لو مت على غير هذه العقيدة قال: لدخلت النار، فهذا جزم بأن منكر القدر في النار، من أنكر القدر فهو كافر؛ لأنه مكذب بالقرآن الله يقول: كتبنا، وهذا يقول: ما كتب، ولا شاء، ولا علم، هذا في النار.
إذن، من عظمة الله: أنه قادر على تعذيب كل أهل السماوات والأرض، ولو عذبهم وهو غير ظالم لهم.
نص الحديث السابع عشر
الحديث السابع عشر: يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار وقال: أرأيتم ما أنفق ينفق أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يده وقال: وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان، يخفض ويرفع [رواه البخاري: 7411، ومسلم: 993] سبحانه، حديث عظيم من أحاديث عظمة رب العالمين.
وفي رواية لهما: يمين الله ملأى، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؛ فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الفيض أو القبض يرفع ويخفض [رواه البخاري: 7419، ومسلم: 993].
شرح الحديث السابع عشر
هذا الحديث يدل على كمال ملك الله، كمال ملك الله وجوده وإحسانه وقدرته وعظمته، وأن خزائنه ملأى، وأن ملكه تام، وأن ما عنده لا ينفد، مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل: 96]، له خزائن السماوات والأرض؛ مهما أنفق، ومهما أعطى -سبحانه- لا ينقص مما عنده شيء، كم ينفق ربنا كل يوم؟ كم ينفق؟ كم يعطي كم؟ الأموال، والصحة، والأولاد، والجاه، والحكم، وما نقص شيء مما عنده، سبحان الله عظمة هذا يملأ قلب المؤمن تعظيما لربه هذه النصوص التي نحتاج إلى الإيمان بها والتأمل فيها لتزيدنا تعظيمنا لربنا، وقد قلنا يعني ما في واجب يترك ولا معصية تعمل إلا من نقص تعظيم الله في نفوسنا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: 91]، لو قدروا الله حق قدره ما أشركوا، ما قالوا الكلام الذي يقولونه، مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91]، ما جحدوا.
الحديث هذا فيه بيان أن كل شيء يعني كل عطية كل خير في الكون هذا مصدره من الله، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر: 21]، يعني حتى هذا المطر كله من عند الله، وأن الله لو اجتمع عباده أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم في صعيد واحد فسألوه؛ فأعطى كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر؛ كما مر معنا في حديث مسلم.
وقوله ﷺ: يد الله ملأى لاحظ الإيمان بهذا يدفع إلى سؤال الله أيما سؤال، إذا يده ملأى، اسأل وما في سقف للمطالب، يعني ما دامت مباحات وحلال، اسأل ترى يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، ملأى شديدة الامتلاء بالخير الكثير، أرزاق وعطايا، لا يغيضها يعني: لا ينقصها، ما ينقص مما عنده شيء، سحاء يعني دائمة العطاء، هذا معنى سحاء دائمة العطاء والصب على العباد سحاء الليل والنهار يعني في الليل والنهار، يقال: سح الماء إذا انصب من فوق من علو، وارتفع إلى حد السيلان، فيد الله تعطي عن ظهر غنى جزيلة، لا مانع لما أعطى.
الآن لما قال: سحاء وعرفنا السح الانصباب من علو، الانصباب من علو ماذا يعني السهولة؛ لأنه لما ينزل الشيء من أعلى ينزل بسهولة، يتدفق، فالله يصب على العباد صبا، يعطيهم، يغدق عليهم، يرزقهم، ويعافيهم، والدنانير والدراهم والذهب والفضة واللباس والصحة والأولاد والزوجة، عطاء، والمساكن والدواب والأعمال والزروع والثمار، وكل شيء، متى يمتنع العطاء؟
إما أن يكون الواحد ما عنده شيء يده فارغة، أو عنده بس بخيل، والله يده ملأى، وهو كريم -سبحانه-، يد الله سحاء تعطي بالليل والنهار، ما نقص شيء مما عنده ما نقص. [بعض ما تقدم مستفاد من شرح الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- للسفارينية].
الله له الجود الكامل والإحسان، ويعطي من خزائنه التي عنده، نحن ما نراها ولا اطلعنا عليها، لكن الله أخبرنا عنها: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر: 21]، قال: سبحان الله! ماذا أنزل من الخزائن؟ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [المنافقون: 7]، فله الغنى، وهو الجواد الكريم المنان صاحب الإحسان، يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64]، لا حجر عليه، ولا منع لعطائه، يبسط يديه، ويأمر العباد أن يتعرضوا لنفحاته ويسألوه، فيده سحاء، يصب عليهم صبا، وخيره مدرار، واسع العطاء، كما ذكر الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسيره.
الإنسان من طبعه البخل والشح؛ يمسك خشية النفاد: قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا [الإسراء: 100] يعني: بخيلا، لو أنتم موكلون على الخزائن التي عند الله ما أنفقتم، لخفتم النفاد.
الحديث هذا فيه إثبات اليدين لله -تعالى-، وأنهما مبسوطتان بالعطاء والنعم، وهذه من الصفات الذاتية لله، يد الله، قال في الحديث: يد الله ، يمين الله في الرواية الأخرى، قال: وبيده الأخرى الميزان .
إذن، له يدان، قال : مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] ثنتين، وقال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64].
وأجمع السلف على أن لله يدين، يجب إثباتهما لله -تعالى- حقيقة على الوجه الذي يليق بجلاله وكماله، وإجراء نصوص الصفات كما جاءت من غير اعتراض ولا رد ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، ولا نعين كيفية من عندنا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] أهل الباطل قالوا: اليد النعمة، واليد القدرة، واليد القوة، وفسروها بغير ما هو معروف في اللغة، وما هو ظاهر النصوص في الشرع.
قوله ﷺ: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يده كل الذي أنفقه منذ أن خلق السماوات والأرض ما نقص شيء مما عنده؛ لأن الخير كله بيده -سبحانه-، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وكيف ينقص من عنده شيء إذا كانت الأمور بالكلمة تخلق: كن، خلاص يخلق بالكلمة: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117]، ما الذي ينقص ملكه؟ ما في شيء، يخلق بالكلمة.
وقوله ﷺ: وعرشه على الماء وفي الرواية الأخرى: عرشه على الماء لما ذكر خلق السماوات والأرض ذكر أن الله كان عرشه على الماء قبل أن يخلقهما، وفي هذا دليل على أن خلق العرش سابق على خلق السماوات والأرض كما في "طرح التثريب" و "فتح الباري".
فالعرش كان على الماء قبل ابتداء خلق السماء والأرض: وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود: 7].
ومر معنا في حديث البخاري: كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء الذكر هذا من أسماء اللوح المحفوظ: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ كتبنا في كتبنا المنزلة الزبور من بعد الذكر، يعني من بعدما كتبنا في الذكر في اللوح المحفوظ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105]، والذي جاء عن ابن عباس وسعيد بن جبير وأبي العالية وابن زيد: أنها أرض الجنة، أن الأرض هذه أرض الجنة يرثها عبادي الصالحون.
وقال بعضهم: أرض الدنيا يورثها الله للصالحين، فيسلبونها من الكفار وتنتقل إلى الصالحين.
وفي هذا بيان بطلان من قال: إن الكفار يصلحون لإدارة الأرض.
الكفار عمرهم ما صلحوا لإدارة الأرض، الكفار إلا ويفسدون في الأرض، كفار ماذا يريدون؟ يعني يحلون الفواحش، ويحلون الربا، ويحلون الخمر، ويظلمون ويبغون ويطغون ويسلبون خيرات غيرهم، من أين لهم الصلاحية هذه؟، الصالحون أصحاب الأعمال الصالحة، الكفار عمرهم ما كانوا أصحاب الأعمال الصالحة، ولو عندهم خير يخلطونه بأضعاف أضعاف من الشر، لو عندهم أعمال بر يخلطون يكفي الكفر الذي هم عليه، والشرك الذي هم عليه، وأكبر منكر في الأرض الشرك والكفر ماذا تريد؟
ثم يقال: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ بعدين "عبادي" هذه إضافة تشريف هل يستحقها الكفار حتى يفسر أن الصالحون، يعني من الكفار الصالحون لإدارة الأرض، والله قال: أن الأرض يرثها.
فإذن، يورث الله الأرض عباده، هذه إضافة تشريف، ما يستحقها الكفار، هذا تشريف.
وقوله ﷺ: وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع الميزان: العدل، ولماذا يسمى الميزان عدلا؟
لأنه به يتحقق العدل.
قال في الحديث الآخر: يخفض القسط ويرفعه [رواه مسلم: 179].
فالله يحكم في خلقه بميزان العدل، ويعلم من هو أهل للرفع فيرفعه، ومن هو أهل للخفض فيخفضه، فالله يرفع من يشاء، ويضع من يشاء، يوسع لمن يشاء، ويضيق على من يشاء، وليست السعة دليلا على الحب، ولا التضييق دليلا على الكره، فقد يضيق على مؤمن، ويوسع على كافر، يوسع على كافر اختبار ابتلاء، وكذلك يضيق على المؤمن ابتلاء، ينظر هل يشكر هذا؟ هل يطغى؟ وهذا هل يصبر، ينظر ، يعطي، وهذا نقول أفعاله لا بد فيها من حكمة ما يمكن تكون عبثية، وهكذا بس لمجرد أنه خلقهم يتحكم فيهم كيف يشاء، لا، أفعاله لحكم، فلو وسع على واحد اختبار ابتلاء له هل يشكر؟ لو ضيق على واحد اختبار وابتلاء له هل يصبر؟ كما قال النبي ﷺ: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ، قال: من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويخفض آخرين [رواه ابن ماجة وحسنه البوصيري، وكذلك الألباني، وضعفه ابن حجر في تغليق التعليق، وروي موقوفا عن أبي الدرداء وذكره البخاري معلقا عنه بصيغة الجزم].
وقوله: يخفض ويرفع يعني يخفض الميزان ويرفعه، فإن الذي يوزن بالميزان يخف ويرجح، كما في الحديث الآخر يخفض القسط ويرفعه وقيل: الميزان القسمة بين الخلق، فالميزان الذي يخفضه الله -تعالى- ويرفعه هو الشيء الموزون، فالله -تعالى- يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن فيه من أرزاق العباد النازلة من عنده وأعمالهم المرتفعة إليه، فيخفض الميزان تارة بالتضييق في الرزق، أو الخذلان بالمعصية، ويرفعه تارة بتوسيع الرزق أو التوفيق للطاعة؛ عدلا منه وحكمة، وأشار إلى هذا [الخطابي -رحمه الله- في "أعلام الحديث" والقرطبي في "المفهم" والنووي على "صحيح مسلم" وابن حجر في "فتح الباري" والقسطلاني في "إرشاد الساري" وصاحب "مرقاة المفاتيح"].
وقوله ﷺ في الرواية الأخرى: وبيده الفيض أو القبض يرفع ويخفض الفيض أو القبض شك من الراوي أو للتنويع، يعني أن كلاهما مراد، يعني كلاهما من الحديث، الفيض والقبض أنه عكس بعض الفيض يفيض يعطي، والقبض يمسك، فيض الإحسان والعطاء والرزق الواسع، والقبض قيل قبض الأرواح بالموت، وقيل القبض المنع، يعني التضييق في العطاء، ويرفع ويخفض، يعني يرفع أقواما ويضع آخرين، يوسع الرزق على من يشاء، ويضيقه على من يشاء، فالنبي ﷺ أخبر أن يد الله اليمنى فيها الإحسان إلى الخلق، والأخرى فيها العدل والميزان الذي به يخفض ويرفع، فأخبر أنها سحاء، وأن الميزان والعدل يخفض ويرفع، فالفضل بيد، والعدل بيد، وخفضه ورفعه من عدله وإحسانه، وأيضًا يحسن ويعدل، ولا يخرج فعله عن العدل والإحسان، فكل نعمة منه هو فضل، وكل نقمة منه عدل، كما قال ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "يقسم الأرزاق، ويجزل العطايا، ويمن بفضله على من يشاء من عباده بيمينه، وباليد الأخرى الميزان، يخفض به من يشاء، ويرفع به من يشاء؛ عدلا منه وحكمة، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18]"، ويقول ابن القيم في كلام جميل عن الله : "هو القيوم بأمر السماوات والأرض ومن فيهن، ليس له بواب فيستأذن، ولا حاجب فيدخل عليه، ولا وزير فيؤتى، ولا ظهير فيستعان به، ولا ولي من دونه فيشفع به إليه، ولا نائب عنه فيعرفه حوائج عباده -لأنه جرت عادة الملوك أن عندهم وزراء يرفعون إليه؛ لأنه نفس الملك ما يعرف كل صغيرة وكبيرة، يرفع إليه ترفع إليه وزير تقرير الله ما عنده وزراء ولا حجاب ولا ظهير ولا أعوان جنوده مستغن عنهم، جنوده يرسل بهم عذابا، ويعذب بهم، يعني أسباب للعذاب، ولكن غير محتاج للجنود- ولا ولي من دونه، ولا نائب عنه، ولا معين له، قال: بل قد أحاط -سبحانه- بها علمًا، ووسعها قدرة ورحمة، فلا تزيده كثرة الحاجات إلا جودا وكرما، ولا يشغله منها شأن عن شأن، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين -سبحانه، سبحانه- إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]" هذا في "طريق الهجرتين" لابن القيم -رحمه الله- [طريق الهجرتين، ص: 322)].
نص الحديث الثامن عشر
الحديث الثامن عشر: قال الله: كذبني ابن آدم؛ ولم يكن له ذلك، وشتمني؛ ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته هذا الرد يعني وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤا أحد [رواه البخاري: 4975].
وفي رواية: فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا [رواه البخاري: 4482].
شرح الحديث الثامن عشر
هذا الحديث القدسي العظيم اشتمل على أصلين عظيمين من أصول التوحيد:
أولا: إثبات البعث بعد الموت.
والثاني: وحدانية الله وتنزيهه عن الصاحبة والولد.
العبارة الأولى قال الله: كذبني ابن آدم؛ ولم يكن له ذلك، وشتمني؛ ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني إنكار البعث، الرد على هذا وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته يعني أنا ما خلقتهم ما كانوا شيئا طيب أيهما أسهل؟ خلقه من العدم وإلا إعادته بعد الموت؟
إعادة بعد الموت أسهل.
وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا؛ وأنا الأحد الصمد إلى آخر الحديث.
فإذن، الأصل الأول: إثبات البعث، والأصل الثاني: أن الله واحد لا صاحبة له ولا ولد.
إنكار البعث تكذيب لله؛ لأن الله أخبر أنه سيبعثهم، فقال في الحديث: كذبني ابن آدم؛ ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني .
وقد ذكر الله هذا في كتابه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يــس: 78] هذا تكذيب بالبعث قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يــس: 79]، زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: 7].
في الحديث الله ينكر على هؤلاء الذين فعلوا ما فعلوا أمرين ما هما؟
التكذيب، والثاني: الشتم.
التكذيب بالبعث، والشتم، ما هو الشتم؟
قولهم: أن له ولد وصاحبة، فالشتم والتنقص يقولون: له ولد، عيسى، عزير، إلى آخره، وصاحبة مريم، إلى آخره، وهو السيد الصمد الغني، جميع المخلوقات خاضعة له، والولد يكون من جنس الوالد، والله -سبحانه- ليس له ولد لم يلد ولم يولد، ولا له شبيه ولا ند، ولم يكن له كفوا أحد.
وشتمني ولم يكن له ذلك، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا لما دخل هذا أبو بكر الباقلاني -رحمه الله- لما كتب ملك الروم لخليفة المسلمين: أرسل لنا أحدا من علمائك، يعني نتناقش، لما أرسل له واحد من أذكياء العلماء النوابغ أرسل القاضي أبا بكر -رحمه الله-، القاضي هذا لما جاء يدخل، طبعا هم قالوا: هؤلاء المسلمون لا يركعون لغير الله، فكيف نخليه يركع هذا؟ جيب مهندس الديكور نزل مستوى الباب، فأبو بكر -رحمه الله- لما جاء ووجد الباب ما راح يستشير دخل بقفاه، استدار ودخل بقفاه، هذه أول ضربة، هذه ضربة في الصميم يدخل بقفاه، هذه فيها ازدراء واحتقار بالغ، يعني بس خلاص هم الذين تسببوا فيها، هم السبب، لما دخل أبو بكر -رحمه الله- وجد مجلس هذا ملك الروم ملئ بالبطارقة ورجال الدين أكبر صليب فيهم، توجه كيف حالك؟ كيف الأهل والأولاد؟ كيف الزوجة والأولاد؟ فثاروا عليه: ويلك! ويلك! وقر صاحبنا! وقر صاحبنا! هذا لا يليق به الزوجة والولد! يعني البابا وجماعته ما يتزوجوا فوق مستوى الشهوات، قال: ويلكم نزهتم صاحبكم عن الزوجة والولد، ولم تنزهوا ربكم عن الزوجة والولد! يعني هذه كبسهم كبسة، وكتمهم كتمة، خلاص ماذا؟ وهكذا أهل العلم، هكذا أهل العلم.
فهذا الشتم والتنقص الذي يفعله النصارى بالله يقولون: له ولد وله زوجة، لما ابن عمر قال: سبوا ربهم، ما أعلم أحدا سب الله مثلهم؛ لأنه أنت لما تقول له زوجة ماذا يترتب على هذا؟ كيف ينجب؟ ماذا يقتضي هذا؟ شهوة ووطئ وتعالى الله، شف سب النصارى لما يسبوا الله، لما يقولون له زوجة وولد، قال ابن القيم -رحمه الله-:
وهو الصبور على أذى أعدائه | شتموه بل نسبوه للبهتان |
قالوا له ولد وليس يعيدنا | شتما وتكذيبا من الإنسان |
هذا وذاك بسمعه وبعلمه | ........................... |
............................... | يؤذونه بالشرك والكفران |
يعني: يحدث التكذيب والشتم والله حليم يصبر عليهم
[الكافية الشافية، ص: 207].
النبي ﷺ قال: لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله أهل الإيمان يبتلون ويشتمون ويؤذون، لكن ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنه يشرك به، ويجعل له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم، رح إلى بلادهم يجيء واحد يقول: أمطار وخيرات ونباتات وثروات وهو يرزقهم ويعافيهم [رواه البخاري: 6099، ومسلم: 2804].
وسنكمل الكلام بمشيئة الله عن شرح الحديث، وما يليه من الأحاديث في درسنا القادم.
وصلى الله على نبينا محمد.