الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
باب ما جاء في سِن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقد قال الإمام الترمذي -رحمه الله- في كتابه الشمائل المحمدية:
باب ما جاء في سِن رسول الله ﷺ، يعني: مقدار عمره الشريف.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "مكث النبي ﷺ بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، وبالمدينة عشرًا، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين" رواه البخاري ومسلم. [رواه الترمذي في الشمائل: 362، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 317].
"مكث النبي ﷺ بمكة ثلاث عشرة سنة" يعني: بعد البعثة، وإلا هو في مكة أربعين سنة قبل البعثة، لكن مكث ثلاث عشرة بعدها بمكة، فقوله إذن: "مكث النبي ﷺ بمكة ثلاث عشرة" مكث بعد الأربعين ثلاث عشرة بمكة، فقوله: "مكث النبي ﷺ بمكة ثلاث عشرة سنة" وضّح ذلك بقوله: "يوحى إليه"، فهو مكث قبلها أربعين سنة لا يوحى إليه، بعد الأربعين مكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه.
قال: "وبالمدينة عشرًا": وهذه العشر في المدينة باتفاق العلماء وأهل السِّير والتاريخ، فإنهم اتفقوا أن النبي ﷺ أقام بالمدينة بعد الهجرة عشرًا، واتفقوا على أنه أقام بمكة قبل البعثة أربعين سنة، لكن حصل خلاف في المقام بمكة؛ هل هو عشر أو ثلاث عشرة أو خمس عشرة؟ والراجح أنه ثلاث عشرة سنة.
قوله: "وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة": وهذه أصح الروايات في عمر النبي ﷺ.
ثم قال -رحمه الله-: عن معاوية ، أنه سمعه يخطب قال: "مات رسول الله ﷺ وهو ابن ثلاث وستين، وأبو بكر وعمر وأنا ابن ثلاث وستين" [رواه مسلم: 2352].
وقوله: "وأبو بكر وعمر" يعني: كذلك مات أبو بكر في الثالثة والستين، ومات عمر وهو في الثالثة والستين، فكل من هؤلاء الثلاثة: النبي ﷺ وأبو بكر وعمر عمِّروا ثلاثًا وستين، وأما عثمان فقد طال عمره، وأما علي فكان مثل من سبقه ثلاثًا وستين، فسبحان الله الذي ساوى بين أعمارهم عند وفاتهم.
وقوله: "وأنا ابن ثلاثًا وستين" يعني: وأنا متوقع أن أموت في هذا السن موافقة لهم، ولكن معاوية لم يمت إلا وهو قريب من الثمانين، ويستفاد من هذا حب معاوية للنبي ﷺ، وأنه أحب أن يكون عمره موافقًا لعمره ﷺ.
ثم قال: عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي ﷺ مات وهو ابن ثلاث وستين سنة" رواه البخاري ومسلم. [رواه الترمذي: في الشمائل: 364، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 319].
ورواية عائشة هذه ما عليه جمهور العلماء من أن عمر النبي ﷺ ثلاثًا وستين.
ثم قال: عن عمار مولى بني هاشم قال: سمعت ابن عباس يقول: "تُوفِّي رسول الله ﷺ وهو ابن خمس وستين" [رواه مسلم: 2353].
وعن دغفل بن حنظلة: "أن النبي ﷺ قبض وهو ابن خمس وستين"، وهذا قد تفرّد به الترمذي -رحمه الله- وقال: "دغفل لا نعرف له سماعًا من النبي ﷺ، وكان في زمن النبي ﷺ رجلاً" [رواه الترمذي في الشمائل: 366].
يعني ليس السبب في عدم السماع أنه كان صغيرًا؛ كان رجلاً، لكن قال ابن حجر في التقريب: "إن دغفل بن حنظلة بن زيد السُّدوسي النسّاب المخضرم، وقيل له صُحْبة ولم يصح"، يعني حقيقة أنه ما قدر له أن يلتقي بالنبي ﷺ، ولذلك لم يكن صحابيًّا.
ونرى هنا في هذا الحديث والذي قبله أن الرواية على الخمس والستين، ولكن الراجح أن عمره ثلاثًا وستين، حديث دغفل هذا ضعيف، وقد عرفنا بأنه لم يلق النبي ﷺ، ورد في عمر النبي ﷺ ثلاث روايات أنه مات على رأس الستين سنة، والثانية: أنه مات وهو ابن ثلاث وستين وهي الراجحة، والثالثة: أنه مات وهو ابن خمس وستين، وجمع النووي -رحمه الله- بين هذه الروايات جمعًا حسنًا، فقال: "ذكر مسلم في الباب ثلاث روايات: أنه ﷺ تُوفّي وهو ابن ستين، والثانية: خمس وستون، والثالثة: ثلاث وستون؛ وهي أصحها وأشهرها، واتفق العلماء على أن أصحّها ثلاثًا وستون، وتأولوا الباقي عليه، فرواية ستين اقتصر فيها على العقود"، والعقود هي: عشرة عشرة عشرة؛ لأن كل عقد عشر سنوات، فقول الراوي ستون اقتصر على العقود، يعني عاش ستة عقود وكسر، وترك الكسر هنا الراوي، ورواية الخمس متأولة أيضًا وحصل فيها اشتباه، وقد أنكر عروة على ابن عباس قوله: خمس وستون ونسبه إلى الغلط وأنه لم يدرك أول النبوة ولا كثُرت صحبته بخلاف الباقين.
وقال النووي -رحمه الله-: "وولد عام الفيل على الصحيح المشهور"، إذن، النبي ﷺ ولد عام الفيل، وعام الفيل هو العام الذي جاء فيه أبرهة بجيشه والفيلة إلى الكعبة لهدمها، وكان ذلك حدثًا مشهورًا جدًا، لأن هذا الحدث وهو مجيء جيش أبرهة بالفيل كان شيئًا عند العرب من العجب، فلما قُتل هو وجيشه بالطريقة الأعجب وهي بالحجارة من سجيل بهذه الموجات المتتابعة من الطيور التي تحمل في أجنحتها وأرجلها أو مناقيرها تحمل هذه الحجارة وترميهم بها، فإن هذه الطريقة في قتل هؤلاء قصفًا من الجو، هذه الأسراب من الطير المتوالية المتتابعة من أبابيل تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل: 4]، ما عُرف من قبل وشيء عجيب فعلاً أن يُهلك جيش ومعه هذا الفيل، جيش عرمرم جيش ضخم كبير يُهلك بهذه الطيور التي تُلقي عليهم حجارة، والحجر كان إذا أصاب الواحد تلِف تساقطت أعضاءه حتى يموت، ولذلك كان هذا الحدث حدثًا ضخمًا جدًا، وهذه السنة حتى صارت العرب تؤرِّخ فيها سنة الفيل، سنة الفيل، وسنة إهلاك أصحاب الفيل، ويقولون: عام الفيل.
كانت هذه الحادثة تسليط أضواء عظيمة جدًا على مكة، وبيان منزلة قريش بين العرب، فالناس الآن صاروا ينظرون حتى من غير حتى خارج الجزيرة العربية؛ لأنهم سمعوا بهذا الحدث العجيب، وتناقل الأخبار ووصلتهم الأخبار، فالناس الآن صاروا نفس العام هذا الذي ولد فيه النبي ﷺ، فكأن أنظار العالم قد لفتت إلى هذه البلدة البلد الأمين في هذا العام، وصار هذا العام الآن يعني عامًا يؤرّخ به، ولد النبي -عليه الصلاة والسلام- في هذا العام.
إذن، كان توطئة والله وطأ لنبيه بأشياء كثيرة منها: عام الفيل، ومنها الرؤى التي كانت ترى، ومنها كلام الرهبان، وحتى الذين كانوا يسترقون الخبر من السماء، هناك أشياء كثيرة جدًا من البشائر، وأشياء من الأخبار ومن العجائب التي صار بها النظر والسمع الآن ملتفتًا إلى هذه البلدة وما سيقع في مكة، ولذلك فإن مولد النبي ﷺ في عام الفيل كان في حدث أو في وقت قد اهتم الناس فيه بأخبار مكة، ولِد النبي ﷺ يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، تُوفِّي ﷺ أيضًا يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، وأي يوم كان يوم الولادة هل هو الثاني عشر أو الثامن أو العاشر أم ثاني الشهر، ويوم الوفاة كان الثاني عشرة ضحى، إذن، مات ﷺ يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع أول، وولد يوم الاثنين في ربيع لكن على خلاف في يوم مولده هل هو الثاني عشر، هل هو الثاني، هل هو الثامن وهكذا.
وعن أنس بن مالك أنه سمعه يقول: "كان رسول الله ﷺ ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، ولا بالأبيض الأمهق ولا بالآدم، ولا بالجعد القطط ولا بالسبّط، بعثه الله تعالى على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله على رأس ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء" [رواه البخاري: 3548، ومسلم: 2347].
"لم يكن ﷺ بالطويل البائن" يعني: مفرط في الطول، "وليس بالقصير" أي: قصرًا ملفتًا زائدًا، "وليس بالأبيض الأمهق": الشديد البياض كلون الجص يظنه الناظر إليه برصًا، لا، وإنما كان يخالط لونه الحمرة، يخالط بياضه حُمرة، فكان بياضه مشربًا أو مشوبًا بحمرة.
وقوله: "ولا بالآدم": الآدم هو الأسمر شديد السّمرة، فإذن، ما كان أسمر شديد السمرة، الآدم فوق الأسمر يعلوه سواد قليل، فالنبي ﷺ وصف بأنه لا بالأبيض الأمهق ولا بالآدم.
"ولا بالجعد القطَط": والجعد القطط هو شديد جعودة الشعر الذي صار لشدة جعودة شعره كالمحترق، كشعور السودان، يقال: رجل جعد، وامرأة جعدة، والجعودة تثنّي الشعر والتواؤه وعدم استرساله، فما كان شعره هكذا، "ولا بالسبط": المنبسط المسترسل الذي لا تكسر فيه، قال الشرّاح: "كشعور الهنود" وهو يشبه أيضًا شعور جنوب شرق آسيا مثل كوريا والفلبين وغيرها، فإنك تجد الشعر مسترسلاً تمامًا ليس فيه أي تكسُّر، شعره ﷺ لا هو هكذا ولا هكذا، إذن، ليس شديد جعودة الشعر وليس منبسطًا مسترسلاً لا تكسر فيه وسطًا بينهما.
"توفاه الله على رأس ستين": هذا محمول على إلغاء الكسر، والعرب كانت عندها هذه الطريقة، فأحيانًا يقولون العدد الذي فيه كسر بإلغاء الكسر تسهيلاً، "توفاه على رأس ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء"، إذن، عدد الشعرات البيض في رأس النبي ﷺ ولحيته لا تتعدى العشرين، والمراد تقليل الشيب.
وقال ابن سيرين: سئل أنس بن مالك عن خضاب النبي ﷺ وهو ما يغير به الشيب؟ فقال أنس: "إنه لم يبلغ ما يخضب"، يعني ما صار أصلاً إلى الدرجة التي عنده شعر أبيض كثير يحتاج إلى صبغه، لم يصل إلى هذه الدرجة أصلاً، قال: "لو شئتُ أن أعدّ شمطاته في لحيته" يعني: لو أردت أن أعدها عددتها، وهذا يدل على قلتها.
وروى ابن سعد بإسناد صحيح عن أنس قال: "لم يبلغ ما في لحيته من الشيب عشرين شعرة"، قال حميد: "وأومأ إلى عنفقته سبع عشرة" [فتح الباري لابن حجر: 6/571]، العنفقة: هذا الشعر الذي في الشفة السفلى، هذا الشيب الذي كان في النبي ﷺ ربما كان أكثره في العنفقة، فعنده سبع عشرة شعرة في العنفقة بيضاء، يعني الباقي موزعة، هذا على قول.
وروى ابن أبي خيثم من حديث أنس: "لم يكن في لحية رسول الله ﷺ عشرون شعرة بيضاء"، قال حُميد: "كن سبع عشرة"، وهذا يدل على أن العنفقة من اللحية، هذه العنفقة لا تُحلق؛ لأنها من اللحية.
وروى الحاكم في المستدرك من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن أنس قال: "لو عددت ما أقبل من شيبه في رأسه ولحيته ما كنت أزيدهن على إحدى عشرة"، فهذه الروايات عن أنس كلها تدل على أن شعراته البيض لم تبلغ عشرين شعرة، والرواية الثانية توضِّح أنها ما دون العشرين، سواء كانت سبع عشرة أو ثمان عشرة" [رواه الحاكم: 4201، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه].
وفي الحديث أن النبي ﷺ مات ولم يكن قد شاب من شعره إلا قليلاً.
باب ما جاء في وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ثم قال -رحمه الله-: باب ما جاء في وفاة رسول الله ﷺ.
وفاة النبي ﷺ هي مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين وليست فقط مصيبة الأولين، وهي أعظم مصيبة نزلت بالأمة، ولا يُعرف مصيبة أبدًا مثل هذه المصيبة، ولم يمر ولم يحدث، والنبي ﷺ أمر من حصلت له مصيبة أن يتعزّى بمصيبته به؛ لأن انقطاع الوحي ما بعده مصيبة، وذهاب النبي ﷺ وهو قائد الأمة ومربيها ومعلّمها وموجهها، هذا الحدث الضخم وهذه الوفاة لا تعدلها مصيبة أبدًا أبدًا، والشدة والمشقة التي حصلت بوفاته لم تمر على أحد في هذه الأمة مثل لم يمر مثلها.
ولم يمت نبي من الأنبياء حتى يخير هل يريد أن يرحل من الدنيا إلى ما عند الله من النعيم أو يبقى، والنبي ﷺ ما زال يعرض بقرب أجله، ويعطيهم بعض الإشارات أنه سيموت قبل أن يموت، من باب التوطئة ومن باب التمهيد والتقديم؛ لأن وقع موته على الصحابة سيكون فظيعًا جدًا، ولذلك مهّد لهذا بأشياء، ومن هذه التمهيدات أن النبي ﷺ لما خطب بهم في حجة الوداع قال للناس: خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا [رواه مسلم: 1297].
لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، هذا فيه إشارة وطفق يودع الناس، ولذلك سميت حجة الوداع، وأيضًا فإنه ﷺ قال في الخطبة مرة: إن عبدًا خيّره الله بين يعني: أن يبقى بين الناس أو يبقى في الأرض وبين أن يقبضه فاختار ما عند الله [رواه البخاري: 3904، ومسلم: 2382]، فكان ذلك أيضًا تمهيدًا فهمه أبو بكر الصديق ، وأرشد المرأة قبل أن يموت إذا كانت تريده ولم تلقه تأتي أبا بكر الصديق، وقال: اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر [رواه الترمذي: 3662، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1143]، ومهّد بتقديم أبي بكر في الصلاة، هناك تمهيدات كثيرة حصلت من النبي ﷺ قبل أن يموت؛ لأن الوقع سيكون ضخمًا جدًا.
عن أنس بن مالك قال: "آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله ﷺ كشف الستارة يوم الاثنين، فنظرت إلى وجهه كأنه ورقة مصحف، والناس خلف أبي بكر، فكاد الناس أن يضطربوا، فأشار إلى الناس أن اثبتوا، وأبو بكر يؤمّهم، وألقى السِّجف، وتُوفِّي رسول الله ﷺ من آخر ذلك اليوم" [رواه الترمذي في الشمائل: 368، وصححه الألباني في المختصر: 322].
"آخر نظرة نظرتها إلى رسول اللهﷺ كشف الستارة": وهو السِّتر الذي يكون على باب البيت والدار، والمراد أنه أمر بكشف الستارة المعلقة على بيته الشريف يوم الاثنين وهو اليوم الذي مات فيه؛ لأنه كان لا يستطيع الخروج من بيته لشدة مرضه، فكان يُمرَّض في بيته، أراد أن يطل على أصحابه فأمر بكشف الستارة يوم الاثنين، فألقى نظرة عليهم وهم في المسجد وكان ما بينه وبين المسجد إلا باب، باب البيت فقط، إذا خرج من باب البيت صار في المسجد، إذا خرج من المسجد صار في البيت فبينهما باب واحد، هناك ستارة معلقة كشفها ﷺ فأطلّ على الناس من بيته أطلّ عليهم وهم في المسجد، رآه أنس وهو في الصلاة، أحسُّوا بالحركة نظروا إلى جهة الحركة فإذا بوجه النبي ﷺ.
قال: "فنظرتُ إلى وجهه كأنه ورقة مصحف": وهذا بيان للجمال البارع، وحُسْن البشرة، وصفاء الوجه، واستنارة الوجه الذي كان عليه ﷺ، وجاء في رواية مسلم: "ثم تبسّم رسول الله ﷺ ضاحكًا" [رواه مسلم: 419] ، وسبب تبسمه فرحهﷺ بما رأى من اجتماع أصحابه على الصلاة؛ أن المسلمين تبع لإمام واحد، وأن شريعته مقامة، وأن الصلاة مستمرة، وأنه بالرغم من مرضه وعدم خروجه إلى الناس إلا أن عمود الدين قائم، عمود الدين هو الصلاة، وأن الكلمة متفقة والقلوب مجتمعة على أبي بكر الصديق الآن في الصلاة، ولهذا استنار وجههﷺ على عادته إذا رأى ما يسرُّه استنار وجهه، وكذلك فإن هذه الطلّة منه ﷺ عليهم هذه نظرة الوداع.
وفي هذا الحديث ما كان ﷺ يتمتع به من الجمال البارع البديع، وهو أجمل الناس منظرًا وخُلُقًا وخلْقًا، والناس خلف أبي بكر الصديق كان ذلك في صلاة الصبح، صلاة صبح يوم الاثنين كان فيها نظرة الوداع، "فكاد الناس أن يضطربوا": لما رأوه أوشكوا أن يقطعوا صلاتهم من فرط فرحتهم به، ولعلهم تفاءلوا بعافيته وأن كشف الستارة وهذه النظرة إليهم لعلها تعني بأنه سيعود إلى حاله من الصحة، ولكن كانت تلك في الحقيقة نظرة وداع.
وهذا الحديث فيه شدة محبة الصحابة للنبي ﷺ، فكادوا أن يفتتنوا: أن يقطعوا صلاتهم، سماها افتتانًا؛ يعني الذي يقطع صلاته بغير سبب لا شك أنها فتنة مصيبة، فكادوا أن يفتتنوا، كادوا أن يشغلوا عن الصلاة أو يقطعوا الصلاة بفرحهم به، "فأشار إلى الناس أن اثبتوا": كونوا ثابتين على الصلاة، وعلى ما أنتم عليه في الصف، لا أحد يتحرك.
قال: "وأبو بكر يؤمهم": بأمر النبيﷺ؛ لأنه قال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس [رواه البخاري: 664، ومسلم: 418]. وهذا أمر يقتضي الوجوب، وهذا تمهيد لخلافة الصديق؛ لأن إمامة الصلاة تمهيد لإمامة كل الناس بالإمامة العظمى.
وقد حدث أن النبي ﷺ لما قال: مُروا أبا بكر فليصلّ بالناس ، خرج أبو بكر وصلّى بهم فوجد النبي ﷺ في نفسه خفة فخرج يتهادى بين رجلين، يعني يحملانه، يقول: "كأني -الراوي- أنظر رجليه تخطّان من الوجع"، تخطان من شدة الوجع: لا يستطيع أن يمشي عليهما وأن يخطو عليهما، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ النبي ﷺ أن مكانك، ثم أُتي به حتى جلس بجانب أبي بكر الصديق ، قيل للأعمش: وكان النبي ﷺ يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، فقال برأسه: نعم"، [رواه البخاري: 664، ومسلم: 418].
إذن، هذا الحديث يدل على: جواز إمامة المفضول مع وجود من هو أفضل منه، ودليل على فضل الصديق على جميع الصحابة، والإشارة إلى خلافته ، وأنه الخليفة الأول من بعده، ولهذا قال بعضهم لأبي بكر الصديق لما صارت مسألة البيعة ومن يبايعوا: "قدّمك رسول الله ﷺ في أمر ديننا، فمن الذي يؤخرك في دنيانا؟" [فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: 101، والآجري في الشريعة: 1190، وابن بطة في الإبانة: 211]، إذا كان أمر الدين الصلاة قدّمك فيه، من باب أولى إذن الخلافة والإمارة أو الإمامة أن تكون لك، واستمر الصديق خليفة على الصلاة حتى مات النبي ﷺ.
"وألقي" أي: أرخي، "السجف" أي: الستر؛ وهو الذي عبر عنه أولاً بالستارة، وقال بعضهم: أن الفرق بين السِّجف والسِّتر أو الستارة أن السجف مشقوق من الوسط كالمصراعين فهذه الستارة إذا كانت مشقوقة من الوسط تفتح على شقين فتكون سجفًا، وإذا كانت قطعة واحدة ستارة.
"وتُوفي رسول الله ﷺ من آخر ذلك اليوم" يعني: آخر يوم الاثنين.
ونقل ابن حجر -رحمه الله- عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب: "أنه ﷺ مات حين زاغت الشمس".
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنت مسندة النبي ﷺ إلى صدري، أو قالت: إلى حجري، فدعا بطست ليبول فيه، ثم بال فمات"، أخرجه ابن خزيمة [رواه ابن خزيمة: 65، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 323].
وفيه: "ثم مال فمات"، بدل:" ثم بال فمات"، وهو عند الشيخين دون ذكر البول.
وقولها: "كنت مسندة النبي ﷺ إلى صدري، أو قالت: إلى حجري"، وحجر الإنسان: هو حضنه وهو ما دون الإبط إلى الكشح، وفي رواية: "مات النبي ﷺ وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي" [رواه البخاري: 4446]. وهذا أدق، والحاقنة: أسفل الذقن، والذاقنة: ما علا منه، أي كان رأسه بين حنكها وصدرها -رضي الله تعالى عنها-، بين الحنك وبين الصدر، هنا المنطقة التي كان فيها رأس النبي ﷺ من عائشة.
وفي رواية قالت: "تُوفي النبي ﷺ في بيتي، وفي نوبتي، وبين سَحْري ونحري"، والسَّحْر: هو الرئة، والنحر معروف، "وجمع الله بين ريقي وريقه". [رواه البخاري: 3100].
والسحر: الرئة، والنحر مجمع التراقي في أعلى الصدر، هذا النحر مجمع للترقوة والترقوة الثانية تجتمعان في النحر، ومات النبي ﷺ ورأسه على فخذها، وقيل: على حجرها، وجُمع بأنه كان على فخذها فرفعته إلى حجرها ثم إلى صدرها فمات ورأسه بين سحرها ونحرها وبين ذاقنتها وحاقنتها،.
وقد جاءت روايات أنه ﷺ مات في حجر علي ، وقال ابن حجر عن أسانيد هذه الروايات: "وكل طريق منها لا يخلو من شيعي فلا يُلتفت إليه" [فتح الباري لابن حجر: 8/139]، لأنهم يكرهون عائشة ويريدون أن يجعلوا الموتة في حضن أو في حجر علي ، مع أن الجميع الصحابة علي أو عائشة كلهم صحابة فضلاء رضوان الله عليهم، ونحن نحبهم جميعًا، ونجلهم للغاية.
وفي الحديث من الفوائد: فضل عائشة -رضي الله عنها- حيث أن النبي ﷺ مات في يومها، واستأذن زوجاته بأن يمرض في بيتها فأذن،ّ ومات وهي مسندته إلى صدرها، وكان آخر ما لامس ريقُه ريقها، فقبّح الله من يطعن فيها، قبّح الله من يطعن في عائشة بعد كل هذه المزايا، وكل هذه الأحداث التي حصلت في وفاة النبيﷺ في حجرها ولامس ريقه ريقها، ثم يطعن فيها، فتبًّا لمن طعن فيها.
وفي الحديث: جواز البول في إناء للمريض، والآن المريض ما يتحرك من مكانه يحتاج إلى أن يقرب له شيء أو يجعل له شيء يبول فيه.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "رأيت رسول الله ﷺ وهو بالموت، وعنده قدح فيه ماء، وهو يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: اللهم أعنّي على منكرات الموت، أو قال: على سكرات الموت، وقد أخرجه الترمذي -رحمه الله- وحسّنه، وكذلك حسّنه الحافظ ابن حجر العسقلاني؛ وقال في هذه الرواية: "أصله في الصحيحين"، وضعّفه الألباني في مختصر الشمائل".
"رأيتُ رسول الله ﷺ وهو بالموت"، يعني مشغول متلبّس بالموت، "وعنده قدح فيه ماء" يدخل يده في القدح، يعني يغمس يده في هذا الماء الذي في القدح والإناء ثم يمسح وجهه بالماء دفعًا لحرارة الموت أو دفعًا لغشيان الموت أو كرب الموت التي جعلت تتغشاه، ويُستفاد من هذا أن تبريد الوجه بالماء دليل السعي في تخفيف الألم، وفي هذا مشروعية التداوي، ومحاولة تخفيف الألم، وأن هذا لا يقدح في الإنسان، وأن هذا لا ينافي الرضا بالقضاء، ولا ينافي التسليم بالقدر؛ لأن هذا من باب الأخذ بالأسباب، وأنت تدفع القدر بالقدر، وتدفع الشيء الذي يؤذي بالأسباب التي ترفع الأذى، وقد يؤثر وقد لا يؤثر، هذا أمر مرده إلى الله، وعلينا اتخاذ الأسباب.
وهذا يعني أن الأطباء في غرف الطوارئ والمستشفيات في غرف الإنعاش في العناية المركزة، إذا رأوا أي شيء يخفف عن الإنسان المحتضر يفعلونه له، وليس يزيدون الطين بلّة، أو يزيدون الأمر تعقيدًا، ولذلك في بعض الأجهزة التي تركب أحيانًا زيادة فترة الاحتضار وزيادة إيلام المحتضر في الحقيقة، فإذن، يُفعل ما فيه مصلحته، فحتى الذي يموت، الإنسان الذي يحتضر ويموت إذا وجدنا سببًا للتخفيف عنه فعلناه، وإذا كان مسح وجهه بالماء يفيده مسحنا وجهه بالماء، وهذه الأجهزة التي تستعمل بعضها مفيد، وأحيانًا توقيته مفيد، ولكن في أحيان أخرى يكون توقيت استعماله خاطئ، وربما يعذِّب المحتضِر ويطيل فترة الاحتضار، ولذلك فلا بد من التعامل بدقة واجتهاد وحذر في هذا الموضوع، ثم إذا أخطأ الطبيب وهو مجتهد فمأجور، أما إذا كان تعمّد يقول بالقانون الطبي وهو يرى الحالة أمامه لا تتحمل، فلذلك عليه أن يفعل ما هو الأصلح للمحتضِر.
ويقول: اللهم أعنّي على منكرات الموت يعني: شدائد الموت، أو على سكرات الموت : جمع سكرة؛ وهي غصص الموت وشدائده.
وجاء في رواية البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يده فجعل يقول: اللهم الرفيق الأعلى ، حتى قُبض ومالت يده ﷺ" [رواه البخاري: 4449].
لأن التشديد على الأنبياء عند الموت له فائدتان: الأولى: تكميل فضائلهم، ورفع درجاتهم؛ وليس ذلك نقصًا، ولا عذابًا، بل هو كما قال ﷺ: إن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل [رواه أحمد: 1494، والترمذي: 2398، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 992].
ثانيًا: أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت، فقد يطلع الإنسان على بعض الموتى ولا يرى عليه حركة ولا قلقًا ويرى سهولة خروج روحه فيظن الأمر سهلاً، ولا يعرف ما الميت فيه، أنت الآن ممكن واحد تجيله سكته لحظة مات سكتة، سكتة دماغية قلبية، تقول: هذا إن شاء الله هذا مرتاح، لكنك لا تدري لحظة خروج الروح كم كانت معاناة الميت، ولو قُدِّر أن يصف لك لوصف لك وصفًا طويلاً ما حدث له في لحظة السكتة هذه، لوصف لك وصفًا طويلاً، ولذلك لا يعرف ما الميت فيه، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الواقعة: 85].
وكذلك فإن الله أخبر بأن هذا الميت يرى الملائكة وملك الموت وأنهم يحضرون وحول رأسه ويقبض الروح ويأخذونها منه ولا يدعونها، فالأنبياء الصادقون مع قربهم من الله وكرامتهم على الله يشدد عليهم في الموت، قطع الخلق بشدة الموت الذي يقاسيه الميت مطلقًا لإخبار الصادق المصدوق عن ذلك، ما خلا الشهيد قتيل الكفار هذا الذي موتته مريحة، الذي موتته مريحة للغاية، أريح موتة هي موتة الشهيد في المعركة؛ لأنه إذا قُتل في المعركة فإنه لا يجد من ألم الموت إلا مس القرصة فقط، الآن كل ميت سيموت سيعاني معاناة شديدة جدًا عند الموت، حتى المسلم المؤمن؛ لأن هذه تكفير سيئات، هذه رفع درجات، والكافر يُعذّب عند الموت، يعذب الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ويتقطع كل عرق وعصب مع سحب الروح وتستعصي، هذا شيء آخر، نتكلم الآن عن موت المسلم أو المؤمن.
يقول النبي ﷺ: "إن للموت لسكرات"، إن للموت لسكرات، و"أعني على سكرات الموت"، هذا النبي ﷺ، فإذن الموت فيه شدة ليس في ذلك كلام، مثل ضمة القبر ستنضم على كل واحد، وبعد ذلك يُراخى عنه إذا كان مؤمنًا.
هذه شدة الموت، وسكرة الموت، وضمّة القبر التي لا بد منها لكل واحد لماذا؟
لأن من رحمة الله بعبده أنه يبتليهم بالأدنى ليصرف عنهم الأشد، هذا يكفّر، هذا أهون من عذاب النار مع شدته، ولذلك حتى لو خرج الواحد من الدنيا ما يخلو من تكفير وهو خارج من الدنيا يُبتلى بما يكفّر عنه من سيئاته، يبتلى عند طلوعه من الدنيا بالكربات والشدائد التي تكفّر عنه من سيئاته، وضمة القبر كذلك الضمة لابد منها، حتى سعد بن معاذ ضم ضمة ثم روخي عنه، فهذا البلاء إذن الذي يحصل على الجسد هذا لمصلحة الإنسان المسلم المؤمن في تكفير السيئات، وهؤلاء الأنبياء عانوا ما عانوا، وكان في ذلك رفعًا لدرجاتهم.
هذا الشهيد -تحديدًا- إذا قُتل أسهل ميتة وأسهل خروج من جهة أقل الناس ألمًا عند الموت الشهيد؛ لأنه لا يحس من كل العملية إلا مثل مس القرصة فقط، هذا كل شيء، كرامة من الله للشهداء.
وفي الحديث: أن للموت غمرات وسكرات لا يسْلم منها حتى الأنبياء، فكيف بمن هو دونهم.
وفيه: أن شدة الموت لا تدل على نقص المرتبة؛ بل هي للمؤمن زيادة في حسناته، وتكفير لسيئاته، ورِفعة في درجاته.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لا أغبط أحدًا بهون موت": هذا فقه عائشة، تقول: "لا أغبط أحدًا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله ﷺ" الحديث أخرجه الترمذي أيضًا في سننه وهو حديث صحيح.
وقولها: "لا أغبط أحدًا" يعني: لا أشتهي أن يكون لي مثله، ولا أتمنى ولا أفرح بهون موت، لماذا لا تفرح؟ لماذا لا تفرح بهون إذا هان الموت على واحد أو كان وقعه عليه سهلاً أو أنه ما عانى ولا تألم منه التألم الشديد، ما تتمنى ولا تفرح ولا تغبط أحد على هون موت، "بعد الذي رأيته من شدة موت رسول الله ﷺ" فإذن، هي تقول إن الموت السهل جدًا ليس منقبة، لو كان منقبة كان النبي ﷺ أولى بها، فتقول: أنا رأيت الشدة التي عانى منها عند الموت، فما أتمنى أن لي مصير الميتة السهلة البسيطة جدًا؛ لأنها لو كانت هذه منقبة لكان النبيﷺ أولى بها، ومرادها إزالة ما تقرر في النفوس من تمني سهولة الموت، كل واحد يقول: يا ليت تكون ميتتي سهلة، لكن أنت ما تدري لو كانت الميتة فيها مشقة وصعوبة، يكون التكفير الحاصل فيها للمؤمن شيئًا عظيمًا، هناك مصلحته في النهاية، مثل الذي يشرب الدواء المر من أجل أن يزول الألم الأشد، في أدوية مرة جدًا، ما الذي يحمل الناس على الحجامة؟ الحجامة فيها قطع وإخراج دم، ما الذي يحمل الناس على الكي؟ الكي بنار فيه لذعة النار؛ لأنه يبتغي النجاة من الشيء الأسوأ والشيء الأشد.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما قُبض رسول الله ﷺ اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر: سمعت من رسول اللهﷺ شيئًا ما نسيتُه، قال: ما قبض الله نبيًا إلا في الموضع الذي يحب أن يُدفن فيه ادفنوه في موضع فراشه" أخرجه الترمذي، وهو حديث صحيح. [رواه الترمذي: 1018، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 326].
لما قُبض رسول الله ﷺ وتحققت وفاته، تحققت وفاته اختلفوا في دفنه، يعني هل يدفن بمكة، هل يُدفن في المدينة، هل يُدفن في البقيع، أين يُدفن؟ فتدخل أبو بكر الصديق حاسمًا الموضوع بحديث سمعه من النبي ﷺ قبل موته، وهو قال: سمعت من رسول الله ﷺ شيئًا ما نسيته، إذن، بقي يحفظه حتى جاء وقت الحاجة إليه عند الخلاف في مكان دفن النبي ﷺ، ما هو؟ قال: "ما قبض الله نبيًا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه"، ادفنوه في موضع فراشه، الفراش الذي مات عليه احفروا تحته وادفنوه فيه، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "قد عُلِم بالتواتر أنه ﷺ دُفن في حجرة عائشة التي كانت تختص بها شرقي مسجده في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة".
إذن الحجرة تقع شرق المسجد، وفي أي زاوية من الحجرة دفن؟ الحجرة شرق المسجد، وكل حجرة لها أربع زوايا، ففي أي زاوية من المسجد دفن في الزاوية الغربية القبلية، ومعروف أن القبلة قبلة المدينة جنوب، قبلة المدينة جنوب، فقالت الغربية القبلية، فقال -يعني ابن كثير رحمه الله-: "في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة، ثم دفن فيها في الحجرة أبو بكر ثم عمر -رضي الله عنهما- "[البداية والنهاية: 5/293].
والحكمة من دفنه حيث مات: إكرامًا له حيث لم يفعل به إلا ما يحبه، ولو قال قائل يعني هذا يدل على جواز الدفن في البيوت، يعني واحد إذا مات ندفنه في بيته، نقول: لا، هذا من الخصائص النبوية، وأما الموتى يدفنون في المقابر، المقبرة المعروفة، المقبرة أرضها أرض وقف للمسلمين يُدفن فيها، المقبرة ما فيها بنيان ولا في أضرحة، المقبرة تربة تُحفر ويُدفن فيها.
وعن ابن عباس وعائشة : "أن أبا بكر قبّل النبي ﷺ بعد ما مات"، أخرجه النسائي، وابن ماجه، وهو حديث صحيح. [رواه النسائي: 1840، وابن ماجة: 1457، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 327]
وعند أحمد والبخاري عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن أبا بكر دخل فبصر برسول الله ﷺ وهو مسجّى ببرده، فكشف عن وجهه، وأكبّ عليه فقبّله"، ففيه جواز تقبيل الميت، ولم ينكر أحد على الصديق؛ فكان إجماعًا، والنبي ﷺ من قبل كان قد قبّل عثمان بن مظعون لما مات.
وأما مواقف الصديق في موت النبي ﷺ فقد كانت عجبًا من العجب
أولاً: لما مات النبي ﷺ كان الصديق غائبًا، ما كان موجود في مكان المسجد النبوي ولا قريب من الحجرة ولا كان خارج المدينة، فصار اللغط الكبير، وصارت الضجة، وعمر قام يتكلم؛ وقال: ما مات النبيﷺ وإنما عرج به إلى السماء مثل عيسى ولا يرجعن فيقطعن أيدي أناس وأرجلهم، من هؤلاء المنافقين يعني الذين يروجون أنه مات.
فوصل الخبر للصديق فجاء إلى المسجد، والناس مجتمعون حول عمر الآن، ما كلّم أحدًا أبدًا، ولا سأل أحدًا، هذا الموقف الآن يدل على الفقه وعلى الثبات، اتجه مباشرة إلى الحجرة النبوية، فرأى النبي ﷺ فعرف أنه مات، أصلاً الموت له علامات واضحة، شخوص البصر وارتخاء الأعضاء، إلى آخره، فعرف أنه قد مات، فأكبّ عليه فقبّله، طبت حيًا وميتًا، ثم خرج إلى الناس، إذن، أول ما جاء ما كلم أحدًا، ولا التفت لعمر ولا لغير عمر، حتى تأكد أن النبي ﷺ قد مات، الآن المسألة صارت عيانًا، فخرج على الناس، فجعل يقول لعمر أن يسكت وعمر يتكلم، وأبو بكر يحاول أن يسكت عمر وعمر منطلق في الكلام، فقام أبو بكر: حمد الله وتشهّد وأثنى على الله، فالتفت الناس إلى أبي بكر وتركوا عمر، معناها استقر عند الصحابة أن أبا بكر هو الذي له الكلمة الفاصلة في الموضوع، حتى عمر على شخصيته القوية ما كان الناس ليبقوا معه ويتركوا أبا بكر، فتحلقوا حول الصّديق، فأعطاهم الكلمات المشهورة، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران: 144]، وقول الله : إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30]، فالناس أول ما سمعوا الآية أُسقط في أيديهم، الآن هذا تصريح من المصدر الأعلى الموجود بعد النبي ﷺ أوثق مصدر يعطي بيانًا وبلاغًا في الموضوع، فالناس الذي ما حملته رجلاه فسقط الناس انطلقوا، أول شيء يقرءون الآية كأنها نزلت الآن، فذهب وتأكد من الوفاة، وقبّل النبي ﷺ، وخرج وقرأ الآية على الناس، ثم جاءت قضية أين وفاة النبي ﷺ فحسمها الصديق، فحسم قضية مات أو لم يمت، وحسم قضية دفنه أين يكون، وكانت الأشياء وراء بعض تتوالى، والصديق لها.
والمنافقون يتكلمون، وبدأت قضية العرب يرتدّون، وبدأت القلاقل، وبدأت الفتن، وحصل الخلاف بين الصحابة أنفسهم من هو الخليفة، والأنصار يريدون أن يبايعوا فلانًا وهذا يبايع سعد بن عبادة، وهذا يبايعوا فلان، يجتمعوا منا أمير ومنكم أمير، وتصير قيادة جماعية وما هي فردية وأشياء لا يمكن أن تصح شرعًا في الإمامة أن يكون للمسلمين إمامان لا يمكن، كل هذه الأشياء حسمها الصديق وتكلم عن الأنصار، وأنتم الوزراء، وأعطاهم المناقب، وأثنى عليهم، وبيّن لهم أن الناس لا يجتمعون إلا على هذا الحي من العرب قريش، النبي ﷺ ترك إرثًا الآن من يقود الأمة من بعده، ولو وضعتم واحد من الأنصار من الأوس أو الخزرج ما يقبل بقية العرب، لا يرون أن الأوس والخزرج أرفع مكانة تنفرط القضية، لا العرب لا تخضع إلا لهذا الحي وهو قريش، ولذلك النبي ﷺ قال: الأئمة من قريش [رواه أحمد: 12307، والنسائي في الكبرى: 12307، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2758].
ولذلك فإن الصديق اتخذ مواقف عظيمة في وفاة النبي ﷺ اجتمعت الأمة عليه، هو الذي جمعهم، وإلا تفرقت الأمة شذر مذر، وكان موقفه من حرب المرتدين واضحًا وحاسمًا، وإخراج جيش أسامة، الصديق اتخذ قرارات عجيبة جدًا جدًا، لم يكن أحدًا مثله ولا عمر بن الخطاب .
وعن عائشة: "أن أبا بكر دخل على النبي ﷺ بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه ووضع يده على ساعديه، وقال: وانبياه واصفياه واخليلاه"، رواه أحمد، وحسنه الألباني.
وفي رواية: "أنه أتاه من قِبل رأسه فحدر فاه فقبّل جبهته، ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبّل جبهته، ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه وحدر فاه وقبّل جبهته، ثم قال: واخليلاه"، فيكون إذن قد قبله ثلاث مرات.
ولابن أبي شيبة عن ابن عمر: "ووضع فاه على جبين رسول الله ﷺ فجعل يقبله ويبكي ويقول: بأبي وأمي طبت حيًا وميتًا".
وفيه: دليل على جواز عدّ أوصاف الميت إن كان أهلاً لذلك بلا نياحة، وبلا غلو.
وعن أنس قال -يصف الوضع الذي حصل بالمدينة لما مات النبي ﷺ، ويصف حال المجتمع ويصف حال الناس والصحابة-: "لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ﷺ المدينة أضاء منها كل شيء" كان دخوله لما هاجر، هذا أول دخوله، "فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء"، وهذه النور والظلمة ليست قضية أوهام هذا حقيقة، هو يقول: "لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ﷺ المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفي دفنه ﷺ حتى أنكرنا قلوبنا" [رواه الترمذي: 3618، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 329].
تغيرت ليست التي يعرفون، لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ﷺ المدينة أضاء منها كل شيء، تنورت بدخوله، وهنا نور حسي ونور معنوي مثل نور الهداية، هذا النور المعنوي، وهناك نور الفجر، نور الصباح، نور الشمس، هذا نور حسّي، أنت تراه، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، فإذن الإنارة الأولى نور الهداية العامة، الأنوار التي تمحو الظلمة، النور الذي يمحو الشرك، النور الذي يمحو الكفر، النور الذي يمحو ظلمة الجاهلية، إذًا أضاء كل شيء، فطمس أو أزال وأذهب ظلمة الجاهلية، ظلمة الشرك، ظلمة المعاصي.
قال: "فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء": لفقد النور والسراج، والمقصود هنا بالظلمة ليس عودة الجاهلية؛ لأن الحمد لله بوجود الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- بعد وفاة النبيﷺ الإسلام باقي، لكن لا شك أنه ما هو مثل لما كان موجودًا، وبالتأكيد أن هناك فرقًا كبيرًا بين المدينة في عهده ﷺ وبعده، وأن الصحابة أحسوا بالفرق، لقد حصلت أشياء كثيرة من الفروق التي كانت قبل وبعد، ومعرفة هذه الفروق أو ماذا حصل في المدينة لا شك أن هذا يحتاج إلى نقل من الصحابة أنفسهم ما الذي شعروا به عند وفاة النبي ﷺ.
هو قال هنا: "أضاء منها كل شيء" ما هو الفرق بين النور والضوء؟ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس: 5]، الضياء: مصحوب بالحرارة، إنارة مع حرارة، هذا يكون ضياء، وأما إذا كان إنارة باردة فيسمى نورًا، فقال: جعل الشمس ضياء، إنارة مع الحرارة، وأما الْقَمَرَ نُورًا : ليس ما معه حرارة، تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [الفرقان: 61]: والسراج الشمس، وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [النبأ: 13] تتوهج، أما القمر فهو منير وهو لا يصدر حرارة، "فلما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ﷺ المدينة أضاء منها كل شيء" أي: تنورت المدينة بدخوله ﷺ، فشع نور الهداية العامة في المدينة، وكذلك ذهبت هذه الظلمة، شع نور الهداية ووصل إلى العالم وليس فقط في المدينة، واقتبس العالم من نور المدينة، وهذه أيضًا الإضاءة تكون عن الفرح التام لسكان المدينة بقدوم النبي ﷺ.
"فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء": لفقد النور والسراج منها، فذهب ذلك النور بموته، قال بعض الشراح: "والأظهر أن كلاً من الإضاءة والإظلام معنويان، وقد أظلمت المدينة عند موته وحزن سكانها على فراقه وضجوا بالبكاء، يقول أبو ذؤيب الهذلي: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلوا جميعًا بالإحرام" كيف تسمع كل الحجاج يقولون: لبيك اللهم لبيك، الضجيج ضجيج الحجاج كلهم أهلوا بالإحرام، كيف تكون الضجيج؟ مثله لما دخل المدينة؛ لأنه هو ما جاء إلا بعد وفاة النبي ﷺ، وصل وقد مات ﷺ فيقول كيف ضجيج الملبين بالإحرام كلهم الحجيج، كذلك صوت المدينة دخلت المدينة وجدته ضجيجًا بالبكاء، "فقلت: مه": ما هذا، "قالوا: قبض رسول الله ﷺ"، والصحابة الذين يجالسونه، ويسمعون كلامه، ويتلون كتاب الله على يديه، ويأخذون منه القرآن، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويرجعون إليه في الاستفتاء والسؤال وفض الخلافات، وكان يخرج معهم للقتال، ويشاركهم في أحزانهم وأفراحهم، ويحضر مناسباتهم، ويصلي بهم إمامًا، ويفصل بينهم، وينصحهم، ويوجههم، انتهت هذه قال القضية انتهت فجأة، ولذلك كانت المصيبة عظيمة، والخطب جلل، وعلى الأمة أيضًا كلها المصيبة.
وكيف لا يكون هذا وهو البشير النذير، والسراج المنير، والرحمة المهداة، وهو الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبودية العباد إلى عبودية الله تعالى؛ ولكن التسليم للقضاء والقدر، ولأمر الله ولما نزل، لقد تأثرت الجمادات، وتأثرت النباتات، الجذع الذي كان يخطب عنده النبي ﷺ لما اتخذ المنبر وما عاد يستند إلى الجذع يخطب عند الجذع، المنبر صاح كما يصيح الصبي حتى نزل ﷺ المنبر فاحتضنه، فجعل يهدى كما يهدى الصبي الذي يسكَّن عند بكائه، قالﷺ:لو لم أعتنقه لحنّ إلى يوم القيامة [رواه أحمد: 2236، وابن ماجة: 1415، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 5300]. إلى يوم القيامة يصدر هذا الصوت، أخرجه أحمد وأصله في البخاري.
وكان الحسن -رحمه الله- إذا حدّث بهذا الحديث بكى وقال: "هذه خشبة تحنُّ إلى رسول الله ﷺ، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه"، وقد رُوي أن بلالاً كان يؤذن بعد وفاة النبيﷺ قبل دفنه، صعد يؤذن بلال لما صار وقت الصلاة بعد موته قبل دفنه، فلما بلغ: أشهد أن محمدًا رسول الله ارتجّ المسجد بالبكاء والنحيب، لما دُفن النبي ﷺ ترك بلال الأذان؛ لأنه ما يتحمّل، ترك بلال الأذان، ليس الحزن على مصلحة دنيوية فاتتهم، لكن على انقطاع الوحي من السماء، ولذلك لما زار أبو بكر وعمر أم أيمن، وقال له تعال نزورها كما كان النبي ﷺ يزورها انتهيا إليها بكت، قال لها ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله ﷺ؟ قالت: "والله ما أبكي أن لا أكون أعلم ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء"، وهذه هي الخسارة الحقيقية، الآن ليست عاطفة شخصية ماذا وراء موت النبي ﷺ؟ انقطع الوحي، الآن الوحي يأتي تعقيبات والله يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ [النساء: 176] كان هذا كله ينزل في الوحي، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها، أخرجه مسلم.
وذكر موسى بن عقبة في قصة وفاة رسول الله ﷺ أن الناس رجعوا حين فرغ أبو بكر من خُطبته وأم أيمن قاعدة تبكي، فقيل لها: ما يبكيك يا أم أيمن، قد أكرم الله نبيه ﷺوأدخله جنته وأراحه من نصب الدنيا، قالت: "إنما أبكي على خبر السماء، كان يأتينا غضًا جديدًا كل يوم وليلة، فقد انقطع ورُفع، وعليه أبكي"، فعجب الناس من قولها، يعني: من فهم هذه المرأة على كبر سنها -رضي الله عنها-.
يقول الراوي: "وما نفضنا أيدينا من التراب" النفض معروف هو تحريك الشيء، ما نفضنا تراب الدفن عن أيدينا تراب القبر، "وإنا لفي دفنه": في معالجة دفن النبي ﷺ، "حتى أنكرنا قلوبنا" يعني: تغيرت عما عهدوه من الألفة والصفاء والرِّقة لفقدان من كان يمدُّهم بالتعليم والتأديب وبركة الصُّحبة، لم يجدوا قلوبهم على مثل ما كانت عليه، وهذا لا يعني أنه صار فيها شيء آخر غير الإيمان، معاذ الله، لكن ليس مثل أول، مهما كان ما هو مثل أول.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "تُوفي رسول الله ﷺ يوم الاثنين" [رواه البخاري: 1387].
قال ابن رجب: "وكانت وفاته ﷺ في يوم الاثنين في شهر ربيع الأول بغير خلاف، ولكن اختلفوا في تعيين ذلك اليوم من الشهر، فقيل: كان أوله وقيل: ثانيه وقيل: الثاني عشر أو ثالث عشرة أو خامس عشرة، والمشهور بين الناس أنه كان ثاني عشر ربيع الأول".
والترمذي -رحمه الله- أتْبعه بحديث جعفر بن محمد عن أبيه قال: "قُبِض رسول الله ﷺ يوم الاثنين، فمكث ذلك اليوم، وليلة الثلاثاء، ودُفن من الليل"، وقال سفيان وقال غيره: "يُسمع صوت المساحي من آخر الليل"، حديث صحيح، وقد أخرجه ابن سعد أيضًا، جعفر هو الصادق، جعفر بن محمد عن أبيه، جعفر الصادق، محمد هو محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين من التابعين. [رواه الترمذي في الشمائل: 395، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 331]. فهذا الحديث مرسل، لكن ابن سعد وصله عن علي، قُبض رسول الله ﷺ يوم الاثنين، ومكث ذلك اليوم، يعني ما دفن، وليلة الثلاثاء، يوم الثلاثاء دفن من الليل يعني ليلة الأربعاء، وأما الغسل والكفن فحصل يوم الثلاثاء، وتبعًا لذلك فقد اختلفوا في وقت دفنه هل هو ليلة الثلاثاء أو ليلة الأربعاء؟ وقوله: "يُسمع صوت المساحي" جمع مسحاة وهي آلة الحديد التي يجرف بها الطين، من آخر الليل فلعله ابتدأ الدفن بوسط وجوف الليل وامتد إلى آخر الليل.
لماذا تأخر دفن النبي ﷺ، مع أنه علمهم استحباب تعجيل التجهيز والدفن؟
فقيل: إنهم من عظم المصيبة والبلية الكبيرة التي نزلت بهم وقع الاضطراب بين الأصحاب، كأنهم صاروا أجسادًا بلا أرواح، وأجسامًا بلا عقول، حتى أن منهم من صار عاجزًا عن النطق، حصل هذا نتيجة إرباك ضخم جدًا، حدث اضطراب، حدث نتيجة هول الفاجعة، نتيجة المصيبة ووقع المصيبة، هذا التأخر الذي حصل لابد أن نتخيل أن حجم المصيبة الذي وقع عليهم كيف يكون لهم الآن نفس بسرعة يقوم مع الهول الذي نزل بهم، ولذلك صار بعضهم ما يتكلم، ما يقدر على الكلام، وبعضهم رجلاه لا تحملاه أصلاً، وبعضهم صار ضعيفًا، وبعضهم مرض، وبعضهم صار مدهوشًا، على أن بعضهم كان يشك في موته أصلاً أول ما مات.
وهناك قضية أخرى مهمة أيضًا وهي قضية البيعة، ماذا يكون الآن وضع المسلمين، كيف تُرتّب الأوضاع، العرب الآن بدءوا يرتدون، المنافقون يتكلمون، المسألة الآن لابد أن ترسوا على شيء على بر، ولذلك اشتغلوا بالأهم وهو قضية البيعة لما يترتب على تأخيرها من الفتنة، وليكون لهم إمام يرجعون إليه، فنظروا في الأمر وحصلت اجتماعات وصارت قضية سقيفة بني ساعدة إلى أن بويع الصديق، وبايعوه من الغد البيعة الثانية الأخرى، وكشف الله به الكربة، ثم رجعوا إلى نبيهم ﷺ فغسلوه وصلَّوا عليه ودفنوه بملاحظة الصديق.
قال الحافظ ابن رجب: "ولما تُوفي ﷺ اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهش فخولط، ومنهم من أُقعد فلم يُطق القيام، ومنهم من اعتُقل لسانه فما نطق الكلام -لم يطق الكلام-، ومنهم من أنكر موته بالكلية"، ما صدّق أنه مات.
وقال أبو بكر العربي -رحمه الله- يصف تلك اللحظات: "واضطربت الحال، ثم تدارك الله الإسلام ببيعة أبي بكر؛ فكان موت النبي ﷺ قاصمة الظهر، ومصيبة العمر، فأما عليٌ فاستخفى في بيته مع فاطمة" [العواصم من القواصم: 54]، علي ما استطاع أن يخرج للناس أصلاً من الغمّ والحزن هو وفاطمة في البيت، وأما عثمان فسكت ما استطاع يتكلم ولا كلمة، وأما عمر فقال: ما مات رسول الله ﷺ، واضطرب أمر الأنصار، يطلبون الأمر لأنفسهم أو الشراكة فيه مع المهاجرين، وانقطعت قلوب الجيش الذي كان قد برز مع أسامة بن زيد.
الحديث فيه: جواز الدفن ليلاً؛ لأن المساحي أصوات المساحي سمعت بالليل، وعلى إجازته أكثر العلماء؛ لأن الليل ليس فيه وقت تكره فيه الصلاة، لكن هناك ثلاث ساعات تُكره فيها الصلاة ينهى فيها عن دفن الموتى.
وأيضًا الحديث فيه: جواز تأخير دفن الميت للحاجة، كمراعاة حضور قريبه أو ما أشبه ذلك، ولكن بلا شك ولا ريب أن السُّنة تعجيل الدفن، وعدم تأخير الميت، وإكرامه دفنه، وحتى عندما يحملونه ما يمشون به ببطء، وإنما يستعجلون بالجنازة؛ لأنه إما خير يقدمونه إليه فلماذا يُحرم منه ولا خمس دقائق، لماذا يؤخّر عن الخير الذي ينتظره في قبره، وإذا كان شر أحسن واحد يضعه عن عنقه في أقرب فرصة، ولذلك قال: أسرعوا بالجنازة، تشيل جنازة تسرع فيها، ليس الجري والهرولة الذي يُسقطها، لكن الإسراع إسراع والجد، ولذلك من منكرات النصارى: إذا مات الميت وضعوه على عربة مدفع وأطلقت، وعملوا جنازة طويلة عريضة، ويمشي العسكريون في مقدمتها مشيًا بطيئًا جدًا جدًا، لا عقل ولا نقل ولا دين ولا شيء، لكن هكذا ويقولون: مراسم دفن الميت، فإذا نظرت إلى جنائزهم أو جنائز كبرائهم كيف هؤلاء يدفنون كبراءهم؟ هذه الطريقة، وفي موسيقى عسكرية، يودّعونه بالمعاصي والبدع، أما المسلمون غاية الإكرام؛ تغسيل، وتكفين، وصلاة عليه، وإسراع بالجنازة، والدفن، وهذه أشياء واجبة ولابد أن تُفعل للميت.
ختم الترمذي -رحمه الله- هذا الباب بحديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: "تُوفي رسول اللهﷺ يوم الاثنين ودُفن يوم الثلاثاء" [رواه الترمذي في الشمائل: 378، وضعفه الألباني في مختصر الشمائل: 332]، وضعّف إسناده الألباني في تعليقه، وذكر وجه نكارته لمخالفته لحديث عائشة أنه ﷺ دُفن ليلة الأربعاء، مات يوم الاثنين بقي الثلاثاء دُفن ليلة الأربعاء في الليل.
فنسأل الله ﷺ أن يجزيه خير ما جزى نبيًا عن أمته، وأن يجعلنا من أهل شفاعته، وأن يجعلنا تحت لوائه يوم الدين، وأن يجمعنا به في جنات النعيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.