الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن من سنن الله -تعالى-: إهلاك المترفين وإنجاء المصلحين.
تعريف الترف لغة
أما الترف: فإنه التنعم والترفه والنعمة، ويقال: صبي مترف إذا كان منعم البدن مدللًا، وأترفته النعمة يعني: أطغته.
والمترف هو الذي أبطرته النعمة، وسعة العيش.
فالمترفون: هم الذين أفسدت فطرهم الملذات، والانغماس في النعم، والانشغال بسعة العيش، فهم يحرصون على الازدياد من الدنيا، ويسعون إلى بلوغ الغايات في الملذات، شغلهم الشاغل الملذات كيف يحصلونها، وكيف يستزيدون منها، وكيف يطيلون وقت التلذذ، وهكذا سواء كان ذلك في مأكل أو مشرب أو ملبس أو مسكن أو منكح، ونحو ذلك.
وعادة ما يكون هؤلاء هم الأغنياء والكبراء والملأ في كل قوم وبلد، فأقعدتهم شهواتهم عن معالي الأمور، والعناية بالدين والعبادة، ودعتهم شهواتهم وملذاتهم إلى التوسع المذموم في الدنيا المشغل عن طاعة الله الموقع في المحرمات؛ لأنه إذا ابتغى الغاية في الملذات في النهاية سيقع في المحرمات، ولن يقنع بالحلال.
هذا الترف والغنى لا يشترط أن يكون كل غني مترف، فقد يكون غنيًا شاكرًا؛ يعرف حق الله في المال، لا يسرف، لا يبذر، يأخذ المال من حله، يضعه في حله، يعرف حق الله فيه من الزكوات والنفقات، ويستمتع بالحلال في الحدود الشرعية: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف: 32].
وهذه لها ضوابط مثل حديث: كلوا، واشربوا، وتصدقوا، والبسوا؛ في غير مخيلة من الخيلاء الكبر، ولا سرف مجاوزة الحد في الإنفاق في المباح.
إن الله يحب أن ترى نعمته على عبده رواه الإمام أحمد، وهو حديث حسن.
فإذن، الميزان الحق المذكور في الكتاب والسنة: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص: 77] واستعمل ما وهبك الله من المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرب إليه.
هذا الذي يحصل لك ثواب الآخرة: وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص: 77] مما أباح الله لك من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح في غير معصية، ولا اشتغال عن طاعة، ولا ترك لواجب.
ذم الترف
الترف من أسباب إهلاك الأمم.
لم يذكر الترف في القرآن إلا في موضع الذم، فالمترفون أول من كفر بدعوات الأنبياء: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ [سبأ: 34]، وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 35].
هذا الانغماس في الدنيا يؤدي للغفلة عن الآخرة، والإعراض عن الذكر، ومعارضة المصلحين والأنبياء، والدعاة العاملين.
هذا الترف سبب لوقوع الفرقة في الأمة الواحدة، والمجتمع الواحد، وهو حصول الطبقية المقيتة.
هذا الترف سبب لترك الجهاد في سبيل الله؛ لأن المترف لن يكون عنده دافع إلى سفر تذهب فيه نفسه أو يذهب فيه ماله.
وهذا الترف إخلاد إلى الأرض، حتى قضية تعلم دين الله والعمل به والدعوة إليه ليست واردة عند هؤلاء.
هذا الترف داء الأدواء، تعصف بالمجتمعات فتلغي فيها روح المقاومة، ولذلك يسهل استيلاء الأعداء على البلاد المترفة، ليس عند أهلها رغبة ولا قوة في المقاومة والدفاع.
هذا الترف سبب من أسباب إهلاك الله -تعالى- للمجتمع الذي يحل فيه ويتصف بالترف؛ كما قال ربنا: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16].
من هم مترفوها؟ الذين أبطرتهم النعمة، وسعة العيش.
فهذه الآية تقرر سنة الله في إهلاك الأمم، وإذا قدر لقرية أنها هالكة فإن من أسباب هلاكها هؤلاء المترفون، يسلطهم الله -تعالى- على هذا المجتمع فيفسقون فيعم الفسوق، ولا ينكر ويستشري فينزل العذاب على الجميع ويصيبهم الدماء والهلاك.
هذا النظام الذي يسمح بوجود المترفين، وانتشار شرهم، وعدم الأخذ على أيديهم؛ هذا النظام هالك، يحوي في طياته أسباب هلاكه.
والترف من أهم أسباب سقوط الدول كما بين ابن خلدون -رحمه الله- في تاريخه.
صفات المترفين
من صفات المترفين:
أولًا: الغرق في الشهوات، واللهث خلف الملذات، وبالتالي لا التفات إلى وحي ولا إيمان ولا خوف من الله، كما قال في بيان كيف يؤدي هذا إلى تضييع الواجبات الشرعية: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم: 59] فهذا يؤدي إلى هذا.
ثانيًا: السفه والإسراف، فمن طبيعة أهل الترف مجاوزة الحد في المباح، الإسراف والسفه بالإنفاق فيما لا خير فيه، ولا فائدة ترجى من ورائه، وهذا تصرف سفيه.
وعندما ترى يعني حجم الترف في بعض المجتمعات اليوم كم من المليارات تنفق في عمليات التجميل تغيير خلق الله؟ كم من الأطنان تستهلك في أمور من التزيين الخارجة عن المباح أو الاعتدال فيه؟ كم من المليارات تنفق في سياحات هي تضييع للأموال؟ كم الطعام الفائض الذي يرمى في مكبات النفايات يكفي لإطعام جياع في العالم؟
وهذا داء الحضارة الغربية الذي وصل إلى المسلمين.
الترف السفه في الإنفاق، ما هوايتك؟ التسوق، ماذا يفعل؟ إهدار ما تسوقه.
ثالثًا: المترفون هم الملأ والسادة، ففي وقت اختلال الموازين يكون هؤلاء هم المقدمون، وقد قال سبحانه: وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون: 33].
رابعًا: الظلم، يتصف المترفون به؛ لأنه يدعوهم إلى الاستئثار بالمال والخيرات، وعدم ترك الناس يأخذون حقهم منها، فيريدون الاستيلاء على أكبر قدر ممكن منها ويحرمون عباد الله، ولا يراعون حدود الله، وتنتشر الطبقية بالتالي، ويصبح بعض المجتمع يحقد على بعض، ويحسد بعضه بعضًا، وينظر المحرمون بعين الجائع إلى هذا الذي كان سببًا في حرمانهم من حقوقهم والخيرات التي يمكن أن تصل إليهم.
وهذا الاستئثار من طبيعة المترفين، كما قال ربنا في كتابه: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ [هود: 116].
أسباب الترف
ما هي أسباب الترف؟
طول الأمل، نسيان الموت: ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 3].
كذلك حب الظهور والتقليد، والمضي على العادات السيئة لمن سبق: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف: 23].
إذن، هؤلاء وقعوا فريسة لرق العادات واتباع من سلف من آبائهم حتى لو خالف الحق.
هربوا من الرق الذي خلقوا له | فبلوا برق النفس والشيطان |
ثالثًا: يتصف هؤلاء بحب الشهوات، ليس الحب الغريزي فقط، وإنما تقديم هذا الحب على حب الله ورسوله؛ كما قال سبحانه: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24].
رابعًا: يتصف هؤلاء بكثرة المال بطبيعة الحال؛ كما قال : كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6-7].
ومن أسباب هذا كذلك: التربية الخاطئة، الإعلام الساقط.
آثار الترف
أما آثار الترف وما ينتجه وعواقبه، وما الذي يحمل عليه الترف، الترف يحمل على ماذا؟ يؤدي إلى أي شيء؟
أولًا: تكذيب الرسل: والرؤساء والوجهاء هؤلاء الأغنياء هم الذين يعارضون الأنبياء أول من يعارض؛ لأن دعوات الأنبياء تتعارض مع مصالحهم، وبالتالي لابد أن يقوموا في وجوههم.
والمترفون لا يريدون تحمل أعباء وتكاليف، والرسل يأتون بأعباء وتكاليف، تكاليف الشرائع السماوية النازلة من الله فيها مراغمة النفس ومخالفة المألوف ومقاومة الشهوة، وهؤلاء الناس يريدون الانطلاق ولا يريدون حدودًا تحدهم ولا موانع تمنعهم، ولذلك يقاومون الرسالات، يقاومون الشرائع، يقاومون الأحكام الشرعية؛ لأنها تقف بينهم وبين شهواتهم، ولذلك في بعض الناس الآن ما أخرجوا زكاة أبدًا، عنده مليارات تقول يا جماعة يا أقرباء يا أولاد أين زكاة فلان؟ أين زكاة أبوكم؟ يقولوا: والله ما ندري، تناقش من هنا من هنا يقولوا: والله لو أخرج كان ظهر، كان ظهر يعني، كان الجمعيات أخذت، كان الناس أخذوا، كان في ناس عند بيته، كان يوزع من مكتبه، كان يعطي فلان فلان فلان يوزع بالنيابة عنه، ما أحد أخذ منه شيء لا جمعية ولا إمام مسجد ولا أولاده ولا فقير.
إذن، هذا لو كان يخرج لظهر إخراجه، مثل هذا زكاته لو أخرجت لتحدث بعض الناس بها ما فيه.
وبعضهم لا يصوم رمضان، وإذا جاء رمضان ذهب للسفر، مع أنه يجلس في المكان الواحد شهر وشهرين، ويمنع الطباخين والمرافقين معه من الصيام، يقول: كيف أنتم تصومون وأنا كيف يعني عشان يأنبني ضميري وأنا أشوفكم تصومون وأنا ما أصوم؟ كلكم تفطرون معي، ما في، لا يفعل خير، ويمنع الغير من فعل الخير.
هؤلاء مترفون لا يستطيع أن يقاوم الشهوة، كيف يصوم اثنا عشر ساعة يعني؟ كيف يمتنع عن الطعام؟ طعام مشتهيات يعني، مشتهيات ملذات كيف يمتنع؟
فبعضهم لا يستطيع أن يقاوم شهوة المال.
وبعضهم لا يستطيع أن يقاوم شهوة الطعام.
وبعضهم لا يستطيع أن يقاوم شهوة النساء.
ولذلك لا يبالي حلال حرام، هات.
هؤلاء المترفون أعداء الدعوة، أعداء الرسالات، أعداء الرسل، أعداء المصلحين، أعداء الدعاة؛ لأن الدعاة والمصلحون، الرسل الرسالات هذه تربي النفس، تفطم النفس عن الشهوات المحرمة، تجعل النفس تقاوم المألوفات، يعني في تربية، الدين ما هو الدين؟
تربية المكلف على مقاومة داعي الهوى، هذه التربية التي في الدين، تربية المكلف على مقاومة داعي الهوى، وهذا المترف كل اهتمامه في هواه، ويريد إطلاق العنان لشهواته، ويريد أن يرتع في الملذات ويشرب من كؤوسها إلى الثمالة، فما يمشي معه الدين، بعض الأحكام على الأقل ما يمكن أن يقوم بها، هواه يحمله على محاربتها ومحاربة من يأمر بها، ومحاربة الإلزام بها، ولذلك لا يريدون أمرًا بمعروف ولا نهيًا عن منكر ولا رجال حسبة؛ لأنهم يقفون في طريقهم في قضية الشهوات والملذات، ومن كانت الدنيا هي الهم بالنسبة له فيريد أن يعب منها، فلذلك يهتمون بالصحة، وبتحصيل الملذات، فترى كل الهم إذا جلست مع بعضهم، ما الجنس؟ ومن أي نوع هو؟ ومن أي بلد؟ ومن أي مكان؟ وما هو كذا؟ وما هو الذي يزيده؟ وما هي الأدوية؟ وما هي ...؟
هذا الغرض كل خلاص هو غارق فيه، هو غارق في الشهوة، فكل سعيه من أوله إلى آخره في قضية ما الذي يزيد الشهوة، ويحصل الشهوة، ويزيد الشهوة والشهوة، خلاص هذا هو، فقد تكون شهوة فرج، قد تكون شهوة بطن، قد تكون شهوة جمع مال، قد تكون شهوة مساكن، قال الله -تعالى-: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ [سبأ: 34].
مترفوها قال قتادة: "أولي النعمة، والحشمة، والثروة، والرياسة".
المترفون يحبون الشهوات والملاهي، ويكرهون تحمل المشاق، فكيف هذا سيكون داعية فضلًا، كيف سيلتزم بما تأمر به الدعوة فضلًا عن أن يكون داعية؟
ما هي حجة المترفين في تكذيب الرسل؟
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 35]، فنحن في منعة وفي قوة ما أحد يقهرنا، فرد الله زعمهم بقوله: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى [سبأ: 37].
ثانيًا: مما يتصف به هؤلاء: احتقار الرسل، وغمط الحق، بطر الحق، وغمط الناس، لا يعترفون بمقياس تقوى، ولا يفهمون لغة الرسالة، فالرسل بالنسبة للمترفين هؤلاء أعداء يقطعون طريق الملذات والشهوات عليهم، ولذلك يحتقرونهم ويكذبونهم: فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود: 27]، وقال الله : وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون: 33].
ولذلك المقاييس عندهم في التقديم مضطربة، يعني إذا كنا نحن نقدم الرسل ونقول الأنبياء أفضل ناس في العالم، هم يقولون كما حكى الله عنهم: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31]، واحد يكون عنده مال وغنى ونسب ورئاسة في قومه، هذا الذي يستحق أن يكون رسولًا، موازينهم تختلف، لماذا اختلفت موازينهم؟ انطلقوا من الدنيا التي تعلقوا بها.
ثالثًا: وهم يغترون بالنعمة حتى يظن الواحد منهم أن الله ما أنعم عليه إلا لأنه يحبه، وما أعطاه إلا لأنه راض عنه: فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ [الفجر: 15]، وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 35]، نحن مثلنا ما يعذب، ماذا قال الله في الذي يقول: وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت: 50]، هو يقول: لو أني رددت إلى الله ورجعت إليه الحسنى على طول، ولن يدخلني النار، الحسنى على طول.
وكذلك في سورة الكهف في قصة صاحب الجنتين، لا يؤمن بقيام الساعة، وفرضنا أنها قامت فرضنا، ماذا قال الله؟ لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف: 36] فهذا أصلًا عنده يعني مفروغ منه وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف: 36]، لكن لو قامت ورددت إلى الله وبعثت: إن لي عنده للحسنى قطعًا، و لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف: 36] بالتأكيد، هذه الموازين عندهم: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 55-56]، فالإنعام عليهم استدراج وليس حبًّا لهم، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 182-183].
رابعًا: يتصف هؤلاء بالفسق، وكثرة المال، مع قلة التقوى، ولذلك يأتي الهلاك: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16].
قال الشنقيطي -رحمه الله-: فإن قال قائل: إن الله أسند الفسق فيها لخصوص المترفين دون غيرهم في قوله: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا [الإسراء: 16] مع أنه ذكر عموم الهلاك للجميع المترفين وغيرهم، لماذا؟ الذين فسقوا هم المترفون، ولما جاء الدمار جاء على الجميع: فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16]؟
قال: الجواب من وجهين:
أولًا: أن غير المترفين تبع للمترفين، وإنما خص المترفين بالذكر؛ لأنهم السادة والكبراء وغيرهم تبع لهم، تبع لهم في المذهب والملة، وتبع لهم في العذاب والأخذ، قال تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: 67].
ثانيًا: أن بعضهم إن عصى الله وبغى ولم ينهاهم الآخرون فإن الهلاك يعم الجميع؛ كما قال ربنا: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً [الأنفال: 2] بل تعم، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث [رواه البخاري: 3346، ومسلم: 2880].
إذن، ليسوا بالمصلحين وإنما مجرد صالحين، ما غيروا ولا أمروا بالمعروف، ولا نهوا عن المنكر، ولا دعوا إلى الله، ولا نهوا عن السوء: أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [الأعراف: 165]، لو نهوا عن السوء كان الله نجاهم.
خامسًا: ضياع الدنيا والآخرة، فالإسراف والترف يؤدي إلى تضييع المال، فيجلس في النهاية محسورًا، وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [الإسراء: 29]، هذا ضياع الدنيا.
وفي أمثلة كثيرة الآن على ناس عندهم كان أموال طائلة ضيعوها.
أما هلاك الآخرة معلوم.
سنة الله في المترفين
طيب ما هي سنة الله في المترفين؟
لله -تعالى- عادة في الخلق، وقانون يسير، ونظام لا ينخرم، وسنة ليس لها تبديل ولا تحويل:
أولًا: أنه ينزل بهؤلاء التعاسة، وإن ظنهم الناس سعداء، قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طـه: 123- 124] فقوله: ضَنكًا يعني تعيسًا للمترفين أوفر الحظ من التعاسة، كما قال ﷺ: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك أصابته شوكة فلا انتقش [رواه البخاري: 2887] يدعو عليه أنه ما يلاقي أحد يخرجها له بالمنقاش، لا يجد أحد يخرجها له بالمنقاش، التعاسة بمعنى الشقاء ضد السعادة.
إذن، تعس ضد سعد، وقيل التعس ينكب على الوجه ولا يفيق من عثرته، وعبد الدينار وعبد الدرهم هؤلاء أهل الترف، وانتكس عاوده المرض وخاب مرة أخرى.
وهناك نماذج كثيرة للتعساء المتعوسين أهل التعاسة في زمننا الذين عندهم أموال كثيرة ثم انتحروا، كثير، لا يعيشون في سعادة، نفسه ضيقة، القلق النفسي مستمر، الأرق في النوم دائمًا، ما ينام إلا على الحبوب المنومة وما يصحى إلا بالحبوب المهدئة، يعني في نهاره حبوب مهدئة، وفي الليل في النوم حبوب منومة ما عنده غير هذا، ويخاف من ظله يخاف من أي واحد، يريد أن يقول: أنا هذا سيقتلني! وهذا سيأخذ مالي! هذا سيسرقني! هذا...! فهو ينتظر المصيبة من كل جانب.
ثم إن كان رجلًا ليس بهانئ مع زوجته، وإن كانت زوجة ليست بهانئة مع زوجها ولا مع الأولاد، وقد يسلطهم الله عليه فهذا يريد أن يسرق من ثروته، وهذا يختلس منها، وهذا... وهذا..، ولذلك ما عندهم هناءة في العيش، يعني "ونسيس" في زمنه كان من أغنى أغنياء العالم خلف بنت "كرستينا"، لما مات خلاص ورثت المليارات والأساطيل والجزر، لأن أبوها كان يملك مليارات وأساطيل وجزر، وانتهت إليها ثروات العائلة، لأنه كان لها والدان وأخ ماتوا، المفترض حسب المقاييس الدنيوية أن تكون هذه المرأة يعني أسعد امرأة في العالم، تزوجت في حياة أبيها، لأن أبوها يوناني طبعًا "ونسيس"، تزوجت في حياة أبيها برجل أمريكي عاش معها شهورًا ثم انفصلا، ثم تزوجت واحد يوناني قالت هذا ابن البلد عاش معها شهورًا ثم انفصلا، تزوجت شيوعيًا من روسيا ولما سألوها الصحفيون، يعني أنت تمثلين الرأسمالية: أنت من مجتمع غربي، كيف تأخذي واحد شيوعي؟ قالت: أبحث عن السعادة، بعد الزواج ذهبت معه إلى روسيا تخدم في البيت عنده، فسألوها طيب أنت كيف تخدمين وعندك المليارات؟ قالت: أبحث عن السعادة، عاشت معه سنة، ثم طلقها أو طلقته.
طيب عملت حفلة في فرنسا سألها الصحفيون عن شعورها: أنت أغنى امرأة في العالم كيف شعورك؟ قالت: نعم أنا أغنى امرأة في العالم لكنني أتعس امرأة في العالم، تزوجت بفرنسي أنجبت منه بنتًا ثم طلقها أو طلقته، وعاشت بقيت حياتها في تعاسة حتى وجدوها ميتة في شاليه في الأرجنتين لا يعلمون هي ماتت وإلا قتلت، وهات التشريح، ثم دفنت في جزيرة من جزر أبيها.
ثانيًا: المترفون تعجل لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، متاع قليل مشوب مكدر، وأما الآخرة أو الجنة أو السعادة الدائمة خبأها الله وأعدها للمتقين ليس لهؤلاء، هؤلاء ما لهم إلا الدار الفانية هذه حدهم هذه الدار: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا [الأحقاف: 20] خلاص أخذتم نصيبكم فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف: 20].
ولما تعجب عمر أن قيصر وكسرى فيما هما فيه والنبي ﷺ ما عنده في بيته إلا ثلاثة جلود فقط، قال ﷺ: أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا [رواه البخاري: 2468].
المترفون سبب لإهلاك البلد التي يعيشون فيها: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا [الإسراء: 16] ما معناها؟ قيل: أمرناهم بالطاعات ففسقوا وفعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة.
ثانيًا: أمرناهم أمرًا قدريًّا.
ثالثًا: أمّرناهم؛ جعلناهم أمراء، أو سلطناهم.
وقيل: أمرنا من أمِر وليس أمَر، وأمِر: معناها كثر، أمِر أَمْر ابن أبي كبشة [رواه البخاري: 7] يعني: ظهر وعلا أمره، أمِر كثر، فيكون معناه: كثرناهم، فزاد الفساد فأهلك الله البلد، فيستأصلها بعذابه إذا اشتد طغيانهم.
رابعًا: إذا حرم المترفون من ترفهم بالهلاك فلا أمل للرجوع إليه؛ كما قال ربنا: وَكَمْ قَصَمْنَا بعذاب مستأصل: مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا ما في مفر، وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء: 11-15].
إذن، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ [سبأ: 54] فعذابهم إذا نزل لا يرتفع ولا مناص ولا مهرب: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الأنبياء: 95] يعني: يمتنع على القرى المهلكة المعذبة الرجوع للدنيا، ليستدركوا، لا سبيل.
إذن، أثر الترف في استحقاق العذاب واستجلاب سخط الله، ونزول غضبه كبير.
في المقابل يعني هذه سنة الله -تعالى- في إهلاك المترفين.
سنة إنجاء المصلحين
في المقابل من سننه إنجاء المصلحين.
الإصلاح ضد الإفساد، أصلح أتى بالخير والصواب والشيء النافع، وأزال الفساد.
الإصلاح ميادينه كبيرة
إصلاح العقيدة، إصلاح الأخلاق، إصلاح العبادات، إصلاح المعاملات، وإصلاح الإعلام، وإصلاح السياسة، وإصلاح الاقتصاد، وإصلاح.. وإصلاح.. ميادين الإصلاح كثيرة، لكن إذا أطلق الإصلاح فإنه يتناول تحقيق الخير؛ الصلاح جميع الخير والفساد جميع الشر يتناوله.
المصلحون الذين يعملون على الإصلاح الذي هو سبيل النجاة، قال سبحانه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117] فرتب إهلاك القرى على خلوها من المصلحين، إذا البلد خلت من المصلحين نزل فيها العطب، وحل فيها الهلاك.
وعامة الناس كثير منهم لا يعرفون قيمة المصلحين، ولا يعرفون نعمة بسبب المصلحين، ولا يعرفون الخير والبركة الذي يأتيهم بسبب المصلحين، ولا يعرفون ما يدفع عنهم من العذاب والسوء بسبب وجود المصلحين فيهم، البلد العامة الناس لا يدركون نعمة وجود المصلحين بينهم؛ لأنهم لا يرون عذابًا قد ارتفع بسببهم لا يرون ما في بصيرة، فيشوفوا الأوضاع ماشية، طيب ما صار شيء، ما صار لنا شيء إلى الآن، ما صار شيء، ما صار شيء بسبب ماذا؟ يعني هذا التأخير بسبب ماذا؟
رتب الله إهلاك القرى على خلوها من المصلحين.
وفي الآية السابقة تكشف عن سنة من سنن الله -تعالى-: أن البلد إذا كان فيها من يدفع السوء وينهى عن المنكر، ويصلح الفساد، فيقاوم البدع، وينشر السنة، يقاوم الشرك، وينشر التوحيد، يقاوم الكفر، وينشر الإسلام، يقاوم الخنا والفجور، وينشر العفاف، يقاوم الربا، وينشر البيع الذي أحله الله، ويقدم البدائل الشرعية في المعاملة، هؤلاء المصلحون الذين يقاومون الظلم وينشرون العدل هؤلاء السبب بقاء الناس، بقاء البلد بقاء المجتمع، فيا ليت قومي يعلمون، قال الله -تعالى-: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [هود: 116] هلا وجد في القرون السابقة من فيه خير ينهى عن الفساد، ينهى عن المنكرات، فيكون ذلك سببًا لنجاة أفراد المجتمع؟
أصحاب الدعوة هم صمام الأمان، ولما انتفى الإصلاح عند أهل الكتاب عاقبهم الله ولعنهم وطردهم عن رحمته، فقال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُون * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوه [المائدة: 78-79] لما وصلوا لهذه المرحلة: لا يتناهون؛ لعنوا، تصيب الصالح والظالم إذا ما كان فيه مصلح، قال أبو بكر الصديق: "أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105] يعني تضعونها في غير موضعها وتفهمونها على غير الفهم الذي هي أولى به، وحق أن تفهم عليه، ما هو؟ وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه [رواه الترمذي: 2168، وهو حديث صحيح].
هذا على القاعدة المهمة جدًا وهي: أنه لابد أن يفسر النصوص بعضها بعضًا، لابد تجمع النصوص في المسألة الواحدة ليفسر بعضها بعضًا.
مجالات الإصلاح
في إصلاح عقدي نحتاجه كثيرًا اليوم نظرًا لانتشار الشركيات والبدع عبر القنوات التي تنشر الشرك اليوم، ومناهج وكتب ومواقع، وإلى آخره.
وإصلاح العقيدة هذا هو الأساس؛ لأن الشرك إذا انتشر وهو أسوأ منكر فسيكون أسوأ عذاب ينزل في البلد: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36].
وما أرسل الله الرسل بالدرجة الأولى إلا لإصلاح العقيدة.
وإما إصلاح العقول: يعني بحمايتها من المسكرات والخمور، إلى آخره، فالأول حفظ الدين، والثاني حفظ العقل، وكذلك حفظ العرض بنشر العفاف والحياء والفضيلة والغيرة المحمودة ومقاومة الخنا والفجور والرذيلة.
وإصلاح الدين، وإصلاح العقل، وإصلاح العرض، وإصلاح المال: أن يكون هناك من يأمر بالزكاة فيه والصدقة والخير والنفقات الشرعية، وينهى عن الربا فيه، والغصب والسرقة والرشوة والنهب والاختلاس وأكل المال بالباطل بأنواعه كالقمار والميسر، ففي إصلاح مالي، وإصلاح أخلاقي.
إصلاح إعلامي: اليوم نحتاج كثيرًا إلى إصلاح الإعلام، نظرًا لقوة تأثيره، إصلاح الإعلام نظرًا لسطوة الإعلام، إصلاح الإعلام نظرًا لأنه يغير القناعات، إصلاح الإعلام نظرًا لأنه يغير النفوس يغير العقول، إصلاح الإعلام لأنه إذا صلح الإعلام انتشر خير عظيم، واندرئ شر كبير.
وأما إصلاح الدعوة وإصلاح المنهج: بأن يكون هناك انتشار لمنهج السلف، ودعوة إليه، وحرص عليه، ونشر له، وتفسير وبيان، وبلاغ وإبلاغ.
الإصلاح الاجتماعي: سواء كان إصلاح الأسرة، الإصلاح بين المتخاصمين.
وهكذا إصلاح الأمن: بمحاربة الإجرام وأنواع الاختلال: أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا [القصص: 57]، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67].
المفسدون في الأرض هم أعداء الإصلاح، وفي ذات الوقت يرفعون راية الإصلاح، وعندنا هنا متلازمة غريبة، وإشكالية كبيرة، أن الذين يدعون إلى الإصلاح ويحملون راية الإصلاح بزعمهم بعض الذين يرفعون أولوية الإصلاح هم من أكبر المفسدين في المجتمع، وهذا بنص القرآن، القرآن فضحهم وبين حالهم، وقال الله -تعالى- في الآيات التي فيها ذكر المنافقين في أول سورة البقرة: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة: 11- 12] من هو جدهم؟ فرعون، ماذا قال؟ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر: 26] فالآن فرعون يريد أن يقتل موسى لمنع الفساد، فرعون بزعمه يريد أن يقتل موسى وأعرب عن نيته لقومه، لماذا يريد أن يقتل موسى؟
لمنع الفساد يخشى الآن على المجتمع من موسى، موسى ينشر الفساد في المجتمع، فجمعوا بين العمل بالفساد، والظهور بقالب الإصلاح، ومحاربة المصلحين؛ يفسدون، ويتظاهرون بالإصلاح، ويحاربون المصلحين، ويحصرون الإصلاح فيهم يقولون: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون ، ولا أعظم إفسادًا ممن كفر بالله، وساوى بين الحق والباطل، وقال: الأديان كلها صح، الملة الإبراهيمية، والتقارب الديني مع أهل الأرض.
هؤلاء الذين يفسدون المرأة؛ ويقولون: نحن إصلاحيون.
هؤلاء الذين ينشرون الضلال في المجتمع باسم الحرية، حتى الردة من أراد أن يرتد فليرتد؛ لأنها الدعوة إلى الحرية.
هؤلاء الذين يسمون الأشياء بغير اسمها خداعًا للعامة، ونشرًا للفساد فيهم، يقولون عن أنفسهم: إنهم إصلاحيون، ولذر الرماد في العيون فلا مانع أن يقوم هؤلاء المنافقون أو العلمانيون ببعض الدعوات إلى أشياء صحيحة، فقد يتكلمون عن الفساد الإداري، يتكلمون عن الرشاوى والمحسوبيات، ولكن في الحقيقة هم من أكبر المرتشين، والمنهج هذا واضح عندهم، ولذلك لا يصح أن نمكن هؤلاء من رفع راية الإصلاح أو الظهور أمام الناس أنهم مصلحون، فلابد من فضحهم وبيان إفسادهم، وأنهم مفسدون لا مصلحون، ونسلط الأضواء على المصلحين الحقيقيين، وعلى الإصلاح الحقيقي.
يجب علينا أن نكشف حال الإصلاحيين المزيفين، ونقول: إن الله فضحكم في كتابه، وقال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة: 12].
ونبين ما هو الإصلاح الحقيقي، ومن هم المصلحون الحقيقيون، هذا مهم جدًا، حتى لا يحصل الالتباس عند الناس.
ثمرات الإصلاح الحقيقي
إذا قام الإصلاح الحقيقي فإن الثمرات عظيمة:
أولًا: النجاة من عذاب الله: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [الأعراف: 165].
ثانيًا: حصول التوفيق: إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا [النساء: 35].
ثالثًا: الثواب العظيم، والأجر الجزيل: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 114].
رابعًا: البراءة من المنكرات والفساد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [الأحزاب: 70- 71].
خامسًا: محبة الناس للمصلح، فكم من دماء حقنت بسببه؟ وكم من أعراض سترت بسعيه؟ وكم من آلام خفت بجهده؟ وكم من فقر زال بجهده وسعيه؟ وهكذا..
لكن هؤلاء أهل الإصلاح الحقيقي لابد أن نتبينهم:
أولًا: عندهم صحة منهج، فهم على الدين القويم؛ وعلى الكتاب والسنة، ليسوا مجرد مصلحين اقتصاديين؛ لأنه يوجد بعض من يدعي الإصلاح الاقتصادي وهو كافر أصلًا كافر، فيقولون: هذا خبير اقتصادي نحن نسعى للإصلاح الاقتصادي، وتسلط الأضواء على الإصلاح الاقتصادي، وكأن الله ما خلق الدنيا إلا للإصلاح الاقتصادي.
طيب وأين إصلاح العقيدة، الناس للأسف اليوم سلطت الأضواء على جوانب من الإصلاح معينة هي من الدين، لكن ليست كل الدين، ولا أكثر الدين، فيسلط الضوء على الإصلاح الاقتصادي، ولا يسلط الضوء على الإصلاح العقدي، ولا على الإصلاح المنهجي، ولا على إصلاح إيمان الناس، على إصلاح دين الناس، على إصلاح عقيدة الناس.
لا يسلط عليها الضوء ولا تبذل فيها الجهود ولا يسمى إصلاحًا، ولا يؤتى بذكره: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان: 17].
الإصلاح يحتاج إلى صبر، الإصلاح يحتاج إلى شجاعة: وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ [المائدة: 54]؛ كما قال الله، "نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم"؛ كما قال عبادة في حديث البيعة.
ثالثًا من صفات المصلحين: الاعتدال، وعدم الغلو.
عليك بأوساط الأمور فإنها | طريق إلى نهج الصراط قويم |
ولا تك فيها مفرطًا أو مفرطًا | كلا طرفي قصد الأمور ذميم |
رابعًا: الحكمة، الحكمة بأي شيء نبدأ؟ ما هي السرعة في التغيير؟ وهكذا حتى لا يترتب مفاسد.
خامسا: العلم، وهذا يتبع الحكمة، فكيف سيصلح من لم يكن عالماً، فربما يغير معروفًا أو يوقع منكرًا.
سادسًا: الناس يقبلون على أهل الإصلاح، وأهل الإصلاح يحبون الخير للناس حتى بعد الموت: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قتلوه قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يــس: 26-27] قال قتادة: "لا تلق المؤمن إلا ناصحًا، لا تلقاه غاشًا".
ومهما قلنا في جوانب الإصلاح إذا كان ما بدأنا بإصلاح دين الناس وعقيدة الناس فإن الإصلاحات الأخرى لا تكاد توجد لها قيمة؛ لأنك ممكن تصلح من هنا وتخرب من هنا من الناحية الأخرى بسبب أنه لا يوجد دين يردع، ولا يوجد أمانة من الدين تجعل المحافظة على ما صلح مستمرًا.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، وسنة رسوله ﷺ يرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم رياساتهم ومآكلهم فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزن": الذي يأتي يقول لك: والله فعلًا الواقع يا أخي الواقع كئيب، ماذا فعل؟ لا شيء، فهو في النهاية ماذا؟ متحزن "ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل": لو مست دنياه قام ونافح وكافح وضارب وشاتم، طيب والدين الذي مس لماذا لم تتحرك، أين غيرتك؟ بس تجي تقول والله فعلًا يا أخي والله المنكرات ... طيب ماذا فعلت؟ وإذا جاء واحد يستولي على بيته جهاد يعلن عليه الجهاد.
ومن المؤسف اليوم في غمرة التحركات الموجودة في العالم العربي أنه يسلط كل الضوء على الإصلاح الاقتصادي، إصلاح يعني مقاومة المحسوبيات والرشاوى والإخلال بالمواصفات وقضية الإتقان في البناء والإتقان في ... هذا، طيب والدين؟ يعني نحن لا ننكر هذا ولابد من إصلاح دنيا الناس، الشرع يأمر بإصلاح دنيا الناس، الشرع يأمر بإصلاح الطرق وإصلاح الأبنية وإصلاح الإعلام وإصلاح المصارف وإصلاح المقاولات وإصلاح الصحة وإصلاح التعليم وإصلاح كل هذا يأمر به الدين، لكن إصلاح دين الناس نفسه، إصلاح عقيدة الناس، أين الجهد فيها؟ نحن الآن لا نتكلم ما نحارب الإصلاح الاقتصادي، لأن هذا من الدين، وقوم شعيب كان عندهم فساد اقتصادي يغشون، يطففون في المكيال والميزان، ولذلك قال لهم شعيب: وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ [هود: 85]، يعني كان عندهم فساد في الاقتصاد، وأرسل الله شعيب لإصلاح الاقتصاد، لكن قبل إصلاح الاقتصاد كان قوم شعيب على الشرك، فلذلك أول ما جاءهم ما قال: اصلحوا الاقتصاد، أول ما جاءهم قال: اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59]، ثم قال: وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ [هود: 85]، ونهاهم عن تطفيف الميكال والميزان، والعبث في المكيال والميزان.
الأنبياء يأمرون بالعدل بين الناس، يأمرون بإعطاء كل ذي حق حقه، يأمرون بالإصلاح الاجتماعي، لكنهم أول ما يبدؤون يبدؤون بإصلاح العقيدة والدين.
فالمشكلة الحاصلة الآن في التحركات في العالم العربي والعالم عمومًا أنه لا يُلتفت للإصلاح العقدي الديني، وإنما يلتفت للإصلاح الصحي الاقتصادي التعليم وليس يعني التعليم يعني تعليم الدين أنه يصلح تعليم الدين أولًا، لا ممكن تختصر المناهج الدينية وتلغى، ويعني المهم حاربوا الأمية التقنية قبل محاربة الأمية الدينية الشرعية، ولذلك يوجد من يعرف أن يستعمل الأجهزة هذه أربعة وعشرين قيراط، ولا يحسن أن يصلي.
فالواجب الجمع بين إصلاح الدين وإصلاح الدنيا، وشرائع الأنبياء قائمة على إصلاح الدين وإصلاح الدنيا، حتى يكون الإصلاح حقيقيًّا.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا من المصلحين، ونسأله -عز وجل- أن يعافينا من الفساد والترف، والإعراض عما أنزل إنه سميع مجيب.