الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعينأما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مقدمة عن سنة الابتلاء والتمحيص
وحياكم الله مرة أخرى -أيها الإخوة والأخوات- مع "دورة السنن الإلهية" التي نستعرض فيها عددًا من سنن الله ، ومنها: سنة الابتلاء والتمحيص، قال الله -تبارك وتعالى-: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155].
وقال سبحانه: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 186]، وهذه اللام لام القسم، والنون للتوكيد، فأقسم -تعالى- على سنة إلهية من سننه في خلقه أنها حادثة وواقعة ولابد منها.
تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت | وتحدث من بعد الأمور أمور |
وتجري الليالي باجتماع وفرقة | وتطلع فيها أنجم وتغور |
فمن ظن أن الدهر باق سروره | فذاك محال لا يدوم سروره |
عفا الله عمن صير الهم واحدًا | وأيقن أن الدائرات تدور |
فالشاعر يدعو بالخير لمن جعل الهم واحدًا؛ لأن من جعل الآخرة همه كفاه الله هموم الدنيا.
والدنيا لابد فيها من مكدرات وابتلاءات، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ولينظر -يعني العبد- يمنة فهل يرى إلا محنة، ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة، وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نوم، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سرت يومًا ساءت دهرًا، وإن متعت قليلًا منعت طويلًا، وما ملأت دارًا خيرة إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور" [زاد المعاد: 4/ 174].
جاء رجل إلى الإمام أحمد -رحمه الله- فقال له: "يا أبا عبد الله قصدتك من خراسان في مسألة، متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال الإمام أحمد: عند أول قدم يضعها في الجنة".
يعني قبل لا تأمل.
تطلب الراحة في دار العنا | خاب من يطلب شيئًا لا يكون |
والابتلاء واقع لا محالة، قال الحكماء: "من قال لأخيه: صرف الله عنك المكاره فكأنه دعا عليه بالموت"؛ لأنه إذا قال له: لا أراك الله مكروهًا في عزيز لديكم، يعني يقصد بالمكروه الموت، فكأنه يقول: أماتك الله أول واحد فيهم، وأخذك قبلهم، حتى لا ترى موت أي عزيز، مع أن موت هؤلاء لابد أن يقع فيهم آحاد أو جماعات.
وهذه السنة الإلهية الماضية وهي سنة الابتلاء والتمحيص هي حديثنا.
معنى الابتلاء في اللغة
فما معنى الابتلاء؟ وما معنى التمحيص؟
أما الابتلاء في الأصل فهو: الاختبار والامتحان، وابتلاه الله أي: امتحنه، والبلوى والبلية والبلاء.
يكون البلاء في الخير والشر، ومنه قول الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35]، ويقال: بلي الإنسان وابتلي إذا امتحن.
وقال الشاعر:
بليت وفقدان الحبيب بلية | وكم من كريم يبتلى ثم يصبر |
معنى الابتلاء في الاصطلاح
وفي المصطلح في الابتلاء استعمل هذا اللفظ أو ورد هذا اللفظ في القرآن على ثلاثة أوجه:
أولًا: بمعنى النعمة: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا [الأنفال: 17].
ثانيًا: بمعنى المكروه، ومنه قوله تعالى: وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة: 49]، ويسمى الغم بلاء من حيث أنه يبلي الجسم.
ويطلق الابتلاء أيضًا على الاختبار والامتحان؛ كما قال تعالى: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ [الأحزاب: 11]، وكذلك قوله : لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2]؛ فحقيقة الابتلاء هو الاختبار والامتحان بالشدة والرخاء.
معنى التمحيص في اللغة والاصطلاح
وأما التمحيص فإنه في اللغة: تخليص الشيء وتنقيته مما يعلق به أو من العيب، فيقال: محّص الذهب بالنار إذا أزال عنه ما يشوبه.
والتمحيص في الاصطلاح يعني في القرآن لا يختلف عن هذا المعنى؛ كما قال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [آل عمران: 154]، وقال: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 141] أي: ليختبرهم اختبارًا للمؤمنين يخلصهم فيه من الخبث بالبلاء النازل بهم.
حِكَم التمحيص
وللتمحيص حكم عظيمة؛ فمنها: التنقية من الشوائب، التنقية من الذنوب والخطايا، التنقية من دغل الأخلاق والعقائد؛ لأنه قد يكون العبد مثلًا فيه خلل في نفسه، في عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر، فيبتلى لكي يكتمل إيمانه أو لكي يتحقق إيمانه بالقضاء والقدر، قد يكون العبد فيه نقص في اليقين فيبتليه الله -تعالى- ليزداد يقينه، قد يكون فيه غل أو حقد أو حسد أو غش فيبتليه ليذهب هذه الأخلاق الرديئة.
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [آل عمران: 154] أي: لكي يختبركم بما يجريه عليكم؛ فيتميز المؤمن من المنافق.
وقال في سورة آل عمران: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 140-141] يعني يختبر المؤمنين ليخلصهم بالبلاء الذي نزل بهم، يخلصهم من السيئات، يخلصهم من الآثام؛ ولذلك قيل في الحكمة: "لا تكرهوا الفتن؛ فإنها حصاد المنافقين".
الفرق بين التمحيص والابتلاء
فإذًا، تخليص الإيمان من النفاق بهذه الابتلاءات نعمة، والتمحيص ناتج عن الابتلاء، يعني إذا قال قائل: ما العلاقة بين التمحيص والابتلاء، وما الفرق؟
فالجواب: أن التمحيص نتيجة لأي شيء؟ للابتلاء، فالتمحيص هو التهذيب والتنقية، وهذا نجاح في الابتلاء، من الذي يتمحص ويمحص، من الذي يحصل له التمحيص؟ الذي ينجح في الابتلاء: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 154].
فإذا حصل الابتلاء وقوبل بالصبر تحققت النتيجة وحصل التمحيص والتطهير والتنقية وزوال الشوائب.
وقد حصل الابتلاء والتمحيص في غزوة أحد حصولًا عظيمًا، كما في ذلك الموقف الذي قيل فيه للمؤمنين: إِنَّ النَّاسَ يعني المشركين: قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران: 174- 173]، ورجع العدو ولم تحصل مواجهة جديدة.
الابتلاء والتمحيص سنة إلهية
الابتلاء والتمحيص سنة إلهية جارية، ملازمة للحياة منذ أن خلقها الله: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ [الكهف: 7].
والإنسان خلق لهذا الابتلاء: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ [الإنسان: 2]، فجعله الله من هذه الأمشاج للابتلاء والامتحان.
وأعطاه ما يستطيع أن يواجه به الابتلاء، ما هو؟ من الآيات ما هو؟
أعطى الله الإنسان ما يستطيع أن يواجه به الابتلاء، أعطاه عدة، في الآيات في الآيات، السمع والبصر: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان: 2] ليقوى على مواجهة الابتلاء، فيسمع ما يثبته، يرى الحق ،يميزه عن الباطل، يرى حكمة الله في الابتلاء، وهكذا..
ومن الذي حصل له غرض ثم لم يكدر، هذا آدم طاب عيشه في الجنة وأخرج منها، ونوح سأل في ابنه ولم يعط مراده، والخليل ابتلي بالنار، ويعقوب بفقد الولد، ويوسف بمجاهدة الهوى والسجن والعبودية، وأيوب بالمرض والبلاء، وداود وسليمان بالفتنة، وجميع الأنبياء على هذا، وأما ما لقيه ﷺ من الجوع وكدر العيش وأذى الأعداء فكثير كثير، فلا خلاص لأحد من بلية تؤذيه، وقد قال الله –تعالى-: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 2-3].
فلا بد أن يبتلي عباده، الكلام هذا الآن مهم جدًا في خضم هذه الفتن التي يتعرض لها المسلمون، هنالك اليوم ملايين من المسلمين يتعرضون للأذى؛ من قصف، وقتل، وحصار، وتجويع، وتهديد، وتخويف، وأشياء كثيرة تجري عليهم من جراح وحبس وأمراض وأعراض نتيجة ما يمارسه عليهم أهل الجبروت والطغيان، ففهم موضوع أو سنة الابتلاء والتمحيص الآن في غمرة البلاء النازل في عدد من الشعوب الإسلامية هذا في غاية الأهمية، فهم سنة الله -تعالى- فيما يجري؛ لأن الناس يسمعون الأخبار، لكن كثير منهم لا يدركون لماذا يحدث هذا، في بلاء يصب على شعوب الآن، طيب لماذا؟
والله أنكر على من ظن أنه مستثنى من الابتلاء: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة: 214]، فهذه سنته الجارية في عباده قديمًا وحديثًا.
الابتلاء سنة العقائد والدعوات
والابتلاء سنة العقائد والدعوات، ولابد من بلاء من أذى في الأموال والأنفس، ولابد من صبر وعزيمة ومجاهدة ومقاومة ومدافعة؛ لأن طريق الجنة يمر من هنا.
وقال مؤكدًا ثبات هذه السنة سنة الابتلاء: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2].
ومن ظن أنه مستثنى فهو واهم، فالطريق تعب فيه آدم، وتألم فيه نوح، ورمي في النار إبراهيم، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح بالسكين يحيى، وقاس الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود.
أهمية سنة الله في الابتلاء والتمحيص
ما هي أهمية هذه السنة؟
من رحمة الله -تعالى- أنه أخبرنا أن الدنيا دار بلاء: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ [البقرة: 155]، و لَتُبْلَوُنَّ [آل عمران: 186] وهذا فيه تحذير للعباد، وتنبيه للاستعداد، وأن يوطن الإنسان نفسه على الابتلاء.
وطن نفسك، لو وطنت نفسك وجاءك الابتلاء ستثبت غير الموقف تمامًا يختلف إذا فوجئت به بغير استعداد، والدنيا وضعت للابتلاء؛ لأن لَتُبْلَوُنَّ ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ما فيها مفر.
طبعت على كدر وأنت تريدها | صفوًا من الأقذاء والأقدار |
ومكلف الأيام ضد طباعها | متطلب في الماء جذوة نار |
والاستعداد الإيماني للبلاء قبل وقوعه مفيد جدًا، فالله قال: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 186] لتتوطن النفوس على مواجهة الابتلاء عند وقوعه، والصبر له عند حدوثه، فتخف المشقة والمؤونة ويهون الوقع جدًا، لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 186] أخبر الله العباد سلفًا أنه سيبتليهم كي يعدوا العدة بالصبر.
ومعرفة البلاء قبل حدوثه يورث ثباتًا بعد حدوثه، واستقامة على أوامر الشرع، بخلاف من يطيش عقله، وتزل قدمه، ورقة بن نوفل عرف النبي ﷺ سلفًا أنه سيؤذى في الدعوة قبل أن يؤذى، ولذلك قال له: "ليتني فيها جذعًا" يعني شابًا أستطيع أن أنصرك "ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك"، وكأن ورقة كان يحس بدنو أجله، فقال رسول الله ﷺ: أو مخرجي هم؟ يعني ستصل القضية أن يخرجوني من بلدي؟ قال: "نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي" [رواه البخاري: 6982].
وقيصر هرقل قال: "سألتك كيف قتالكم إياه" لأبي سفيان "فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لها العاقبة" [رواه البخاري: 2804].
فوائد دراسة سنة الله في الابتلاء والتمحيص
من جهة أخرى من فوائد الإعداد للنفس ومعرفة سنة الله بالابتلاء والتمحيص: منع النفس من الإصابة باليأس والإحباط والقنوط.
فإذا نظرنا حولنا سنرى شرًا مهيمنًا، وكفرًا مسيطرًا، وعدوًا متجبرًا، سلاح قوي، ولا شك أن لهم الجولة والسطوة، ولكن إذا علم المسلمون أن هذه طبيعة الدنيا الابتلاء، ومن الابتلاء أن تبتلى بعدو قاهر عنده سلاح وعتاد وقوة وانتقام وبطش وجبروت وظلم ووحشية واعتداء.
كذلك من فوائد دراسة موضوع سنة الله في الابتلاء والتمحيص والاختبار: عدم التسرع والاستعجال في تحصيل النتائج؛ أنه ما يمكن الوصول لمرحلة النصر أو التفوق على العدو بسرعة، ولذلك موقف الناس اليوم من الظلم الذي يحدث على بعض الشعوب الإسلامية كما يحدث مثلًا في الشام، بعضهم قال: إن شاء الله أربعين يوما، وبعضهم قال: العيد، ولما جاء العيد عيد الفطر، الأضحى، ما هو ضروري المسألة شفت قد تستمر سنتين ثلاثة قد ... ما ندري.
فدراسة موضوع سنة الله في الابتلاء والاختبار تجعل المسلمين لا يستعجلون في حصول النتائج المرجوة، واللا كل واحد يتمنى من قبله أن ينتهي سريعًا، أن ينتهي ما ينزل بالمسلمين هذا أن ينتهي سريعًا اليوم قبل غد لا شك؛ لأنه لا يسره بحال من الأحوال أن يرى دماء المسلمين تنزف، والأعراض تنتهك، والبيوت تدمر، ومواشيهم تقتل، وزروعهم تحرق، ونفوسهم تباد، وأسباب عيشهم وكسبهم تتعرض للدمار، من الذي يُسر بهذا؟ فكل مؤمن يتمنى أن يزول البلاء عن المسلمين اليوم قبل الغد، لكن لله حِكم، لله حِكم.
فمن تأمل ووطن نفسه على الصبر لا يتسرع ولا يستعجل في النتائج، ولو ما حصل هو يتمنى لكن مهما حصل فهو لا يزال ثابتًا على أمر الله، راض بقضاء الله، ساع في إزالة أو في رفع والتخفيف على الأقل من نتائج المكروه.
سنة الله -تعالى- في الابتلاء والاختبار ليست خاصة بالمؤمنين ولا الكفار، ولا الأبرار ولا الفجار تعم الجميع؛ يعني هذا يموت له، وهذا يموت له، وهذا يفقد، وهذا يفقد، وهذا يمرض، وهذا يمرض، وهذا يتألم، وهذا يتألم، فليست خاصة بجنس معين من البشر، أو بنوع معين من البشر، لأن الله قال: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ [الإنسان: 2]، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد: ٤]؛ فلا ينجو منه بر ولا فاجر؛ لكن المؤمن يستفيد أجرًا، وكفارات، وجنات تجري من تحتها الأنهار، والكافر لا يستفيد، كالبعير ربطه أهله عقلوه ثم أطلقوه، لا يدري لم عقلوه ولا لم أطلقوه، والكافر مبتلى قال الله تعالى: كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف: 163].
ألا ترى أن الكفار اليوم عندهم أزمات عظيمة في الديون، عندهم كوارث اقتصادية، عندهم انهيار بورصات، عندهم فقد قيمة عملات، عندهم تداعيات مخيفة، عندهم إفلاسات، عندهم بطالة، موجود، ما خص الله المؤمنين بالابتلاء، ولو صار ذلك لكان ربما خرج من الدين -والعياذ بالله- فئام عظيمة، قال: والله الكفر أريح، الكفر أريح، فمن رحمة الله ما خص المؤمنين بالابتلاء، البر والفاجر والمسلم والكافر، لكن هذا يستفيد، وهذا يرد إلى أسفل سافلين؛ لأنه لما يأتيه البلاء لا يصبر ينتحر، ينهار ويكفر، لم فعلت وربما سب ربه.
لكن من سنة الله في المؤمنين أن الأشد إيمانًا أشد ابتلاء؛ كما قالﷺ: الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة .
إذن، الأمثل فالأمثل يعني: الأشرف فالأشرف، الأعلى فالأعلى، الأتقى فالأتقى، وهكذا في منازل الدين والفضل، والله ضاعف البلاء على الأنبياء، ولذلك قال ﷺ لما جاء أبو سعيد ووضع يده عليه وجد الحر من فوق اللحاف، قال: يا رسول الله ما أشدها عليك؟ قال: إنا كذلك يضعف لنا البلاء، ويضعف لنا الأجر .
والحكمة من ابتلاء الأنبياء أكثر من غيرهم أن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد، ولذلك العلماء والدعاة المخلصين الثابتين الراسخين في مقابلة ما أنعم الله عليهم في شغلهم بتعليم الناس ودعوتهم وهي مهمة الأنبياء ووظيفة الأنبياء وأسمى وظيفة في البشر، جعل لهم في مقابل هذا ابتلاء من كيد الكائدين وحسد الحاسدين وعدوان المعتدين، وإيذاء المؤذين، ليستوجبوا كمال كرامة الله لهم، أولًا، وليتسلى بهم من بعدهم ومعهم، ثانيًا.
ومعنى ليتسلى يعني: يحصل له التسلية وسلوان وتخفيف أحزان، وكي يزداد الذين يؤذونهم من الكفار إثمًا، فيستوجبون أخذ الله لهم وبطشه بهم؛ لأن بطش الله متى يأتي؟
إذا عظم الظلم، فأنت الآن ترى المجرمين الذين يعذبون المسلمين يعذبون شعوب المسلمين اليوم، ينتقلون من الإيذاء الحصار تعذيب هتك أعراض قتل سحل قصف البيوت طائرات غازات كيماوي، يعني عندما يتدرجون ويزدادون لماذا؟ ليعظم ظلمهم فيحصل أخذ الله لهم؛ لأن الأخذ يكون إذا وصلوا إلى مرحلة معينة أو درجة معينة من الظلم، حتى يصلوا لهذه الدرجة من الظلم الله يملي لهم، فيزدادوا إثمًا فيحصل الأخذ، هذا من حكم ازدياد الجرائم اليوم، لما ترى أنه مثلًا قتلوا عشرين ثم قتلوا مائة ثم قتلوا ألفًا ثم ألفين ثم خمسة ثم عشرة ثم عشرين، ثم يمكن يقتلوا مائة ألف، خلاص إذا وصلوا إلى مرحلة من الظلم والعدوان والقتل والبغي ينزل أخذ الله وعذابه بهم.
فلله سبحانه من الحكم في ابتلاء عباده ورسله وللمؤمنين ما تتقاصر عقول العالم عن إدراكه، وهل وصل من وصل من الأنبياء أصحاب المقامات المحمودة العالية الرفيعة إلى ما وصلوا إليه إلا على جسر المحنة والابتلاء؟
كذا المعالي إذا ما رمت تدركها | فاعبر إليها على جسر من التعب |
أقسام الابتلاء ومراتبه
ومن سنة الله في الابتلاء: أن يكون بالشر وبالخير أيضًا؛ كما قال سبحانه: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35].
فالابتلاء بأمرين: أحدهما سماه: خيرًا، وهو نعم الله الدنيوية من الصحة والمال والبنين واللذة والسرور والتمكين.
والثانية: ما سماه: شرًا، وهي المضار الدنيوية من فقد الحبيب، ومرض البدن، والألم، وكيد العدو، والإيذاء، وخسارة المال، وهكذا..، فهذا القسم بلاء.
بلاء الشر والشدة نوعان: بلاء قدري كوني؛ كأن يقدر الله على عبد من عباده جوعًا أو فقرًا أو خوفًا أو مرضًا أو فقدان حبيب.
وهذا النوع من البلاء المذكور في قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155].
وفي قول الله : وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر: 16] يعني ضيق.
ومنه ابتلاء بعض الشعوب بالفراعنة والطواغيت: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة: 49]، فهذا نوع من الابتلاء.
النوع الثاني: الابتلاء بالتكاليف الشرعية، وهي الأمانة المذكورة في قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ [الأحزاب: 72].
هذه أمانة التكاليف الشرعية من التزام الأوامر وطاعة الله فيها، واجتناب المحرمات والتزام عدم غشيان المنهيات، فهذا ابتلاء، ألا ترى أن الحج فيه مشاق وابتلى الله به عباده، وبعض الناس يؤخر الحج وبعضهم لا يحج يقول أخاف من الأمراض في الحج، ما أتحمل الزحام، فيه مشقة وشدة، فابتلاهم الله بالابتلاء ابتلاهم الله بالتكاليف لينظر، ابتلى الله المسلمين بالجهاد بالأمر به؛ وفيه فقد، وجرح، وخسارة مال، وخوف، ومفارقة أهل، وهجر أوطان وأحبة، وكذلك ابتلاهم بالصلاة وفيها القيام للفجر من لذيذ الكرى والنوم، والزكاة وفيها التخلي عن شيء من المحبوب، وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: 20]، وكذلك ابتلى الأنبياء بتبليغ الرسالة، والدعاة من بعدهم بتبليغ الحق، وأهل العلم ببيانه وعدم كتمه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67].
والناس فيهم معاندون يؤذون، ولذلك لبّس الشيطان على بعض الذين ينتسبون للإسلام لينزعوا شوكة الابتلاء بزعمهم، كيف؟
نحن نعرف أن المراتب أربعة:
أولًا: تعلم دين الله.
ثانيًا: العمل به.
ثالثًا: الدعوة إليه.
رابعًا: الصبر على الأذى في سبيله.
لماذا يحدث أذى؟
التعلم، العمل، الدعوة، الصبر على الأذى؛ لماذا يحدث أذى؟
تعلم دين الله، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى في سبيله، لماذا يحدث أذى؟
بسبب الدعوة، لأنك تدعو إلى شيء يخالف هوى بعض الناس، فتأمرهم بمعروف لا يريدونه، وتنهاهم عن منكر يشتهونه؛ فيؤذونك، يقولون: خلنا وهوانا، ما لك دخل، عليك نفسك.
هذا الأذى على الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى صبر، فلبس الشيطان على بعض الذين ينتسبون للإسلام ممن يسمون اليوم بالعصرانيين والتنوريين، كيف؟
قال لهم: تعلموا دين الله، واعملوا به؛ لكن شوفوا الأشياء التي تجي بمشاكل اتركوها، خلاص لا تقول للكافر كافر؛ لأنه سيقول لك لماذا تكفرني؟ لا تقول للنصراني: كافر، لا ترد على النصراني، لا ترد على المبتدع، لا تقل لواحد ينظر للنساء: لا تنظر، لا تقاوم شهوات الناس، كل من يريد شيئًا اتركه على حاله، وادع إلى شيء لا ينكر أحد عليك فيه، ولا يؤذيك، ادع للنظافة، المحافظة على البيئة، الأمانة في العمل، الصدق، ادع وخلاص كذا يصير الإسلام والسلام، وهذا الذي ابتلي به اليوم بعض من نجحوا في الانتخابات فقالوا: لن نقيد السياحة، ما معنى لن نقيد السياحة؟ يعني: لن نمنع الخمور ولا الملاهي الليلية ولا أندية الرقص والتعري، ولن نلزم الناس بلباس معين على الشواطئ، مايوه مايوه، طويل قصير، لن نلزم النساء بالحجاب، لن.. لن، لماذا؟
لأن الشيطان استحوذ عليهم هنا، قال له:م شوفوا إسلام كذا رشيق خفيف لطيف، أنت يعني تدعو إليه بدون أذى، لن تؤذى؛ لأن ما في مصادمة لأهواء أصحاب الشهوات، هذا الذي يسمونه اليوم: الإسلام العصراني والتنويري، فأصحابه كيف يتعاملون مع الناس؟ ما في شيء اسمه إنكار منكر، حتى لو يعني نظرت لما يقولونه من الكلام ومن الرسائل: صباحكم عسل، صباحكم فل، صباحكم قشطة، مساءكم قرنفل، ما أدري إيش كذا يعني، ما عندهم شيء اسمه مثلًا: الربا خطير، ويمحق الله الربا، العلاقات المحرمة؛ لأنهم سيصطدمون مع أصحاب العلاقات المحرمة، وسيصطدمون مع أصحاب الربا، وسيصطدمون مع أصحاب النفوذ، فلذلك الشيطان حيد عدد من المسلمين إلى هذا الجانب، لماذا؟
ليقول لهم: سأجنبكم الابتلاء، شفتوا الابتلاء هذا الابتلاء بإيذاء المخالفين، خلاص لا تعلنوا المخالفة لهم، وهذه الحيلة الكبيرة التي انطلت على أعداد من المسلمين، فيقولون لك اليوم: ما نبغى إسلام فيه مشاكل، ما نبغى دين فيه تضحيات، ما عندنا استعداد نتحمل شتائم وسباب الناس، خلاص خلونا في حالنا، لا تقول: جاهد الكفار والمنافقين، واؤمر بالمعروف وانه عن المنكر، ما نطيق، وهذا الانحراف العظيم؛ لأن هذا ما هو؟ الدعوة إلى دين آخر غير دين الإسلام، فيه شيء من دين الإسلام، لكن ليس هو دين الإسلام، وليس هو الدين الذي بعث الله محمدًا ﷺ بتبليغه، وليس هو الدين الذي صبر من أجله نوح وإبراهيم وعيسى وموسى.
إذن، الله ابتلى الأنبياء والدعاة السائرين على منوالهم والعلماء المقتدين بهم ابتلاهم بالبلاغ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ [المائدة: 67].
وجاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم قال الله يعني لنبيه ﷺ هذا الحديث قدسي: إنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك [رواه مسلم: 2865] يعني لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بأمر الدعوة والرسالة والبلاغ، قمت أم لا، والجهاد لأجل ذلك، جاهدت أم لا؟ والصبر على الأذى والتحمل في سبيل ذلك، صبرت أم لا؟
وأبتلي بك من أرسلت إليهم؛ أطاعوك أم لا، آمنوا بك أم لا، عادوك آذوك، نافقوا، ليعذبهم.
ومن الابتلاء الشرعي التكليفي: وجوب الإمساك عن المنهيات، والعمل بالأوامر: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40-41]، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31].
ابتلى الله جنود طالوت بنهر: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة: 249].
وحكمة هذا الابتلاء أن يختار المطيع الذي يرجى بلاؤه في القتال، وثباته في النزال، ويبعد من ظهر عصيانه؛ لأنه إذا لم يصبر على شربة ماء كيف سيصبر على مواجهة السيوف والسنان والطعان؟
ابتلى الخليل بذبح ولده، والد مسن لم يرزق الولد إلا بعد هذه السنوات الطويلة على حين كبر، ثم يؤمر بذبحه: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ [الصافات: 106] كما قال الله.
لماذا سمي التكليف بلاء؟
لأنه فيه مشقة على البدن وعلى النفس.
القسم الثاني من أنواع الابتلاء: الابتلاء بالخير والسعة.
وهذا منه أيضًا قدري كوني؛ كتقدير الله أن يكون فلان غنيًّا، يموت أبوه ويرث منه ملايين الملايين، لم يتعب في شيء، أو يفتح الله عليه ويجعل رزقه سهلًا ميسورًا، وكذلك يؤتيه ذرية وأموال وبنين، ويجعل له جنات، ويجعل له أنهارًا.
إذًا، وبلوناهم بالحسنات والسيئات، اختبرناهم برخاء العيش وشدته، وسعة الرزق وضيقه: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال: 28] يعني: محنة من الله ليبلوكم؛ هل تقعون بسببهما في الخيانة، أو تتركون الاستجابة لله ورسوله بسببها، أو تلهون عن ذكره بسببها.
وكذلك يجوز أن يراد بالفتنة الألم والعذاب.
وكذلك يجوز أن يراد بالفتنة الإثم والعذاب، فإنهم سبب للوقوع فيها إذا كان العبد ما وقف عند حده وأطاع من حوله في معصية الله.
وفي ذلك الحكاية المشهورة: أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه بما أدرك، فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين أفقرت أفواه بنيك؟ يعني يا عمر بن عبد العزيز لو تركت المجال لأولادك ليصبحوا من أهل الثراء لصار ثراءهم فاحشًا لأنهم أولاد الخليفة، كان أخذوا من بيت المال بلا حساب، وحاباهم الناس بالمشاريع؛ لأنهم أولاد الخليفة، وشاركوهم، وأعطوهم، وهكذا يا عمر بن عبد العزيز، أفقرت أفواه بنيك من هذا المال وتركتهم فقراء، لا شيء لهم.
وكان عمر بن عبد العزيز في مرض موته، لأنه وضع له السم، بعض بني أمية ما صبروا عليه لما منعهم من الامتيازات، و... وضعوا له السم في الأخير ما تحملوا، دسوا له سمًا، هو في مرض الموت جاء بعض اللائمين، مع أن هذا يعني ليس موضع الكلام أبدًا، كلام سيئ، يعني عمر بن عبد العزيز على فراش الموت يأتي من يقول له: أفقرت أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم، وهو في مرض الموت يعني يزيده همًا وغمًا الآن على أنه وضع أولاده، فقال: أدخلوهم علي، فأدخلوهم وهم بضعة عشر ذكرًا ليس فيهم بالغ، يعني عمر بن عبد العزيز مات صغيرًا، يعني نسبيًّا في السن صغير لما مات، هو تولى شابًا وحكم سنتين ويعني وتوفي مسمومًا، فلما رآهم حوله ذرفت عيناه -رحمه الله- ثم قال: "والله يا بني ما منعتكم حقًا هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين إما صالح؛ فالله يتولى الصالحين، -ما أخاف عليه، لن يضيعه الله، والله سيرزق أوليائه- وإما غير صالح فلن أخلف له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني".
يقول الراوي: ولقد رأيت بعض ولده حمل على مائة في سبيل الله، يعني جهز مائة راحلة في سبيل الله، أعطاها لمن يغزوا عليها، قال الراوي: وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه، فأخذ كل واحد منهم ستمائة ألف دينار، الدينار أربع غرامات وربع من الذهب، ستمائة ألف في أربع وربع مليون وكم؟ هاه ستمائة في أربع وربع، مليون وأربعمائة هذه من غير الكسور يعني، تصور يعني، يعني كل واحد معه أكثر يعني اثنين ونص طن من الذهب، اثنين ونص طن من الذهب، الذهب الآن يعني، قال: وقد اقتسم تركته بنوه فأخذ كل واحد ستمائة ألف دينار، ولقد رأيت بعضهم يتكفف الناس بعد ذلك، جات بسهولة راحت بسرعة، وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في كل زمان ما فيه العظة.
وأما النوع الثاني من بلاء الخير والسعة: فشرعي تكليفي، كطلب المال من طريق الربا أو الميسر أو الغش، وهذا كطلب الصيد في وقت الإحرام حرام.
هذا النوع من البلاء المذكور في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [المائدة: 94] يعني سيأتيكم بشيء سهل الأخذ، لكن حرام، سهل الأخذ لكنه حرام.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ [المائدة: 94] يعني حتى ما يحتاج مطاردة وتعب بأيديكم ورماحكم، حتى ما تحتاج سهم بالرمح كذا تجيبه، لماذا؟ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة: 94] فالضعيف من الصيد وصغيره ترونه أمامكم، لو شئتم أخذتموه بأيديكم، مثل اليوم تيسير المكاسب بالربا على بعض الناس يضعون ملايين في البنوك، ما يعملون ولا شيء، ويأخذون عليها نسب يسمونها فوائد، ماذا عملوا؟ ولا شيء مجرد الإقراض، ولكن يأخذوا ضمانات ورهون حتى يستحصلوا المال لو عجز المقترض.
من هذا الباب ما ابتلي به بعض بني إسرائيل: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا [الأعراف: 163] ظاهرة على سطح الماء، ويوم لا يسبتون، يعني إذا ما كان يوم سبت لا تأتيهم، ومحرم عليهم العمل يوم السبت، محرم عليهم الصيد يوم السبت، فابتلاهم الله أنه في اليوم الذي يحرم عليهم الصيد فيه يأتي الصيد سهلًا موفورًا واضحًا على الماء، شرعًا، لما؟ قال: كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف: 163].
فإذًا، ابتلى الله الصحابة بصيد تناله أيديهم ورماحهم فهل كانوا مثل بني إسرائيل الذين احتالوا لأخذ الصيد؟ لا، تركوه لله، ولم يأخذوه.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام".
أيهما أشد بلاء الخير أم الشر؟
طيب أيهما أشد بلاء الخير أم الشر، وبلاء السعة أم الضيق؟
بلاء الخير والسراء أشد من بلاء الضيق والضراء، قال عبد الرحمن بن عوف: "ابتلينا مع رسول الله ﷺ بالضراء فصبرنا، ثم ابتلينا بالسراء بعدها فلم نصبر" [رواه الترمذي: 2464، وهو حديث حسن].
فكثيرون يصبرون على الشدة المرض الفقر الضعف، لكن إذا أنعم الله عليه مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ [يونس: 12]، كأن لم يصبه شيء من قبل، ويقولون: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا [الأعراف: 95].
فقليلون الذين يصبرون في حال السراء، وكذلك يصبر عدد من الناس على التهديد والوعيد ويحسون بالتحدي ويقاومون، لكن إذا جاءت الإغراءات والمتاع والثراء، فلا تجد إلا الاسترخاء وعدم المقاومة لهذا الابتلاء، يفقدون روح المقاومة.
المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر، تمنع من الفخر والخيلاء، تمنع من التكبر والتجبر، لكن فتنة السراء فيها، قيل: إن نمرود كان فقيرًا سقيمًا، لما آتاه الله الملك حاج إبراهيم في ربه.
قصة الأبرص والأقرع والأعمى، هؤلاء ثلاثة من بني إسرائيل أراد الله أن يبتليهم، فماذا حصل لهم؟ سقط اثنان، ونجح واحد، فإن الأبرص والأقرع لما آتاهما الله اللون الحسن والجلد الحسن والشعر الحسن والإبل والبقر، وذهبت العلة، وجاء المال، وذهبت الشدة، وجاء الرخاء؛ سقطا في الابتلاء، الابتلاء بالسراء، لكن الأعمى هو الذي وفقه الله ونجاه، ونجد في الحديث في أوله: فأراد الله أن يبتليهم ثلاثة من بني إسرائيل، ونجد في آخره: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رُضي عنك، وسُخط على صاحبيك [رواه البخاري: 3464، ومسلم: 2964].
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 55 - 56].
الابتلاء منه ما هو عقوبة ومنه ما هو اصطفاء
من سنة الله في الابتلاء: أن منه ما هو عقوبة، ومنه ما هو اصطفاء، فمن الابتلاء المصائب ما له سببان مباشران: الأول الذنوب والمعاصي التي يرتكبها الإنسان، فيبتليه الله على قبيل ومن وجه المجازاة، وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: 79] عقوبتك يا ابن آدم بذنبك: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير [الشورى: 30].
إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة؛ إذن، من البلاء ما ينزل عقوبة وانتقامًا.
طيب ومن البلاء ما ينزل رفعًا للدرجات، وتضعيفًا للحسنات، فيبتلي الله الصالحين ببلاءات يرفع بها درجاتهم.
إن العبد إذا سبقت له من الله المنزلة منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبره على ذلك، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله -تعالى-.
وفي كثير من الأحوال يشترك سببا الابتلاء ويجتمعان في حق الشخص الواحد، فمن ابتلاه الله بمصيبة بسبب ذنبه، فصبر وشكر، غفر له ورفع درجته وهذه حالة تقع، من الناس من عندهم ذنوب، الله يبتليهم بسبب الذنوب، لكن إذا ابتلوا صبروا، تغيرت أحوالهم، فالله يكفر عنهم ذنوبهم ويصطفيهم ويوفيهم أجورهم، كما أن من ابتلاه بالمصيبة ليبلغه المنزلة الرفيعة من الجنة يكفر عنه ذنوبه السالفة.
فإذن، كيف نفرق بين البلاء كعقوبة والبلاء كاصطفاء؟ كيف نفرق بين البلاء كعقوبة والبلاء كاصطفاء؟
حال المبتلى؛ فإن كان كافرًا فلا يمكن أن يكون هذا رفعًا لدرجاته ولا تضعيفًا لحسناته، وإنما هو عاجل عقاب في الدنيا، لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ [الرعد: 34].
طيب وإذا كان المبتلى مسلمًا عاصيًا مجاهرًا أو فاسقًا ظاهر الفسق، فيكون هذا الابتلاء في الغالب ما هو؟ ما هو؟
عقوبة أيضًا لكن هذا المسلم قد يتوب بسبب الابتلاء، وقد لا يتوب ويسخط على ربه، فيصير عليه عقاب من أول وعقاب من بعد، من قبل ومن بعد، وأما إذا كان المبتلى طائعًا صالحًا فيكون هذا الابتلاء ما هو؟ اصطفاء ورفعة في الدرجات ومضاعفة في الحسنات، وقد يكون الإنسان عنده دين أو عنده يعني أعمال صالحة فيبتلى فيخفق في مقابل الفاسق الذي ابتلي فأدبه الابتلاء وتاب، يوجد في المقابل ناس ظاهرهم الخير والصلاح إذا ابتلي خلاص سقط، سخط على الله، وقال: عندي أولاد ما أخشى عليهم إلا منه -والعياذ بالله- خلاص، إذا ابتلي قال: ما يبقي لنا أحدًا خلاص، هنا سخط على ربه، ووقع في ربه -والعياذ بالله-.
إذًا، حكمة الابتلاء: رفع المقامات، وتبليغ العبد المنزلة التي له عند الله، والتطهير، وكفارة الذنوب، ودفع الناس للتوبة من ربهم.
وفي الابتلاء سياط يؤدب الله بها بعض عباده، وقد يفتح الله باب توبة أو خير على العبد بالابتلاء، ومعرفة عز الربوبية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15].
وأيضًا يعرف العباد ذل العبودية، وأيضًا فإنه يذكرهم به بالنعمة عليهم في الأوقات التي كانت سراء.
ومن فوائد الابتلاء: أن الناس تشتاق إلى الجنة، يقولون: نريد مكان ما فيه ما في، يقال: ما في إلا في الجنة، وتتمحص النفوس، وتتميز الصفوف، ويظهر النفاق، ويظهر الإيمان، ويظهر الشكر لله في السراء.
وكذلك فإن الذنوب تكفر والرحمة لأهل البلاء، ويجعل الله بالابتلاء شهداء.
في شهداء الآن يحدث، الآن يحدث في البلاد التي تبتلى شهداء، إي شهداء، وتكفير سيئات، ورفع درجات، وتعظيم حسنات، وتربية للعباد، وإيصال الكفار إلى مرحلة الأخذ، لو قال واحد: وهذا الذي يحدث الآن في البلاد ما هذا؟ من أي باب الآن؟ الابتلاء ما فائدته؟
نقول: إن يعقب الله المسلمين تمكينًا ونصرًا وأخذًا للظلمة، يبلغوا درجة الأخذ.
ونحن وإن كنا لا نتمنى البلاء، ونسأل الله العافية، لكن إذا حصل ماذا يجب علينا؟
أن نصبر، وأن نعرف حقيقة الدنيا: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة: 216].
ونتذكر حديث الصبغة: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة يصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا يا رب [رواه مسلم: 2807].
إذن، الجنة والنار تنسيان كل رخاء في الدنيا أو بلاء.
نسأل الله –تعالى- العفو والعافية، وأن يجعل مثوانا جنة المأوى، وأن يرزقنا الشكر في النعماء، والصبر في البلاء، إنه سميع مجيب.
وصلى الله على نبينا محمد.