الخميس 20 جمادى الأولى 1446 هـ :: 21 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

01- الأربعون القلبية 1، شرح حديث (ألا وهو القلبُ)


عناصر المادة
نص الحديث
شرح الحديث
المقصود بقوله: إن الحلال بين، وإن الحرام بين
المقصود بقوله: لا يعلمهن كثير من الناس
المقصود بقوله: فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه
المقصود بقوله: ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام
المقصود بقوله: ألا وإن في الجسد مضغة
بعض فوائد الحديث

نص الحديث

00:00:01

الحديث الأول:
حديث النبي ﷺ: إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب[رواه البخاري: 52، ومسلم: 4178، واللفظ لمسلم].

شرح الحديث

00:00:42

مكانة الحديث:
هذا الحديث له مكانة عظيمة عند العلماء، وقد جعله الإمام النووي -رحمه الله- في أربعينه في أصول وقواعد الدين.
وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام؛ لأنه ﷺ نبه فيه على صلاح المطعم والمشرب والملبس، وغيرها، وعلى أنه ينبغي أن يحافظ الإنسان على ذلك، وأن يخلص ويتخلص من الشبهات ليحمي دينه وعرضه، وحذر من مواقعة الشبهات، وأوضح ذلك بضرب المثل العظيم.
ثم بين أهمية مراعاة القلب الذي بصلاحه تنصلح سائر الأمور، وبفساده تفسد جميعها.
وقد جعل الإمام الشافعي-رحمه الله- من فقهه هذا الحديث نصف العلم، حيث قال: "يدخل فيه نصف العلم".
لماذا جعل الإمام الشافعي -رحمه الله- هذا الحديث نصف العلم؟
وجه ما قاله رحمه الله كما ذكر القسطلاني في "إرشاد الساري" قال: "الدين ظاهر وباطن، النية متعلقة بالباطن، أعمال القلوب متعلقة بالباطن، والعمل" يعني أعمال الجوارح متعلقة بالظاهر، فالنية عبودية القلب، والعمل عبودية الجوارح" [إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري: 1/ 56].
وقال ابن الملقن -رحمه الله-: "هذا الحديث حديث عظيم جليل حفيل، وهو أحد قواعد الإسلام، بل هو مدارها وأسها، وإن جعله بعضهم ثلثها، وبعضهم ربعها، فإنه متضمن لأحكام الشريعة، لذكر الحلال والحرام والمشتبهات، وما يصلح القلوب وما يفسدها، وتعلق أعمال الجوارح بها، فيستلزم معرفة تفاصيل الأحكام كلها أصلاً وفرعًا" [ينظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح: 3/195].

يعني: حتى تطبق هذا الحديث لازم تعرف تفاصيل الأحكام، وكيف تعرف أن هذا مشتبه وأن هذا غير مشتبه، وهذا بين، كيف تعرف أن هذا حلال بين؟ وهذا حرام بين؟ وتقع أمور مشتبهات بعد ذلك؟
ما تستطيع تطبقه حتى تعرف التفاصيل.
وقال الإمام الشوكاني -رحمه الله-: "واعلم أن العلماء قد عظموا أمر هذا الحديث، فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام، كما نقل عن أبي داود -رحمه الله- وغيره" [نيل الأوطار، للشوكاني: 5/269].
وقد جمعها -يعني الأحاديث الأربعة التي تدور عليها الأحكام-:

عُمْدَةُ الدِّينِ عِنْدَنَا كَلِمَاتٌ مُسْنَدَاتْ منْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّة
اترُكِ الْمُشْبَهَاتِ وَازْهَدْ وَدَعْ مَا لَيْسَ يَعْنِيكَ وَاعْمَلَنَّ بِنِيَّة

[فتح الباري: 1/129].

المقصود بقوله: إن الحلال بين، وإن الحرام بين

00:03:29

قوله ﷺ: إن الحلال بين، وإن الحرام بين يعني الأمور التي حكمها الحل ظاهرة بحكمها في ذاتها ووصفها بالأدلة الشرعية الواردة فيها.
فالحلال البين كثير -والحمد لله-، أنواع المطعومات، الخبز والعسل والفاكهة ولحوم بهيمة الأنعام، وكذلك المشروبات، وكذلك الأنكحة الزواج، وملك اليمين حسبما بينت الشريعة، البيوع بأنواعها.
الحرام بين كالسرقة والزنا والخمر والرشوة والميتة ونكاح المحارم والسحر وقذف المحصنات، والأمثلة كثيرة.
وبينهما أمور مشتبهات لا يعلم كثير من الناس هل هي حلال أم حرام؟
فيشتبه عليهم الحكم فيها، هذه المشتبهات بالنسبة لكثير من الناس، لكن بالنسبة للعلماء ليست كذلك.
وفي هذا دليل واضح على كمال الدين، ووضوح الحلال والحرام لمن أراد الاستقامة، فما قبض رسول الله ﷺ حتى أكمل الله له الدين، وأتم عليه النعمة، وقد أنزل عليه الآية العظيمة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3].
وقال ﷺ في بيان الوضوح في الدين: تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي الا هالك[رواه أحمد: 17182، وابن ماجه: 43، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 41].
وقال أبو ذر: "لقد تركنا محمد ﷺ وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علما" [رواه أحمد: 21399، وهو حديث صحيح].
إذًا هذا فيه رد على من يقول: يا أخي ضيعوتنا؟! كل شيء فيه خلاف؟! ما عاد ندري الدين إيشلون؟!
هذه مشاغبات بعض الجهلة، هذه يعني يصلح من كلام بعض أعداء الإسلام يروجه بعض المساكين، يعني: لكي يخرج الناس بنتيجة أنه يعني الدين هذا ما هو واضح، والدين هذا فيه مشاكل، وكيف نتبعه؟ وكيف واحد يتبع بدين كهذا؟ الذي صدر عنه الكلام واضح أنه من أعداء الدين، لكن الناقل له قد يكون مسكينًا مغفلاً؛ لأن قوله: الحلال بين، والحرام بين، يعني: على الأقل لو كان واحد عامياً، فعنده مساحة واضحة في الدين، في عندك حلال بين، ما أنت ما يخفى عليك من الخبز والعسل والفواكه، يخفى عليك أن الخمر والزنا والسرقة حرام.

صحيح في مشتبهات العامي بحكم أنه عامي ما عنده تبحر في الدين، ستخفى عليه شيء طبيعي، لكن الدين من حيث هو فيه حلال بين، وحرام بين، وفي مشتبهات عند العامة، قوله ﷺ: لا يعلمهن كثير من الناس. يعني: في قليل يعلمونها، وهذه فائدة أن يطلب الإنسان العلم، ولذلك لو واحد طلب العلم: ما الذي سيحدث عنده؟ تنقص مساحة الشبهات عنده تدريجياً، تبدأ تقل.. تقل؛ لأنها تنجلي له أن هذا حلال بين، هذا من الحرام، هذا من الحلال، هذا من الحرام، ممكن يبقى عنده شيء بحسب العلم، بحسب علمه، يبقى عنده نسب في الشبهات غير واضحة، وقد يضطره هو إلى تقليد غيره، ولذلك ما يسلم العالم نفسه من تقليد، بعض الأحيان يقلد غيره، ونلاحظ أنه ما ينجلي لعالم قد لا ينجلي لعالم آخر أيضاً.

المقصود بقوله: لا يعلمهن كثير من الناس

00:07:22

قوله: لا يعلمهن كثير من الناس يعني: لا يعلمهنحكمهن من حيث التحليل والتحريم، كما ذكر[ابن دقيق العيد في شرح الأربعين النووية، ص: 26].
ويدل على هذا المعنى رواية للترمذي جاءت بلفظ: لا يدري كثير من الناس أمن الحلال، هي أم من الحرام [الترمذي:1205، وأحمد: 18394، وصححه الألباني في غاية المرام: 20].
ومفهوم قوله: كثير أن معرفة حكمها ممكن لكن للقليل من الناس، وهم أهل الاجتهاد، فالشبهات في حق غيرهم، وقد تقع لهم حيث لا يظهر ترجيح أحد الدليلين -كما قلنا- إن العالم أحيانًا لا يخلو من تقليد.
ولكن لو أخذت المسائل عند العالم، أسئلة أكثرها فيها إجابات، وقليل يقول: لا أدري، بعكس العامي.
ويستفاد من ذلك: أنه لا يمكن أن يكون في الشريعة مسألة لا يعرفها ولا واحد من المسلمين في العالم في أي زمان أو في أي مكان، ما يمكن يوجد مسألة في الدنيا خفيت على كل الأمة من أولهم إلى آخرهم، ما يمكن، في خفاء نسبي، خفي على بعضهم ووضح للآخر، والعكس، العالم نفسه قد يعلم شيئًا ولا يعلمه عالم آخر.
ومسألة أخرى يعلمها الأول ولا يعلمها الثاني، بالعكس أيضاً.

ويستفاد هذا من المفهوم من مفهوم قوله في الحديث: لا يعلمهن كثير من الناس، يعني في قليل يعلمونها، فما في شيء اسمه مسألة خفيت على كل الأمة، ما في، حتى لو تقول: الآن هذه نوازل في الأشياء المالية والاقتصادية؟ نقول: لا بدّ أن يكون في الأمة من يعرف حكمها، لكن من الذي يتوصل إليه؟
إليه يعني الحكم من العالم، والعالم من العامي، يعني: من الذي يتوصل إليه، يعني: من من العلماء يتوصل إلى الحكم؟ ومن الذي يتوصل إليه، يعني: العامي الذي يتوصل إلى العالم الذي يعرف معناها، حكمها.

المقصود بقوله: فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه

00:09:44

قوله: فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضهيعني جعل بينه وبين الوقوع في هذا وقاية، ابتعد عنها، تركها لله، من فعل ذلك استبرأ لدينه وعرضه، برأ دينه من النقص، وبرأ عرضه من الطعن فيه، وأن يتكلم الناس فيه؛ لأن من لا يترك الشبهات يعني يقع فيها، لا يسلم من أن يتكلم فيه، وفي هذا دليل على أهمية أن يسعى الإنسان لسلامة عرضه، وأن عبارة بعض الناس لما يقول: أنا ما يهمني كلام الناس سأفعل ما أشاء! ولا يهمني كلام أحد! أنه غير صحيح، النبي ﷺ اهتم أن يسلم عرضه، لما قال: على رسلكما إنها صفية [رواه البخاري: 3281، ومسلم: 5808]ما قال: أنا ما يهمني! خل الناس يتكلموا! خلهم!
لماذا؟
المسلم مطالب أن يكون عرضه سليمًا، وسمعته حسنة.
لماذا الواحد يفتح المجال للطعن في نفسه، ويتكلم عليه الناس؟ لماذا؟!
فتوقي كلام الناس في القدح في نفس الإنسان أمر مطلوب، ولكن لما يثبت الإنسان على الحق، فيتكلم فيه من يتكلم لثباته على الحق، هنا يقول: لا يهمني كلام الناس، خلاص، أنا خلاص الحق استبان لي وأنا ثابت عليه، ولا يهمني، لا تأخذني في الله لومة لائم، فليقولوا ما يقولوا، هذا يقال عمن؟
عن رجل قام بالحق، فتكلم بعض الناس فيه، سفهاء، جهال، أعداء للدين.

المقصود بقوله: ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام

00:11:37

ثم قال ﷺ: ومن وقع في الشبهات وقع في الحراميعني: الذي يتجرأ على الشبهات، ويقتحمها، سيصل به الحال إلى الوقوع في الحرام الواضح؛ لأن هذا الحاجز النفسي بين الإنسان وبين الحرام سيرق لكثرة اختراق الشبهات، ويرق.. ويرق إلى أن يتلاشى، واعتياد ما حكمه الكراهة سيؤدي إلى الوقوع في الحرام، هذا النص وهو مشاهد في الواقع، أن من كثر خرقه للشبهات يقع في الحرام الواضح بعد ذلك، لماذا؟.
لأن هذا يجرؤه شيئًا فشيئًا، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم خلاص كان تركه للحرام الواضح أولى.
المقصود بقوله: وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه
ثم ضرب ﷺ مثلاً لمن يقترب من الشبهات، قال: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه.
ما هو الحمى؟
المكان المحظور، وقد درجت عادة ملوك العرب: أن يتخذوا حمى لدوابهم وأنفسهم، محظورا ما أحد يدخله إلا هو، أهله، من معه من -مثلاً- حاشيته.
وإن حمى الله ملك الملوك هل له حمى؟ يعني معروف لكل ملك حمى بحسب الحديث، هذه العادة، يختصون أنفسهم بأشياء.
وملك الملوك هل له حمى؟
قال: ألا وإن حمى الله محارمه لفتة عظيمة، وهو يخاطب العرب، والعرب يعرفون هذا من عادات أسيادهم: ألا إن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه شف هذا يعني إشارة بديعة جداً يعني ضرب مثل في إيقاع المقصود في النفس، وفي توضيح هذا المفهوم للناس، وقد علم أن الملوك إذا حموا مكانًا عاقبوا من اخترقه، ولذلك من اقتحم حمى ملك الملوك سيعاقبه.

هذا الوجه ألا إن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمهحصول العقاب بعدم الاحتراز.
ومن وقع في الشبهات اقترب من الوقوع في الحرام، ولذلك كانت النصيحة: اترك بينك وبين الحرام سترة من الحلال، هذه السترة توقي، قال سفيان بن عيينة: "لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه"[الورع، للإمام أحمد، ص: 50].
فهذا الحديث إذًا أصلاً في الورع.
هذا الحديث فيه ضرب الأمثال وتوضيح المعاني الشرعية.
هذا الحديث فيه التمثيل بالمعلوم لتوضيح المجهول أو ما خفي، أو ما لم يعرف من قبل.

المقصود بقوله: ألا وإن في الجسد مضغة

00:14:50

وقال ﷺ بعد ذلك -وهذا هو الشاهد-: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.
قوله: مضغة يعني قطعة من اللحم، قدر ما يمضغ، ما هي المضغة؟
القطعة بقدر ما يمضغه الإنسان، لأنه ما يستطيع الواحد أن يمضغ قطعة كبيرة، القطعة على قدر المضغ تسمى: مضغة، تمضغ في الفم لصغرها.
المقصود ما هو؟
تصغير القلب بالنسبة لبقية الجسد، يعني: حتى لو واحد قال: لكن هذا القلب ما هو مضغة؟ أنا دخلته ما يدخل؟
نقول: المقصود ما هو؟
المقصود تمثيل، تقريب، يعني تصغير القلب بالنسبة لبقية الجسد، يعني شف الرأس كم؟ شف اليد كم؟ شف الرجل الفخذ البطن الظهر، القلب مضغة بالنسبة لهذه، ولكن مع صغرها عليها مدار الصلاح والفساد لكل الأعضاء الكبيرة.
وسمي القلب: قلبا، لتقلبه في الأمور، وخالص كل شيء قلبه في اللغة، قلب الشيء خالصه، خالص ما فيه، خلاصة ما فيه.
وقيل: لأنه وضعه في الجسد مقلوبًا.
قال أحد الشعراء:

قد سمي القلب قلبًا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل

احذر أن يقلب قلبك أو يحوله، يعني: إذا حوله خلاص ما يدخل فيه الإيمان، هذا القلب بالنسبة للأعضاء كالملك في الرعية، وهو أول عضو يتحرك في البدن، وآخر عضو يسكن منه، سبحان الله العظيم، الجنين أول ما تهتدي إليه الآلات، أشعة الكشف الصوتي، الكشف هذا ألتراسوند، سوينا كشف على الجنين، سوينا، تصوير، يقول: ورونا النبض؟
فأول ما يتحرك من الجنين القلب، وآخر ما يسكن من الإنسان عند الموت القلب، يطلع الخط البياني في الشاشة مستقيم، خلاص، يقول: القلب خلاص، وقف، فأول ما ينبض من الجسد، أول ما يتحرك منه القلب، وآخر ما يسكن فيه القلب، مبدأ جميع الخلق وما يلحقهم من صلاح أو فساد يتأدى منه ويسري إلى غيره من الأعضاء.
القلب الملك المستعمل لجميع آلات البدن، والمستخدم لها، أشرف الأعضاء على الإطلاق، وجميع أعضاء البدن وأجزائه وأبعاضه جنود تابعة لهذا القلب، فالعين طليعته ورائده، واللسان ترجمانه، المسمع عنه.
وكثيرًا ما يقرن الله بين هذه الثلاث: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً[الإسراء: 36].
وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً[الأحقاف: 26].
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [الأنعام: 110].
اللسان ترجمانه المؤدي للسمع، والعين طليعته ورائده، والأذن رسوله المؤدي إليه؛ لأن هذا يدخل منه الصوت الذي يروح أثره للقلب، والقلب يرسل العين فتستطلع له، ثم تعود إليه بالصور، واللسان يترجم عنه، ويعبر عما فيه، هذه مغارف هذه، هذا مغراف هذا.
فبالجملة سائر الأعضاء جنوده، ولهذا خصه بالذكر، ليبين أن المدار في صلاحها وفسادها على صلاحه وفساده.

وهذا الحديث فيه دعوى لتربية القلب على السلامة من الآفات، وعمرانه بذكر الله، عمره بما يصلحه، ونقه، وامنع عنه ما يفسده، هذا الشغل يعني لو واحد قال: أنا سأشتغل على قلبي، ادخل فيه ما يصلحه، وأخرج منه ما يفسده، أمنع عنه ما يفسده، هذا سيأخذ كل العمر، لو واحد فقط اشتغل -مثلا- يقول: أنا بأشتغل على أنه ما يدخل قلبي حسد لمسلم، نعرف هذا كم سيأخذ من المجهود؟ يعني حتى ما يدخل فيه حسد لمسلم شيء عظيم، ولذلك يعني: الحديث يلفت نظرنا إلى العناية بالقلب أكثر من أعمال الجوارح، يعني الآن نحن لما يقول: صلوا كما رأيتموني أصلي[رواه البخاري: 631].
نحن نجتهد نقول في الصلاة -مثلاً-: ارفع يديك، اجعل الكفين إلى القبلة، الأصابع تكون ممدودة، ضع اليدين اليمنى على اليسرى، افعل كذا، الركوع خل ظهرك مستقيما، لا ينحني تحت ولا فوق، خل الظهر مستو، ألقم ركبتيك كفيك، ألقمهما، اعتمد عليها، ادعم كذا، شد ظهرك، هصر ظهره إذا ركعت، ارفع حتى تطمئن، افعل واسجد، كل هذا الكلام كله في حركات الأعضاء، ارفع السبابة، اعمل، اعمل.

يعني: بعض الناس ينصرف اهتمامه في الصلاة إلى هذا، وهذا جيد: صلوا كما رأيتموني أصلي، ويسألون: الركبتين قبل وإلا اليدين في السجود؟! كيف نسلم؟ أبدأ أقول: السلام عليكم ورحمة الله، وإلا أقول: السلام عليكم؟ أبدأ بالكلام ثم الحركة، وإلا الحركة مع الكلام؟ وإلا أبدأ بالسلام متجها للقبلة ثم أتحرك، وإلا أتحرك؟
تدقيقات الناس في حركات الجوارح، هذا طيب، نحن نفرح به، لكن المشكلة ليست هنا، المشكلة أن الشيء الأعظم الذي يجب أن يكون له الاهتمام الأعظم، ما هو مصروف له الاهتمام الأعظم، ليس خطأ أن نهتم بعمل الجوارح، هذا مطلوب، لكن الخطأ أنه ما نهتم للقلب أكثر، فهذا القلب الذي فيه الخشوع وهو روح الصلاة -مثلاً-، هذه أهم، يعني لو تقول: الخشوع وإلا نضبط الأصبع تتحرك يعني محنية مرفوعة تتحرك نثبتها؟ أهم من هذا هنا.
-طبعًا- في طائفة أخرى من الناس عندهم مشكلة انحراف، ينادون بإلغاء الاهتمام بهذا، يقولون: كلها مظاهر، ما عليكم منها، فيهونون من السنن، ويضيعون حديث: صلوا كما رأيتموني أصليبعض الصوفية عندم انحراف، يقولون: نحن فقط القلوب، ما لنا دخل بالجوارح، فيهونون.
والذي يسير على الطريقة النبوية يهتم بالقلب والجوارح، ولكن اهتمامه بالقلب أشد، هذه خلاصة المعتدلة الموزونة الصحيحة.

بعض فوائد الحديث

00:22:46

وانطلاقًا من هذا الحديث دعوى لتربية القلب على السلامة من الآفات، والعناية به أشد من العناية بعمل الجوارح؛ لأن عليه مدر الأعمال: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ۝ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات: 9 - 10].
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ۝ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ[الطارق: 8 - 9].
-طبعًا- الحديث فيه أن الأكل من الطيبات يجعل الإنسان أقدر على تمييز الحلال من الحرام، وعلى تجلية الشبهات، ولذلك اشترطوا في طلب العلم: أن يهتم بقضية المطعم الحلال والحرام، اجتناب الحرام، والأكل من الحلال.
الحديث واضح الربط فيه، وعلاقة هذا بالفقه، وعلاقة هذا ببيان الحلال وبيان الحرام، وتبين الشبهات.
ومن فوائده: أن فساد الظاهر دليل على فساد الباطن لقوله ﷺ: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كلهفساد الظاهر عنوان فساد الباطن، وإذا فسد الباطن الظاهر سيفسد ولا بدّ، والقلب المريض بالعجب والكبر والرياء خلاص، هذه تخترقه الشهوات والشبهات، ماذا ينفع فيه؟!
فنسأل الله أن يصلح قلوبنا.