السبت 22 جمادى الأولى 1446 هـ :: 23 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

49- ضوابط البدعة، والانحرافات في أبواب البدعة والتبديع 1


عناصر المادة
المقدمة
خطر الابتداع في الدين
هي أهمية الضوابط في باب البدعة
ضوابط في باب البدعة
الضابط الأول: تعريف البدعة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:

المقدمة

00:00:13

فقد تقدم في الدرس الماضي في ذكر ضوابط التكفير، وصور الغلو فيه، تقدم ذكر الأدلة على عدم تكفير من وقع في بعض أفعال الكفر بتأويل سائغ، وذكرنا أن كون التأويل مانعًا من التكفير فهذا لا يعني ترك المتأول يفسد بتأويله.
وتكلمنا عن المانع الرابع وهو الجهل، وذكرنا معناه والأدلة على أنه من موانع التكفير، وكلام العلماء في ذلك، وأن الجهل ليس عذرًا بإطلاق، وأنه ليس كل من يدعي الجهل يقبل منه، وما هي الحالات التي  يقبل فيها الجهل مانعًا من التكفير والتي لا يقبل فيها.
ثم ذكرنا خلاصات في هذا الموضوع، وتكلمنا عن ضابط آخر من الضوابط وهو أنه لا يحكم بكفر المسلم إلا بعد إقامة الحجة، وأن من فعل فعلاً من الأفعال التي يكفر فاعلها لا يحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة الرسالية التي من خالفها وأصر على مخالفتها كفر.
ثم تكلمنا عن بعض صور الغلو المعاصر في التكفير، ومنها التكفير بالمآل واللازم، وأنه لا يجوز تكفير أحد بلازم قوله ما لم يلتزمه، إذا قال: أنا ألتزم ما يلزم من قولي وأعتقد به، أما أن نقول: يلزم من قولك وبناء عليه تكفر فلا هذا لا يصح، وذكرنا مثال اعتقاد الأشاعرة في الله –تعالى-، وكيف أنهم يصفونه بصفات إذا جئت تطبقها ربما لا تنطبق إلا على العدم، ولكنهم لا يقصدون ذلك، لا يقصدون أن الله غير موجود، وبالتالي لا يجوز التكفير بلازم القول، وذكرنا بعض المفاسد التي تترتب على هذه الأفعال الباطلة،  كذلك ذكرنا صورة من صور الغلو في التكفير وهي تكفير من لم يكفر الشخص الذي يكفرونه، يعني: أهل الغلو.

وتكلمنا عن قضية التكفير بالتسلسل، وخطورة هذا، وأنه مثلاً: إذا كفر رئيسًا فتجده يكفر كل من تحته من الوزراء والجنود إلى الشعب كلهم كفار، وهذا خطير للغاية.
وتكلمنا على قاعدة: من لم يكفر الكافر فهو كافر، وما معناها، وأن الذي يكفر من كفره الله فهذا هو  الواجب، ومن امتنع عن تكفير من كفره الله فهو كافر، يعني: الله يقول: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة: 73] وهو يقول: النصارى مؤمنون، ولا أكفر لا نصراني ولا يهودي، والله كفرهم هذا كافر، لماذا لأنه معاند لله، وأصل هذا الموضوع وهو أن التنزيل على الأعيان يكون فيه الإشكالات.

خطر الابتداع في الدين

00:03:17

وسنتحدث اليوم عن موضوع جديد في الانحرافات المخالفة لمنهج السلف، وهو التبديع، التبديع المقصود بغير حق لأن هناك تبديع بحق وتبديع بباطل، هناك فعلا بدعة، وهناك فعلا مبتدعة، ولكن هناك من يطلق عليهم ظلمًا وعدوانًا أنهم مبتدعة، وليسوا مبتدعة كما أن هناك من يطلق على شيء معين أنه بدعة وهو ليس بدعة.
فلنبدأ الموضوع هذا من أوله: من أجل نعم الله –تعالى- على عباده المؤمنين إكمال الدين ،كما قال الله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة: 3]، وشريعة الإسلام كاملة تامة من جميع الوجوه لا نقص فيها، ولا تحتاج إلى من يكملها، وجميع ما يحتاجه المسلمون من العقائد، والأحكام، والآداب، والشرائع قد استوفته الشريعة ولله الحمد والمنة.
وقد أمرنا الله –تعالى- باتباع سنة نبيه ﷺ فقال: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[الحشر: 7].
وبين لنا ربنا أن النبي ﷺ هو القدوة الحسنة، فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21].
وقد حذرنا النبي ﷺ من الابتداع في الدين تحذيرًا بليغًا، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ قال: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد يعني مردود وباطل ولا يقبل منه، رواه البخاري [2697]، ومسلم [1718].
في رواية: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد رواه مسلم [1718].

وحثنا نبينا ﷺ على التمسك بسنته، فقال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة رواه أبو داود [4607]، والترمذي [2676]، وابن ماجه [46] وهو حديث صحيح [سلسلة الأحاديث الصحيحة: 2735].
ومن ابتدع بدعة في الدين وقال: هذه حسنة وجميلة وهي ليست من الدين فقد اتهم الدين بالنقصان؛ لأنه يرى بأن ما جاء به من البدعة مكمل لأنه حسن، وبما أنه حسن يعني الدين يقبله، وإذا كان الدين كاملاً فإن هذه الإضافات زائدة مرفوضة، هذا الأصل، ولا يمكن أن نهتدي إلى شيء لم يهتد إليه محمد ﷺ.
ولنأخذ مثالاً: ذكر من الأذكار يواظب عليه مثلاً: جمعة مباركة، بعض الناس كلما لقيته جمعة مباركة، أرسل رسالة جمعة مباركة، وتعودت الألسن عليها، وصارت من المحاسن، وهذه ليست قضية دنيوية، لو أن هذه مسألة دنيوية لقلنا: أمور الدنيا الباب فيها مفتوح، لكن هذه مرتبطة بيوم الجمعة الذي له مكانته في الإسلام، وأن هذا الشخص الذي يراك ويقول لك: جمعة مباركة يقصد التقرب إلى الله بهذا اللفظ المحدد، فمعنى ذلك: أنه قد أضيف إلى الدين ذكر جديد من الأذكار وهو جمعة مباركة، هذه ليست مثل تهنئة الناس لبعض المواليد، والثوب الجديد، والسيارة الجديدة، والوظيفة الجديدة، هذا طبيعي أن الناس يهنئ بعضهم بعضًا بالسيارة الجديدة، والثوب الجديد، والوظيفة الجديدة، هذه لا حرج فيها لأنها قضية دنيوية، وهذه عوايد بين الناس، أما أن يأتي واحد يستهدف عبادة كالجمعة بذكر مخترع ونص معين ويداوم عليه ويجعله شعارًا لهذا اليوم فهذه إضافة إلى الدين مرفوضة، وبدعة ولا يمكن قبولها ولا اعتمادها، وبالذات إذا صار عند الناس هذه من الأذكار يوم الجمعة، نقرأ سورة الكهف، ونقول: جمعة مباركة، وهكذا تنفتح على الناس أبواب البدع.

أصلًا البدع لا تنشأ إلا من الاستحسانات، كثير من الذين يردون في موضوع البدع إذا جئت تناقشهم يقول لك: كفرنا، لا ما كفرتهم بس ابتدعتم، وليس هذا أسلوب علمياً في النقاش، عندك دليل، عندك حجة ائتنا به، لا يوجد بدعة تظهر إلا باستحسان، إلا وقد راقت لصاحبها، أعجب بها، ولذلك  اخترعها واعتمدها ونشرها، ولو تأملت في كل البدع الموجودة هذه أوائلها ومبادئها الاستحسانات، لا يوجد أحد يبتدع بدعة قبيحة ويعتقد أنها قبيحة وأنها سيئة، كل الذين ابتدعوا بدعًا مثلاً: أضافوا صلوات إلى الدين ليست منه، وأذكاراً إلى الدين ليست منه، إنما ابتدعوها باستحسانهم.
نقول: إضافتك لها تعني أنك تعتقد صحتها، وجاهتها، حسنها، أجرها، فضلها، ومعنى ذلك أنك تعتقد أنك قد أتيت بشيء لم يهتد إليه محمد ﷺ ولا أصحابه، وما عرفوه وعرفته أنت، فقد أذن المؤذنون بين يديه ﷺ وما أضافوا الصلاة عليه في آخر الأذان، ولا أضافوا لفظ سيدنا فيه، ولا صلى بأذكار معينة.

فإذًا المبتدع إنسان يستحسن وأضاف، واعتقد الشرعية، واعتقد الفضل، وإلا لماذا يواظب عليها؟ ولماذا يأتي بها؟ ولماذا يحرص عليها؟ "من ابتدع في الدين بدعة يراها حسنة أو أحدث فيه ما ليس منه فقد زعم أن الدين ناقص يحتاج إلى إكمال"، هذا يقوله الشاطبي في الاعتصام [1/494].
فهو يرى بلسان حاله عدم كمال الدين والشريعة عياذًا بالله، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدًا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع، ولا استدرك عليها، تجدون من يزيد في الدين البدع وغير المشروع أنه ينقص في المشروع، لا تجده يخترع في غير المشروع هنا إلا وينقص هناك، وهناك باعث نفسي للابتداع: وهو لكل جديد لذة، فيقول لك: الصلوات هذه عرفنها سنن رواتب، وقيام الليل، وتحية المسجد، وصلاة الاستخارة، وسنة الوضوء، نريد شيئاً جديداً، الصلاة النارية، صلاة الرغائب، ليس عنده قناعة بالمشروع، كأنه عنده لا يكفي، ولذلك يحتاج إضافة، كل جديد له لذة لو كانت في الأطعمة في السيارات ممكن، لكن العبادات القديم هو المعتمد.

مثلاً: واحد أراد أن يساعدنا في عمل برنامج للمكتبة الإسلامية وأسماء الكتب، فقال: ما رأيكم ماهي الخانات التي نضيفها؟ قال: أقترح أن نضيف خانة آخر ما توصل إليه العلم في قيام الليل، وآخر ما توصل إليه العلم في صلاة الاستخارة، وآخر ما توصل إليه العلم في أذكار الصباح والمساء.
هذا ينطبق على قضية الطب والهندسة والفلك، فهناك ناس عندهم مشكلة في التصور، يظن أنه من باب تجديد الدين، وأنه لا يصلح الدين قديم ومستهلك، فجددوا واخترعوا، وإذا فُتح هذا الباب انتهى الدين، وصار لا يعرف، كل واحد يضيف من جهة، حذف وإضافة، زيادة تغيير، نقصان زيادة، تقديم تأخير، تغيير، ولذلك باب البدعة باب خطير جداً لأنه باب يستهوي، ولذلك تجد أن هذه الطرق البدعية ما اقتصرت على الذي اخترعها، مثلاً الطريقة التيجانية في البلد الإفريقي المعين في ثلاثين مليون تيجاني، هذا بلد واحد غير البلدان الأخرى، عندهم أذكار وصلوات، قال التيجاني: أنه خير من كل الأذكار، هو اخترعه.
إذًا لا يمكن أن ينفك المبتدع عن نفسية أن الدين فيه نقص وبدعته تكمل أو تحسن.
هذه البدع عملية تغييرية للدين في الحقيقة إحداث، ولذا كان إيقاع المسلم في الابتداع في الدين من أعظم مبتغيات إبليس بعد الكفر بالله والشرك به.

قال ابن القيم -رحمه الله- موضحًا عداوة الشيطان، وطرق إغوائه لبني آدم: "فإنه يريد أن يظفر به في عقبة من سبع عقبات، بعضها أصعب من بعض، لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها:
العقبة الأولى: عقبة الكفر بالله، وبدينه، ولقائه، وبصفات كماله، وبما أخبرت به رسله عنه، فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عدواته، واستراح" [مدارج السالكين: 1/237]. لما جاؤوا لبعض العلماء قالوا: إن بعض اليهود أو النصارى أو بعض المشركين يقولون: نحن نصلي بخشوع ولا يوسوس لنا الشيطان، فقال العالم: صدق -يعني: هذا الكافر.
قالوا: كيف يوسوس لنا نحن والنصراني لا يوسوس له في صلاته في الكنيسة؟
قال: "وما يفعل الشيطان في البيت الخرب" لماذا يتعب نفسه الشيطان ويوسوس لمشرك، الشيطان يريد بصرف وقته في الموحدين المسلمين لحرفهم، أما أولئك منحرفين أصلاً، "فإن اقتحم هذه العقبة، ونجا منها العبد ببصيرة الهداية، وسلم معه نور الإيمان.

وطلبه على العقبة الثانية:
وهي عقبة البدعة، إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها شيئًا، والبدعتان في الغالب متلازمتان" [مدارج السالكين: 1/237].
فإذًا إما اعتقاد خلاف الحق أو التعبد بما لم يأذن به الشرع، والبدعتان في الغالب متلازمتان:
فأما بدعة الاعتقاد مثلا يعتقد أنه مرتكب الكبيرة كافر، أو يعتقد أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، مهما زدت في الطاعات وارتكبت من معاصي الإيمان هو هو، هذه البدع العقائدية نوع.
والبدع العملية صلاة الرغائب، صلاة جديدة مخترعة في خمسة عشر شعبان، أول جمعة من رجب، هذه بدع عملية.
قال: "البدعتان في الغالب متلازمتان، قل أن تنفك إحداهما عن الأخرى، كما قال بعضهم: تزوج بدعة الأقوال ببدعة الأعمال، فاشتغل الزوجان بالعرس، فلم يفجأهم إلا وأولاد الزنا يعيشون في بلاد الإسلام، تضج منهم العباد والبلاد إلى الله –تعالى- وقال شيخنا -ابن تيمية-: تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة، فتولد بينهما خسران الدنيا والآخرة، هذه عبارة جميلة دعونا نحفظها، لا ينجو المسلم من عقبة البدعة إلا بالالتزام بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان" [مدارج السالكين: 1/237].

إذا نحتاج في موضوع البدعة إلى ضوابط حتى لا يصير كل شيء بدعة، وكل شيء حرام، كما يقول بعض الناس: أنتم كل شيء عندكم بدعة.
وفي نفس الوقت لا نفتح الباب بحيث يدخل المبتدعة بما معهم، وتقبل البضاعة الخاسرة، وتروج بين الناس، فلا بدّ من ضوابط.

هي أهمية الضوابط في باب البدعة

00:21:31

ما هي أهمية الضوابط في باب البدعة والتبديع؟
الحقيقة أن الأهمية تكمن في عدة أمور:
أولاً: أنه إذا لم توجد ضوابط ولم تعرف الضوابط ولم تضبط الضوابط سيحدث هناك خلط بين السنة والبدعة، وتلتبس الأحكام على الناس، وهذا قد يؤدي إلى ترك السنة اعتقاد أنها بدعة، أو الوقوع في البدعة اعتقادًا أنها سنة، أو التضييق في أمر وسعه الشرع، أو التوسيع في أمر لم يأذن به الله.
ثانيًا: أن عدم ضبط ضوابط البدعة يؤدي إلى البعد عن الوسطية، يؤدي إلى غلو فيقع الجاهل بهذه الضوابط إما في الإفراط أو التفريط، سواء في العبادات أو التعامل مع الناس، أو حتى في الحكم عليهم، غلوًا في العبادة، أو تجافيًا عنها خوفًا من الابتداع، أو تسرعًا في الحكم على الناس بالابتداع، أو إحداث في الدين، أو ترك السنة، ونحو ذلك. طبعًا هذا خطير، وخصوصًا في هذا الزمان أن بعض أعداء الدين أو من انخدع بأعداء الدين فتحوا باب خطير في تبديع أهل السنة، الأعداء يريدون تشويه صورة المتدينين، وأهل العلم، وأهل الدعوة، والمخلصين، والعاملين للإسلام، كيف يشوهوا سمعتهم، تخيل أن هناك يهودي ماكر، او نصراني خبيث، أو باطني حاقد يريد أن يسقط شخصية أحد من العاملين للإسلام في أذهان الناس، صورة من صور الحرب على الإسلام أن يكون من الوسائل والأساليب بأن نتهمهم في دينهم فنقول: عنهم مبتدعة، نرميهم بالبدعة، وهذا المدخل مدخل ديني ينخدع به الناس، ويظنون أنه فعلاً هؤلاء مبتدعة وليسوا بمبتدعة، فنكون قد شوهنا صورتهم، وأسقطناهم من أعين الناس، وحاصرناهم، وحذرنا منهم، وضيقنا عليهم، وأحدثنا لهم إحباطًا نفسيًا بهذه التهمة، ولذلك لا تجد غالبًا أن حرب المنافقين على الدعاة إلى الله وعلى طلبة العلم وعلى أهل العلم في باب التهمة بالفواحش، لكن تجدها في باب التهمه بالبدعة، هذا من الخوارج، هذا مبتدع، وهو برئ ليس من الخوارج، ولا من المبتدعة، هو رجل من أهل السنة من أهل العلم والدين والدعوة والإخلاص، فإذًا هذه طريقة خبيثة لمحاصرة وإسقاط وتشويه سمعة الدعاة إلى الله برميهم من باب الدين أنهم مبتدعة، لذلك موضوع ضوابط البدعة مهم في عدم الانخداع بخطة هؤلاء الخبثاء.

ضوابط في باب البدعة

00:25:31

فننتقل الآن إلى الضوابط:

الضابط الأول: تعريف البدعة

00:25:33

أولاً: تعريف البدعة: ما هو التعريف الذي يدخل فيه كل بدعة، ويخرج منه كل ما ليس ببدعة؟ إطار محدد نضبط فيه قضية البدعة. 
أما في اللغة: ابتداع الشي ء على غير مثال سابق، مثلاً: أول واحد اخترع قارورة بلاستيكية، كان القوارير كلها من زجاج، هذا اختراع على غير مثال سابق.
فإذًا في اللغة: ابتداع الشيء من غير مثال سابق، ولذلك الله بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 117] يعني: خلقهما على غير مثال سابق، لم يشابه بخلقه خلق أحد آخر، الله خلق الإنسان وآدم على غير مثال سابق، فآدم من جهة اللغة مبتدع، كذلك الملك والجن والجنة والنار، كل خلق الله تجد نوع نادر من السمك في البحر، نوع نادر من الطيور، الزواحف، وتأمل في أنظمة التكاثر، وأنظمة الحركة في المخلوقات.
والبشر يستفيدون من خلق الله، اليابانيون استفادوا بالأبحاث أن النحلة تأتي فتحط على الأزهار، فتمتص الرحيق ثم تطير إلى خلايا النحل وفي الطريق وجدوا أن عمليات تحويل هذا الرحيق إلى عسل تتم في الطيران، الشغل يبدأ من حين مص الرحيق، وهي تطير العمليات التحويلية شغالة، وتصل إلى هناك وتضخ العسل، استفادة من الوقت، فهم فكروا في قضية الاستان ستيل هذه ناقلات عملاقة، تروح إلى الأماكن التي فيها المادة الخام تأخذها، ونفس السفينة التي تشحن الاستان ستيل الخام هذه المادة الأصلية هي عبارة عن مصنع فيها آلات، وخطوط إنتاج، فيحطوا المواد الخام والسفينة شغالة  فتصل إلى ميناء الاستيراد أو ميناء البيع أو ميناء التوصيل وكل شيء جاهز، فاستفادوا من الوقت، وبنوا مصانع متحركة، والأرباح زادت، اليابان ما عندها أصلاً بترول لكن في عقل يستثمر، من أين أتوا بالفكرة؟ قالوا: من النحلة.

وهكذا الآن تأمل هذه مجسات يشابهون مفاصل الأصابع، محاكاة واستفادة من خلق الله، وأسلحة ومعدات حربية ضخمة كلها مستفادة، كذا أجهزة طبية، ينظرون ويأخذون الأفكار، في الغالب أنك ستجد أنهم آخذوها من الواقع، الطيارة من العصفور له جناحان، لو تفكرت في هذا ستجد أنه مأخوذة من خلق الله، إذًا خلق الله -تعالى- على غير مثال سابق، إبداع.
فالبدعة لغة: ابتداء الشيء من غير مثال سابق، ومنه اسم الله البديع خالق لا عن مثال سابق. هذه فيها إعجاز الله في خلقه، يعني: لو تأمل الإنسان أنظمة الحركة، أنظمة التوالد والتناسل، أنظمة الطيران، كيف تكسب رزقها؟ كيف تعلم أطفالها؟ فما بالك بالإنسان الأكثر تعقيدًا، وأحسن تقويمًا!.
ما هو التعريف الشرعي للبدعة؟
قال الشاطبي -رحمه الله-: "البدعة عبارة عن طريقة في الدين مخترعة" طريقة في الدين: وليست في الدنيا، لا يتكلم الآن على الطيارات، والسيارات، وأنظمة الإدارية، والتقنية، "في الدين طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية" يعني: تنافس الطريقة الشرعية، مثلاً: صلاة مبتدعة تنافس الصلاة الشرعية، أذكار مبتدعة تنافس الأذكار الشرعية، "يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله " [الاعتصام: 1/50].
يعني: المبتدع قصده من الابتداع التقرب إلى الله، يبتغي حسنات، لا يفعلها عادة أو عبثًا بلا سبب، وأنما يفعلها تقربا إلى الله، لما نقول: طريقة في الدين خرجت المخترعات المادية، خرجت المحدثات الدنيوية، كذلك تخرج العادات، الأعراف غير المخالفة للشرع.
وتخرج من الأمور السلبية الذنوب والمعاصي، لأنها ليست إحداث، لأن الذي يكذب، يزني، يسرق، يرتشي، لكي نكون دقيقين في ضبط التعريف، فإذًا الذنوب والمعاصي الأخرى المخالفات من جنس الغيبة إلى آخره هذه خارجة عن التعريف، ولذلك ما يمكن أن نطلق على السرقة بدعة، وعن الزنا، بدعة وعلى الكذب بدعة، على الغيبة بدعة، على النظر المحرم بدعة، هذه ليست بدعة هذه معصية، قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة ولكنها ليست بدعة.
ما هو الفرق؟

الفرق بين المعصية والبدعة أو الذنب والبدعة عدة فروق:
منها: أن هذه البدعة ليست على مثال يعني: اختراع، والذنب ليس اختراع، الذنب يقصد به اتباع النفس الهوى والمعصية والمخالفة، والمبتدع يقصد التقرب إلى الله، لماذا قال العلماء: أن صاحب الكبيرة يرجى أكثر مما يرجى صاحب البدعة؟ لأنه يمكن يوم من الأيام يتوب، لكن صاحب البدعة ما دام يعتقد أنه يتقرب إلى الله ويكسب حسنات فما الذي يدفعه للتوبة؟ ومن هنا ندرك خطورة حديث: أبى الله أن يقبل من صاحب بدعة توبة، أو احتجر التوبة عن صاحب البدعة[السنة لابن أبي عاصم: 37، وصححه الألباني الصحيحة: 1620] إذا كان قصده التقرب إلى الله فمن ماذا يتوب؟ هو يظنها حسنة، هذه من خطورة البدعة.
قوم لوط ابتدعوا اللواط هل تكون بدعة؟
ملاحظة مهمة هل قصد لوط باللواط التقرب إلى الله؟ يعني لو اخترع فاحشة جديدة أول من آتي بهيمة، وأول من آتي الذكران من العالمين، ابتدع المعصية لكن لا ينطبق عليها تعريف البدعة، هو فعلها كذا معصية لله، اتباع للهوى، توافق شهوته لكن لا يقصد بها التقرب إلى الله، البدعة فيها فرق مهم جداً أن صاحبها يريد التقرب إلى الله، ولذلك الإنكار عليه صعب، ولذلك تعليم الناس وظيفة الدعاة إلى الله أن يذهبوا إلى أوساط الناس الذين انتشرت فيهم البدع، ويقوموهم لكن الشهادة لله أن الدعاة الذين يشتغلون على إنكار البدع أعظم صبرًا وأكثر أجرًا، أحيانًا يكونون من الذين يشتغلون على محاربة الذنوب فقط مع أنهم كلهم في خير،  لكن الذي يتخصص أو يشتغل في قضية معالجة البدع محارب ومدفوع، فقولنا في التعريف: "طريقة في الدين" تخرج هذه الأشياء.

ما معنى مخترعة؟ من حقيقة البدعة ألا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع، ولا من قواعده؛ إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع عليها لما كانت بدعة، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها، أو المخير فيها.
ويخرج بقولنا: "مخترعة" ما أحدث في الدين، وكان مستندًا إلى دليل شرعي عام، مثل ما ثبت بالمصالح المرسلة، كما جمع الصحابة القرآن، وجمعوا الناس على القرآن، فهذا ليس من البدعة في شيء.
لو قال قائل: طيب جمع القرآن بدعة ما فعله رسول الله.
نقول: أنه يحقق مصلحة للدين واضحة جداً في حفظ القرآن من الزيادة والنقصان والتحريف، وأنها لا تخالف نصًا شرعيًا،  هذه وسيلة للمحافظة على القرآن، مثل: لو أنشأنا مراكز تحفيظ القرآن ما كانت أيام النبي ﷺ مراكز تحفيظ، هذه وسيلة للمحافظة على القرآن، والمحافظة على القرآن مقصد شرعي، هذا يحقق المقصد الشرعي.
وضع المصاحف في الأجهزة الإلكترونية: الآيباد، والأيفون، والأي جلاكسي، هذا يحقق مصلحة للدين، ولا يتعارض مع دليل، ولم نشرع عبادة لم يأذن بها الله.
هذه وسيلة من الوسائل التنقية، وهذا معنى كلام العلماء: أن البدع لا تدخل في الوسائل.
لما نقول: "تضاهي الشرعية" يعني: تشابه الطريقة الشرعية، البدعة تضاهي، تنافس، ما هي أوجه المشابهة:
منها: مثلاً نذر أن يصوم قائمًا في الشمس، صامتًا عن الكلام، الآن نحن ألحقنا وأضفنا بالصيام الشرعي -الامتناع عن المفطرات من الفجر إلى المغرب تقربًا إلى الله –تعالى- قائما في الشمس، صامتًا عن الكلام تقربًا إلى الله –تعالى-، فنحن أضفنا صفات في العبادة ما هي موجودة هذه بدعة.

كذلك مثلاً: تحريم طعام معين تقربًا إلى الله، أنا لا آكل اللحم تقربًا إلى الله، هذا يختلف تمامًا عن شخص قال: لا آكل اللحم لأني عندي كوليسترول، أو عندي نقرس، هذا ما يقصد بالامتناع عن اللحم التقرب إلى الله، هذا يقصد بالامتناع عن اللحم درء العلة عن نفسه، يقصد بالامتناع عن اللحم علاج، هذه قضية دنيوية، ولذلك الخضرجية ما يأكلون إلا النبات، هذا دين في العالم، ليس قضية علاج فحسب، يتركون اللحم دينًا، التزام كيفيات وهيئات معينة  كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، نحن نعرف أن التكبير في العيد سنة، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[البقرة: 185]، فجاء جماعة قالوا: نريد أن نعمل فرقة تكبير في العيد، نبدأ مع بعض وننتهي مع بعض، التكبير نفسه مشروع، البدعة بإضافة وإلحاق لصفة لم ترد في الشرع، صفة للتكبير لم تكن على عهد النبي ﷺ، ولم يكن هناك داع أنه لو كان في مقتضي كان موجود أيام النبي لم يتغير شيء في عصرنا، كبر النبي ﷺ، وكبر أصحابه، وكبر المجتمع المسلم، وصاموا كذا سنة، وعيدوا الفطر كذا سنة، وعيدوا الأضحى كذا سنة، ما فعلوا هذا، وليس قضية دنيوية ما كان في العهد النبوي لا لو كان خيرًا فلن يتركه ﷺ، أو يقول لأصحابه: اجتمعوا على التكبير بصوت واحد.
و لو قال قائل: إذا اجتمعوا يحمس بعضهم بعضاً أكثر فهي بدعة حسنة.
هذا الكلام لا يقبل شرعًا، نقول: هل المقتضي لهذا كان موجودًا أيام النبي -عليه الصلاة والسلام-؟
فالجواب: نعم، يعني المصلحة هذه ما هي مصلحة أيام النبي ﷺ وما فعلها إذا أنت تتخيل أنها مصلحة وما فعلها، معناه أنها بدعة، ممكن لها أبعاد أخرى، يمكن الشرع لا يريد أن يلزم الناس بالمستحبات.
فلو قال لك: هذه ما فيها؟

نقول: اعتداء على مراد للشرع، الشرع يريد أن يبقي هذا الشيء تخييريًا، وإلا ما صار هناك فرق بين الواجبات والمستحبات، وألزمنا الناس بما لم يلزمهم به الله، وحرجنا عليهم، واحد مستعجل يمكن واحد يسبح على الطريق، الله حكيم لو يعلم أن في هذا الخير للناس لم يعجز ربنا أن يوحي إلى نبيه اجمع عبادي على الأذكار بعد الصلوات بصوت واحد، فالشرع يريد أن يفرق بين الواجبات والمستحبات، والشرع يريد أيضاً أن يبلو أخبار الناس من هو المستعد أن يعبد من غير إلزام ومن المتكاسل، فتصير درجات، فالشرع له مقاصد.
والله يعلم أن بعض الناس يتكاسلون، ولو كان هذا مصلحة العباد كان شرعه لا تخفى عليه سبحانه.
فتح الباب كارثة، قيل: إنه بعض الاستشاريين قدموا حلولاً للزحام في الجمرات -شركات أجنبية-:
فبعضهم قال: اعملوا جمرات في منى في عشرين موقع، جمرة صغرى ووسطى وكبرى، وهناك صغرى ووسطى وكبرى، وهناك صغرى ووسطى وكبرى، وزع الحجاج عليها.
اقتراح آخر: افتح الحج طول السنة ويحج الناس في محرم وربيع وجمادى ورجب وشعبان، فلاتكون الزحمة هذه.
لو جعلت العبادات مجالاً للاجتهاد ستكون مصائب، وتنتفي  قضية أن الله هو المشرع، والله هو الذي  له الحق أن يحكم، والله الذي  له الحق يحدد للناس.

بعد الصلاة الأذكار وردت عشر مرات، وورد ثلاثة وثلاثين، وورد خمسة وعشرين، لو تركت المسألة للناس سيقول بعضهم: ثلاثة عشر، والثاني يقول: واحد وعشرين، والمستعجل يقول: ثمانية، ومستعجل: أربعة عشر، والذي عنده وقت: ثلاثة وثلاثين، تخيل خطورة البدعة، تخيل فتح الباب في العبادات، ماذا سينتج عنه؟ يصير كل واحد يبتدع على كيفه، ويألف على كيفه، ويزيد على كيفه، ويصير في إسلامات بعدد سكان العالم، أو بعدد المسلمين، ولذلك "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم" [المعجم الكبير للطبراني:8770]، من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، تأمل في الحديث كيف يضبط الدين؛ لأن الله يريد دينًا منضبطًا، يريد دينًا هو شرعه لا ما شرعه غيره، وبعد ذلك دع الموارد، وودع كل الأشياء، ودع تخصيص ليلة النصف من شعبان بعبادات، وتخصيص رجب بعبادات، وتخصيص أيام، وتخصيص أرقام معينة، واختراع أذكار جديدة، ووضع أرقام جديدة للأذكار، نتكلم عن من يقول: سنة المطرح، ماهي سنة المطرح؟ يقول: أي مكان تأتي تصلي ركعتين سنة المطرح، فهذا شيء من أجزاء التعريف.
وسنأتي -إن شاء الله- في الدرس القادم على المزيد في هذا الموضوع الخطير، والحساس والمهم جداً.
نسأل الله أن يرزقنا اتباع السنة، وأن يحيينا عليها ويميتنا عليها، وصلى الله على نبينا محمد.