الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
المقدمة
هذه الدورة المتعلقة بحماية منهج السلف، سبقها في السلسلة في سنوات ماضية في دروات متعاقبة مقدمات في منهج السلف، وخصائص منهج السلف، وشبهات حول منهج السلف، مصادر التلقي عند السلف، وذكرنا انحرافات عند غيرهم في الكلام على حماية منهج السلف أن هناك مصادر تلقي عند الفرق الأخرى، وكذلك الانحراف في مسألة التسليم والانقياد، الانحراف في مسألة معاني النصوص، وإثبات النص ومعناه، وكذلك الانحرافات المتعلقة بالأسماء والمصطلحات الشرعية، والعدوان عليها.
تحدثنا عن قضية الحق واحد أم يتعدد، وأن الحق واحد، تكلمنا عن موضوع الموقف من الاختلاف، وتحدثنا عن قضية الموقف من العقل، ما هو الموقف الشرعي من العقل، وتكلمنا عن قواعد الاستدلال عند السلف، والانحراف في مسألة الإيمان الذي حصل عند بعض الفرق كالمرجئة والخوارج.
وتحدثنا بالتفصيل عن الإرجاء، وعن موضوع الخوارج، وعن قضية الغلو، وكذلك تحدثنا عن انحرافات واعتداءات على منهج السلف.
ومن الأشياء التي تحدثنا عنها أيضاً قضية المنهج العلمي، وفقه التعلم عند السلف، وتحدثنا عن موضوع المذهبية، ثم انتقلنا إلى انحراف من الانحرافات سبق الحديث عنه في موضوع الخوارج، ولكن نظرًا للحاجة إليه تم إفراده بدروس خاصة، وهو موضوع التكفير، تكلمنا في الدرس السابق عن خطورة التكفير، وقضية المنزلقات والمهلكات في هذا الموضوع، وخطورة التكفير بغير حجة ولا برهان، ولا وجه حق.
وذكرنا قواعد في المسألة، وأن التكفير حق لله -تعالى- خالص، وأن الأصل في أهل القبل الإسلام والتوحيد حتى يثبت خلاف ذلك، وأن أحكام الكفر والإسلام تبنى على الظاهر، فمن ظاهره الكفر حكمنا عليه بالكفر، ومن ظاهره الإسلام حكمنا عليه بالإسلام، وأن لنا الظاهر والله يتولى السرائر.
ووصلنا إلى قاعدة أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بكل ذنب وقع فيه ما لم يستحله، وهذه القاعدة من الأصول المجمع عليها عند أهل السنة أنهم لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بمجرد ذنب وقع فيه أو معصية ارتكبها مالم يستحلها، وقلنا إن هذا الذنب الذي لا يكفر صاحبه ما لم يستحله من أي نوع الكبائر والصغائر غير المكفرات نفسها، فهذا الكلام لا يشمل من سب الله مثلاً، أو سب دينه وكتابه، هان المصحف، هذا ذنبه نفسه كفر، لكن لما يكون الذنب من نوع الكبيرة كالزنا والسرقة والرشوة وشرب الخمر، أو من الصغائر لا يجوز تكفير أصحابها إلا إذا استحلوها وهم يعلمون، وهذا المقصود بالذنب الذي لا يكفر صاحبه فعل الكبائر أو الصغائر، سواء كانت ترك واجبات أو فعل محرمات، إلا ما ورد الدليل على تكفير تاركه كمن ترك العمل بالكلية، وعلى قول بعض أهل العلم من ترك الصلاة بالكلية، إذًا ما هو الذنب الذي لا يكفر صاحبه ما لم يستحله كل ما دون الكفر من الذنوب، وهذه القاعدة رد على الخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة ولو لم يستحلها، إذًا ليس المقصود من هذه الجملة أن السلف لا يكفرون بأي ذنب لا ليس المقصود أن السلف لا يكفرون بأي ذنب إلا مع الاستحلال لا هذا كلام غلاة المرجأة، والسلف عقيدتهم لا يكفر بأي ذنب ما لم يستحله ما لم يكن الذنب نفسه كفرًا.
سندخل بعد ذلك في قضية العوارض الأهلية: موانع التكفير، توفر الشروط، وانتفاء الموانع، نواقض الإسلام الكبرى المعلومة هذه يكفر مرتكبها، هناك خلاف مشهور عند أهل السنة في قضية ترك الصلاة بالكلية، هذا يجب أن نقول: إن هذا الذنب تحديدًا الذي هو ترك الصلاة بالكلية فيه خلاف عند أهل السنة هل يكفر به صاحبه أم لا؟ وهذا خلاف علمي، مسألة علمية الخلاف فيها معتبر، فمن كفره له أدلة، ومن لم يكفره له أدلة، لكن لو واحد جحد الصلاة قطعًا عند الجميع يكفر.
حكم مرتكب الكبيرة
قلنا: إن من دخل في الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين. ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل عنه بالشك، ومن مات على التوحيد مصرًا على ذنب فهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، ثم إن شاء عذبه بقدر ذنبه ويكون مصيره في النهاية إلى الجنة؛ لأنه لا يخلد في النار إلا الكفار، وقد ذكر هذا عدد من أهل العلم كالإمام ابن أبي العز -رحمه الله- في شرح الطحاوية، وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: "وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أحدًا لا يخرجه ذنبه وإن عظم من الإسلام" [التمهيد: 17/22].
وإن عظم في مستوى الكبائر كما قلنا دون الكفر، فأهل السنة والجماعة وسط بين الفرق المنحرفة، بين التكفيريين الغلاة الذين يكفرون بمجرد الذنب، والمرجئة الجفاة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان شيء، ولذلك كلامهم في قضية خطير السجود للصنم، وإهانة المصحف، وسب الله ورسوله، هؤلاء كلامهم يؤدي إلى انحلال الدين.
أضرار الذنوب
يعتقد أهل السنة أن الذنوب تضر أصحابها، يعني: لو قلنا: إنه لا يكفر ما لم يستحل، لكن يضره ذنب وله شؤم عليه في الدنيا، وهو مستحق للعقوبة في الآخرة، ويعذب في البرزخ الزناة -كما ورد-، وأكلة الربا، والكذابون الذين تنتشر كذباتهم تبلغ الآفاق، والذي ينام عن الصلاة المكتوبة، ورد عذابهم في البرزخ فضلاً عن عذاب النار، إذًا لما نقول: إنه مرتكب الكبيرة ومرتكب الذنب تحت المشيئة، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له يجب أن نقول أيضاً: إن الذنوب تضر أصحابها حتى لا يكون الكلام مفضيًا إلى تسهيل الوقوع في هذه الأشياء.
والنصوص الواردة في تعذيب هؤلاء في البرزخ، وفي النار، وفي أرض المحشر، مثلاً: الذي لا يعدل بين الزوجتين يأتي يوم القيامة وشقه ساقط، الذين يأكلون الربا لا يقومون من قبورهم عند البعث إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، فهناك عذاب في البرزخ، وعذاب في المحشر، يكونون في عرقهم على قدر ذنوبهم، ومنهم من يغرق في العرق، ومنهم أناس لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يكلمهم، ومنهم أناس يفضحهم على رؤوس الأشهاد، يقال: هذه غدرة فلان، أصحاب الغدر يرفع له لواء عند استه، فضيحة يوم القيامة، فإذًا يجب أن نقول: إن أصحاب الذنوب تحت المشيئة، ولكن الذنوب تضر أصحابها، وهم معرضون للعذاب، منهم أناس قطعًا من أهل الذنوب الكبائر يعذبون، يعني ليس كل أصحاب الذنوب الكبائر سيغفر لهم، فهم تحت المشيئة، فهناك أناس يغفر لهم، وأناس يعذبهم، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21]، لماذا كان بعض السلف يخاف من قوله -تعالى-: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء: 123]، يقول: هذه أخوف آية في كتاب الله، لكن هؤلاء المذنبون خصوصًا في هذا الزمن الذي انفتحت فيه أبواب المعاصي انفتاحًا لم يسبق له مثيل، يمكن ما مر على الأمة في تاريخها من عهد محمد ﷺ إلى هذا العصر الحديث إغراق في المعاصي وأوحال الرذيلة والفواحش والكبائر مثلما يحصل الآن، هذه جميع أنواع الفواحش منتشرة، أثر الإعلام في القنوات في الشبكات، وسائل الاتصال لها أثر كبير للإيقاع في المعاصي الترويج للمعصية، الجاذبية التي صارت للمعصية، لم يمر على الأمة وقت كان التبرج فيه والملابس المتهتكة المتعرية مثلما مر في عصر الصناعات والفضائيات، ولذلك قضية تخويف الناس بالله، ووعظ الناس مهم جداً، ولا يمكن في معرض حديثنا عن قضية أصحاب الذنوب لا يكفرون وأنهم تحت المشيئة أن يكون معنى هذا تسهيل أمور المعاصي، وتسويغ القضية، وتمييعها أبدًا، اعلموا أن الله شديد العقاب، لكن هؤلاء لا يخرجون من دائرة الإسلام ما لم يقعوا في مكفر من المكفرات.
المنحرفون في الحكم على أصحاب الكبائر
وقلنا: إن هناك من الضلال من يكفر أصحاب الذنوب والمعاصي، ومنهم من يتوقف في شأنهم، ويقول لا نحكم بإسلامهم، كما لا نحكم بكفرهم، فإذا كنت لا تحكم بإسلامهم معنى ذلك أنك لن تصلي خلفه، ولن تأكل ذبيحته، ولن تتزوج هذه المرأة التي تتوقف في إسلامها، وإلى آخره، وهذا أيضاً ضلال، من يتوقف في أهل الإسلام فهو مبتدع، وهناك جماعة أطلقوا على أنفسهم أهل التوقف والتبين.
من الفروق بين غلاة الخوارج أيام الصحابة وغلاة التكفير في هذا العصر أن بعضًا من غلاة التكفير الآن يكفر بالخلاف الاجتهادي، يعني مسألة اجتهادية بين العلماء الكبار واحد اختار قولاً يأتي هذا صاحب الغلو ويكفره، ما هو على ارتكاب كبيرة ولا ذنب، وإنما على فعل مرجوح، على مسألة خلافية فيها خلاف معتبر فاختبار أحد القولين فيكفره على ذلك، وكذلك أن يكفر من لم يكفره هو، يعني إذا كان يكفر شخصًا وواحد قال: أنا ما أكفره لأنه ما أقيمت عليه الحجة، ما توفر شروط التكفير، هناك موانع تمنع من التكفير، فالمكفر هذا يكفر من لم يكفر.
ومن ضلالات التكفير باللازم، يعني الكلام نفسه ما هو كفر إذا لزم منه والذي قال لا يقصد الشيء اللازم فيكفره، يقول: كلامه يؤدي إلى لازم تكفره، ومن البدع الخطيرة أيضاً في هذا الموضوع التسلسل في التكفير، يعني مثلا إذا كفر المدير يكفر الموظفين الذين تحته، كفر الرئيس يكفر كل الذين تحته، ولذلك وصلوا إلى قضية تكفير عامة المسلمين، أنت ليش ما قاومت الكفر أنت كافر، أنت راض أنت كافر؛ لأن المسألة تسلسلت عندهم. على أية حال هذا سنبينه -إن شاء الله- في موضوع عوارض الأهلية.
فإذًا وصلنا في الغلو في التكفير إلى أناس كفروا آباءهم، وأمهاتهم، وزوجاتهم، وأبناءهم، وإخوانهم، والمجتمع بأسره، ولذلك وصلوا إلى نتيجة أنه لا يجوز العيش في المجتمع لأن هذا المجتمع كله كافر، لازم نخرج إلى الصحراء نبني قرية، نعمل ننتقل إلى مكان وحدنا، وأدى هذا من النتائج الخطيرة اعتزال الجمعة والجماعات؛ لأنه خلاص إذا كفر أهل البلد كفر الأئمة والخطباء، ولذلك خلاص ما تصح صلاة الجمعة وراء أي واحد في البلد، ولا تصح صلاة الجماعة وراء أي واحد في البلد، فصاروا لا يصلون إلا خلف أئمتهم وجماعتهم هم، والباقي ما تصح الصلاة خلفهم.
الأدلة علي عدم تكفير أصحاب الكبائر
أهل السنة لا يكفرون مرتكب الكبيرة ولا مرتكبي الذنوب ما لم يستحلوها مبني على أدلة مثلاً: قال الله –تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[النساء: 48]، فأدخل في المشيئة كل ذنب عدا الشرك.
هل يغفر الله الشرك إذا تاب؟ إذا ما تاب حسب نص الآية لا يغفر له، أما مع التوبة فالمشرك وغير المشرك يقبل منهم التوبة، حتى لو وقع في الكفر الأكبر ثم تاب إلى الله يتوب الله عليه، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا[الزمر: 53] إذا تاب صاحبها.
من أدلة أهل السنة أيضاً على هذه القاعدة ما رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ قال وحوله عصابة من أصحابه: بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه فبايعنه على ذلك" [رواه البخاري: 18].
إذًا هذه القاعدة مستندة إلى نص ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك. فقوله: فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه معناه أن مرتكبو هذه الأشياء في مشيئة الله، وأن الأصل أنهم مسلمون لا يكفرون بتلك الكبائر، وأن الكافر حرم الله عليه الجنة والمغفرة.
قال المازني: "فيه رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق"، المعتزلة يعتقدون أنه لا بدّ أن يعذب حتى لو ما كفروه، يعني: أن تعذيب الفاسق واجب على الله "إذا مات بلا توبة، والنبي ﷺ أخبر أنه تحت المشيئة ولم يقل لا بدّ أن يعذبه" [فتح الباري:1/68].
وعن ابن عمر قال: "ما زلنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر" –يعني: ما كنا نستغفر لأهل الكبائر- "حتى سمعنا من فيّ نبينا ﷺ يقول: إن الله تبارك وتعالى لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، قال ﷺ: فإني أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة، إذًا في ناس تنالهم شفاعته. قال ابن عمر: "فأمسكنا عن كثير مما كان في نفوسنا ورجونا لهم" [رواه ابن أبي عاصم في السنة: 830]، وحسنه الألباني في [ظلال الجنة: 830]. النصوص كثيرة في هذا الموضوع.
حكم من استحل الذنوب
أما الاستحلال فهو كفر عند الجميع، الاستحلال كفر سواء فعل الذنب أم لم يفعله، فلو استحل الزنا يكفر ولو لم يزني، ولو استحل الربا وقال: هذه ضرورة اقتصادية ولا بدّ منها، والربا حلال ما فيه شيء فهو كافر حتى لو ما رابا، حتى لو ما اقترض بالربا ولا أقرض بالربا فهو كافر، هذا كفر الاستحلال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، وكذلك لو استحلها بغير فعل، والاستحلال اعتقاد أنها حلال، وذلك يكون تارة باعتقاد أن الله أحلها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها" الصارم المسلول [6/10].
أصلا إذا استحل ما حرم الله هذا معاند لله، فالله يقول: حرام، وهو يقول: حلال، الله يقول: واجب، وهو يقول: ليس بواجب.
وقال ابن قدامة: ومن اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير، والزنا، وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر" المغني [1/310].
مسألة قبول الشبه تعتمد على أمور متعددة سنأتي على تفصيلها، لكن كلام ابن قدامة فيه إشارة إلى أنه هناك أمور ليس فيها شبهة، ما فيها اشتباه، ما فيها خفاء كالزنا، فهذا واضح مثل سب الله، هل في احتمال أن الواحد يسب الله وعنده شبهة، قال: "لحم الخنزير والزنا" هو يتكلم عن عصره وزمنه، وما استقرت عليه الأمور.
فنحن لما نأتي إلى قضية الجهل وعوارض الأهلية لا بدّ أن نفصل: يعني: الناس الموجودين في العالم كيف وضعهم بالنسبة لمعرفة أمور الشريعة، لكن دعونا نقول في المجمل العام من المسلمين: لو واحد استحل الخمر والخنزير كافر؛ لأن المجمل العام للمسلمين ما عندهم شبهة في قضية الخنزير والخمر أنها حرام، والذين يوردون أسباب لتحليل الخمر والخنزير، يقول الخنزير كان حرامًا لأنه كان يأكل النجاسات والقاذورات، الآن الخنزير يعطوه أكل نظيف، الخمر كانت تصنع بطرق بدائية، الآن خمر يعني فيها صناعات راقية، هذا كلام تافه لا يقبل مثل هذا، يعني: هل يظن أن هذا يفيده شيئًا، ولذلك يقول ابن قدامة: "ومن اعتقد حل شيئًا أجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه". قال: "كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه من استحله كفر" [المغني: 1/310].
سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: ما هو ضابط الاستحلال الذي يكفر به الشخص؟
فقال: الاستحلال هو أن يعتقد حل ما حرمه الله، وأما الاستحلال الفعلي فينظر: إن كان هذا الاستحلال مما يكفِّر فهو كافر مرتد، فمثلاً لو أن الإنسان تعامل بالربا ولا يعتقد أنه حلال لكنه يصر عليه فإنه لا يكفر، لأنه لا يستحله، ولكن لو قال: إن الربا حلال. ويعني بذلك الربا الذي حرمه الله فإنه يكفر؛ لأنه مكذب لله ورسوله". [لقاء الباب المفتوح: 3/224]، فإذًا الشيخ لما تكلم في قضية الاستحلال اللفظي هذا الذي نص عليه صاحبه هذا حلال، طيب الله حرمه وهو يعتقد حله في قلبه، أو ربما يتكلم بلسانه لكن هو يعتقد يقول: هذا الربا حلال، هذا كافر.
الشيخ تكلم على قضية المتعامل بالربا نقول: ممكن يتعامل بالربا وهو معتقد الحرمة، يقول: الله يغفر لنا، أين ألاقي مكان آخر أشغل فيه فلوسي، البنوك آمنة تعطينا نسبة ثابتة، هو يبرر لنفسه لكن يبرر لنفسه ارتكاب الحرام، فهو يعتقد الحرمة، وبعض العصاة فيه نوع من الخوف، فإذًا هو معتقد التحريم فهذا لا يكفر، يقال: أنت أمرك إلى الله، لكن أنت على خطر عظيم، أنت فعلت ما يوجب العقوبة، أنت فعلت ما تستحق به العذاب، لا يكفر لأنه لم يعتقد حل ما حرمه الله.
قال الشيخ: "الاستحلال إذًا استحلال فعلي واستحلال عقدي بقلبه، فالاستحلال الفعلي ينظر فيه للفعل نفسه، ينظر فيه إلى فعله هل هو فعل مستحل، وإلا فعل عاصي معتقد للتحريم، ومعلوم أن أكل الربا لا يكفر به الإنسان لكنه من كبائر الذنوب، أما لو سجد للصنم فهذا يكفر؛ لأن الفعل يكفر نفس الفعل مكفر" [لقاء الباب المفتوح: 3/224]، هذا يعود لما سبق الكلام عنه في أول الدرس أن الكبائر التي لا يكفر أصحابها إلا من استحل، لا تشمل الشرك والكفر الظاهر، فما يحتاج يقول لواحد سجد للصنم: أنت مستحل، أنت معتقد بالتحريم، وإلا غير معتقد بالتحريم، وكذلك من دعس على المصحف عمدًا، وألقاه في المرحاض، والعياذ بالله هذا ظاهر فعله الكفر.
سنتحدث لاحقًا عن موضوع عوارض الأهلية، وهل هو فعله مكرهًا هذه قضية أخرى. لكن نحن الآن نتكلم عن فعل مجرد ما فيه إكراه فعل شيئًا مختارًا إذا كان هذا الفعل من النوع المكفر كالسجود للصنم لا داعي نناقش موضوع الاستحلال هنا أصلاً.
يقول الشيخ: مسألة "أن يكون معذورًا بجهله مثل أن يكون حدث عهد بالإسلام لا يدري أن الخمر حرام فإن هذا وإن استحله لا يكفر حتى يعلم أنه حرام"، هل كل واحد أسلم حديثًا يعلم أن الخنزير حرام؟ كل عمره يأكل الخنزير هذا ديدنهم، جاء وعرضنا عليه الإسلام، وأن تعبد الله وحده لا شريك له، وأركان الإيمان الستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، وأن تؤمن بالبعث والنشور، والآخرة، وقلنا له: إن أركان الإسلام خمسة: الشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وفهمناه، وشرحنا معنى الشهادتين والرجل أقر وأسلم ونطق بالشهادتين، ثم ذهب جاء وقت الغداء وراح يأكل خنزير، فجاء واحد يقول له: أنت تأكل خنزير، قال: هذا شيء مسموح لي لا يعتقد أنه حرام، لكن هذا الرجل عدم اعتقاده تحريم الخنزير ناتج عن جهل وليس عناد، لكن واحد يعلم أن الله حرمه ثم يقول: لا حلال، هذا معاند كافر.
قال الشيخ: فإن هذا وإن استحله فإنه لا يكفر حتى يعلم أنه حرام، فإذا أصر بعد تعليمه صار كافرًا" لقاء الباب المفتوح [3/224].
الفرق بين الكفر المطلق وكفر المعين
من القواعد المهمة في هذا الموضوع التفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعين، وأنه ليس كل من وقع الكفر منه وقع الكفر عليه، وأن فعل الكفر لا يستلزم كفر الفاعل، هذه مأخوذة من أصل من أصول أهل السنة، فالتكفير المطلق هو الحكم بالكفر على القول أو الفعل، أو الاعتقاد الذي ينافي أصل الإسلام ويناقضه، وعلى فاعل ذلك على سبيل الإطلاق بدون تحديد أحد بعينه، أن هذا الفعل كفر وفاعل هذا كافر، ولكن لما نأتي إلى المعين فلان ابن فلان الفلاني الذي فعل ذلك هل تقول فلان هذا كافر أم لا؟
هناك فرق عند أهل السنة بين تكفير المطلق أن تقول هذا الفعل كفر، ومن يفعل ذلك فهو كافر بالعموم، وبدون تحديد شخص معين، وبين تكفير المعين الحكم على الشخص المعين بالكفر؛ لأنه أتى قولاً أو فعلاً أو اعتقادًا مكفرًا.
لماذا هذه ليست مثل هذه؟ لأن تكفير المعين يحتاج إلى أن نتأكد أنه يعلم، يعني: ليس بجاهل، وأنه مختار، وليس بمكره، وأنه ليس عنده شبهة في الأمور، واضح الأمر عنده، ولذلك نقول بأن هناك فرقًا بين التكفير المطلق وتكفير المعين، فالشخص المعين لا يحكم بكفره حتى تجتمع الشروط التكفير فيه، وتنتفي موانع التكفير عنه، فعندئذ نقول: قامت عليه الحجة. وهو كافر بعينه.
قال شيخ الإسلام: "فإن التكفير المطلق مثل الوعيد المطلق" [الاستقامة: 1/164]، الآن في نصوص مثلاً: من فعل كذا فهو في النار، لكن هل أي واحد فعل هذا هل تحكم عليه أنه في النار؟ لا؛ لأنه تحت المشيئة.
فالآن نتأتي على قضية القتل مثلاً، تقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93] بالعموم، لكن هل تأتي إلى القاتل وتقول: أنت في النار، غضب الله عليك، ولعنك، وأعد لك عذابًا أليمًا، لا لأن هذا تحت المشيئة، فقد الله يغفر فيه في أشياء، فلا نعلم، أمور العباد إلى الله، الحساب عند ربه.
لا يدخل الجنة قاطع [البخاري: 5984، ومسلم: 2556]، من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار [البخاري: 1291، ومسلم: 3]، من قتل نفسه بحديدة فحديدته يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، من تحسى سمًا فقتل نفسه فسمه يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها، من تردى من جبل قتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم [مسلم: 109]، هذا نص أن المنتحر في النار لكن لما تجي على واحد انتحر فلان الفلاني هل نقول هو في النار لأجل هذا الحديث؟
الجواب: لا، لأننا قد قررنا بأن الكبائر وأصحاب الكبائر لا نجزم لهم بالنار، ولا نحكم أن الله سيعذبهم، هم فعلوا ما يستحقون به العذاب، لكن هذا قد يدخله، وهذا قد لا يدخله، فمنتحر قد يدخله لمشيئته سبحانه هو أعلم بهم، هو أعلم ببواطن أحوالهم، هو أعلم بظرف هذا الذي أدى إلى انتحاره، هو يعلم سبحانه يعلم هل هذا عنده حسنات ماحية، هل عند هذا مكفرات للذنب ليست عند الآخر، خلاص الله أعلم بهم، لكن هذا مثال المنتحر في النار، من قتل نفسه في النار لكن ما نحكم على ذات الشخص أنه في النار، فقضية التكفير المطلق، وتكفير المعين مثل الوعيد المطلق والحكم بالوعيد على المعين.
قال شيخ الإسلام: "فإن التكفير المطلق مثل الوعيد المطلق لا يستلزم تكفير الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة التي تكفر تاركها". الاستقامة لابن تيمية [1/164].
وقال رحمه الله: "وكنت أبين لهم أن ما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق؛ لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين" مجموع الفتاوى [3/230].
وقال: "القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية الذين قالوا إن الله لا يتكلم، ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه يكفر، فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال سلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولكن لا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة" مجموع الفتاوى [7/619].
فإذًا إذا حكمنا على قول معين أنه كفر، أو حكمنا على فعل معين أنه كفر، وحكمنا على اعتقاد معين أنه كفر، فهذا لا يستلزم كفر القائل أو الفاعل أو المعتقد، قد وقد، فربما يكون جاهلاً، وربما يكون متأولاً، الأعذار كثيرة، لكن هناك أعذار مقبولة عند أهل العلم، وهناك أعذار مرفوضة، يعني هناك أعذار أقبح من الفعل.
قال: "لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا[النساء:10]، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق لكن هذا الآكل المعين لمال اليتيم الذي عنده لا يشهد عليه بالوعيد كما لا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار؛ لجواز ألا يلحقه الوعيد لمشيئة الله لفوات شرط، أو ثبوت مانع" خلاص ربهم أعلم بهم". مجموع الفتاوى [23/345].
هذه المسألة غلط فيها طائفتان: الأولى رأت أن المعين لا يكفر أبدًا، فأغلقت باب الردة.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "العلماء -رحمهم الله- يحكمون على الشخص بعينه بالردة، أو غيرها مما يقتضيه فعله خلافًا لمن يتهيب أن يكفر أحدًا بعينه، وهذا غلط إذا وجد الكفر، وتمت الشروط، وانتفت الموانع، فإننا نكفره بعينه، ونعامله معاملة الكافر في كل شيء؛ لأنه ليس لنا إلا الظاهر" [الشرح الممتع على زاد المستقنع: 11/135]، وإذا لم نقل بهذا فما فائدة الاستتابة في المحكمة لو أتى مكفرًا، وشهد عليه الشهود العدول، وذهب به ورفع به إلى القاضي، القاضي استتابه من هذا القول المكفر أو الفعل المكفر، وبين له، انتهى، تتراجع، أو نأخذ بظاهره أنه مرتد ونقيم عليه حد الردة، ونقتله، نفرق بينه وبين زوجته، وخلاص سنفذ فيه الحكم، وماله لبيت مال المسلمين، ورثته لن يأخذوا شيئا، ولا يدعا له بالمغفرة والرحمة.
وهذه مسألة مهمة إن هناك فرق بين التكفير المطلق وتكفير المعين، لا يعني: أننا لن نكفر أحدًا بعينه لا من أقيمت عليه الحجة، وبين له الأمر، واستتيب وإلى آخره، وأصر يكفر، ونقول: فلان كافر، ونحكم عليه بالكفر، ونبني عليها الأحكام، وإلا يكون تمييع الدين، فالذي يرفض الحكم على أي معين بالكفر هذا من المرجئة, هذا منحرف، معناه حد الرد من بدل دينه فاقتلوه [البخاري: 6922] لا قيمة له.
قال الشيخ -رحمه الله-: "ولو فرضنا أنه كان مؤمنًا بقلبه ولكن يظهر الكفر فهذا حسابه على الله، لكن نكفره بعينه لأننا لو قلنا: إننا لا نكفر أحدًا بعينه، وإنما نكفر الجنس ما بقي أحد يكفر، ولا أحد يدعى إلى الإسلام" [الشرح الممتع على زاد المستقنع: 11/135].
هذا جواب عن أحد الإخوة بعد الدرس الماضي البارحة جاء وقال يا شيخ: أنا كنت أحكم بالكفر على وذكر واحد رئيس في طائفة النصيرية، قال: بس كلامك هذا إنه من قال: لا إله إلا الله، وكذا صرت خلاص أتردد صرت ما أستطيع أحكم عليه بالكفر.
نقول: لا من علم أنه يعرف الحق مثل رؤوساء مذهب الرافضة الكبار، قرؤوا كتبنا وعرفوا الحق، ودرسوا ما عندنا، وعرفوا ردنا عليهم، وعرفوا الأدلة التي للحق ما في توقف في كفرهم بأعيانهم، لكن عوامهم ممكن ما يعرف، واحد مزارع فلاح عامل أمي هذا ممكن ما نستطيع تكفيره، لازم نقيم عليه الحجة، لازم نناقشه، ونبين له حتى تقام عليه الحجة، ونبسط له الموضوع على قدر فهمه واستيعابه، ثم إذا أصر نحكم بكفره.
الحجة قد تقام أحيانًا بحلقة في قناة فضائية، قد تقام بمناهج التوحيد التي تدرس في بعض الأماكن، قد تقام بنقاش في العمل مع واحد من هؤلاء، فإقامة الحجة ليست معقدة جداً.
ومن العلماء من يرى أن بعض الذين يتعاطون أفعال الشرك إذا شرحت له قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[الإخلاص: 1] يعني: شرح له آيات التوحيد الأساسية يحكم عليه بالكفر.
الكلام الآن في قضية أنه لا يلزم من فعل الكفر أن يكون الفاعل كافرًا؛ لأنه قد يكون جاهلاً، قد يكون متأولاً، قد يكون مكرهًا، هذا الاحتياط والتحري ضروري حتى لا تتحول إلى فوضى في الأحكام على الناس، قضية تسلسل التكفيري لا بدّ يكون هناك احتياطات، ولكن هذا لا يعني إلغاء تكفير المعين بالكلية، هذا غير صحيح اهل السنة يقولون هذا كفر، ولا نكفر المعين الذي يعمله أو يقوله إلا بعد إقامة الحجة، ولكن لا يقولون: إن المعين لا يكفر أبدًا، ولا في أي حال، فكما لا يوقعون على كل من فعل الكفر حتى تقوم الحجة، كذلك فإنهم يوقعون الكفر على من أقامت عليه الحجة.
قال شيخ الإسلام يبين سبب الخطأ في عدم التفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعين: "كل ما رآهم قالوا" أي كلما قرأوا أو سمعوا الأئمة يقولون: "من قال كذا فهو كافر اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله"، ابن تيمية يريد أن هناك عبارات عن السلف وعن أحمد وغيره من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، هذه العبارة منقولة عن التابعين وتابعي التابعين لكن يقول شيخ الإسلام: لكن ليس كل واحد يقول القرآن مخلوق نكفره بعينه، لأنه قد يقوله جهلاً، قد يقوله اتباعًا لأناس يظنهم علماء، يظنهم تقوم بهم الحجة، قال: "ولم يتدبروا -يعني هؤلاء الذين يعتقدون أن من قال: القرآن مخلوق فهو كافر- تساوي تكفير أي واحد يقول بعينه، قال: "فهؤلاء لم يتدبروا أن التكفير له شروط، وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، ويبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات -مثل من قال: القرآن مخلوق فهو كافر- لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه، فإن الإمام أحمد مثلاً قد باشر الجهمية" -تعامل معهم وله جلسات معهم، وحاكموه، وعذبوه حتى كاد أن يقتل، قال: "فإن الإمام أحمد مثلاً قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائره علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب، والحبس، والقتل، والعزل عن الولايات، وقطع الأرزاق، عطاءك من بيت المال وقف، ورد الشهادة" [مجموع الفتاوى: 12/488]،
-قالوا: أنت فاسق شهادتك مردودة، وترك تخليصهم من أيدي العدو، لأنهم تولوا المعتزلة، وصلوا في عهد المأمون ومن بعده وصلوا إلى الحكم، القضاء تحتهم، والجيوش تحتهم، وبيت المال تحتهم، والوظائف والولايات تحتهم، فلما وصل هؤلاء المنحرفون إلى سدة الأمر اضطهدوا العلماء، والذين تحتهم الذين ما رضخوا لهم اضطهدوهم، قتلاً ضربًا حبسًا عزلاً، الإمام أحمد -رحمه الله- كم بقي في بيته ما يحدث إقامة جبرية، ممنوع ما يكاد يصل إليه أحد، ما قال ذاك: إنه كان يحتال حتى يسمع من أحمد حديثًا، يتظاهر بزي السؤال شحاذين، ويروح يطرق الباب يقول: مسكين درهم لله، يقول: فيخرج إليّ أحمد فيحدثني بحديث، ويتظاهر أنه وضعه في جيبي شيئًا، هذا طلب العلم في الظروف الصعبة، ما تركوا طلب العلم -رحمهم الله-.
يقول ابن تيمية: "ثم إن الإمام أحمد -بالرغم من كل ذلك- دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم، والدعاء إلى القول الذي هو كفر" [مجموع الفتاوى:12/488]؛ لأنهم هؤلاء ظنوا أن أحمد بن أبي دؤاد عالم واتبعوه، يعني: المعتصم كان يقول بخلق القرآن، وكان على مذهب المعتزلة، وحمل الناس على ذلك بعد المأمون، الفتنة استمرت كم خليفة حتى جاء الواثق، في عهد الواثق ثار الانتقال يعني كان في جزء أو في وقت حمل الناس على القرآن، ثم حدثت حادثة معينة، سبحان الله! أحيان يجي بعض الناس يقول عبارة ترج الشخص المقابل، يقول: أحسن الله عزاءك في القرآن، قال: ماذا تقول؟ قال: أحسن الله عزاءك في القرآن. قال: يا أمير المؤمنين أليس القرآن مخلوقًا، قال: بلى. قال: كل مخلوق يموت؟ قال: بلى، قال هذه مثل الصدمة، الواثق -رحمه الله- استيقظ [تاريخ الإسلام للذهبي: 4/418].
على أية حال يقول ابن تيمية -رحمه الله-: أن الإمام أحمد دعا للخليفة، وغيره ممن ضربه، وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه من الظلم والدعاء للقول الذي هو كفر" [مجموع الفتاوى:12/ 489]؛ لأنه كان يرى أنه ما قامت عليهم الحجة، لأن ابن أبي دؤاد والوزراء السوء الذين عند الخليفة هل سيسمحون للعلماء لعلماء أهل السنة أن يأتوا ويفهموا الخليفة؟ لن يسمحوا، فصار هذا الخليفة مغلق عليه من أهل السوء، ما يمكن الوصول إليه لإقامة الحجة عليه، ولذلك بعضهم مثلاً المعتصم لما فتح عمورية لما أنجز إنجاز للمسلمين الإمام أحمد عفا عنه، مع أن المعتصم كان يأتي بالجلادين ويأمر الواحد يجلد سوط أو سوطين، ويأتي بالذي بعده حتى لا يتعب، كل واحد يجلد بأنشط ما عنده، والمعتصم يقول له: "شد يدك قطع الله يدك" [البداية والنهاية:10/334]، بالرغم من ذلك أحمد -رحمه الله- لما عفا عنه ودعا له معناه أن الإمام أحمد لا يعتقد أن هذا مرتد لأنه يرى أنه ما أقيمت عليه الحجة، ما كان في تمكن من اختراق الطوق، وتبيين الشبهات والرد عليه، لأنه هؤلاء ملؤوا مجلس الخليفة.
قال: "ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه، وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه من الظلم، والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام" -لو كان أحمد يعتقد أنه فعلاً خلاص أقيمت الحجة عليهم- "لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع" [مجموع الفتاوى: 12/489]، لكن هل أحمد دعا لابن أبي دؤاد وترحم عليه لا لأن هذا ناظره بنفسه، وأقام عليه الحجة، "وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية؛ الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قومًا معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كفره بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه"، يعني: أقيمت عليه الحجة "ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه" [مجموع الفتاوى:12/489]، ابن تيمية يقول: لو نقل عن أحمد أنه كفر ناس قالوا وما كفر ناس قالوا، فيقال: لأنه يعتقد في الذي كفر فيه شخصًا إنه أقيمت عليه الحجة، وما كفر الآخرين لأنه يعتقد أنه ما أقيمت عليهم الحجة دعوننا.
ننهي الكلام بمثال الطواف بالقبور، والاستغاثة بالموتى، الطائف بالقبر واحد يجي على قبر البدوي يأخذ له سبعة أشواط، ويحلق رأسه، ماذا تقولون فيه؟ هل هو مشرك شرك أكبر كافر أم لا؟ قبل قضية أنه أقيمت الحجة وما أقيمت الحجة، نفس الفعل هل هو كفر أو ليس بكفر؟
الذي يطوف بالقبر في فعله تفصيل: هل أراد التقرب إلى صاحب القبر بهذا الطواف أو أراد التقرب إلى الله؟ فإذا قصد بهذا الطواف التقرب إلى صاحب القبر فهو مشرك كافر شرك أكبر مخرج عن الملة، وإذا قصد التقرب إلى الله بالطواف حول القبر وليس إلى المقبور فهو مبتدع بدعة كبيرة، ولكنها لا تصل إلى إخراجه عن الملة، هذا قبل أن نتكلم على قضية إقامة الحجة وعوارض الأهلية، وأنه يعلم أو لا يعلم، نفس الفعل فيه تفصيل، فليست المسألة سواء.
أما الشخص الذي طاف تقربًا إلى الميت ما حكمه؟ إذا قامت عليه الحجة فهو كافر كفر أكبر مخرج عن الملة، لأن في عوام وهوام، يأتون على العادة، وعلى ما هو جاري عليه العمل في المجتمع، وعلى كلام مشايخهم، ويطوف وهو لا يدري فإذا كفرت كل واحد من هؤلاء كفرًا أكبر مخرج عن الملة، طبعًا ستحكم ما تترحم عليه ولا تزوجه، لكن هل أقيمت عليه الحجة أو لا، وأما الذين كما يقع الردود السخيفة:
واحد ذهب إلى مسجد فيه قبر فوجدهم يطوفون ويتمسحون، فقال: يا جماعة اتقوا الله هذا شرك.
قالوا: شيخنا يقول: ما في شيء.
قال: أين الشيخ؟
قالوا: هو في الحجرة، أدخل إليه.
يقول: رأيت شخصا بلحية طويلة، وقلت له: أنت أمرتهم؟
قال: نعم.
قلت: اتق الله.
قال: ما فيها شيء.
قلت له: قال الله –تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ[الأعراف: 194]،وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ[فاطر: 14].
قال: يا ابني هذه آية وهابية.
هذا أقيمت عليه الحجة انتهينا، ورده سخيف، وهو أسخف من الرد هذا، ما يعتبر أنه عنده شبهة؛ لأنه بين له بالدليل وقرأه عليه وبينه له، بهذه الطريقة كافر كفر أكبر، سنكمل الكلام -إن شاء الله- عن بقية الضوابط في الدرس القادم بمشيئة الله، وصلى الله على نبينا محمد