الأربعاء 10 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 11 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

41- وصف النار 2


عناصر المادة
ملخص الدرس السابق
العذاب النفسي لأهل النار
سواد وجوه أهل النار
حوار أهل الجنة مع أهل النار
حوارالشيطان مع أتباعه
بغض وكره أهل النار لأنفسهم
ندم وحسرة أهل النار
عدم انتفاع أهل النار باشتراكهم في عذاب النار
شدة حزن أهل النار
آثار العذاب النفسي على أهل النار
انقطاع العلاقات الاجتماعية بين أهل النار
انقطاع العلاقات بين الأصدقاء في النار
انقلاب الصداقة بين الزعماء وبين المتبوعين إلى عداوة
جدال وخاصم أهل النار
تلاوم أهل النار فيما بينهم
مدة مكث الموحدين من أهل الكبائر في النار
اختلاف نار الكفار ونار عصاة الموحدين
مذهب أهل السنة والجماعة في عصاة الموحدين الذين دخلوا النار
عذاب كفار الجن في النار
عذاب الجن المخلوقين من نار بالنار
تفاوت عذاب أهل النار

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:

ملخص الدرس السابق

00:00:15

تقدم: أن عذاب النار لا يخفف: فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ[البقرة: 86].
وأنه باق لا ينقطع: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ۝ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ[الزخرف: 74 - 75].
وأنه أليم شديد: وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[آل عمران: 177].
وأن هذا العذاب مهين: وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ[النساء: 14].
وأنه عظيم، وأنه غليظ: ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ[لقمان: 24].
وأنه كبير: وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا[الفرقان: 19].
وأنه ملازم: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا[الفرقان: 65].
وهو شديد الحرق والاتقاد: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ[الحـج: 22].
وفيها تغيظ وزفير، ورعبلهم، وأنه يصهر ويذيب: يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ۝ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ[الحـج: 19 - 20].
وأن هذا العذاب ينضج الجلود: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا[النساء: 56].
وأنه يلفح الوجوه ويشويها: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ[المؤمنون: 104]. يَشْوِي الْوُجُوهَ[الكهف: 29].
وهي تحيط بهم: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ[العنكبوت: 54].
وعذابهم فيها يتضاعف: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ[الأعراف: 38].

العذاب النفسي لأهل النار

00:01:36

ما هو العذاب النفسي لأهل النار؟
استهزاء واحتقار وازدراء وإهانة، بالإضافة إلى تعذيب الجسد، بالضرب والحرق والسحب، والطرق: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا [غافر: 11].
فهم يعترفون، ولكن لا فائدة من هذا الاعتراف، فيقال لهم: إنهم سيبقون في النار:ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ[غافر: 12]. وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ[الأنعام: 28].
أهل النار يصرخون ولا من مجيب: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ.
بل يكون الجواب تقربعًا وتوبيخًا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ[فاطر: 37].
ويقال لهم تبكيتًا: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[السجدة: 14].
فتركهم الله في العذاب، وهذا نسيانه لهم.
ويكون هنالك حوار بين الرب وبين هؤلاء الكفرة، وقد قال النبي ﷺ: إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن: تتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبق من كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله برًا أو فاجر وغبارات بقايا أهل الكتاب، فيدعى اليهود، فيقال لهم: من كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير بن الله، فيقال له: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ فقالوا: عطشنا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم ألا يردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا، فيتساقطون في النار، ثم يدعى النصارى، فيقال لهم: من كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، ما اتخذالله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فكذلك مثل الأول[رواه البخاري: 4581].
هناك حوارات هناك كلام ورد، بين ربنا وبين هؤلاء الكفرة، والملائكة ترد أيضاً، وتكون الأجوبة والردود مخزية لهم: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ[المؤمنون: 105]؟
ماذا يقولون؟


رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ۝ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ[المؤمنون:106- 107].
فماذا يقول الجبار؟
اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون: 108].
اخرسوا واسكتوا، سكوت المهينين، الأذلاء، أنتم تستحقون الشقاء الذي أنتم فيه، قال عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: "والله ما نبس القوم بعدها بكلمة واحدة، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم، فشبهت أصواتهم بالحمير، أولها زفير، وآخرها شهيق" كما ذكر ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره[تفسير القرآن العظيم: 5/499].
كانوا يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ۝ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [المؤمنون: 109-110].
فإذًا، حملكم هذا على السخرية بهم، وهذا البغض، جعلكم تنسون ربكم، وتضحكون من أوليائه: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ[المؤمنون: 111].
ثم يخاطبهم موبخًا لهم مرة أخرى: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ[المؤمنون: 112]؟
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ[المؤمنون: 113]يعني الحاسبين قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا[المؤمنون: 114] لبثتم مدة يسيرة على أية حال: لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَما أثرتم الفاني على الباقي.يعذبهم الله بالخزي، ويعذبهم بالتشهير والفضيحة على رؤوس الأشهاد، ولذلك المؤمنون في الأدعية يقولون: رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ[آل عمران: 192].
لأنه ينزل عليه سخط الله والملائكة.
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ[آل عمران: 192].
يوم القيامة هؤلاء الذين عندهم اليوم مستشارون وجنود، وجيوش، وأسلحة، وإدارات، يوم القيامة قال الله: فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ[الطارق: 10].
فهم يتجبرون اليوم في الأرض بغير الحق، ويوم القيامة في غاية الذلة والمهانة، وقال إبراهيم وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ[الشعراء: 87].
لأن هنالك من سيخزى خزيًا عظيمًا.
وقد قال ﷺ في الفضيحة في الغدر: لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة، يرفع له[رواه مسلم: 4635، 4636]عند دبره في ذلك المكان القبيح، لكي يكون فضيحة له، يقول ﷺ: بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة[رواه مسلم: 4636].

سواد وجوه أهل النار

00:06:56

يوم القيامة من عذابهم: سواد الوجه، قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ[آل عمران: 106].
هذا الذي يرهق وجهه الذل: وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا [يونس: 27].
هكذا سواد الوجه: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس: 27].
لقد تقدم: أنهم ومعبوداتهم معًا في النار: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ[الأنبياء: 98].
فإن قال قائل: ولماذا تلقى الأشجار والأحجار معهم في النار، وهذه جمادات لا ذنب لها؟
فيقال: تبكيتًا وخزيًا لهم؛ لأن هذا الكافر لما يرى معبوده معه في النار، وأن هذا المعبود سبب لتعذيبه، إضافي؛ لأنها تتحول إلى جمر، إلى وقود، فيعذب بما كان يعبده، هذا قمة الخزي، أن يعذب بما كان يعبده في الدنيا.
هذا التعذيب فيه إحضار بطريقة مهينة: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا[مريم: 68]يعني على الركب من شدة الهول.
وكذلك فإنهم يدهورون في النار: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ۝ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ[الشعراء: 94 - 95] بعضهم فوق بعض، مع الشياطين.
وكذلك، فإن من أشد العذاب المعنوي والنفسي على هؤلاء: أن الله يحتجب عنهم يوم القيامة؛ لأنه لا يوجد أعظم من رؤية وجه الله ، فيحرم هؤلاء منه حرمانًا تامًا، فلا يرون ربهم إذا احتجب عنهم، إذا احتجب لا سبيل لهم إلى رؤيته؛ كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15]فلا يرونه.
ويتخلى الله عنهم، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، لا خلاق لهم في الآخرة، وكذلك لا يستجيب دعاءهم، بل يزيديهم بؤسًا وشقاءً: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًالا تدعوا مرة واحدة على أنفسكم بالهلاك: وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا[الفرقان: 14]. وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ[السجدة: 12]؟
ما هو الجواب؟
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا[السجدة: 14].
هؤلاء الملائكة، لا ترحمهم، ولا تستجيب لاستغاثاتهم، ولا ترد على صراخهم، بل يضاعف لهم العذاب، وهم يقولون مناشدين خزنة النار: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ[غافر: 49]؟ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ؟ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ[غافر: 50].
يلجؤون إلى خازن النار: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ[الزخرف: 77].


تقريع، وتأنيب، وتبكيت، وإذلال، وإهانة.
ومن الاستهزاء: أن الملائكة لما تصب عليهم العذاب صبًا، تقول له الملائكة: ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ[الدخان: 49]هو ليس بعزيز ولا كريم، لكن من الإهانة.
ويقال له: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ [الطور: 15].
ويقال لهم: إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ[الدخان: 50].
وقال الله عنهم: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ[القمر: 48]والسحب على الوجه إهانة.
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ[الرحمن: 41].
والأخذ بالناصية إهانة: لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ[العلق: 15].
وهم يدفعون دفعًا إلى النار: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا[الطور: 13].
سمى الله عذاب النار، بالعذاب المهين.

حوار أهل الجنة مع أهل النار

00:11:33

ويوم القيامة في حوار آخر يدور بين أهل النار وأهل الجنة، فهناك حوار بين الله وأهل النار، وبين الملائكة وأهل النار، والآن بين المؤمنين وأهل النار: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ[الأعراف: 44].
لكن بعد ماذا؟
نادى أصحاب الجنة أهل النار، قائلين لهم: وجدنا الثواب، ووجدنا النعيم، ماذا وجدتم أنتم؟
يناشدونهم: أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ.
أهل الجنة يقولون: إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف: 50].
واستغاث أهل النار بأهل الجنة طالبين منهم طعامًا وشرابًا، ولكن هؤلاء محرومون، قال ابن عباس: "ينادي الرجل أخاه: إني قد احترقت، فأفض عليّ من الماء، فيقال: أجبه، فيقول: إن الله حرمهما على الكافرين"[انظر: الدر المنثور في التفسير بالماثور: 6/413].
هؤلاء الذين حرمهم الله -تعالى- من نعيم الآخرة، هؤلاء كانوا يستهزئون بالمؤمنين، اليوم المؤمنون يستهزئون بهم: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ۝ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ[المطففين: 29 - 30].
اليوم يضحكون منهم، يستهزئون بالمؤمنين في مقالات الجرائد، يكتب هؤلاء المنافقون اليوم مقالات كثيرة في الاستهزاء بالمؤمنين، في صفحات الجرائد والمجالات، وكذلك في الرسوم الكاريكاتورية يسخرون بالمؤمنين، مهلاً الموعد الآخرة؛ لأن من يضحك أخيرًا يضحك كثيرًا، ويضحك سعيدًا، ويضحك ولا يشقى، قال وَإِذَا انقَلَبُواْأي هؤلاء الكفرة المستهزؤون: إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ ۝ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ ۝ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ۝ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ۝ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَإلى وجه الله هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[المطففين: 31 - 36].

حوارالشيطان مع أتباعه

00:13:43

هناك حوارات بين الشيطان وبين أتباعه: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ لا ينفع أحد أحدًا: إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[إبراهيم: 22].
أخلفتكم وعدي؛ لأن الشيطان يعدهم، لكن غرورًا: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا[النساء: 120].
أما وعد الله حق، كما ذكر البغوي -رحمه الله- في تفسيره: "قام إبليس عند ذلك فخطبهم، فقال: إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ[إبراهيم: 22]فلما سمعوا مقالته، مقتوا أنفسهم، فنودوا: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْبغض الله لكم، وكرهه لكم، أكبر من كرهكم لأنفسكم.

بغض وكره أهل النار لأنفسهم

00:14:44

وهم يكرهون أنفسهم، يكره الواحد نفسه، هذا من العذاب النفسي، يكره نفسه، يبغض نفسه، وبغض الله له أشد:  إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ[غافر: 10].
فنادوا الثانية: فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: 12].
فرد عليهم: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا[السجدة: 13].
فنادوا الثالثة: رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ[إبراهيم: 44].
فرد عليهم: أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ۝ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ[إبراهيم: 44 - 45].
ينادون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ[فاطر: 37].
يرد عليهم: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ[فاطر: 37]جاءكم القرآن، جاءكم الرسول، وجاءكم الشيب.
فمكثوا ما شاء الله، ثم قال لهم: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ[المؤمنون: 105] قالوا: الآن يرحمنا، فيقولون: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ۝ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ[المؤمنون: 106 - 107]. فيقول لهم: اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108]. فعند ذلك ينقطع الرجاء والدعاء، فيقبل بعضهم على بعض، ينبح بعضهم في وجوه بعض، وأطبقت عليهم النار[انظر: معالم التنزيل، البغوي: 4/344].

ندم وحسرة أهل النار

00:16:12

ومن شدة الندم والحسرة التي يحاولون كتمانها يوم القيامة عند معاينة حقيقة العذاب؛ ما أخبر الله عنه، من عدم تحملهم: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِيعني يوم القيامة دفعوه فدية من العذاب: وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ[يونس: 54].
قال ابن جرير -رحمه الله-: وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَأي وأخفت رؤساء هؤلاء المشركين، من وضعائهم وسفلتهم؛ الندامة، حين أبصروا عذاب الله قد أحاط بهم، وأيقنوا أنه واقع بهم"[جامع البيان في تأويل القرآن: 15/103].
فإذا وقعوا في النار ألهتهم النار عن التصنع، بدليل قولهم: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا[المؤمنون: 106]هم أسروا الندامة لما رأوا العذاب، الكبراء حاولوا الإخفاء عن الصغار: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ[البقرة: 167]الحسرة ليست واحدة، بل حسرات!.

عدم انتفاع أهل النار باشتراكهم في عذاب النار

00:17:17

هل ينفع اشتراك أهل النار شيئًا في التخفيف؛ لأن المصيبة في الدنيا إذا اشترك فيها مجموعة خفف بعضهم عن بعض؟

ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي

لكن يوم القيامة، يقول الله : وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ[الزخرف: 39]اشتراككم في عذاب النار، لن يخفف عنكم شيئًا، ولن يغني عنكم اجتماعكم في النار، ولن يعزي نفسه بمصيبة الآخر أبدًا، لا يغني عنهم ذلك شيئًا، ولا يكون ذلك تسلية، أو تخفيفًا، بل هو شديد على الجميع، قال القرطبي -رحمه الله-: "أعلم الله -تعالى- أنه منع أهل النار التأسي كما يتأسى أهل المصائب في الدنيا، وذلك أن التأسي يستروحه أهل الدنيا، فيقول أحدهم: لي في البلاء والمصيبة أسوة، فيسكن ذلك من حزنه... فإذا كان في الآخرة لم ينفعهم التأسي شيئا لشغلهم بالعذاب"[الجامع لأحكام القرآن: 16/ 92].

شدة حزن أهل النار

00:18:28

وكذلك حزنهم شديد: وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ[سبأ: 52]كان في متناولهم الإيمان في الدنيا لو تناولوه، أما الآن، فهو بعيد عنهم: وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ[سبأ: 52].
يقول النبي ﷺ: يقول الله -تعالى- لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة: لو أن لكم ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقول: أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم: ألا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي[رواه البخاري:6557،ومسلم:7263].
كان المطلوب أمرًا بينًا ميسورًا: الإيمان، والعمل الصالح.
ويمتع به في الدنيا، ويفرح الصائم بصيامه في الدنيا والآخرة، وكذلك المصلي تسكن نفسه بصلاته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة، لكن لم يرض هؤلاء.
الله أباح لهم مآكل وشراب بالحلال وزوجات، رفضوا، يريدون خنزيرا، وميتة، وخمرا، ومسكرا، وزنا، وهكذا.. يغشون الحرام، لم يرضوا بالحلال.

آثار العذاب النفسي على أهل النار

00:19:48

ما هي آثار العذاب النفسي عليهم؟
أولاً: الاعتراف -ذكرنا-: إنه لا  ينفع: فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ[الملك: 11].
ثانيًا: يتمنون لو كانوا ترابًا لم يخلقوا: يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا[النبأ: 40].
ثالثًا: يلوم بعضهم بعضًا: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ[العنكبوت: 25].
خامسًا: أنه يلعن بعضهم بعضًا، قال وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ[العنكبوت: 25]. كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا[الأعراف: 38].
سادسًا: يعضون على أيديهم من الحسرة والندامة، ما هو فقط على الأصابع، ولا على أصبع، ولا على اثنين: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان: 27].
سابعًا: يصرخون ويبكون، حتى تنقطع الدموع، بل حتى ينزل الدم بدلاً من الدمع: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا[فاطر: 37].
ثامنًا: زفير وشهيق وعواء: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ[الأنبياء: 100]. وقال فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ[هود: 106].
قال أبو العالية: "الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر"[جامع البيان في تأويل القرآن:15/480].
وقال قتادة: "صوت الكافر في النار مثل صوت الحمار، أوله زفير، وآخره شهيق"[تفسير عبد الرزاق الصنعاني: 2/422 ، و: 19[جامع البيان في تأويل القرآن: 19/79].
قال الزاهد صالح المري -رحمه الله-: "بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم، فلا يبق منهم إلا كهيئة الأنين من المدنف"[التخويف من النار، ص: 205].
من هو المدنف؟
المريض.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "إن أهل النار قال بعضهم لبعض: تعالوا، فإنما أدركَ أهل الجنة الجنَّةَ ببكائهم وتضرُّعهم إلى الله، فتعالوا نبكي ونتضرع إلى الله! قال: فبكوا، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم، قالوا:تعالوا، فإنَّما أدرك أهل الجنة الجنّةَ بالصبر، تعالوا نصبر! فصبروا صبرًا لم يُرَ مثله، فلم ينفعهم ذلك، فعند ذلك قالوا: سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ [إبراهيم: 21]. [تفسير القرآن العظيم: 4/488].


قال تعالى: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ[المدثر: 48].فيقولون: فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ[الشعراء:100].
فيدعون على أنفسهم بالثبور، بالموت والهلاك: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ ۝ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ۝ وَيَصْلَى سَعِيرًا[الإنشقاق: 10 - 12]سوف يدعو ثبورًا، ينادي بالويل والهلاك: يا وايلاه! يا ثبوراه!.
هكذا عذابهم النفسي يتوالى من نوع إلى نوع.
وزار رياح القيسي قوما فبكى صبي لهم من الليل، فبكى رياح لبكائه، حتى أصبح، فسئل بعد ذلك عن بكائه، فقال: ذكرت ببكاء الصبي بكاء أهل النار في النار، ليس لهم نصير، ثم بكى[الخويف من النار، ص: 205].

انقطاع العلاقات الاجتماعية بين أهل النار

00:23:08

ماذا يكون حال العلاقات الاجتماعية عند هؤلاء؟
إنه يوم تتقطع فيه هذه العلاقات، ويفر، يهرب كل واحد من أخيه وأمه وأبيه وزوجته وبنيه، ويفر القادة من الأتباع، ويتمنى الأتباع لو أنهم يعودون إلى الدنيا ليتبرؤوا من السادة، التنكر بين الأهل والأقارب، قال يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَإِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88 - 89].سالم من الدنس والشرك.
لا ينفع القريب قريبه إذا كان من أهل النار: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ[التحريم: 10].
وقال عن المجرم الكافر الذي ليس له نصير ولا شفيع يومئذ: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ[الحاقة: 35]ما في قريب ينفعه، فليس له اليوم صديق يشفع له.
وأولاد الكفار، لن ينفعوهم يوم القيامة؛ لأن الإنسان يستنجد عند الأزمة بأولاده، وعند الحرب يريدهم أن يدافعوا عنه، عند الشدة يستفزع بأولاده: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ[آل عمران: 10].
قال يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْمهما اعتذروا لا ينفعهم الاعتذار، في الدنيا الاعتذار ممكن ينفع، لكن في الآخرة لا ينفع: وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر: 52].
يتمنى الكافر أن يفتدي من العذاب بكل أقاربه.
في الدنيا عندهم شفق على الأولاد، ممكن يضحي بنفسه لأجل ولده، لأجل أهله، ينقذهم من البحر ويغرق هو، ينقذهم من النار يحترق هو، لكن يوم القيامة: يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ۝ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ۝ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ[المعارج: 11 - 14].
لكن هيهات: يُبَصَّرُونَهُمْيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته، لا يكلمه، ولا يسأله، ويبصر حميمه، ويبصر أعز أصدقائه، وأحب الناس إليه، فهو مشغول بنفسه، كيف يكلمه؟ قال ابن عباس: "يتعارفون ساعة من النهار ثم لا يتعارفون بعده"[معالم التنزيل: 8/222]. يُبَصَّرُونَهُمويعرفونهم، ومع ذلك  لا يسأله عن شأنه؛ لأنه مشتغل بنفسه.
يود أن أهل الأرض كلهم فدية له من عذاب النار، قال ابن جرير -رحمه الله-: "يَوَدُّ الكافر يَوْمِئِذٍ ويتمنى أنه يفتدي من عذاب الله إياه ذلك اليوم بِبَنِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وهي زوجته وَأَخِيهِ ۝ وَفَصِيلَتِهِ وهم عشيرته الَّتِي تُؤْوِيهِ أي التي تضمه إلى رحله، وتنزل فيهم امرأته لقربة ما بينها وبينه، وب وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا من الخلق ثُمَّ يُنْجِيهِذلك من عذاب الله إياه ذلك اليوم.


وبدأ جل ثناؤه بذكر البنين، ثم الصاحبة، ثم الأخ، إعلامًا منه عباده: أن الكافر من عظيم ما ينزل به يومئذ من البلاء، يفتدي نفسه لو وجد إلى ذلك سبيلاً، بأحب الناس إليه كان في الدنيا، وأقربهم إليه نسبًا[جامع البيان في تأويل القرآن: 23/606].
يراهم ويفر منهم؛ كما قال فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ۝ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ۝ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس: 33- 37].
فهو يبتعد عنهم؛ لأن الهول عظيم، والخطب جليل، قال عكرمة: "يلقى الرجل زوجته، فيقول لها: يا هذه، أيّ بعل كنتُ لك؟ فتقول: نعم البعل كنتَ! وتثنى بخير ما استطاعت، فيقول لها: فإني أطلبُ إليك اليومَ حسنًة واحدًة تهبينها لي لعلي أنجو مما ترين؟ فتقول له: ما أيسر ما طلبتَ، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا أتخوف مثل الذي تخاف، قال: وإن الرجل ليلقي ابنه فيتعلق به، فيقول: يا بني، أيّ والد كنتُ لك؟ فيثني بخير، فيقولُ له: يا بني، إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى؟ فيقول ولده: يا أبت، ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا، يقول الله -تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ[عبس: 34 - 36]. [تفسير القرآن العظيم: 8/325].
وأخرج ابن جرير عن قتادة -رحمه الله- قال: "ليس شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه، مخافة أن يدور له عليه شيء" ثم قرأ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ[جامع البيان في تأويل القرآن:19/73].
لا شك أنها خسارة كبيرة عندما يخسر الإنسان أهله يوم القيامة، وقد قال قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ[الزمر: 15].
فلا التقاء بينهم، سواء ذهب الأهل إلى الجنة، وذهب هو إلى النار، أو أنهم كلهم كانوا من أصحاب النار، فلا اجتماع لهم ولا سرور: ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.

انقطاع العلاقات بين الأصدقاء في النار

00:29:06

من العلاقات في الدنيا: الصداقات والزمالات والأصحاب، قال تعالى: الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ[الزخرف: 67].
فهؤلاء اجتمعوا على معصية الله في الدنيا، ولذلك يلعن بعضهم بعضًا يوم القيامة، أعداء، الله قال: الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍالخلة هذه أعلى مراتب المحبة: الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّأعداء، انقلبت إلى عداوة: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ.
قال ابن القيم: "وهذه الخلطة التي تكون على نوع مودة في الدنيا وقضاء وطر بعضهم من بعض، تنقلب إذا حقت الحقائق عداوة، قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ۝ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ۝ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا[الفرقان: 27 - 29]. [مدارج السالكين: 1/455].
ولكن ندم وعض على يديه حسرة وأسفًا، اشتد حزنه، يقول: يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ[الزمر: 56].
الحسرة تشتد لدرجة: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ[النساء: 42].الذي صادق واحد على معصية وعلى فسق: حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ[الزخرف: 38].
فهذا هو الذي أضله.

انقلاب الصداقة بين الزعماء وبين المتبوعين إلى عداوة

00:30:47

أما الأتباع مع المتبوعين، والزعماء والرؤساء مع المرؤوسين: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ ۝ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ[غافر: 47 - 48].
اليوم كبراء، رؤساء، ومعهم أعوان، ومعهم أنصار، ومعهم جنود: وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ[إبراهيم: 21].
فانظر إلى هذه الحجة السخيفة: لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ وما يغني عنهم احتجاجهم بالقدر؟
لا شيء.
كذلك المقلدون التابعون بالشر الآن؛ لأن هناك زعماء ضلالة، ومفكرون، وكتاب، أئمة في الشر، لهم معجبون وأتباع، فما هي الحال؟ ماذا يقول بعضهم لبعض يوم القيامة؟
وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ [سبأ: 31] من هؤلاء لهؤلاء، ومن هؤلاء لهؤلاء: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ۝ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا[سبأ: 32-33]أضلوهم، رؤساء الشر والشرك، قادة الشرك، أئمة الضلال، أئمة البدعة، أضلوهم، وهؤلاء اتبعوهم: وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[سبأ: 33].
هناك من يدبر بالليل والنهار، ويعمل المؤتمرات والاجتماعات بالليل والنهار، لأجل إضلال الناس، ووضع الخطط للهيمنة والسيطرة، وزيادة الاتباع في الشر، وكسب الرأي العام: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ[البقرة: 166- 167].هذه الأشياء التي أدت إلى أن يعبد بعض الناس المغنيين، بعض المغنيين والمغنيات، يعبدهم من دون الله، ويصرح بأنه يعبده، وأنه يحبه حبًا العبودية، بعض العاشقين يصرح أنه يعبد معشوقه، وهذا يزيده ضلالاً، ويزين له الباطل، تجري مناظرات في النار، مناظرات كبيرة جداً، وإلقاء لوم وتعنيف واتهامات متبادلة: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ[سبأ: 31].  وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا[الأحزاب: 67].
يظنون أن هذا الكلام يفيدهم، هم أضلونا: أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: 67]ٍ.لكن لا فائدة؛ لأن السادة والأتباع كلهم في النار، فماذا يفعل الأتباع؟
يدعون على السادة: رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِسادتنا وكبراءنا: رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا[الأحزاب: 68].
كم اليوم في العالم، من زعماء الطرق الشركية، والمذاهب الكفرية، والنظريات الإلحادية؟ كم واحد سار وراءهم؟ كم واحد سمع كلامهم، فتأثر به، أو قرأ لهم فاعتنق مذهبهم وكثر سوادهم، وسار في ركابهم؟ هؤلاء الزعماء والكبراء كم واحد ناصرهم، وصار معهم، يوم القيامة يسب بعضهم بعضًا، ويشتم بعضهم بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا، ويتبرأ بعضهم من بعض، ويدعو بعضهم على بعض:[الأحزاب: 68].


قال ابن رجب -رحمه الله-: "ومن جملة أنواع عذاب أهل النار فيها تلاعنهم وتباغضهم، وتبرؤ بعضهم من بعض، ودعاء بعضهم على بعض، بمضاعفة العذاب" [التخويف من النار، ص: 134].
قال تعالى عن التقاطع الذي يقع بينهم والتلاعن: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ۝ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الأعراف: 38 - 39].
إذًا: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍيعني يقول الله لهم يوم القيامة: ادْخُلُوا في جماعات قَدْ خَلَتْ يعني مضت مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِيعني الكفار فِي النَّارِمعهم: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَافي الدين، فتلعن اليهود اليهود، والنصارى النصارى، وكل فرقة تلعن أتباعها وقادتها: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَاوتلاحقوا، واجتمعوا، تقول: أُخْرَاهُمْ آخرهم دخولاً النار لِأُولَاهُمْالقادة والسادة، يعني آخر كل أمة، تقول لأولها، آخر أهل الزمان يقولون لأوله الذين شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن بهالله: رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا هؤلاء القادة فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ.

جدال وخاصم أهل النار

00:37:48

قال عن الخصام والجدال الذي يكون بينهم: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ ۝ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ۝ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ [ص: 59 - 61].
إذًا، أهل النار يسب بعضهم بعضًا، بدل السلام يتلاعنون، ويكفر بعضهم ببعض، تقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة من الزبانية: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْخذوه، دخلوه معكم: لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ؛لأنهم من أهل جهنم: قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ يعني يقول الداخلون: بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَاأنتم دعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير: فَبِئْسَ الْقَرَارُ والمستقر والمنزل والمصير.
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ.
ضِعْفًالكن كل واحد له ضعف، وسيأتيه نصيبه، فإذا ندموا وتحسروا يقولون: وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ [الشعراء: 99] هؤلاء الذين دعونا إلى الضلال، هؤلاء الذين اقتدينا بهم، هؤلاء الذين سنوا لنا الكفر والشرك، سنوا لنا الباطل، فتحوا لنا الباب، دعونا، قلدناهم، اتبعناهم، لكن لا شافع ولا ناصر: فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ۝ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ[الشعراء: 100 - 101].
ويلقي الكافرون اللوم على شياطينهم: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ۝ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ۝ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ۝ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ۝ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ۝ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ۝ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ۝ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ۝ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات: 27- 35].

تلاوم أهل النار فيما بينهم

00:39:59

يتلاومون في عرصات القيامة، ويتخاصمون في دركات النار.
الساحر معه شيطان، الكاهن الذي معه شيطان، وكذلك الشياطين التي أضلت الكافرين بالوسوسة:إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ[الصافات: 28] تأتوننا بالقوة، تقهروننا بالقدرة، الإنسي يقول للجني: كنت تزين لي وتوسوس لي، وتسول لي، تزين لي الباطل، تصدني عن الحق، قال الحسن في قوله تعالى: تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِإي والله يأتيه عنده كل خير يريده، فيصده عنه، قال ابن زيد: "تحولون بيننا وبين الخير، ورددتمونا عن الإسلام والإيمان، والعمل بالخير الذي أمر الله به"[جامع البيان: 21/32].
يتمنى الكفار يوم القيامة، أن يريهم الله الذين أضلوهم لينتقموا منهم، من شدة العذاب، يقولون: أين الذين أضلونا؟ أين هم؟ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا[فصلت: 29].أين هم حتى نجعلهم تحت الأقدام؟ أين هم حتى ندوسهم؟ لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت: 29] الأذلين المهانين كما أضلونا وفتوننا، وتسببوا في دخولنا النار.
يكذب بعضهم بعضًا: وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ [النحل: 86].
ولكن الجميع مستسلم لله: وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ[النحل: 87].
الاستسلام لا حيلة لهم.
النار مسكن الكفرة والمشركين، كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث.

مدة مكث الموحدين من أهل الكبائر في النار

00:41:49

أما أهل الكبائر من الموحدين، فمن شاء الله له العذاب والعقاب يمكث في النار ما شاء الله، ثم يخرج.
لقد شاركوا الكفار في بعض الأعمال الإجرامية، كالقتل، والزنا، وأكل الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، وشرب الخمر، والمسكرات، واللواط، وغير ذلك من الأعمال المحرمة، من البهتان، وإيذاء الأبرياء، قال ﷺ في العصاة هؤلاء:  ليصيبن أقوامًا سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته يقال لهم: الجهنميون [رواه البخاري: 7450].
بعد إخراج عصاة الموحدين ليلحقوا بالمؤمنين في الجنة، يبقى الكفرة والمشركون في النار، فهي المستقر، وهي دار الإقامة، بالنسبة لهم: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ: 23]ماكثين فيها أبدًا.
من الأدلة على ذلك: وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ[آل عمران: 151]فهي مستقرهم.
وقال هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ۝ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ [ص: 55 - 56].قال السعدي: "المعد لهم مسكنًا ومستقرًا" [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص:715].
وقال تعالى:  فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ[فصلت: 24].
قال البغوى: "مسكن لهم" [معالم التنزيل: 7/171].
والآيات كثيرة جداً في هذا.

اختلاف نار الكفار ونار عصاة الموحدين

00:43:27

هل نار الموحدين تختلف عن نار المشركين؟
قال تعالى: فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 24].أرصدت.
وهذه النار التي يدخلها الكفار هي النار التي يدخلها العصاة، ولكن عذابهم فيها يتفاوت، وغير التفاوت، عذاب العصاة مؤقت، وعذاب الكفرة مؤبد، إنما دخل من كتب الله أن يدخلها من أهل المعصية؛ لأنهم ظلموا أنفسهم، واقترفوا الأعمال السيئة.

مذهب أهل السنة والجماعة في عصاة الموحدين الذين دخلوا النار

00:44:14

ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر، لا يخلدون في النار؛ لأن الله قال عن النار: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَفلو كان عصاة الموحدين يخلدون فيها، لم تكن معدة للكافرين وحدهم.

عذاب كفار الجن في النار

00:44:31

هل الحكم هذا يعم الجن أيضاً أم الإنس فقط؟
يقول : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
فمن كفر من الجن والإنس فمأواه النار، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والجن مكلفون كتكليف الإنس، ومحمد ﷺ مرسل إلى الثقلين الجن والإنس، وكفار الجن يدخلون النار بالنصوص، وإجماع المسلمين"[مجموع الفتاوى: 13/85 - 86].
ومن الأدلة على ذلك: أن الله قال: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13].
وقال الله عن الجن: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا [الجن: 14]. وَأَمَّا الْقَاسِطُونَيعني الجائرون: فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا[الجن: 15].
وقال تعالى: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ أضللتموهم، استكثرتم من الإنس: وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ جميعًا أنتم وإياهم خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ [الأنعام: 128].

عذاب الجن المخلوقين من نار بالنار

00:45:46

فإذًا، الجن وإن كانوا مخلوقين من نار، لكن يعذبون بالنار؛ لأن الله على كل شيء قدير، هو الذي خلقهم من نار، قادر على أن يحرقهم في النار، وشتان بين خلقتهم وبين نار جهنم، ألا ترى أن الآدمي المخلوق من تراب، لو أخذ تراب قد جمد، فضرب به رأسه لشج، وآذاه، وهكذا الذين اليوم يتعاملون مع الشياطين من السحرة والكهنة والعرافين، والذين يسجدون للشياطين، وعبادة الشيطان، هذه الملة والنحلة التي اخترقت شباب المسلمين أيضاً، فكفروا بالله، وصاروا يعبدون الشياطين، وطقوس عبادة الشيطان عندهم فيها مسكرات، ودماء، وزنا، وفواحش، وربما قتل، وموسيقى صاخبة جداً، وأشياء منتنة ومقرفة، يفعلونها، هؤلاء الذين عبدوا الشيطان، طائفة عباد الشيطان، الموجودين اليوم في البلاد العربية، وغيرها في أنحاء العالم، الذين اتبعوا هؤلاء الشياطين معهم في جهنم جميعًا، وبئس المصير: قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف: 38]. وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [فصلت: 25].

تفاوت عذاب أهل النار

00:47:48

هل عذاب أهل النار واحد؟
الجواب: لا، أنه يتفاوت بحسب أعمالهم.
ومن عدل الله: أن لا يستوي عذابهم جميعًا؛ لأنهم قد تفاوتوا في الإثم والمعصية، والكفر والشرك، قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ[النحل: 88].
فواحد فاسد، وواحد يفسد فوق فساده، وشره متعد، وواحد كافر، وواحد إمام يدعو إلى الكفر، وله أتباع.
ومن الأدلة على تفاوت عذاب أهل النار: قوله تعالى: ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا [مريم: 69].سنأخذ أشد واحد من كل طائفة، فنبدأ به في العذاب.
وقال النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ[غافر: 46].
وقال سبحانه عن بني إسرائيل: فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ[البقرة: 85].
وقال الله عن المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145].
قال ابن مسعود: فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِفي توابيت من حديد مقفلة في النار"[جامع البيان في تأويل القرآن: 9/339].
وقال أبو هريرة: "بيت مقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم"[معالم التنزيل: 2/303].
هناك كفار أضروا بالمؤمنين، وفي كفار مسالمين، صحيح كلهم في النار؛ لأنهم كفار، لكن الكفار الذين عذبوا المؤمنين غير الكفار الذين سالموا المؤمنين، وما عذبوهم، والذين آذوا المؤمنين منهم من آذاهم بالكلام، ومنهم من آذاهم بالفعل، ومنهم من آذاهم بالقتل، ومنهم من آذاهم بالسلب، ومنهم من آذاهم بهتك الأعراض والسجن، وأخذ الأموال، وسلب الأموال.
إذًا، الجرائم متفاوتة.
ولذلك العذاب يتفاوت أيضًا بحسب الجرائم، فكلما كان الجرمأعظم كان العذاب أشد، وعن أنس قال النبي ﷺ: إن الله -تعالى- يقول لأهون أهل النار عذابًا: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به[رواه البخاري: 3334]الحديث.
إذَا، في أهون أهل النار عذابًا.
وقال في الحديث الصحيح الآخر: إن أهون أهل النار عذابًا رجل منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه[رواه أحمد: 11756، وهو في مسلم: 536] بلفظ: "إن أدنى أهل النار عذابا ينتعل بنعلين من نار يغلى دماغه، من حرارة نعليه.
إذًا، هذا أهون أهل النار.
ومنهم من تكون النار إلى صدره، ومنهم من يغمره غمرًا، وهكذا..
وقد ورد في ذلك حديث رواه أحمد وذكره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، قال ابن حجر -رحمه الله-: "يمكن أن يكون في ورد في حق من يدخل النار من الموحدين، فإن أحوالهم في التعذيب تختلف بحسب أعمالهم، وأما الكفار، فإنهم في الغمرات" [فتح الباري: 11/394] يعني مغمورين تمامًا في النار.
وعن النعمان بن بشير قال: سمعت النبي ﷺ يقول: إن أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل والقمقم [رواه البخاري: 6562، ومسلم: 539، واللفظ للبخاري].
والمرجل، قدر معروف من حديد، أو نحاس، أو حجارة، أو خزف.


وقال العباس بن عبد المطلب للنبي ﷺ: ما أغنيت عن عمك؟ -يعني أبا طالب- فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ -كان يدافع عنك؟- فقال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار [رواه البخاري: 3883، ومسلم: 531].
فخفف عنه العذاب بدفاعه عن النبي ﷺ، وهذا من خصوصيات النبي ﷺ، ولكن لأنه مات على الكفر فهو خالد في النار، لكن عذابه أهون من بقية الخالدين في النار.
الذي يكفر بعدما يرى الآيات والمعجزات عذابه أشد؛ لأن الله لما أخبر عيسى أنه سينزل عليه المائدة، قال: فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ بعد ما رأى المعجزة والآية والمائدة: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ[المائدة: 115].
قال ﷺ في المصورين: من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور[رواه البخاري: 6109].
وفي رواية: أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله [رواه البخاري: 5954، ومسلم:5650].
وفي رواية: إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله [رواه مسلم: 5647].
إذًا، هؤلاء من أشد الناس عذابًا.
ما المقصود بالمصور هنا؟
الذي يصنع ذوات الأرواح.
لكن ذكر ابن حجر -رحمه الله- استشكالاً، ونقل إجابة الطبري عنه: "بأن المراد هنا من يصور ما يعبد من دون الله وهو عارف بذلك، قاصدا له، فإنه يكفر بذلك، فلا يبعد أن يدخل مدخل آل فرعون، وأما من لا يقصد ذلك، فإنه يكون عاصيا بتصويره فقط"[فتح الباري: 10/383].
لأن تصوير ذوات الأرواح حرام، سواء كانت تعبد أو ما تعبد، لكن إذا صار يصور وهي تعبد، وهو يعلم، مريد لذلك، يكفر، ويلحق بفرعون.
من أشد الناس عذابًا يوم القيامة، قال ﷺ: أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبيًا، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين  [رواه أحمد: 3868، وقال محققو المسند: "إسناده حسن" وهو في السلسلة الصحيحة للألباني: 281]وهذا يرجع إلى التصوير السابق.
وكذلك قال ﷺ: إن أعظم الناس فرية لرجل هاجى رجلا، فهجا القبيلة بأسرها حديث صحيح[رواه ابن ماجه: 3761، وصحه الألباني في صحيح ابن ماجة: 3029].
فهو بدلاً من أن يعاقب بمثل ما عوقب به، ويهجو الذي هجاه فقط، هجا قبيلته كلها، فلظلمه، من أشد الناس عذابًا.


نسمع الآن الذين يعذبون المؤمنين بالنار، والكي، والضرب الشديد، وأعقاب السجائر، وأنواع العذاب، حتى المثقب الكهربائي، ما عذاب هؤلاء؟
قال ﷺ: إن من أشد الناس عذابا أشدهم عذابا في الدنيا للناس [رواه أحمد:15369، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1442].
وقال ﷺ: أشد الناس يوم القيامة عذابا إمام جائر [حسنه الألباني في صحيح الجامع: 1001].
إذًا، نرى أن هنالك تفاوت في العذاب يوم القيامة، وهنالك أشد الكافرين عذابًا، وأشد الفاسقين عذابًا، والمسألة نسبية أيضًا.
والدعاة إلى النار في كل زمان ومكان، هؤلاء من أول من تسعر بهم النار.
 إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6].
يَدْعُو حِزْبَهُالشيطان أكبر داعية إلى الشر الذي يدعو كل البشر إلى الشر: لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ هؤلاء حزبه سيسوقهم إلى النار: أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان:21].
ولإبليس جند وأعوان يبعثهم لدعوة الناس إلى ما يغضب الله؛ كما قال النبي ﷺ: إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه جمع سرية وهي القطعة من الجيش فأدناهم منه منزلة أعظم فتنة، يجيء أحدهم، فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا ثم يجيء أحدهم، فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت قال الأعمش: أراه قال فيلتزمه" [رواه مسلم: 7284].
إبليس يلتزمه، يضمه مما أحدث من الفساد؛ لأنه شرد الأسرة، وأوقعهم في أنواع من المصائب.
فرعون بعد إبليس: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ[هود: 98].
هذا الذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38].أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى[النازعات: 24]سيذيقه الله عذاب الخزي، أشد العذاب.
وجنوده وأتباعه ووزراؤه وحاشيته: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ ۝ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ[القصص: 41 - 42].
المشركون والمشركات يدعون إلى النار، ولذلك الله نهى عن نكاحهم، قال: وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍيعني من حرة مشركة: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْأي المشركة: وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَلا تزوج بنتك أو أختك لمشرك: حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍمن حر من مشرك: وَلَوْ أَعْجَبَكُمْأي شكل المشرك وصورته وكلامه؛ لماذا؟ قال تعالى: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة: 221].
ما معنى: يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ؟
يدعون إلى الأعمال التي تؤدي إلى دخول النار.
بعد إبليس، وفرعون، قادة أهل الشرك، المنافقون، الرؤساء، أهل النفاق، العلماء المضلون، الوجهاء الجهلاء، القادة السفهاء، أصحاب الرايات في الفسق والمجون، هؤلاء لا شك أن لهم نصيبًا عظيمًا؛ لأن جهنم دركات، وعذابها يتفاوتها، وهؤلاء القادة في الشر، قال النبي ﷺ لحذيفة لما سأله: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها فقلت: يا رسول الله صفهم لنا؟ قال: نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا [رواه البخاري: 3606، ومسلم:4890].


فهؤلاء الدعاة على أبواب جهنم، مضى منهم أصناف: الباطنية، كالقرامطة، وغيرهم، وأصناف أهل الكفر والإلحاد، وأصحاب المحنة الذين امتحنوا المؤمنين.
وأما في زماننا هذا، فإن الذين يدعون اليوم إلى الكفر قادة وزعماء، فيه أنواع منوعة، فمنهم من يدعو إلى الانسلاخ من الإسلام بالكلية.
ومنهم من يقول: ليس لله إلا هذه العبادات من صلاة وصيام، ويحكم في الحياة قوانين البشر، في التجارة، والسياسة، والعلاقات الاجتماعية، ونحو ذلك، فيريدون سلخ الناس عن الشريعة، ووضع القوانين الكفرية لهم ليسيروا عليها.
ومنهم قادة الرذيلة الذين يريدون نشر الفواحش، وإغراق المجتمع في الرذيلة، ومستنقعات الانحطاط.
ومنهم أهل النفاق الذين يشككون المسلمين في دينهم، ويطعنون في الشريعة، ويثيرون الشبهات، حول نصوص الكتاب والسنة، وأحكام الدين، هؤلاء أنواع منوعة.
هؤلاء أئمة يدعون إلى النار، ولا شك أن عذابهم أشد وأسوأ من عذاب غيرهم.
نرى اليوم قادة للكفر، وآيات للشيطان.
وكذلك نرى من رؤساء الزندقة، والرؤوس الذين يدعون إلى أنواع المذاهب الهدامة الإلحادية، والذين أدخلوا كثيرًا من شباب المسلمين في المحافل الماسونية، وجمعيات عبادة الشيطان، ونحو ذلك.
هؤلاء رؤساء الكفر، عذابهم أشد وأبقى.
ثم يتفاوتون، أي أهل النار على حسب أعمالهم في العذاب.
نسأل الله أن يجيرنا من خزي النار وعذابها، وأن يباعد بيننا وبين النار، وأن يصرف عنا عذاب جهنم.
ونسأله أن يجعلنا مع القوم الصالحين، وأن يدخلنا الجنة مع الأبرار.
ونسأله أن يرزقنا الفردوس الأعلى بحوله ومنته وكرمه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.