الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فهم الأمثال وتدبرها
عباد الله: لقد ضرب الله لنا في كتابه العزيز الأمثال، وقال: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [سورة العنكبوت:43]، وقال: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة الزمر:27].
وأثنى الله على من يفهم أمثال كتابه، فقال : وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [سورة العنكبوت:43].
وكان بعض السلف إذا لم يفهم مثلاً في القرآن بكى، وقال: لست من العالِمين؛ لأن الله قال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ولذلك قال قتادة -رحمه الله-: "اعقلوا عن الله الأمثال"[1].
أمثلة المنفقين المخلصين
فكان ينبغي على كل مسلم أن يتفكر في هذه الأمثال التي ضربها ربه في كتابه، ومنها: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ [سورة البقرة:261] فشبه المنفق في سبيله المنفق في سبيله بالباذر، يبذر الحبة والحبة تحت الأرض، وهذا إشارة إلى الإخلاص في الإنفاق، يتعاهد الباذر هذه البذرة بالسقي، يسقيها بماء الإخلاص، ورجاء ثواب الله، واحتساب الأجر عنده، يتعاهدها وينفي عنها كل ضار يضر بالزرع، الرياء العجب المن الأذى، ما هي النتيجة؟ أن الله يضاعفها كما أن هذه الحبة: أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ سبعمائة، ولا تتوقف المضاعفة عند ذلك، بل الله يضاعف لمن يشاء.
ضرب الله مثلا آخر فقال: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [سورة البقرة:265] جَنَّةٍ بستان على مرتفع من الأرض، ربوة، تتعرض للشمس والهواء، فتكون ثمارها من أحسن الثمار، يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ تثبيتًا من أنفسهم، إنفاق بعزم ومضي دون تردد، كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ المطر الغزير فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ [سورة البقرة:265] هذا الرذاذ، وهذا الرش، وتنبت بذلك، هذا المثل للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، وفي سبل الخير على وجه تزكو به نفقاتهم، وتقبل به صدقاتهم، صدقا من أنفسهم، وتثبيتا من النفس، وهو الصدق في البذل، هذا المؤمن المخلص جنته تؤتي ثمارها بكل حال قلت أو كثرت يستفيد من عمله.
أمثلة المنفقين المرائين
وقال تعالى محذرا وضاربا المثل للمرائين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ الصخر الأملس، عليه تراب، مجرد طبقة، لا يمكن أن يزرع عليها شيء، فأصابه وبل، لما نزل المطر ماذا حصل لهذا التراب؟ ذهب، المطر غسل الصخرة، وزال التراب، فهل تنبت شيئًا؟ لا، فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:264] هذا المثل لعمل المرائي، ونفقة المرائي، وكيف يبطل الرياء الأجر، ويمنع الثواب، تركه صلدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ أعمالهم التي عملوها في الدنيا لن تعطيهم شيئًا يوم القيامة، لقد وضعوها في غير موضعها أيضاً.
وقال في مثل آخر محذرا: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ بستان مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ أنفس الثمار تؤكل رطبة ويابسة وفاكهة وغذاء ودواء تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لا يحتاج إلى تعب في السقي لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ليس فقط نخيل وأعناب، ما أنفس البستان! وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ لا يستطيع العمل، فالآن رزقه من هذا البستان، واعتماده عليه وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء إناث صغار، مرضى زمنى، ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء لو مات الآن أيضا ليس لهم إلا هذا البستان، فهو وذريته هذا أملهم، وهو يخشى أن يموت كبيرًا الآن، وذريته ضعفاء، فقد تعلقت نفسه بالبستان من كم جهة؟ وفجأة فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ [سورة البقرة:266] ما أعظم المصيبة! وما أفدح الخسارة إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ هذا إعصار الرياء، ونار المن والأذى، والعجب بالعمل، فَاحْتَرَقَتْ لن تنبت شيئًا، خاب الأمل، وضاع العمل، وهذا المثل يصور الخيبة النفسية لهذا الإنسان يوم القيامة عندما يأتي في غاية الحاجة إلى عمله، لكن لا يجد شيئًا، ذهب به إعصار الرياء.
مثل المرابين عند قيامهم من قبورهم
وضرب الله مثلا آخر، فقال: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [سورة البقرة:275] هذه الصورة المخيفة التي مثل الله بها حال المرابي عندما يقوم من قبره، يتعثر، يسقط، يُخنق، كالمصروع، الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ مسه الشيطان، صرعه الشيطان، تلبس به، وتلعب به، هذه حال المرابي عندما يقوم من قبره، فما بالك بالعذاب الذي سيأتي بعد ذلك؟ قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق"[2].
أمثلة في مصير أعمال الكفار الخيرية
وقال تعالى ضاربا المثل في مصير الأعمال الخيرية للكفار المشركين الذين ليس عندهم أساس التوحيد والإيمان لا إيمان ولا توحيد: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ سراب في منبسط من الأرض واسع يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء يسير في الصحراء محتاجا إلى الماء، فيرى من بعيد هذا الماء يلوح له كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [سورة النور:39] يا خيبة الأمل، هكذا الكفار الذي ينفق في أعمال الخير، يعالج المرضى، يعطي الفقراء، يدرس الطلاب، يبني المستشفيات والملاجئ، ودور الأيتام، ويعمل، لكن كافر بالله، لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، يعتقد أن لله زوجة وولدا، ماذا ستنفعه كل هذه الأعمال الخيرية؟
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة التوبة:19] هكذا رد الله على مشركي قريش لما تظاهروا وافتخروا بهذه الأعمال وهم مشركون بالله، يشركون معه، يعبدون اللات والعزى، فماذا ستنفعهم كل هذه الأعمال الخيرية؟
إنه تحذير خطير للذين لا يؤمنون بالله، ولكن عندهم أعمال خيرية، عندهم أعمال بر، ومن عدل الله أنه سيعطيهم في الدنيا على أعمالهم، صحة، مزيدًا من المال، شهرة، أولادًا، وهكذا .. لكن يوم القيامة: حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة النور:39].
مرة أخرى الحسرة التي تصيب من ضيع عمله، وقال : مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ الرماد خفيف، ويتطاير بسرعة، اشتد به الريح، جاءت ريح عاصف شديدة، وهذا الرماد خفيف جدا، فكيف تبعثره؟ وكيف تذهبه؟ وكيف تفرقه؟ انظر إلى روعة المثل، وبلاغة القرآن كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ يحتاجون إلى ثواب أعمالهم لكن الكفر الإلحاد، الشرك، الزندقة، النفاق الأكبر، أذهبها، لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ يوم القيامة لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ [سورة إبراهيم:18].
وقال : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ بستان ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة آل عمران:116، 117] فالنفقات التي يتفاخر بها هؤلاء الكفار، وبعضهم يقول: إنه أوقف ثروته كلها، أو نصفها، لكن بدون إيمان، بدون توحيد الله، كمثل ريح فيها صر، برد شديد متلف، أو نار محرقة، هبت على بستان، فأحرقت ما فيه، وأهلكت زروعه وثماره أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ [سورة آل عمران:117] تلك نار الكفر وإعصار المعصية والإشراك بالله .
مثل الدنيا وزينتها
ضرب الله لنا أيضا مثلا يحذرنا فيه من فتنة الدنيا: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ [سورة يونس:24] فلا تفتنوا بها أيها الناس؛ فإن فيها بهجة وحلاوة وجمال خضرة، لكن ما هي النهاية؟ زائلة فانية ذاهبة، فلا تفتننكم، ولا تنشغلوا بها عن عبادة ربكم، لا بأموالها وتجاراتها، ولا بألعابها ومتعها، خذوا منها المباح الحلال الذي تعبرون به إلى الدار الآخرة، واجعلوا أكثر أعمالكم في الدنيا طاعة لله، فإن الله أمر بالتنافس: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [سورة المطففين:26] في الخيرات وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ [سورة آل عمران:133]، سَابِقُوا [سورة الحديد:21] في أمور الآخرة، سارعوا، سابقوا، فليتنافس، إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [سورة الأنبياء:90] وفي الدنيا قال: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [سورة الملك:15] مشي وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ [سورة القصص:77] هذا هو الأهم الأول الذي يصرف له الوقت الأكثر، والجهد الأكبر: وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [سورة القصص:77]؛ لأنه لا بدّ لك من شيء تعيش به.
مثل المشرك الذي يعبد أكثر من إله
انظروا إلى المثل العظيم الذي ضربه الله للمشرك الذي تتنازعه آلهته، والتي تختلف في نفسه في تلبية ما تريد: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ [سورة الزمر:29] هذا التوحيد هذا الموحد هذا مثل الموحد الذي لا يعبد إلا الله لا يريد إلا الله وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا هذا مثل الكافر الذي يعبد آلهة شتى، والمؤمن الذي يعبد إلها واحدا، هذا المشرك بمثابة عبد يملكه عدة أشخاص، اختلفت أوامرهم، وتضاربت رغباتهم، فهو متوزع النفس، مشتت، لا يدري يرضي هذا، أو هذا يطيع هذا أو هذا، لكن المؤمن الموحد الذي لا يعبد إلا الله قد استقامت نفسه، وتوحدت وجهته وجهده في إرضاء إله واحد يعبده، لا شريك له، فانظر إلى هذا البيان الجميل، والبلاغة العظيمة، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [سورة الزمر:29].
وقال تعالى: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ في المقابل ومن الآخر وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا [سورة النحل:75] الأول عبد مملوك لا يقدر على شيء، ولا يدبر، هذا لا خير عنده، لا يعمل بطاعة الله، هذا رقيق لا يملك نفسه، ولا يملك المال ولا من الدنيا شيئًا، لكن في المقابل وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا يحسن الاستثمار، ويحسن العطاء، لا يستوي هذا المملوك العاجز، وهذا المحسن، كذلك لا يستوي الكافر العاصي، والمؤمن المطيع، والله تعالى يملك كل شيء، ومن يتاجر معه يربح، والذين يعبدون من دونه لا تملك شيئا ولا تضر ولا تنفع، فمن يعبدها خاسر.
نسأل الله أن يفقهنا في كتابه، وأن يفهمنا آياته، وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب همومنا، وجلاء أحزاننا، اللهم اجعلنا من أهلك أهل القرآن يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى وصحبه أجمعين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وذريته الطيبين وخلفائه الميامين، وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
مثل من يعبد الله ومن يعبد غيره
عباد الله: لنعقل عن الله أمثاله، ما ضربها لنا عبثا، ويجب علينا أن نتفهم هذه الأمثال؛ لأن فيها موعظة بليغة، بيان عظيم، دروس رائعة: وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ سيده لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ لا يفلح هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة النحل:76] مثل ضربه الله لنفسه ولمن يعبد من دونه، فشبه هذه المعبودات، وهذه الأوثان في عجزها بهذا الأبكم المملوك الذي لا يقدر على شيء، ولا يجلب خيرا، وضرب المثل لنفسه تعالى بمن يأمر بالخير والعدل وهو على صراط مستقيم، هذه الأصنام لا تنطق ولا تعقل، وهي كَلٌ على عابديها، لا بدّ أن يحملوها، وأن ينظفوها، ويمسحوا عنها الغبار، هي لا تفعل شيئًا هَلْ يَسْتَوِي هذا الوثن والصنم مع من يأمر بالعدل والإحسان والخير وهو على صراط مستقيم: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة هود:56] كما ذكر في كتابه، فلا يستويان.
فيا عابدي الأصنام: الخطاب موجه لهم كيف تعبدونها من دونه؟
واليوم عبادة الأوثان في العالم ضخمة وهائلة، من الناس من يعبد الشجر والحجر والبقر والبشر وبوذا مئات الملايين، آلاف الملايين.
ومنهم من يعبد القبور والأضرحة والموتى، ويستغيث بهم، هل يستوي هذا الميت الذي لا يجيب ولا ينفع من هؤلاء الذين يدعونه مشركو القبور وعباد القبور والأضرحة، هل يستوي مع الله تعالى الذي قوله صدق، وحكمه عدل، وأمره رشد، يأمر عباده بما يصلحهم.
مثل كلمة التوحيد وكلمة الشرك
وكذلك ضرب الله المثل للتوحيد والشرك، كلمة التوحيد وكلمة الشرك، بالمثل العظيم في سورة إبراهيم: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً وهي شهادة: أن لا إله إلا الله كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ وهي النخلة أَصْلُهَا ثَابِتٌ قوي متجذر في الأرض أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء [سورة إبراهيم:24] عالية، سامقة، قوية، راسخة، تثمر، يستفاد منها في كل وقت وحين، وصيفا وشتاءً، وبالثمر الرطب والتمر والسعف والجمار والظلال، وكل ما فيها مفيد، وهذا السعف، وهذه الجذوع أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء هذا مثل كلمة التوحيد في نفس المؤمن، ثابتة، راسخة، تثمر الأعمال الصالحة، هذا المؤمن الموحد يستفاد منه دائما في كل وقت، أعمال الخير تخرج منه، وتنبع، في كل الاتجاهات للبشر، ولمن حوله تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [سورة إبراهيم:25] وسيلقى جزاء أعماله الصالحة عند الله الحسنات والقربات التي تقربه إلى ربه، وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كلمة الكفر كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ مثل الحنظل اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ الحنظل لا جذور لها ضاربة في الأرض، الحنظل هذا يمشي على الأرض ليس له حتى صعود إلى الأعلى، اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ [سورة إبراهيم:26] ليس لها أصل ثابت الكفر ليس له أصل ثابت، ليس له مستند صحيح، ليس يبنى على شيء مستقيم أبدا، فهو ذاهب هو وصاحبه.
أمثلة في ضعف وحقارة الشرك وأهله
وقال الله ناعيا على المشركين في عبادتهم للأوثان: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هذه الأوثان والأصنام إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [سورة الحـج:73] لو حط الذباب على الصنم وقد طيبه عباده، ووضعوا عليه أنواع العطور والأدهان والأطياب، فعلق في أرجل الذباب شيء من الطيب الذي على الصنم، لا يمكن لها أن تستنقذه منه يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [سورة الحـج:73] ضعفت الأصنام، وضعف عابدوها، الطالب والمطلوب الذي يطلب والذي يطلب منه مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة الحـج:74].
عباد الله: في غمرة الانتشار للشرك والكفر والإلحاد تأتي هذه الأمثال تثبت المؤمنين، تبين لهم الحق الذي هم عليه، والباطل الذي عليه الآخرون: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة العنكبوت:41].
إذًا، هذه الشركيات، الشرك هذا مثل بيت العنكبوت، واهٍ، ذاهب، ضعيف، لا أصل له.
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا أجمعين، وأن ترحمنا يا رب العالمين، اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، تقبل صيامنا وقيامنا، ودعاءنا يا رب العالمين.
عباد الله: لقد جعل الله لكم في ختام شهركم أياما كالسنن الرواتب للصلاة تصام فتعوض النقص، وتزيد الأجر، وهي ستة شوال، إن شئت أن تصومها متتابعة، أو متفرقة، وصومها بعد القضاء لا شك أنه أفضل؛ لأن إبراء الذمة بقضاء الواجب مهم للغاية.
ثانيا: ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل، يعني بعد الفرائض.
ثالثا: أن الإنسان لا يدري متى يموت، فعليه أن يسعى في إبراء ذمته، فالقضاء الواجب أولاً، ولا يصح جعل الستة مع القضاء بنية واحدة، هذا له نية، وهذا له نية، وإذا أردت أن يكتمل لك أجر ستة شوال فانوها من الليل، وليس من النهار حتى يبدأ يومك بالنية.
ولا حرج أن تصوم الجمعة والسبت، أو الخميس والجمعة، وإذا صمت الاثنين والخميس، وأيام البيض بنية الست كتب الله لك الأجرين، أجر الست، وأجر البيض، وأجر الاثنين والخميس؛ لأن الله واسع الفضل .
اللهم اجعلنا من أهل جنتك، أورثنا الفردوس الأعلى، أدخلنا الجنة مع الأبرار وقنا عذاب النار، أدخلنا الجنة بلا حساب ولا عذاب، أصلحنا وأصلح نياتنا وذرياتنا، وأزواجنا يا رب العالمين، رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، اجعلنا من مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا ربنا وتقبل دعاءنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، اللهم إنا نسألك الفرج لأمة محمد ﷺ، اللهم اجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، من أراد بلدنا بسوء فابطش به، واقطع دابره، واجعل كيده في نحره، اجعل هذا البلد آمنا سخاء رخاء مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الصافات:180– 182].