الثلاثاء 9 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 10 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

23- آداب الضيافة 1


عناصر المادة
مقدمة
تعريف الضيافة  
الضيافة من سنن المرسلين
منزلة الضيف عند أهل الجاهلية
أحكام الضيافة في الشرع
إبراهيم  وإكرامه لضيفه
صور من إكرام الضيف
إيثار الضيف على الأهل والأولاد
أن الإنسان ولو كان صائماً، من أصحاب عبادة الصيام؛ فإنه لا ينسى الطعام لأجل الضيوف
إباحة الشريعة السمر مع الضيف بعد العشاء

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:

مقدمة

00:00:13

فالحديث في هذه المجموعة من سلسلة الآداب الشرعية الثانية، سيكون عن: "إكرام الضيف".
وهو من الآداب العظيمة التي حفلت بها هذه الشريعة المباركة، وأكدت ما كان موجوداً عند العرب من المعروف في هذا الأمر.

تعريف الضيافة  

00:00:43

أما ضاف القوم وتضيفهم، أي: نزل عليهم ضيفاً وأضافوه وضيفوه، أي: أنزلوه.
والضيف معروف.
وجمعه: أضياف وضِيفان.
والاسم، هو الضيافة.
ويقال: أضفته إضافة إذا لجاء إليك من خوف فأجرته، واستضافني فأضفته، استجارني فأجرته، وتضيفني فضيفته إذا طلب القِرى.
فإذا طلب الإنسان أن ينزل ضيفاً، فيقال: تضيف، والذي يقبل هذا يقال: ضيفه، هكذا في المصباح المنير: 5/370]. والمغرب.

الضيافة من سنن المرسلين

00:01:34

والضيافة من آداب الإسلام وشرائعه وأحكامه، وهي من سنن المرسلين، وأول من ضيف الضيف إبراهيم ؛ كما جاء ذلك في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ، وقال الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ[الذاريات: 24] فوصفهم بأنهم أكرموا.
وقصته معروفة لما قدم لهم عجلاً حنيذاً نزلاً وضيافةً.
وجاء في بعض الإسرائيليات قصة فيها عبرة، كان إبراهيم لا يأكل وحده، فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه، فلقي يوماً رجلاً، فلما جلس معه على الطعام.
قال له إبراهيم: سم الله، قال له الرجل: لا أدري ما الله، قال له: اخرج عن طعامي، فلما خرج الرجل نزل إليه جبريل، فقال له: يقول الله : إنه يرزقه على كفره مدى عمره، وأنت بخلت عليه بلقمة، فخرج إبراهيم مسرعاً فرده، فقال: ارجع، فقال: لا أرجع، تخرجني ثم تردني لغير معنى، قال: فأخبره بالأمر، فقال: هذا رب كريم آمنت،  ودخل، وسمى الله، وأكل مؤمنًا. [الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 9/68، وأحكام القرآن، لابن العربي: 4/498] .
وستأتي قصة إبراهيم الخليل ، والعبر التي فيها، والآداب المنطوية عليها، بالنسبة للضيافة في قصته مع الملائكة.
وأما لوطٌ ، فإنه كان يكرم الضيوف أيضاً، كيف لا وهو قد تعلم من إبراهيم عليهما السلام، ولما جاءه ضيوفه: وجاء قومه يهرعون إليه لعمل الفاحشة، فدافعوه الباب حتى كادوا يغلبونه، وهو يخاطبهم: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود: 78].
وأخبر أنهم راودوه عن ضيفه، فطمس أعينهم، ولم يرجمهم فقط، ولكن طمس أعينهم، ثم رجمهم، وهذا دليل على أهمية، وخطورة إيذاء الضيف.
وهذه عجوز السوء امرأته التي كانت تدل الفجار على ضيفه، قال الله -تعالى- فيها:فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ[الأعراف: 83].
وقال: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ  [هود: 81].
لماذا؟
لأنها كانت تدل قومها على الضيفان، هذه خيانتها لزوجها؛ فعذب الله عجوز السوء القوادة -كما قال العلماء- بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث.
وقد جاء في معرض الذم، ذكر القوم الذين نزل عليهم الخضر وموسى عليهما السلام، فأبوا أن يضيفوهما.
وأما نبينا ﷺ فقد كان أعظم الناس في إكرام الضيف على الإطلاق.
وقد وصفته خديجة بمثل ذلك من أيام الجاهلية، فلما دخل عليها فزعاً مما لقي في الغار بعد نزول صدر سورة اقرأ، وقال: زملونيفزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: أي خديجة مالي لقد خشيت على نفسي؟ -فأخبرها الخبر- فقالت خديجة: "كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف" الحديث في  البخاري. [رواه البخاري: 3].

منزلة الضيف عند أهل الجاهلية

00:05:54

وكان لأهل الجاهلية شأن عظيم في إكرام الضيف، والذم فيمن لم يكرمه، فجاء الله بهذا الدين الذي رفع شأن هذا الأدب العظيم، وهو إكرام الضيف؛ فأقر ما كان عليه أهل الجاهلية من المعروف في هذا، وزاد عليه، وأبطل ما كان معروفاً عندهم في هذه الخصلة وغيرها كما كانوا يفعلون، من بعث الرجل بأمته إلى ضيفه.
وقد حصل للصحابة رضوان الله عليهم قصة عندما ذهبوا مع أبي سعيد ، وسافروا، ونزلوا على حيٍ من أحياء العرب المشركين، فاستضافوهم، فأبو أن يضيفوهم، حتى لدغ أحدهم، فرقاه أبو سعيد على قطيع من الغنم. [البخاري: 2276].
وكان قيس بن عاصم الصحابي وكان جواداً سيد قومه حليماً، أخذ الأحنف بن قيس الحلم عنه.
تزوج قيس امرأة، فأحضرت له طعاماً، فقال لها: أين أكيلي؟ فلم تدر ما يقول لها، فأنشأ يقول:

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي
أخاً طارقاً أو جار بيتٍ فإنني أخاف ملامات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف من غير ذلة وما في إلا ذاك من شيمة العبد

فسمعه جارٌ له، وكان بخيلاً، فقال:

لبيني وبين المرء قيس بن عاصم بما قال بون في الفعال بعيد
وإنا لنجفو الضيف من غير قلة مخافة أن يغرى بنا فيعود

[الآداب الشرعية: 3/313].
وقد أوصى قيس بن خفاف بن عمر بن حنظلة جبيلاً ابنه بقصيدة فيها آداب ومصالح، يقول له فيها:

أجبيل إن أباك كارم يومه فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل
أوصيك إيصاء امرئ لك ناصحٍ ظن بغيه الدهر غير معقل
الله فاتقه وأوف بنذره وإذا حلفت ممارياً فتحلل
والضيف تكرمه فإن مبيته حقٌ ولا تك لعنة للنزل
واعلم بأن الضيف مخبر أهله بمبيت ليلته وإن لم يسأل

أحاديث نبوية في إكرام الضيف

00:08:52

وقد قال النبي ﷺ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه[رواه البخاري: 6018، ومسلم: 182].
وقال ﷺ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه؛ جائزته قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، ولا يحل لرجل مسلم يقيم عند أخيه حتى يؤثمه قالوا: يا رسول الله وكيف يؤثمه؟ قال: يقيم عنده ولا شيء له يقريه به[رواه البخاري: 6135، ومسلم: 4610].
ومعنى قوله ﷺ: جائزته يومٌ وليلة، أي: يكرمه ويتحفه ويحفظه يوماً وليلة، وثلاثة أيام ضيافة.
وقال الخطابي: معناه: أنه يتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وإلطاف، وأما في اليوم الثاني والثالث، فيقدم له ما كان بحضرته.
الاجتهاد في اليوم الأول الجائزة، والثاني والثالث ما كان بحضرته، ولا يزيد على عادته، وما كان بعد الثلاث فصدقة ومعروف، ليس بواجب عليه، وإذا فعله، فهو تطوع منه، إن شاء فعل، وإن شاء ترك.
وقوله ﷺ: ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثمه معناه: لا يحل للضيف أن يقيم عند المضيف بعد الثلاث من غير استدعاء منه، إلا إذا أصر وألح عليه، وطالبه بذلك، لئلا يقع المضيف في الإثم، ولئلا يقع في الحرج.
وعن أبي كريمة المقدام بن معد يكرب  قال: قال رسول الله ﷺ: ليلة الضيف حق على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه -أي: الضيف- فمن أصبح بفنائه فهو عليه دين إن شاء اقتضى وإن شاء ترك [رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح: 3752، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2592].
وعنه قال: قال رسول الله ﷺ: أيما رجل أضاف قوماً فأصبح الضيف محروماً، فإن نصره حقٌ على كل مسلم -أن تؤخذ له الضيافة- حتى يأخذ بقراء ليلة من زرعه وماله[رواه أبو داود: 3753، بإسنادٍ حسن، كما قال النووي في المجموع شرح المهذب: 9/57].
وعن عقبة بن عامر قال: قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله ﷺ: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذى ينبغي لهمخذوا منهم. [رواه البخاري: 6137 ، ومسلم: 4613].

أحكام الضيافة في الشرع

00:12:15

وحكم الضيافة: أنها سنة عند جمهور العلماء، فإذا استضاف مسلم لا اضطرار به مسلماً استحب له ضيافته، ولا تجب، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة ومذهب الشافعي والجمهور.
وقال الليث بن سعد وأحمد بن حنبل: هي واجبةٌ يوماً وليلة، على أهل البادية، وأهل القرى، دون أهل المدن.
لأن أهل القرى هم الذين يجتاز بهم المارون، وكذلك البدو الذين يجتاز بهم المارون أصحاب الحاجة.
أما أهل المدن فلا.
قال الإمام أحمد: "هي واجبة يوماً وليلة على أهل البادية وأهل القرى دون أهل المدن، واحتجوا بحديث أبي شريح الخزاعي  قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه عليه جائزته[رواه البخاري: 6019].
قال أحمد رحمه الله: والضيافة على كل المسلمين، كل من نزل عليه ضيفٌ كان عليه أن يضيفه، قيل: إن ضاف الرجل ضيفٌ كافرٌ؟ ضيف كافر طلب الضيافة، يضيفه؟ قال النبي ﷺ: ليلة الضيف حق - واجبٌ - على كل مسلم[رواه أبو داود: 3752].[انظر: المغني: 11/91].
وهذا الحديث بين.
ولما أضاف المشرك النبي ﷺ دل على أن المسلم والمشرك يضاف، وأنا أراه كذلك. والضيافة معناها؛ معنى صدقة التطوع، على المسلم والكافر، واليوم والليلة حق واجب.
فإذاً، الإمام أحمد رحمه الله قال: الليلة الأولى واجبة.
الجمهور، قالوا: الضيافة مستحبة إلا إذا صار اضطراراً، مضطر، إذا ما وجد يموت، فيجب عند ذلك إضافته.
وقول: الواجب يوم وليلة، والكمال ثلاثة أيام، كما ورد عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
واليوم هذا داخل في الثلاثة.
ومن امتنع من إضافته، فللضيف بقدر ضيافته، قال الإمام أحمد رحمه الله: له أن يطالبه بحقه الذي جعله له النبي ﷺ يقول: هذا حقي، الليلة حق، فيجوز أن يأخذ منهم ثمن الضيافة التي منعوها إياه.
قال أحمد رحمه الله: ولا يأخذ شيئاً إلا بعلم أهله.
وفي رواية: أن له أن يأخذ ما يكفيه بغير إذنهم. [المغني: 11/91].
لو جاء ما ضيفوه الليلة الواجبة في البادية أو في القرى، يأخذ بغير إذنهم في رواية أخرى.
واستدل بحديث: فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له[رواه البخاري: 2461، ومسلم: 4613].
وكذلك سأل الأثرم أبا عبد الله أحمد رحمه الله عن الضيافة أي شيء تذهب فيها؟ قال: هي مؤكدة، وكأنها على أهل الطرق والقرى الذين يمر بهم الناس أوكد، فأما مثلنا الآن فكأنه ليس مثل أولئك.
هذه عبارة مهمة ذكرها ابن قدامة رحمه الله في المغني، نقلاً عن الإمام أحمد رحمه الله، قال: "وكأنها -الوجوب- على أهل الطرق والقرى الذين يمر بهم الناس أوكد" -المارين في طرق السفر- وهذا قد ينطبق على أصحاب المحطات، قال: "فأما مثلنا الآن" في بغداد -في البلد التي كان فيها الإمام أحمد رحمه الله فكأنه ليس مثل أولئك.
وذكرنا: أن الليث بن سعد رحمه الله ذهب إلى أن الضيافة واجبة، واستدل بحديث: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليكرم ضيفه[سبق تخريجه].
ولا شك أنها من مكارم الأخلاق، وحسن المعاملة بين الخلق.
واحتج الجمهور بقوله: فليكرم بأن الكرامة من خصائص الندب دون الوجوب؛ كما ذكر ذلك ابن العربي رحمه الله. [أحكام القرآن: 4/ 499].
فهذا بالنسبة لأهل البدو ولأهل القرى، ولأهل الحضر.
فهي -إذاً- على أهل القرى، الوجوب على أهل القرى والبادية، بخلاف أهل الحضر.
وقد ذكر بعض الفقهاء في تعليل هذا –وهو سحنون من المالكية رحمه الله: "الضيافة على أهل القرى، وأما أهل الحضر، فإن المسافر إذا قدم الحضر وجد منزلاً -وهو الفندق- وإنما أراد بذلك أنه يتأكد الندب إليه، ولا يتعين على أهل الحضر بعينه على أهل القرى لمعانٍ:
أحدها: أن ذلك يتكرر على أهل الحضر، فلو التزم أهل الحضر الضيافة، لما خلوا منها، وأهل القرى يندر ذلك عندهم، ويقل، فلا تلحقهم بذلك مشقة.
والوجه الآخر: أن المسافر يجد في الحضر من المسكن والطعام، وغير ذلك ما يحتاج إليه، فلا تلحقه المشقة لعدم الضيافة. عنده فنادق، وعنده مطاعم.
أما في القرى الصغار، فلا يجد ما يحتاج إليه، مطاعم أو مبيت ، لا يجد في الطريق، فهو كالمضطر إلى من يضيفه.
وحكم القرى الكبار التي توجد فيها الفنادق والمطاعم للشراء، ويكثر ترداد الناس عليها، حكم الحضر، والله أعلم وأحكم.
وهذا فيمن لا يعرفه الإنسان، وأما من يعرفه معرفة مودةٍ أو بينه وبينه قرابة، أو بينه وبينه معنى يقتضي المواصلة والمكارمة، فحكمه في الحضر وغيره سواء، والله أعلم.
فأما بالنسبة لثبوت الحق، فهل يأخذه بإذنه أو بغير إذنه؟
تقدم القولان عن الإمام أحمد رحمه الله، ولكن هنا ملاحظة أشار لها ابن القيم في "أعلام الموقعين، وابن رجب في القواعد، وهي: أن الحق إذا كان سبب ثبوته ظاهراً، فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه، كما أفتى به النبي ﷺهنداً، وأفتى به الضيف إذا لم يقره من نزل عليه؛ كما في سنن أبي داود قال: فإن أصبح بفنائه محروماً، كان ديناً له عليه إن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه[رواه أحمد: 17211، وقال: إسناده صحيح على شرط الشيخين].
وفي رواية: نزل بقومٍ فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه. [رواه أبو داود: 4606، وصححه الألباني: 163].
يعني: لو أتى بفاتورة، فقال لهم: سدد، أنت ما ضيفتني، حق واجب.
قال: "وإن كان سبب الحق خفياً لم يجز له ذلك، كما أفتى النبي ﷺ في قوله: أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك[رواه أبو داود: 3536، 3537، والترمذي: 1264، وأحمد: 15462، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 2934] [انظر: أعلام الموقعين: 4/ 359].
فإذاً، لو أن شخصاً نزل عليهم، فقالوا: ليس لك شيء، اجلس إلى يوم القيامة، مع أن حقه واضح للناس الغادين والرائحين، فلو أخذه بغير إذنهم وعدا على غنمٍ لهم أو على شيء فأخذه، بالإكراه، فحقه سببه واضح، يعني: لو أخذ لا يتهم عند الناس.
كذلك المرأة التي زوجها بخيل، نفقتها واجبة عليه، وما أعطاها، فهي تأخذ منه  -وهذا حق-، ولو بغير إذنه، لكن لو كان سبب الحق خفياً، واحد اختلس منك مالاً ثم استأمنك على مال، فلا يجوز أن تختلس منه خفية، مادام الحق ليس ثابتاً ظاهراً، فلا يجوز الاختلاس.
وبهذا يجاب على من سأل من العمال والموظفين، قائلا: إن صاحب العمل قد أكل شيئاً من حقي، وأنا محاسب، ويمكن أن آخذ حقي الذي أخذه مني خلسة دون أن يعلم أحد؟
فإذا لم يكن حقه ظاهراً مثبتاً، يعلم، فلا يجوز له أن يأخذ خلسة.
وهذا معنى حديث: ولا تخن من خانك[رواه أبو داود: 3536، 3537، والترمذي: 1264، وأحمد: 15462، وهو حديث حسن، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 2934].
ومن أهمية هذا الأمر -إكرام الضيف- ما ذكره المفسرون، كمجاهد رحمه الله في تفسير قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء: 148].
قال: "إنما نزلت في الضيافة" [انظر: الجامع لأحكام القرآن: 6/2].
إذا نزل رجلٌ على رجلٍ ضيفاً، فلم يقم به، جاز له إذا خرج عنه أن يذكر ذلك، يقول: ما ضيفني، ولا أعطاني، ولا أكرمني: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء: 148] قالوا: نزلت في الشخص الذي ينزل ضيفاً فلا يعطى، ولا يقرى، ولا يكرم.
فإذا جهر بالسوء عليهم بما منعوه من حقه جاز له ذلك؛ لأنه ظلم.
وذكر العلماء في أسباب تحريم اتخاذ الكلاب، قالوا: إنها تروع الضيف، وابن السبيل، كما ذكره العز بن عبد السلام في [قواعد الأحكام: 2/139].
فلذلك من اتخذها نقص من أجره كل يوم قيراط.
لكن كان بعض أهل الجاهلية يمتدحون أنفسهم، أو يتباهون بأن كلابهم لا تنبح على الضيوف، وأنهم علموها ذلك، فصارت لا تنبح على الضيفان.
فهذا المعنى المذكور في منع اتخاذ الكلاب لأهمية مسألة إكرام الضيوف.
وكذلك قال: بمشروعية الاستدانة لإكرام الضيف، فذكر السرخسي -رحمه الله- من الحنفية: إن ما استدانه لقرى الضيف لو استدان شخص مالاً ليقري ضيفه، فهو كما استدانه لنفقته، ومصلحة نفسه، حتى قالوا: يعطى من سهم الغارمين؛ لأن هذا حق لا بد أن يقوم به، استدان فصار غارماً، فيعطى من حق الغارمين، لكن من هذا الذي يضيف بحق؛ لأن هناك من يظلمون أنفسهم فيضيفون بغير حق، يذبحون الذبائح، فيرهقون أنفسهم، ثم يطوفون على الناس، ويقولون: أعطونا، نحن نذبح ذبائح.
ومن أهمية إكرام الضيف: أن النبي ﷺ رخص في اتخاذ فراشٍ خاصٍ له، ولم يعد فراشاً زائداً في البيت من أجل الضيف، ولم يعد هذا ترفاً، فقال ﷺ في الحديث الحسن: فراش للرجل وفراش لامرأته والثالث للضيف والرابع للشيطان حديث صحيح [رواه مسلم: 5573].
وقد روي أنه ﷺ رهن شيئاً عند يهوديٍ من أجل طعام ضيف، ولكن ضعف الخبر بعض أهل العلم، كابن حزم -رحمه الله- في المحلى.
ومن أهمية إكرام الضيف: أن النبي ﷺ لما أرشد عمر إلى اتخاذ الوقف، جعل عمر من مصارف الوقف: إكرام الضيف، وذلك في الأرض التي أصابها عمر بخيبر، فقال له عليه الصلاة والسلام مرشداً وناصحاً: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها هذا هو الوقف، حبس الأصل وتسبيل الثمرة، زرع، إيجار، أي منفعة، تنفق في الخير، والأصل محبوس، قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها قال: فتصدق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث، فتصدق بها في الفقراء -نص عمر على ذلك وكتبه وجعله عند حفصة، وهي قائمة على وقفه- فتصدق بها في الفقراء والقربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف".
وقد روى ذلك البخاري -رحمه الله- وعبد الرزاق، وغيره من أهل العلم، وهو حديث مشهور [رواه البخاري: 2737، ومسلم: 4311].

إبراهيم وإكرامه لضيفه

00:26:29

ومن إكرام الضيف: نبدأ بإكرام الضيف؛ بما جاء عن إبراهيم الخليل ؛ ثم ما جاء في السنة، وفي قصص الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وكلام العلماء في كتب الأدب.
قال الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ۝ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ ۝ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ۝ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ[الذاريات: 24-27].
ففي هذا ثناء على إبراهيم من وجوه متعددة، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله يقول:
أحدها: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون، وهذا من إكرام الله تعالى للملائكة على قول.
والقول الثاني: إكرام إبراهيم لضيوفه، ولا تنافي بين القولين كلاهما صحيح.
فإذاً، وصف الله ضيوف إبراهيم بأنهم مكرمين؛ لأن إبراهيم، أكرمهم.
ثانياً: قال تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ[الذاريات: 25] فلم يذكر استئذانهم، ففي هذا دليل على أنه كان معروفاً بإكرام الضيفان، وعنده إكرام الضيف معتاد، فمنزله مطروق، وبابه مفتوح، ولا يحتاج إلى استئذان أحد، فيدخلون مباشرة، بل إن استئذان الداخل هو دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم، فقد تقدم في أدب الاستئذان: أن الإنسان إذا فتح بابه للضيوف، فدعاهم إلى وليمة، وفتح الباب، أنه فتح الباب هو إذن، فلا يحتاجون إلى طرق ولا استئذان، مادام فتح الباب الخارجي، وفتح المجلس، معناها هذا هو الإذن، وإبراهيم بابه مفتوح دائماً وعنده مكان خاص مفتاح للضيوف يدخلون إليه مباشرة من غير استئذان: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ [الحجر: 52].
ثالثاً: قوله: سَلامٌ بالرفع وهم سلموا عليه بالنصب فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ [الذاريات: 25] السلام بالرفع أكمل، لماذا؟
لأن قولهم: سَلاماًجملة فعلية، أسلم سلاماً.
و سَلامٌ جملة اسمية سَلامٌ مبتدأ، ومعنى الدوام والثبوت والاستقرار في الجملة الاسمية أكثر من الجملة الفعلية؛ لأن الجملة الاسمية دالة على الثبات، وعدم التجدد.
الجملة الفعلية تدل على أن الشيء يذهب ويجيء، يزول ويرجع.
فإبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم، فإن قوله: سَلامٌأي: عليكم، دالٌ على الثبوت.
رابعًا: أنه حدث المبتدأ من قوله: قَوْمٌ مُنكَرُونَ فإنه لما أنكرهم، ولم يعرفهم، احتشم عن مواجهتهم بذلك، ولم يقل: إني أنكرتكم، لم يقل: أنتم قومٌ منكرون: قَالَ سَلامٌ  قَوْمٌ مُنكَرُونَ[الذاريات: 25]، وهذا الحذف ألطف في الكلام.
خامسًا: أنه بني الفعل من مفعول، فقال: مُنكَرُونَ ولم يقل: إني أنكركم من أنتم؟ ومنكر، صيغة مبني للمفعول، حذف فاعله؛ لأنه كره أن يقول: أنا أنكركم، أنا لا أعرفكم، فقال: أنتم غير معروفين، ففي فرق، في أن يقول لهم مواجهة: إني لا أعرفكم، أنت لست بمعروف، هذا مبني، والمبني للمفعول، لا يعرف، لكن أنت غير معروف، كره أن يقول لهم ذلك، فهذا أبعد عن التنفير والمواجهة بالخشونة.
سادسًا: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بالنزل، وهي الكرامة، والروغان، هو: الذهاب باختفاء، بحيث لا يشعر به الضيف، وهذا من كرم رب المنزل المضيف، أن يذهب باختفاء حتى لا يشق على الضيف ويستحي، فلا يشعر الضيف إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه، ويقول لمن حضر: "مكانكم حتى آتيكم بالطعام" فحفظ مشاعر الضيف من إكرامه، وعدم إحراجه أيضاً من إكرامه.
سابعًا: أن إبراهيم ذهب إلى أهله، فجاء بالضيافة، وذلك معناه أنه كان بيته مستعداً للإكرام، ولم يذهب إلى السوق ليشتري، أو يذهب إلى الجيران ويستعير، أو يذهب ويقترض، وإنما كل شيء جاهز عنده في بيته، يعني مجهز البيت لخدمة الضيوف، فهذا ما حصل.
ثم مجيئه بسرعة: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ[الذاريات: 26] ما قال: فراغ إلى أهله ثم جاء، "ثم" تقتضي التراخي، "الفاء" على التعقيب، مباشرة.
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ  [الذاريات: 26] وهذا يدل على أنه يوجد استعداد دائم، ما عنده خبر أن هؤلاء سيأتون، دخلوا عليه، وفاجئوه، ومع ذلك كان مستعداً؛ لأن الإنسان إذا كان مستعداً لعمل الخير، مجرد ما تأتيه الفرصة، عنده على طول مباشرة، أما الذي ليس بمستعد، والمسألة ليست في باله، وغير متهيئ لها، فإذا فوجئ بها، تفوت الفرصة، حتى يأتي.
أهل بدر خرجوا مباشرة، مستعدين للجهاد دائما، خرجوا مباشرة، فاتت على من؟ على الذين كان يحتاج إلى استعداد.
فطوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله [رواه البخاري: 2887] على أول صيحة يخرج، هذا مستعد دائمًا.
فإذًا، الاستعداد لعمل الخير، يكسب الإنسان فرصًا عظيمة، كمن يأتي لصلاة الجمعة مستعد دائماً للصدقات -مثلاً- في هذا اليوم الفضيل، بخلاف من تأتيه فرصة عظيمة، ثم يبحث على واحد، فلا يجد، ويذهب ليقترض، أو يذهب إلى البيت، ويرجع تكون الفرصة ذهبت.
فالمسألة هي قضية زيادة في الإيمان، ومستوى الإيمان المرتفع بالاستعداد الدائم للخيرات.
إبراهيم كان مستعداً باستمرار لعمل الخير: ثم  فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ[الذاريات:26] من الذي جاء؟
هو وليس الخادم ولا السائق ولا صاحب المطعم، هو الذي جاء بالعجل بنفسه، وهذا أبلغ في الإكرام، أن يأتي الإنسان بالضيافة لضيفه بنفسه، ولو كان عنده خدم، ولم يقل: فأمر لهم بعجلٍ سمين، بل هو الذي ذهب، وهذا أبلغ في إكرام الضيف.
عاشراً: أنه جاء بعجلٍ كامل، ولم يأت ببعض منه، وهذا من تمام كرمه، ليس فخذ، ولا كتف، ولا ظهر، بل بعجل كامل، والعجل البقر الصغير، لحمه من أطيب اللحوم، وليس بقراً غليظاً.
والحادي عشر: أنه سمين وليس بهزيل، ومعلوم أن ذلك من أفخر أمواله، يذبح العجل الصغير، هذا إكرام متناه؛ لأن العجل الصغير عادة يتخذ للاعتناء والتربية، ولكن آثر به ضيفانه، وجاءهم بهذا الصغير ذا اللحم الطري لأجل إكرامهم.
الثاني عاشر: أنه قربه بنفسه: فَقَرَّبَهُ ولم يقل للخدم: قربوه أنتم، أو قرب المائدة يا غلام، وإنما قربه هو، ولم يأمر خادمه بذلك.
الثالث عشر: أنه قربه إليهم، ولم يقربهم إليه، وهذا أبلغ في الكرامة أن تجلس الضيف، ثم تأتي له بالطعام إليه، وتحمله إلى حضرته، ولا تضع الطعام في ناحية، ثم تأمر ضيفك أن يقترب إليه.
طبعاً -الآن- في البيوت هذا قد يكون شبه متعسر؛ لأن الألوان كثيرة، فسيأتي بهذا وبهذا، ويضعونه ويجهزونه، ثم يقول للضيوف: ادخلوا، لا حرج في ذلك، وهو من الإكرام على أية حال، وليس ضد الإكرام، لكن إذا جيء به، وسيق به إليهم، أفضل وأحسن.
افرض أن عندك شيئا ما لا يشق نقله، فجئت به على عربة إليهم، أو على طاولة، تدرج بها إليهم، هذا أولى من أن تضعه، وتقول: تعالوا، أو انزلوا، أو نحو ذلك.
الثاني عشر: أنه قال: أَلَا تَأْكُلُونَ؟ فاستخدم أسلوب العرض، وهذا تلطف، وهذا أحسن من أن يقول: كلوا، مدوا أيديكم؟ مالكم لا تمدون أيديكم؟ نحن أتينا به لمن؟ قال: أَلَا تَأْكُلُونَ؟
الثالث عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل؛ لأنه رآهم لا يأكلون، ولم يكن ضيوفه يحتاجون إلى إذن، مجرد تقديم الطعام للضيف هو إذن بأكله؛ لأنه أنت قدمته لأي شيء؟ يتفرجوا عليه؟ فبمجرد التقديم أبحت لهم الأكل.
فإذاً، لو قلت: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسٍ منه[رواه أبو يعلى: 1570، والبيهقي في السنن الكبرى: 2885].
فيقول قائل: لم يأذن؟
فيقال: إن مجرد التقديم -عرفاً- هو إذن بالأكل، فحلال عليهم.
فلماذا قال إبراهيم: ألا تأكلون؟
لأنه لاحظ أنهم لا يأكلون، وفي الأصل قدمه إليهم تقديمه كاف في الإذن والبدء، ولا يحتاجون إلى كلمة: تفضل، لكن لما رأى أنهم لا يأكلون، قال: أَلَا تَأْكُلُونَ؟ ولهذا أوجس منهم خيفة وأحسها. ثم من الآدب كذلك: أنهم لما امتنعوا من الأكل من طعامه وخاف منهم، لم يظهر لهم ذلك الخوف، أوجس منهم خيفة وأخفاه، لكن الملائكة علمهم الله قالوا: لَا تَخَفْ، وبشروه بالغلام.
فجمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف، إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم، وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً، فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم، وعلى آلهما وعلى سائر النبيين". [انظر: جلاء الأفهام: 271- 274].
ومن الآداب: فتح الباب للضيف قبل وصوله، قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا[الزمر: 73] أي وقد فتحت أبوابها، فأبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فمتقدمٌ فتحها، بدليل قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ[ص: 50] مفتحة قبل وصولهم، وذلك؛ لأن تقديم فتح الباب في الضيافة على وصول الضيف، أن يفتح له قبل أن يأتي، هو إكرام له، وتأخير فتح باب العذاب على أهل جهنم من باب المفاجأة حتى يؤخذوا بأشد الأخذ، هو من زيادة العذاب، فلذلك إذا جاءوها فتحت أبوابها.

صور من إكرام الضيف

00:39:22

إيثار الضيف على الأهل والأولاد

00:39:22

ومن إكرام الضيف: إيثاره، وقد جاء في صحيح البخاري في القصة العظيمة التي عجب الله من أصحابها، وضحك إليهم، وإذا ضحك الله إلى عبدٍ، فلا عذاب عليه، وذلك دليل رضاه عنه، هذه القصة التي أخفيت في الليل فنشرها الله في الصباح، وأنزل الوحي بها على نبيه ﷺ، أن الله في السماوات عجب وضحك إلى هذين الصحابيين الجليلين، الرجل وزوجته.
والقصة عن أبي هريرة : أن رجلاً أتى النبي ﷺ جائع يريد من يضيفه، فبعث إلى نسائه ﷺ، فقلن: ما معنا إلا الماء؟ وهذا بيت أعظم قائد في الأمة ما عنده إلا ماء، فقال رسول اللهﷺ: من يضيف هذا؟ فقال رجلٌ من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله ﷺ، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، قال: هيئي طعامك، وأصلحي سراجكِ، ونومي صبيانكِ، إذا أرادوا عشاء، إذا طلبوا الأكل نوميهم، فهيئت طعامها وأصلحت سراجها، يعني: أشعلت الفتيلة، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها، كأنها حركة تمثيلية، فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان". [رواه البخاري: 3798].
وليس من الأدب أنك تغلق النور على الضيف، وإن كان بعض الناس عندهم عادات في الضيافة شيء أنزل الله به سلطان وشيء ما أنزل الله به من سلطان، فبعضهم يغلق النور على الضيف، يقول: حتى لا يستحي، وبعضهم لا يحضر مع الضيف نهائياً، وبعضهم .. وبعضهم.. لذلك ابن القيم قال: "تخلف وتكلف" في أشياء. وإذا وضع الضيف أصبعه في العين لازم ذبيحتان، وإذا وضع كذا.. هذه أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، تخلف وتكلف.
بطبيعة الحال: لا بد من السراج من أجل أن يرى الضيف، يدخل على بيتٍ منير، لكن في الوقت نفسه ستكون هناك تمثيلية أخرى بعد قليل، بأنهما يريانه أنهما يأكلان، وهما لا يأكلان، حتى لا يشعر هو بالحرج أنهما لا يأكلان، فلذلك قامت كأنها تصلحه فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، بالصوت، ووضع اليد في الإناء ورفعها، وهي ما فيها شيء، كما أن جماعة من الفقراء حضرهم طعام، فأطفئ السراج، وجعلوا يأكلون، فلما طلع النهار وجد الطعام بحاله، يعني كل واحد يريد أن يؤثر، قال: فأطفأته فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح الضيف وصاحب البيت، غدا إلى رسول الله ﷺ فقال النبي ﷺ: ضحك الله الليلة -أو عجب- من فعالكما، فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]. [رواه البخاري: 3798].
فهذا الموقف العظيم إكرام الضيف وإيثاره بطعام صاحب البيت وزوجته والأطفال، هذا موقف ذكر في السماء، فضحك الرب، فرضي عنهما، وأنزلت آية في القرآن بسبب إكرام الضيف، نزلت آية:وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ[الحشر:9] جوع وحاجة.
قال العلماء: إن طعام الأولاد مقدم على طعام الضيف شرعاً، ولكن إذا كان بهم جوعٌ خفيف لا يضرهم جاز تقديم الضيف كما حصل في هذه الآية، وتغلب إكرام الضيف على المشاعر الجياشة للأب والأم، لأجل الفقير الذي أرسله رسول الله ﷺ، ودعا قال: ألا رجلٌ يضيف هذا الليل يرحمه الله؟هذه كلمة كافية -دعاء يرحمه الله- في أن يأخذ الضيف ويقدمه على نفسه وزوجته وأولاده، فكان موقفاً عظيماً ذكر في السماء، ونزل إلى الأرض، وأخبر به أهل الأرض، وكان فيه إخلاص واضح جداً في إطفاء السراج؛ ما أشعر الضيف بأي شيء، وأكل ولم يشعر بأن هناك أمر عَسر، أو فيه حرج، ولذلك أهل الإخلاص إذا أخفوا أعمالهم، فالله يكشفها ليكونوا قدوة:وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً[الفرقان: 74].

أن الإنسان ولو كان صائماً، من أصحاب عبادة الصيام؛ فإنه لا ينسى الطعام لأجل الضيوف

00:45:00

ومن إكرامه كذلك: أن الإنسان ولو كان صائماً، من أصحاب عبادة الصيام؛ فإنه لا ينسى الطعام لأجل الضيوف؛ فعن أبي أمامة قال: قلت: يا رسول الله مرني بعمل أدخل به الجنة؟ فقال: عليك بالصوم؛ فإنه لا مثل لهيعني في الأجر لا مثل له، قال الراوي: فكان أبو أمامة  لا يرى في بيته الدخان نهاراً -ليس هناك طبخ، صيام دائماً- إلا إذا نزل به ضيفٌ فيرى الدخان نهاراً" [رواه عبد الرزاق في المصنف: 8988].
بل إن الإنسان لا بأس أن يفطر  لأجل الضيف إذا كان صائماً صوماً مستحباً، إذا كان يشق على الضيف أن يبقى صاحب البيت صائماً، وفي ذلك أحاديث.
وقال عطاء: سألت سلمان بن موسى أكان يفطر الرجل لضيفه؟ قال: نعم.
وكان الحسن يرخص للرجل الصائم إذا نزل به الضيف أن يفطر ويقضي يوماً مكانه.
قال النووي رحمه الله: إذا دخل في صوم تطوع، استحب له إتمامه؛ لقوله تعالى:وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ[محمد:33]، ولكن إذا شق على ضيفه صومه فيستحب أن يفطر فيأكل معه؛ لقوله ﷺ: وإن لزورك عليك حقاً [رواه البخاري: 1975] يعني: لزوارك.
ولقوله ﷺ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه [رواه البخاري: 6135، ومسلم: 4610].
أما حديث: من نزل على قومٍ فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم [رواه الترمذي: 794، وقال: "حديث منكر"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع: 706 و 5865].
أما إذا لم يشق على ضيفه صومه التطوع، فالأفضل بقاؤه على الصيام.
فإذا، هذا هو التفصيل، لو أن أحدهم قال: أنا صائم وجاءني ضيف ماذا أفعل؟
نقول: إذا كان لا يشق على الضيف أن تبقى صائماً، ولا يشعر بالحرج، أنه يجلس يأكل وأنت لا تأكل، كبعض إخوانك المقربين الذين عندهم مثل هذا عادي، لو ما أكلت وهم أكلوا، لا بأس.
فإذًا البقاء على الصيام أفضل، وإن كان هناك مشقة عليهم يروك لا تأكل معهم، أو يراك الضيف لا تأكل معه، فعند ذلك الأفضل أن تفطر لأجل الضيف، وتقضي يوماً مكانه لتحصل الأجرين معاً.
بل نص العلماء على جواز الأكل فوق الحاجة من أجل الضيف، مع أن الأكل فوق الحاجة مكروه، وورد عن بعض الصحابة أن ولده لما أصابه من التخمة، مرض، قال: لو مات ما صليت عليه؛ لأنه اعتبره مثل القاتل لنفسه الذي يأكل حتى ينفزر، فيموت.
فما حكم الأكل فوق الحاجة؟
قالوا: مكروه، أما إذا وصل لدرجة الهلكة، فهذا حرام وانتحار؛ لكن الأكل فوق الحاجة مكروه، إلا إذا عرض له غرضٌ صحيح في الأكل فوق الشبع، فحينئذٍ لا بأس بذلك؛ ذكروا مثالين: أن يزداد الأكل استعداداً لصيام غد طويل حار.
والمثال الثاني: لأجل الضيف، قال: بأن يأتيه ضيفٌ، فيأكل الضيف، ويستمر الضيف في الأكل، وصاحب البيت شبع، فيزداد في الأكل من أجل ألا يحرج الضيف؛ لأنه إذا توقف صاحب البيت، فربما توقف الضيف، وقد يكون الضيف بحاجة الطعام، أو فيه جوع، أو أن بدنه أو جسده أعظم، أو أكبر، وذاك نحيل لا يحتاج إلى طعامٍ كبير، فيجوز له أن يزيد عن الشبع لأجل إكرام ضيفه لئلا يخجل.

إباحة الشريعة السمر مع الضيف بعد العشاء

00:49:14

وكذلك من الآداب: إباحة الشريعة السمر مع الضيف بعد العشاء، رغم كرهها للكلام بعد العشاء، كما في حديث النهي عن النوم قبل العشاء، والكلام بعده -بعد العشاء- إلا لمصل أو مسافر أو مع ضيفه يسامره.
-طبعًا- السمر  ليس سمر على البلوت والأفلام، والكلام القذر، والغيبة، إنما لأجل الترويح عن الضيف من عناء السفر، والإكرام والمباسطة.. المباسطة جزء كبير من الإكرام.
وسيأتي مزيد عن الكلام عن ضيافة المشرك، والتفصيل فيها.
وسيأتي مزيد لهذا في الدرس القادم إن شاء الله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.