المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الحمد لله الذي جعل: الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1]. والحمد لله الذي أنزل علينا هذا الدين، وأنزل فيه الأدب الذي تصلح به الحياة.
مكانة الأدب في الإسلام
وهذا الأدب هو من صميم هذا الدين، أمرٌ غفل عنه الكثير من الناس. وهو ضروريٌ للمسلم، مع الله ، ومع الرسل، ومع الخلق، وضروريٌ له في أحواله، حتى لو كان لوحده. فبالأدب يعرف المسلم ما ينبغي أن يكون عليه حاله في طعامه وشرابه، وفي سلامه واستئذانه، وفي مجالسته وحديثه، وفي طرائفه ومزاحه، وفي تهنئته وتعزيته، وفي عطاسه وتثاؤبه، وفي قيامه وجلوسه، وفي معاشرته لأزواجه وأصدقائه، وفي حله وترحاله، ونومه وقيامه، وغير ذلك من الآداب التي لا حصر لها. ومنها: آدابٌ أوجبها الله على الصغير والكبير، والمرأة والرجل، والغني والفقير، والعالم والعامي، حتى يظهر أثر هذا الدين في الواقع. ولا شك أن من جوانب العظمة في هذا الدين: هذه الآداب التي جاءت في هذه الشريعة، التي تميز المسلمين عن غيرهم، وتظهر سمو هذه الشريعة وكمالها وعظمها. شمولية الأدب في الإسلام: والدين أدبٌ كله، فستر العورة من الأدب، والوضوء، وغسل الجنابة من الأدب، والتطهر من الخبث من الأدب، حتى يقف بين يدي الله -تعالى- طاهراً، ولذلك كانوا يستحبون أن يتجمل المرء في صلاته، ليقف بين يدي ربه، حتى كان لبعضهم حلةٌ عظيمة اشتراها بمالٍ كثير، ليلبسها وقت الصلاة، ويقول: ربي أحق من تجملت له في صلاتي" [غذاء الألباب شرح منظومة الآداب: 2/204]. فالأدب مطلب مطلب عظيم. فتعالوا بنا نتعرف إلى معنى: كلمة الأدب، وعلى بعض ما جاء في النصوص الشرعية حول هذه الكلمة، وبعض أقوال العلماء فيها، وأنواع الأدب. ثم نتكلم -إن شاء الله- عن المقصود من هذا الدرس، وكيف المسير فيه.
معنى كلمة: الأدب في اللغة والعرف والإصطلاح
أما الأدب، فقد ذكر ابن فارس -رحمه الله-: أن الأدب دعاء الناس، إذا دعوتهم إلى شيء. وسميت المأدبة: مأدبةً؛ لأنه يدعى الناس فيها إلى الطعام. والآدب، هو الداعي. وكذلك، فإن الأدب أمرٌ قد أجمع على استحسانه. وعرفاً: ما دعا الخلق إلى المحامد ومكارم الأخلاق وتهذيبها. وذكر ابن حجر -رحمه الله تعالى- في شرحه لكتاب الأدب، من صحيح الإمام البخاري -رحمه الله-، قال: الأدب استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً. وعبر بعضهم عنه: بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق. وقيل: الوقوف مع الأمور المستحسنة. وقيل: هو تعظيم من فوقك، والرفق بمن دونك [انظر: فتح الباري: 10/400].
والأدب كذلك مما ورد في تعريفه: حسن الأخلاق، وفعل المكارم. والأدب الذي يتأدب به الأديب من الناس، سُمي أدباً؛ لأنه يأدب الناس إلى المحامد، ويدعوهم إليها. وجاء في المصباح عن الأدب: تُعلم رياضة النفس، ومحاسن الأخلاق. وقيل: الأدب ملكة تعصم من قامت به عما يشينه. وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الأدب اجتماع خصال الخير في العبد، ومنه المأدبة: الطعام الذي يجتمع عليه الناس" [مدارج السالكين: 2/376]. فإذًا، فيه معنى الدعاء إلى الشيء، والاجتماع عليه. وكذلك يطلق الأدب في اللغة: على الجمع. وسمي الأدب أدباً؛ لأنه يأدب الناس، يعني: يجمعهم إلى المحامد. والأدب، هو: الخصال الحميدة.
جوانب استعمالات كلمة الأدب
أما استعمالات كلمة الأدب في كتب أهل العلم، فإنها تأتي بمعنى: خصال الخير، مثل آداب الطعام، وآداب الشراب، وآداب النكاح، وآداب القضاء، وآداب الفتيا، وآداب المشي، وآداب النوم، ونحو ذلك. وللعلماء في هذا مصنفات. الأدب في إصلاح الفقهاء: ويُطلق بعض الفقهاء: كلمة آداب على كل ما هو مطلوب، سواء كان واجباً أو مندوباً، ولذلك بوبوا فقالوا: آداب الخلاء والاستنجاء، مع أن منها ما هو مستحب، ومنها ما هو واجب. فكلمة أدب أو آداب، أو أن هذا الشيء من الآداب، لا يعني أنه فقط مستحب، بل ربما يكون واجباً. ويطلق الفقهاء لفظة: أدب، بمعنى الزجر والتأديب؛ كما جاء في حديث: اجعل السوط في البيت، فإنه أدبٌ لهم [رواه البخاري في الأدب المفرد: 1229، وحسنه الشيخ ناصر بطرقه في صحيح الأدب المفرد: 937] يعني: لأهل البيت، تعليق السوط في البيت، فإنه أدبٌ لهم. فإذا قيل: أدبه، بمعنى: عاقبه وزجره، عزره، فهذه من معاني كلمة الأدب كذلك. وقد نثر الفقهاء الآداب على أبواب الفقه، فذكروا في كل باب ما يخصه من الآداب، ففي الاستنجاء -مثلاً-، ذكروا آداب الاستنجاء غير الأحكام الفقهية، مما يجوز ولا يجوز، وفي الطهارة كذلك بأقسامها ذكروا آدابها، وفي القضاء، ذكروا آداب القضاء في كتب الفقه.
بعض المصنفات في الأدب
وصنفت كتبٌ خاصة بالأدب؛ مثل كتاب: "أدب الدنيا والدين" للماوردي. ونظم ابن عبد القوي -رحمه الله- منظومته المشهورة في الأدب والآداب، وشرحها السفاريني -رحمه الله-، ومن قبله ابن مفلح الذي صنف كتاب: "الآداب الشرعية". فإذاً، هناك كتب مجموعة في الآداب عموماً، ومن أشهرها: "الآداب الشرعية" لابن مفلح، و"غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، المنظومة، لابن عبد القوي، والشرح للسفاريني، وكتاب: "أدب الدنيا والدين" للماوردي. وهناك كتبٌ تتكلم بشكلٍ مخصوص عن آداب معينة -مثلاً-: "تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم" لابن جماعة -رحمه الله-. "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"
هذه آداب تتعلق بطلب العلم، للخطيب البغدادي -رحمه الله-. "أدب الإملاء والاستملاء" للسمعاني، وهو إملاء الحديث وكتابته، كيف يملي المحدث الحديث؟ وكيف يكتبه عنه الطلاب؟ هذا له آداب، هذا مصنف خاص في أدب الإملاء والاستملاء. آداب الفتيا، كتب منها كتاب: "آداب المفتي" للسيوطي.
وكذلك: "آداب الأكل" للأقفاسي، و"آداب الأطفال" للهيثمي. وفي آداب الزكاة كتب، وفي آداب البحث والمناظرة، مثل كتاب الشنقيطي، وفي الصحبة كتب، مثل آداب الصحبة، للسلمي، وفي آداب العشرة كتب، مثل كتاب أبي البركات الغزي، وفي التجارة أيضاً آداب التجارة، وآداب الحوار، وآداب الزفاف، وآداب معاملة اليتيم، وآداب الطبيب. وهناك عدة كتب تتكلم في آداب مخصوصة. الكتاب في أدبٍ معينٍ من الآداب.
الأدب في اصطلاح علماء اللغة
الأدب أيضًا يطلق على شيءٍ يتعلق باللغة: إصلاح اللسان والخطاب، وتحسين الألفاظ، والصيانة عن الخطأ والزلل، كما صنف ابن قتيبة -رحمه الله-: "أدب الكاتب". إذاً، كلمة: الأدب المستعملة في اللغة، مثل ما يرتبط بالشعر والنثر، الأدب، هذه لفظة مولدة، حدثت في الإسلام، أطلقوا على بعض الأشياء المتعلقة باللسان، من الشعر والنثر "أدباً". فهذا إطلاق باعتبار لغوي، أو باعتبار الأدب أو الأديب بهذا المعنى، إطلاقٌ خاص يتعلق باللغة، وإصلاح اللسان، والخطابة. أهمية الأدب في الإسلام: لا شك أن الأدب في الإسلام أمرٌ مهمٌ جداً، وأنه يحتم على الإنسان المسلم الالتزام بالآداب الشرعية في جميع الأمور.
بعض الآداب في النصوص الشرعية
وقد حث الإسلام المسلم أن يعتني بالآداب في أولاده وذويه، ولا يتغافل عنهم، ويذكرهم ويؤدبهم بآداب الإسلام، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم: 6]. قال علي : "علموهم وأدبوهم"[جامع البيان في تأويل القرآن: 23/491].
وقال مجاهد -رحمه الله-: "أوصوا أنفسكم وأهليكم بتقوى الله وأدّبوهم" [معجم غريب القرآن، محمد فؤاد عبد الباقي، ص: 68]. ومما جاء في النصوص الشرعية في معاني ما يتعلق بالأدب والتأديب: قول النبي ﷺ كما جاء في الحديث الصحيح: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين وذكر منهم: الرجلٌ تكون له الأمة فيعلمها فيحسن تعليمها ويؤدبها فيحسن أدبها ثم يعتقها فيتزوجها فله أجران [رواه البخاري: 3011، ومسلم: 404]. وكذلك، فقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ: كل شيءٍ ليس من ذكر الله، فهو لهوٌ ولعب، إلا أن يكون أربعة وذكر منها: وتأديب الرجل فرسه ترويضه وتعليمه. والحديث بتمامه: كل شيءٍ ليس من ذكر الله لهوٌ ولعب إلا أن يكون أربعة: ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه، ومشي الرجل بين الغرضين، وتعلم الرجل السباحة [رواه النسائي في السنن الكبرى: 8889، والطبراني في المعجم الكبير: 1760، وهو حديثٌ صحيح، صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1282].
والأدب بهذه اللفظة، جاءت في حديث جابر عندما تزوج ثيباً، وسأله النبي ﷺ، فأخبره أنه تزوج بثيب، فقال ﷺ: فهلا تزوجت بكراً تلاعبها وتلاعبك؟ قال: يا رسول الله: توفي والدي، أو استشهد، ولي أخواتٌ صغار، فكرهت أن أتزوج مثلهن، فلا تؤدبهن" يعني: أتزوج صغيرة لا تستطيع التأديب "فلا تؤدبهن، ولا تقيم عليهن، فتزوجت ثيباً لتقوم عليهنّ، وتؤدبهن" [رواه البخاري -رحمه الله- 2967، ومسلم: 4184].
أنواع الأدب
والأدب أنواع، فمنه:
أولاً: أدبٌ مع الله .
وثانياً: أدبٌ مع رسول الله ﷺ.
وثالثاً: أدبٌ مع الخلق.
الأدب مع الله وبعض جوانب ذلك
أما الأدب مع الله ، فله أمثلةٌ كثيرة؛ فمنها: نهي المصلي عن رفع بصره إلى السماء،
كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "هذا من كمال أدب الصلاة: أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقًا خافضًا طرفه إلى الأرض، ولا يرفع بصره إلى فوق، قال: والجهمية لما لم يفقهوا هذا الأدب ولا عرفوه" -لأنهم ينكرون أن الله فوق سماواته، وهذا من جهلهم- وهذا من جهلهم... إذ من الأدب مع الملوك: أن الواقف بين أيديهم يطرق إلى الأرض، ولا يرفع بصره إليهم، فما الظن بملك الملوك -سبحانه-.
وقال شيخ الإسلام في مسألة النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود: إنها من الأدب مع الله ؛ لأن القرآن كلام الله، قال: "وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب مع كلام الله : أن لا يقرأ في هاتين الحالتين" [ينظر: مدارج السالكين: 2/385-386] يعني: في الركوع والسجود؛ لأنهما حالتا ذلٍ وانخفاض. وكذلك من الأدب مع الله: ألا يستقبل بيته في قضاء الحاجة، ولا يستدبر، كما ثبت عن النبي ﷺ. ورجح ابن القيم -رحمه الله-: أن هذا الأدب يعم الفضاء والبنيان [انظر: مدارج السالكين: 2/386]. ومن الأدب مع الله: في الوقوف في الصلاة: وضع اليمنى على اليسرى حال قيام القراءة. ولا شك أن هذا من أنواع الأدب، أن يضع يديه اليمنى على اليسرى على صدره، ويقف يبن يدي ربه. وكذلك الأدب مع الله: السكون في الصلاة، ولما ذكر أهل العلم قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج: 23]. ذكروا فيها معنيين: الأول: دائمون، بمعنى: مستقرون ثابتون، لا يكثرون الحركة كما يفعل كثيرٌ من الناس، من تحريك النظارة، والساعة، وغطاء الرأس، واللعب، أو العبث بالأنف، والجيب، ونحو ذلك من الأشياء.
ولا شك أن هذا لا يعطي معنى الديمومة: عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج: 34]. المحافظة على السكون في الأطراف والطمأنينة، وكذلك المحافظة على الوقت، لا يخرجونها عن وقتها، فهم دائمون، يدامون على الصلوات في أوقاتها، ويحافظون عليها في أوقاتها، كما أنهم دائمون في الخشوع والطمأنينة. والأدب مع الله في الظاهر والباطن، ولا يستقيم إلا بمعرفة أسمائه سبحانه وتعالى، ومعرفة دينه وشرعه، وما يحب وما يكره. أما بالنسبة للأدب مع الله ، فقد كان كثيراً وعظيماً في أنبيائه .
أدب الأنبياء مع الله
ومن تأمل أحوال الرسل عرف ذلك، وكذلك الصالحون. ألم ترَ أن المسيح لما يسأله الله يوم القيامة: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ ؟ [المائدة: 116] فماذا أجاب عيسى ؟ ما قال: لم أقل ذلك، وإنما قال: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة: 116]. ما أن أنكر، ما قال: ما قلت؟ من أدبه مع ربه: أنه قال: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة: 116]. ثم قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 116-117] إلى آخر الآيات. وكذلك أدب إبراهيم مع ربه، لما قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشعراء: 78-79] لم يقل: والذي يمرضني ويشفين، وإنما قال: وَإِذَا مَرِضْتُ [الشعراء: 80] فنسب المرض إليه، ونسب الهداية والطعام والسقاء والشفاء إلى الله رب العالمين، مع أن الله هو الذي يمرض ولا شك، وهو الذي يشفي، لكن لم يرد أن ينسب المرض إليه أدبًا مع الله ، هذا من كمال أدب الخليل، فإنه قال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80].
وكذلك الخضر على الراجح لأنه كان نبياً: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف: 82] كان يفعل بالوحي، فإنه لما ذكر السفينة قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَ [الكهف: 79]. ولما ذكر الجدار قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا [الكهف: 82]. ولم يقل: فأراد ربك أن أعيبها، وإنما قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَ [الكهف: 79] لما صارت المسألة فيها عيب، نسبه لنفسه، قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف: 79] مع أن كل ذلك بأمر الله وقدر الله.
وكذلك الصالحون من الجن، قالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن: 10] ما قالوا: أشرٌ أراده ربهم بهم أم أراد بهم ربهم رشداً؟ وإنما قالوا: أَشَرٌّ أُرِيدَ [الجن: 10] فجعلوا الفعل مبنيًا للمفعول. وكذلك موسى لما نزل مدين، قال: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] أنا فقيرٌ إلى خيرك يا رب ومحتاج، ولم يقل: أطعمني -مثلًا-. وآدم لما أهبط من الجنة إلى الأرضن قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23] ولم يقل: ربي قدرت عليَّ هذه المعصية، وقضيت عليَّ بها، ونحو ذلك، وإنما قال: ظلمت نفسي فاغفر لي. وكذلك قول أيوب : مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83] وهذا أكثر أدباً من أن يقول: فعافني واشفني، قال: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83]. والأدب كذلك مع أنبياء الله، لا ينتهي، طويل. ولكن من أدب يوسف مع أبيه وإخوته، وهو نوع من أنواع الأدب مع المخلوقين، والأدب مع الأنبياء، قال: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف: 100] ولم يقل: أخرجني من الجب، مع أنه أخرجه من الجب؛ لأنه لا يريد أن يجرح مشاعر إخوانه، فقال: أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف: 100] ولم يذكر الجب. وكذلك، فإنه لما جاء بإخوته وأهله، قال: وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [يوسف: 100] ما قال -مثلاً-: رفع عنكم الجهد والجوع والحاجة، أو أنني فعلت ذلك لكم، أو أنني أنقذتكم من الجوع والجهد، ثم قال: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف: 100] فنسب الفعل إلى الشيطان، ولم يقل: من بعد أن فعل بي إخواني ما فعلوا وظلموني،
ونحو ذلك، وإنما قال: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف: 100]. وكذلك من الأدب مع الله : أن يستر الرجل عورته وإن كان خالياً. أما نبينا ﷺ، فقد ضرب المثل العظيم في الأدب مع ربه، كما يذكر المفسرون عند قوله : مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم: 17] أن النبي ﷺ لما ارتفع إلى السماء ما زاغ بصره وما طغى، فإنه لم يزغ يميناً أو شمالاً، ولا طغى، فنظر أمام المنظور، وإنما كان مطرقاً: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم: 17]. فهذا وصفٌ لمقامه ﷺ، وهذا من كمال الأدب.
الأدب مع النبي ﷺ وبعض جوانب ذلك
وكذلك فإنه ينبغي أن يعلم المسلم: أن الأدب مع النبي ﷺ من أنواع الآداب العظيمة، وهذا يشمل أشياء كثيرة جدًا، فمن الأدب مع النبي ﷺ: التسليم له، والانقياد لأمره، وتصديق خبره، وتلقيه بالقبول، وعدم معارضته، لا يستشكل قوله وإنما تستشكل الأفهام، ولا يقدم بين يدي رسول الله ﷺ شيئاً، ولا يدعي نسخ سنته، وكذلك لا ترفع الأصوات فوق صوته ﷺ؛ لأن ذلك سبب لحبوط العمل، وبعد وفاته ﷺ، لا ترفع الأصوات فوق حديثه إذا قرئ، ولا عند قبره.
الأدب مع الخلق وبعض جوانب ذلك
النوع الثالث: والأدب مع الخلق: معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم، فالأدب مع الوالدين يختلف، الأدب مع العالم يختلف، الأدب مع الأقران، الأدب مع الأجانب، الأدب مع النساء، مع الأجنبيات، الأدب مع الضيف، الأدب مع أهل البيت، هذا من جهة ما يتعلق بمن حولك من المخلوقين. أحوال يجب التأدب فيها: أما الأحوال، ففيها آداب حتى لو كنت لوحدك وما عندك ولا مخلوق، مثل: آداب النوم -مثلاً-. فإذاً، للمخلوقين آداب، وللأحوال آداب، فمن آداب الأحوال: آداب الأكل، ولو كنت تأكل لوحدك، تأكل بيمينك ولو كنت لوحدك، تسمي الله ولو كنتَ لوحدك، لا تأكل من وسط الطعام ولو كنت لوحدك. آداب الطعام، آداب الشراب، آداب الركوب، آداب الدخول، آداب الخروج، آداب السفر، آداب النوم، آداب البول، آداب الكلام، آداب السكوت، آداب الإنصات، وهكذا..
بعض مفاسد عدم تأدب المسلمين بالآداب الإسلامية
ولأجل عظم هذا الموضوع، صنف العلماء فيه تصنيفاتٍ عظيمة.
ولنعلم أن التمسك بالآداب الشرعية، يقود إلى التمسك بالدين كله، ولذلك يقول الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني -رحمه الله- في مقدمته لكتاب الأدب المفرد، للبخاري، قال: "قد أكثر العارفون بالإسلام المخلصون له من تقرير أن كل ما وقع فيه المسلمون من الضعف والخور والتخاذل، وغير ذلك من وجوه الانحطاط، إنما كان لبعدهم عن حقيقة الإسلام. وأرى أن ذلك يرجع إلى أمور: الأول: التباس ما ليس من الدين بما هو منه، خلط ما ليس من الدين بما هو من الدين، مثل إدخال البدع فيه. ثانياً: ضعف اليقين بما هو من الدين حقاً. ثالثاً: عدم العمل بأحكام الدين" [بلوغ الأماني من كلام المعلمي اليماني: ص: 33]. هذه الأشياء الثلاثة التي عليها مدار أسباب انحطاط المسلمين. ما هي أسباب تخلف المسلمين التي أشار إليها الشيخ المعلمي اليماني -رحمه الله-؟ ثلاثة أشياء: أولًا: إدخال ما ليس من الدين في الدين. ثانيًا: عدم اليقين بما هو من الدين. ثالثًا: ضعف العمل بهذا الدين. هذه أسباب تخلف المسلمين وانحطاطهم. ثم قال رحمه الله -تعالى-: "وأرى أن معرفة الآداب النبوية الصحيحة في العبادات والمعاملات، والإقامة والسفر، والمعاشرة، والوحدة، والحركة، والسكون، واليقظة، والنوم، والأكل، والشرب، والكلام، والصمت،
وغير ذلك مما يعرض للإنسان في حياته، مع تحري العمل بها كما يتيسر، هو الدواء الوحيد لتلك الأمراض، فإن كثيراً من تلك الآداب سهلٌ على النفس، فإذا عمل الإنسان بما يسهل عليه منها تاركاً لما يخالفها، لم يلبث إن شاء الله -تعالى- أن يرغب في الازدياد، فعسى ألا تمضي عليه مدة إلا وقد أصبح قدوةً لغيره في ذلك، وبالاهتداء بذلك الهدي القويم، والتخلق بذلك الخلق العظيم، يستنير القلب، وينشرح الصدر، وتطمئن النفس، فيرسخ اليقين، ويصلح العمل، وإذا كثر السالكون في هذا السبيل، لم تلبث تلك الأمراض أن تزول إن شاء الله" [بلوغ الأماني من كلام المعلمي اليماني، ص: 33]. ثم أشار إلى قضية تصنيف البخاري -رحمه الله- لكتاب الأدب المفرد، وقد أفرده عن صحيحه، وجعل له أبواباً خاصة، وقد ذكر ابن حجر -رحمه الله- في أهمية هذا الكتاب، قال: "وكتاب الأدب المفرد، يشتمل على أحاديث زائدة على ما في الصحيح، وفيه قليلٌ من الآثار الموقوفة، وهو كثير الفائدة" [فتح الباري: 10/ 400]. وقد شرحه الشيخ فضل الله الجيلاني، وخرج أحاديثه وحققه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. فهذا الكتاب الآن مشروح ومحقق، كتاب صحيح الأدب المفرد للبخاري -رحمه الله-، وحسبك به، ويكفيك مؤلفه.
أقوال العلماء في أهمية الآداب الإسلامية وفضلها
ومن بعض أقوال العلماء في الأدب: يقول النبي ﷺ، وهو إمام العلماء: إن الهدي الصالح والسمت والاقتصاد، جزءٌ من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة [رواه أبو داود: 4778، وأحمد: 2698، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: 4776، وفي الروض النضير: 384]. فإذاً، الأدب هو السمت الصالح، حسن السمت، والهدي الصالح، هذا هو الأدب.
وقال النخعي -رحمه الله-: "كانوا إذا أتوا رجلاً ليأخذوا عنه، نظروا إلى سمته وصلاته وإلى حاله، ثم يأخذون عنه" [غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب: 1/ 36]. أول شيء ينظرون إلى أدب العالم والمحدث، فإن وجدوه أديباً مؤدباً، أخذوا عنه، ولذلك كان مجلس الإمام أحمد -رحمه الله- يجتمع فيه من زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، خمسمائة يكتبون الحديث، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت. وقال ابن عباس: "اطلب الأدب فإنه زيادةٌ في العقل، ودليلٌ على المروءة، ومؤنسٌ في الوحدة، وصاحبٌ في الغربة، ومالٌ عند القلة". وقال أبو عبد الله البلخي: "أدب العلم أكثر من العلم". وقال ابن المبارك -رحمه الله-: "لا ينبل الرجل بنوعٍ من العلم ما لم يزين علمه بالأدب".
وكذلك قال ابن المبارك أيضاً: "طلبت العلم فأصبت منه شيئاً، وطلبت الأدب، فإذا أهله قد بادوا". وقال بعض الحكماء: "لا أدب إلا بعقل، ولا عقل إلا بأدب" [غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب: 1/ 36]. وقال بعضهم: "رأيتُ من أراد أن يمد يده في الصلاة إلى أنفه، فقبض على يده [الرسالة القشيرية، ص: 128] خرجت واحدة إلى الأنف، والثانية قبضت عليها، فكفتها. وقال يحيى بن معاذ: "من تأدب بأدب الله، صار من أهل محبة الله". وقال ابن المبارك أيضًا: "نحن إلى قليلٍ من الأدب أحوج منا إلى كثيرٍ من العلم" [الرسالة القشيرية، ص: 129]. هناك أناس عندهم علم كثير، لكن ليس عندهم أدب، ولذلك نفروا الناس، وما أحد أخذ عنهم، بسبب عدم الأدب. وسئل الحسن البصري -رحمه الله- عن أنفع الأدب، فقال: "التفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله عليك" [الرسالة القشيرية، ص: 129]. منهجية الشيخ/محمد المنجد في دروس سلسلة الآداب الإسلامية: فنقول -أيها الإخوة- وقد يحصل السؤال عن منهج هذا الدرس؟ ومن أي كتابٍ يكون؟ فرأيت ألا يكون هناك كتابٌ محدد؛ لأن بعض الآداب التي سنتكلم عنها قد لا توجد في كتابٍ محدد، أو موجودة في أكثر من كتاب، ولكن من أحسن الكتب في الآداب وأكثرها تنظيماً وأجودها تصنيفاً: "غذاء الألباب شرح منظومة الآداب" للسفاريني، يقع في مجلدين. وقد شرح منظومة ابن عبد القوي. وأكثر الآداب التي سنتكلم عنها من هذه المنظومة، فإذا كان الشخص يريد أن يأخذ كتاباً في موضوع الآداب، فليأخذ كتاب: "غذاء الألباب شرح منظومة الآداب". نعم، يوجد في كتاب "الآداب الشرعية" لابن مفلح، مباحث نفيسة وجيدة، وتوسع في الأشياء، لكن في جودة الترتيب، وحسن التصنيف، كتاب: "غذاء الألباب" أحسن، فإن السفاريني قد جاء بعد ابن مفلح، وأخذ أشياء كثيرة، واستفاد من كتابه، لكنه رتب كتابه، وإن كان يوجد فيه عبارات صعبة على المبتدئ في طلب العلم، كتاب: "غذاء الألباب". ولعلنا في بقية هذا الدرس،
نلقي نظرة سريعة على منظومة الآداب، لابن عبد القوي، ونذكر أطرافاً عامة من الأدب قبل أن نشرع في الكلام عن الآداب بالتفصيل. وسنتكلم -إن شاء الله- في موضوع الآداب على: آداب تلاوة القرآن، آداب الضيف، آداب العطاس والتثاؤب، آداب الانتعال، آداب توقير الكبير ورحمة الصغير، وكذلك أدب الجار، أدب الحوار والمناظرة، ما يتعلق بالرؤى والأحلام، آداب النكاح، آداب الطعام الشراب، آداب الأكل، آداب الضحك والمزاح، آداب المريض، آداب المساجد، آداب المشي، آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل، آداب النوم، وآداب الهدية، وآداب الوليمة -إن شاء الله- في خلال الدروس القادمة، نتعرض لكل واحد من هذه الأنواع بالشرح والتفصيل، مع الأدلة وأقوال العلماء، وفروع أدب كل جانب من هذه الجوانب. وسيكون الدرس ثلاثة أيام في الأسبوع: في السبت والأحد والإثنين -إن شاء الله- بين صلاتي المغرب والعشاء. أبيات مختارة من منظومة ابن عبد القوي والتعليق عليها:
مقدمة منظومة ابن عبد القوي
أما منظومة ابن عبد القوي -رحمه الله-، فإنه افتتحها بقوله:
بحمدك بالإكرام ما رُمت أبتدي | كثيراً كما ترضى بغير تحددِ |
وصلِّ على خير الأنام وآله | وأصحابه من كل هادٍ ومهتدِ |
وبعد فإني سوف أنظم جملةً | من الأدب المأثور عن خير مرشدِ |
من السنة الغراء أو من كتاب من | تقدس عن قول الغواة وجحدِ |
ومن قول أهل العلم من علمائنا | أئمة أهل السلم من كل أمجدِ |
لعل إله العرش ينفعنا به | وينزلنا في الحشر في خير مقعدِ |
ألا من له في العلم والدين رغبةٌ | ليصغي بقلبٍ حاضرٍ مترصد |
ويقبل نصحاً من شفيقٍ على الورى | حريصٍ على زجر الأنام عن الردِ |
فعندي من علم الحديث أمانةٌ | سأبذلها جهدي فأهدي وأهتدي |
صيانة الجوراح عما حرم الله
ألا كل من رام السلامة فليصن | جوارحه عما نهى الله يهتدِ |
فكانت أول وصية في هذه المنظومة: صون الجوارح عما حرم الله.
ثم قال:
يكب الفتى في النار حصد لسانه | وإرسال طرف المرء أنكى فقيدِ |
هذا إشارة إلى قول النبي ﷺ: وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم [رواه الترمذي: 2616، وابن ماجه: 3973، وأحمد: 22069، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2866].
يكب الفتى في النار حصد لسانه | وإرسال طرف المرء أنكى فقيدِ |
يعني قيد طرفك، لا تصب بطرفك الحرام، ولا تنظر إلى ما حرم الله.
وطرف الفتى يا صاح رائد فرجه | متعبه فاغضضه ما اسطعت تهتد |
يعني إطلاق النظر يؤدي إلى الوقوع في الزنا.
يعني الذين وقعوا في العشق والتعلق بالصور والأشكال من أي جهةٍ أُتوا؟ من النظر. فتعب نفسيًا؛ لأنه أصيب بالعشق، تعب نفسياً، تعب جداً، وخصوصاً إذا عشق امرأةً متزوجةً لا قدرة له على الوصول إليها؛ لأنها ذات زوج، فماذا يكون حاله، في غاية التعب،
ولذلك قال:
وطرف الفتى يا صاح رائد فرجه | ومتعبه فاغضضه ما اسطعت تهتدِ |
ويحرم بهت واغتيابٌ نميمة | وإفشاء سرٍ ثم لعن مقيدِ |
البهتان حرام، إذا قلت في أخيك ما فيه، فقد اغتبته، وإذا قلت ما ليس فيه فقد بهته. قال:
ويحرم بهت واغتيابٌ. | إفشاء سرٍ ثم لعن مقيدِ |
وهذه الغيبة.
. . أيضاً يحرم المشي بين اثنين بالإفساد بينهما بالكلام
........... | وإفشاء سرٍ.......... |
لأن النبي ﷺ قال: المجالس بالأمانة [رواه أبو داود: 4871، وأحمد: 14734، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود: 4226]. إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت، فهي أمانة [رواه أبو داود: 4870، والترمذي: 1959، وأحمد: 15104، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: 4868]. فإذا استودعك سرًا لا يجوز إفشاؤه.
ويحرم بهت واغتيابٌ نميمة | وإفشاء سرٍ ثم لعن مقيدِ |
يعني: لا يجوز أن تلعن المعين. إذا كان ممن لعنه الله، كإبليس، وأبي جهل، وأبي لهب، ماتوا على الكفر، هذا يجوز لعنهم، لكن الحي لا يجوز لعن المعين، ولو كان كافراً على الصحيح؛ لأنه قد يموت على الإسلام، فيكون غير مستحق للعنة. فإذاً، لا تلعن المعين، لكن لو لعنت الجنس، فقلت: ألا لعنة الله على الكافرين، ألا لعنة الله على الظالمين، ألا لعنة الله على الكاذبين، فلا بأس، لكن لعنة الله على فلان، أو لعن الله فلاناً، لا يجوز، إلا إذا لعنه الله ورسوله.
فإذًا، المعين المقيد لا تلعنه.
وفحشٌ ومكرٌ والبذا -الألفاظ البذيئة- وخـديعة | وسخريةٌ والهزء والكذب قيد |
يعني قيد نفسك عن هذه الأشياء ولا تطلق لسانك فيها.
بغير خداع الكافرين بحربـهم | أو العرس أو إصلاح أهل التنكدِ |
إذاً، الكذب يجوز إذا كان في خداع الكافرين في الحرب؛ لأن النبي ﷺ قال: الحرب خدعة [رواه البخاري: 3029، ومسلم: 4637]. ومعنى:
بغير خداع الكافرين بحربهم | أو العرس أو إصلاح أهل التنكدِ |
جواز كذب رجل على زوجته، إذا خشي شقاقها، أو أن تغضب عليه.
بغير خداع الكافرين بحربهم | أو العرس أو إصلاح أهل التنكدِ |
الإصلاح بين المتخاصمين.
ويحرم مزمارٌ وشبابةٌ وما | ضاهيهما من آلة اللهو والردِ |
إذاً، هذا ذكر تحريم آلات اللهو والمعازف، سواءً كانت لها أوتار، أو ليس لها أوتار، مزمار، طبل، شبابة، كله حرام، حتى لو لم يكن معها غناء، ولذلك قال في البيت الذي بعده:
ولو لم يقارنها غناءٌ جميعها | فمنها ذوي الأوتار دون تقيدِ |
لا تقيد بالأوتار، لكن ذوات الأوتار، كالعود والكمنجة، داخلةٌ فيها، والشبابة، والربابة، داخلةٌ فيها.
حكم الشعر وحفظه
ولا بأس بالشعر المباح وحفظه | ........... |
وصنعته من رد ذلك يعتدي القاعدة في الشعر: أن حسنه حسن وقبيحه قبيح، وإذا كان لنصرة دين الله يكون عبادة، كما قال النبي ﷺ لـحسان: اهجهم أو هاجهم وجبريل معك [رواه البخاري: 3213، ومسلم: 6542] يعني جبريل يؤيدك ويثبتك ويناصرك.
ولا بأس بالشعر المباح وحفظه | وصنعته من رد ذلك يعتدي |
يعني لو صنعه ونظمه أيضًا.
ولا بأس بالشعر المباح وحفظه | وصنعته من رد ذلك يعتدِ |
يعني يحرم الشعر كله حتى المباح فهو معتدٍ.
فقد سمع المختار شعر صحـابةٍ | وتشبيبهم من غير تعيين خردِ |
يعني لو أن بعض الأبيات فيها غزل، لكن ما عين امرأةً بعينها، ولا وصل إلى درجة الكلام عن العورات، وإثارة الشهوات.
وحَظر الهجاء والمدح بالزور والخنا | وتشبيبه بالأجنبيات أكدِ |
الهجاء حرام في الشعر. والمدح، وهو عمل الشعراء؛ لأنهم يمدحون للأموال بالباطل. والمدح بالزور، قيده بالزور؛ لأن من المدح بما هو فيه لا بأس به، كمدح النبي ﷺ، والصحابة، والخلفاء.
ووصف الزنا والخمر والمرد والنسا | الفتِيَّاتِ أو نَوح التسخط موردِ |
كشعر نزار قباني، وغيره من الضالين في هذا الزمان. فلو عمل الشعر نياحه، فهو حرام.
إنكار المنكر وآدابه وضوابطه
وأمرك بالمعروف والنهي يا فتى | عن المنكر اجعل فرض عين تسددِ |
اجعله فرض عين.
على عالمٍ بالحظر والفعل لم يكن | سواه به مع أن عدوان معتدِ |
ينبغي أن يكون عالماً فيما يأمر، عالماً فيما ينهى.
على عالمٍ بالحظر والفعل لم يكن | سواه به مع أن عدوان معتدِ |
فبين أنه لو كان الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، مهدداً بالضرب أو السجن أن يفعل به ذلك، فإذا سكت عن الأمر والنهي لا يأثم؛ لأنه مكره، لكن لو صبر وأمر ونهى، فهو مأجور؛ لأن النبي ﷺقال: سيد الشهداء: حمزة، ورجلٌ قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله [رواه الحاكم في المستدرك: 4884، وقال: " صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2308]. ثم قال:
وأنكر على الصبيان كل محـرمٍ | لتأديبهم والعلم في الشرع بالردي |
فإذاً، لو واحد من الناس رأى مع صبي مزماراً، هل يقول: هذا صغير ليس مكلفاً أو يأخذه منه؟ يأخذه منه، لا بد. لو رأى على ذكرٍ ذهباً نزعه منه، وأعطاه لوليه، وقال له: لا يجوز لك أن تلبسه ذهباً. ولا يجوز للصبي كذلك أن يلبس ثوباً مسبلاً، لا يجوز لوليه أن يفعل به ذلك. فالصبيان هل ينكر عليهم؟ الجواب: نعم.
وبالأسهل ابدأ ثم زد قدر حاجة | فإن لم يزل بالنافذ الأمر فاصددِ |
يعني لا تبدأ على طول بالضرب، أولاً ابدأ بالكلام الطيب، بالحكمة والرفق. ثم زد قدر حاجة، على قدر الحاجة تعلو الوتيرة في الإنكار.
وبالأسهل ابدأ ثم زد قدر حاجة | فإن لم يزل بالنافذ الأمر فاصددِ |
إذا لم يستجب لك، ولا استطعت أن تغير بيدك، فاصدد عنه، لا تجلس معه في مكان المنكر، تقول: نهيت عن المنكر، وفعلت الذي عليَّ، وما استجاب، فسأواصل الجلوس، لا يجوز.
إذا لم يخف في ذلك الأمر حيفه | إذا كان ذا الإنكار حتم التأكدِ |
لأن بعض الناس قد يكون له سلطان، فإذا فعل به ما فعل في مجلسه، أو أنكر عليه، فآذاه، فيسقط وجوب الإنكار حينئذٍ.
ولا غرم في دف الصنوج كسرته | ولا صورٍ أيضا ولا آلة الددِ |
الصنوج، هذا الطار الذي له حلق معدنية، إذا هزها ضربت الحلق ببعضها، فأصدرت صوتاً، فهذا لا يجوز. الدف المباح للنساء في الأعراس، هو الذي ليس له حلقٌ، هو الدف العادي، هذا الذي ليس له حلقٌ معدنية متصلةٌ به. فإذا استعمل دفاً آخر لم يجز. وإذا كسر الطبل، أو العود، لا غرم عليه، لا يستطيع صاحبه أن يشتكي للقاضي، ويقول: اضمنه لي، كسرت عودي؟ كسرت طبلي؟ فلا غرم في ذلك. ولا صور أيضاً. يعني التماثيل لو أتلفها، فإنه لا يضمن الثمن، ولا يستطيع أن يقول: كسرت تمثالي أعطني قيمته؟ ولا آلة الدد. الدد، هو آلة اللهو. وآلة تنجيمٍ وسحرٍ ونحوه مثل لعبة الآن موجودة في الأسواق، حدثونا عنها في المدارس، أو أن بعض النساء أتوا بها إلى المدارس، فيها أحرف باللغة الإنجليزية، وأرقام، وسهم من البلاستيك، يشير له اتجاه، وأنه يضع إصبعيه عليها، ويستحسن أن يكون معه امرأة، هكذا يقولون في تعليمات اللعبة، تضع إصبعيها أيضاً على هذه القطعة من البلاستيك، ثم تنادي الجنية، ويقول: يا فلانة هل حضرت؟ فستشير هذه إلى إشارة: نعم، أو لا. يعني مكتوبا على اللوحة: نعم، ولا.
وبعد ذلك يقول -مثلاً-: ما اسمي؟ فيتحرك المؤشر تلقائياً إلى الحرف الأول من اسمه. كم عمري؟ فتتحرك إلى الثلاثة والسبعة -مثلًا-، أو إلى الأربعة والصفر لتشير إلى عمرك. كم عدد أولادي؟ ونحو ذلك. وهذه اللعبة قد افتتن بها أشخاص، مع أنها من السفاهات والسذاجات، ولا تدخل في عقل عاقل، وهي تباع في بعض المحلات هنا، وكان سعرها سبعين ريالاً، ولما صار الطلب عليها من الناس الذين عندهم قلة دين وعقل، صارت الآن بمائة وأربعين، بل أكثر من مائة وأربعين. وقد أتى لي واحد منهم بهذه اللعبة، قال: طيب الآن لو أننا قمنا بتشغيله تشتغل؟ قال: لا، من يوم ما قالوا نذهب بها إلى الشيخ ما اشتغلت. فهذا -طبعًا- من الخرافات والخزعبلات الموجودة.
وبعض الناس يصدقون بها فعلاً. وعندهم كذلك بالفرجار والإبرة، وفيها: نعم ولا، وينادون الجنية بزعمهم أو الجن على أساس أنها تشير لهم للأجوبة، ويقولون: طالبة سألت اللعبة ما هي أسئلة اختبار القرآن غداً؟ فأعطت لها أرقام السور، وجاءت مثلما قالت. كلام كثير.
لعبة منكرة
فيقول الناظم -رحمه الله- في إتلاف آلات المنكر:
وآلة تنجيمٍ وسحرٍ ونحوه | وكتبٍ حوت هذا وأشباه فاقددِ |
يعني: مزق، مثل كتاب "شمس المعارف" وغيره من الأشياء التي فيها تعليم السحر، وتحضير الأرواح، وتحضير الجن، وغير ذلك. وأضاف الشيخ السلمان لنظم القصيدة أبياتًا من عنده، قال:
وَقُلْتُ كَذَاكَ السِّيْنَمَاءُ وَمِثْلُهُ | بِلاَ رَيْبَ مِذْيَاعٌ وَتِلْفَازٌ مُعْتَدِي |
وَأَوْرَاقُ أَلْعَابٍ بِهَا ضَاعَ عُمْرُهُم | وَكُوْرَاتِهم مَزِّق هُدِيْتَ وَقَدِّدِ |
كَذَا بِكَمَاتٌ وَالصَّلِيبُ وَمِزْمَر | وَآلةُ تَصْويْرٍ بِهَا الشَّرُّ مُرْتَدِي |
كَذَلِكَ دُخَّانٌ وَشِيشَةُ شُرْبِهِ | وَآلةُ تَطْفَاةٍ لَهُ اكْسِرْ وَبدِّدِ |
[مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار: 3/100].
هجر أصحاب المعاصي
ثم يقول الناظم -رحمه الله- "ابن عبد القوي":
وهجران من أبدى المعاصي سنةٌ | وقد قيل إن يردعه أوجب وأكدِ |
كما دل عليه حديث كعب وغيره.
وهجران من أبدى المعاصي سنةٌ | وقد قيل إن يردعه أوجب وأكدِ |
إذا كان الهجران يردع صاحب المعصية، يصير الهجر واجب.
وقيل على الإطلاق ما دام معلناً | ولاقه بوجه مكفهر معربد |
يعني ما دام معلناً بالفسق، سواءً كان يؤثر فيه الهجر أو لا يؤثر فيه اهجره.
وقيل على الإطلاق ما دام معلناً | فلاقه بوجهٍ مكفهرٍ معربدِ |
يعني غيّر وجهك عليه؛ لأنه صاحب منكر ومعلن بالمنكر. وإذا كان الهجر لا يزيد إلا سوءاً، فما حكم الهجر؟ لا يجوز؛ لأن الهجر دائماً مع قاعدة المصالح والمفاسد. قال:
ويحرم تجسيسٌ على متسترٍ | بفسقٍ وماضي الفسق إن لم يجددِ |
يعني المتستر بالفسق لا يجوز التجسس عليه في بيته، واحد عنده فسق سابق ماض ما دام ما رجع إلى الفسق لا يجوز أن نقول:
نتجسس عليه، ربما يعود. كان صاحب سوابق، أظهر التوبة، ربما يعود، ليش ما تتجسس عليه؟
نقول: لا يجوز. ثم قال:
وحضر انتفا التسليم فوق ثلاثةٍ | على غير من قلنا بهجر فأكد |
لا يجوز أن تهجر أخاك فوق ثلاثة أيام لا تسلم عليه.
وحضر انتفا التسليم فوق ثلاثةٍ | لى غير من كان بهجرٍ فأكدِ |
كالمعلن بالمعصية، والمبتدع، فتهجر فوق الثلاثة، والشهر، والسنة، حتى يرتدع.
آداب السلام وضوابطه
وكن عالماً أن السلام لسنةٌ | وردك فرضٌ ليس ندبٌ بأوقدِ |
ويجزئ تسليم امرئٍ من جماعةٍ | ورد فتىً منهم على الكل يعدِد |
لو سلم واحد من الجماعة على قومٍ جالسين، فرد واحد من الجالسين، أجزأ هذا عن هؤلاء، وهذا عن هؤلاء. ثم قال:
وتسليمٌ نزرٍ والصغير وعابرٍ | السبيل وركبان على الضد أيد |
يعني يسلم القليل على الكثير، النزر، يعني القليل، والصغير يسلم على الكبير، هذا هو الأدب.
وتسليمٌ نزرٍ والصغير وعابرٍ | سبيلٍ وركبانٍ على الضد أيد |
يعني العابر، الماشي يسلم على القاعد، والراكب يسلم على الماشي، على الضد.
وإن سلم المأمور بالرد منهـمُ | فقد حصل المسنون إذ هو مبتدي |
وسلم إذا ما قمت عن حضرة امـرئٍ | وسلم إذا ما جئت بيتك تهتدِ |
إذا زرت شخصاً وأردت أن تغادر، سلم عند المغادرة.
وسلم إذا ما قمت عن حضرة امـرئٍ | وسلم إذا ما جئت بيتك تهتدِ |
إذا دخل البيت: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً [النور: 61]. وإفشاؤك التسليم يوجد محبـةً *** من الناس مجهولاً ومعروفاً اقصد ولذلك يُخطئ كثير من الناس اليوم إذا صار ما يسلم إلا على من يعرف، وإنما يجب إفشاء السلام على من عرفت ومن لم تعرف. ولذلك:
إفشاؤك التسليم يوجد محبة | من الناس مجهولا ومعروفا اقصد |
والسلام على الذين تعرفه فقط من أشراط الساعة، فهو شيءٌ مذموم. ثم قال:
وتعريفه لفظ السلام مجوزٌ | وتنكيره أيضاً على نص أحمدِ |
يعني لو قلت: سلامٌ عليكم، أو السلام عليكم، كل ذلك صحيح.
أدب الاستئذان قبل الدخول
وسنةٌ استئذانه لدخوله | على غيره من أقربين وبعدِ |
يعني لو أردت أن تدخل غرفة أمك التي هي أمك وهي فيها، فلا تدخل حتى تستأذنها. هل تحب أن تراها على عري؟ وكذلك الأبعدين ما تدخل عليهم حتى تستأذنهم. ثلاثاً ... يعني الاستئذان ثلاثا.
ومكروهٌ دخولٌ لهاجـمٍ | ولا سيما من سفرةٍ وتبعدِ يهجم |
ولو كان الزوج، ما يهجم على البيت، وإنما يستأذن، وخصوصاً إذا كان جاءِ من سفر، حتى لا يقع على ما يكرهه من زوجته، وإنما يمهل حتى تستحد المغيبة يعني تأخذ من شعرها الذي يسبب الرائحة الكريهة وتتمشط الشعثة [رواه البخاري: 5246، ومسلم: 5074] وتتهيأ لتتزين لزوجها، حتى لا يراها في حالٍ ربما تشمئز نفسه منها.
ووقفته تلقاء بابٍ وكوةٍ | فإن لم يجب وإن يخف يزددِ |
يعني هذا منهي عنه، أن يقف تلقاء الباب مباشرة حتى إذا انفتح رأى من بداخل البيت، يقف على جنب، بحيث لو انفتح الباب ما يرى أهل البيت. وكوةٍ، الطاقة والثقب.
ووقفته تلقاء باب وكوة * | فإن لم يجب وإن يخف يزددِ |
إذا استئذن ثلاثا وما أجيب.
ووقفته تلقاء باب وكوة فإن لم | يجب يمضي وإن يخف يزددِ |
وإذا خاف أنهم ما سمعوا؛ يعني ضربت الجرس ثلاث مرات، أو قلت: السلام عليكم، ثلاث مرات، تمشي إذا ما أذنوا لك. لو غلب على ظنك أنهم ما سمعوا؟ تزيد على الثلاث.
وتحريك نعليه وإظهار | حسـه بدخلته حتى لمنزله اشهدِ |
كما جاء عن ابن مسعود: أنه كان إذا جاء عند باب بيته تنحنح، حتى يُعلم أهل البيت أنه داخل.
سنة المصافحة وتحريم السجود لغير الله
ثم قال:
وصافح لمن تلقاه من كل مسلمٍ | تناثر خطاياكم كما في المسند |
وليس لغير الله حل سجودنا | ويكره تقبيل الثرى بتشدد |
المصافحة سنة، وفيها تناثر خطايا بين المسلمين. أما السجود، فلا يجوز لغير الله...
وليس لغير الله حل سجودنا | ويكره تقبيل الثرى بتشددِ |
إذا قبل الأرض وسجد، يصير الحرام أكثر وأشد. كان سجود التحية في شرع من قبلنا، كما سجد أهل يوسف ليوسف، وفي شرعنا حرم، لما رجع معاذ من الشام، وسجد للنبي ﷺ، قال: ما هذا؟ سأله النبي ﷺ، قال: رأيتهم يسجدون لعظمائهم، وأنت أعظم من العظماء هؤلاء، أنت أولى بالسجود، فأخبره النبي ﷺ، فنهاه ﷺ عن السجود، وقال: لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد؛ لأمرت النساء أن يَسْجدْنَ لأزواجهن؛ لما جعل الله لهم عَلَيْهِنَّ مِنَ الحقِّ [رواه أبو داود: 2142، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 1857].
ويكره منك الإنحناء مسلمًا | وتقبيل رأس المرء حل وفي اليد |
الانحناء عند السلام، منهيٌ عنه. ولفظة: "يكره" تأتي بمعنى يحرم، ولكن يستخدمها كما استخدم الإمام أحمد -رحمه الله- ورعاً. مثل ما يحدث الانحناء في بعض الألعاب الرياضية، كالكاراتيه، وغيرها، ينحني بعضهم قبل بداية اللعبة، هذا حرامٌ، لا يجوز.
ويكره منك الإنحناء مسلماً | وتقبيل رأس المرء حل وفي اليد |
ويجوز تقبيل رأس العالم، والوالد، وكبير السن، وكذلك تقبيل اليد.
ونزع يدٍ ممن يصافح عاجـل | وأن يتناجى الجمع ما دون مفرد |
يعني يكره إذا سلمت على واحدٍ، أن تنزع يدك قبله مستعجلاً.
ونزع يدٍ ممن يصافح عاجـل | وأن يتناجى الجمع من دون مفردِ |
وأيضاً النهي عن تناجي جماعة دون واحد.
وأن يجلس الإنسان عند محدثٍ | بسرٍ وقيل احضر وإن يأذن اقعدِ |
لا تدخل بين اثنين يتناجيان. إذا استأذنت جاز أن تجلس. وقيل: لا تأتي أصلاً.
صلة الأرحام وطاعة الوالدين
وكن واصل الأرحام حتى لكاشحٍ | توفر في عمرٍ ورزقٍ وتسعدِ كاشح |
يعني: صاحب عداوة، يطول عمرك، وتزداد رزقاً.
ويحسن تحسينٌ لخلق وصحبـةٍ | ولا سيما للوالد المتأكدِ |
تحسن الصحبة مع الوالدين أوكد.
ولو كان ذا كفرٍ واجب طوعه | سوى في حرامٍ أو لأمرٍ مؤكد |
لازم تطيعه إلا إذا أمرك بمعصية.
كتطلاب علمٍ لا يضرهما به | وتطليق زوجاتٍ برأيٍ مجردِ |
يعني لا تطعه إذا أمرك بترك شيءٍ مؤكد شرعاً، كطلب العلم، قال: لا تلطلب، قال لك: ما أسمح لك تطلب العلم.
كتطلاب علمٍ لا يضرهما به | وتطليق زوجاتٍ برأيٍ مجردِ |
ما يضرهما لو طلبت العلم، وأنت تحتاج إليه؟
كتطلاب علم لا يضرهما به | وتطليق زوجاتٍ برأيٍ مجردِ |
ولو قال لك: طلق زوجتك، برأيٍ مجرد، ما فعلت زوجتك شراً، ولا هي سيئة خلق، فلا يلزمك طاعة والديك في هذه الحالة.
وأحسن إلى أصحابه بعد موته | فهذا بقايا بره المتعود |
أصحاب أبيك وأمك.
وأحسن إلى أصحابه بعد موته | فهذا بقايا بره المتعودِ |
هل بقي من بر أبوي شيءٌ أفعله بعد موتهما؟ فأخبره ﷺ، بقوله: الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التى لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما [رواه أبو داود: 5144، وابن ماجه: 3664، وأحمد: 16103، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود: 4476 ].
ويشرع إيكاء السقا وغطا الإنا | وإيجاف أبوابٍ وطفئٌ لموقدِ |
ويشرع إيكاء السقا، يعني تغطية الإناء بعد الشرب، وغطا الإنا، وإيجاف أبوابٍ، إغلاق الباب بعد ما تدخل البيت، وطفئٌ لموقدِ، إطفاء السرج.
وتقليم أظفارٍ ونتفٌ لإبطه | وحلق وللتنوير للعانة اقصدِ |
التنوير، وضع النورة لإزالة الشعر، والمقصود الإزالة سواءٌ كانت بالحلق، أو المقص، أو المرهم، أو النورة.
ويحسن خفض الصوت من عاطسٍ | وأن يغطي وجهاً لاستتارٍ من الردِ |
عند العطاس -كما سيأتي-.
خاتمة منظومة الآداب، لابن عبد القوي
ثم ذكر -رحمه الله- بقية الآداب في المريض وعيادته، وحكم قتل الحيوانات للمحرم، وحكم قتل النمل، وحكم قتل الحية، وبعض أحكام الشرب والأكل، وغير ذلك من الأحكام، إلى أن قال في آخر القصيدة نمر على بعضها -إن شاء الله- من خلال هذا الدرس، قال في آخر هذه القصيدة الجيدة البليغة التي لو حفظت، فيكون في حفظها خيرٌ عظيم؛ لأنه بواسطة حفظها يصل إلى معرفة آداب كثيرة جداً، قال:
وها قد بذلت النصح جهدي وإنني | مقرٌ بتقصير وبالله اهتدي |
تقضت بحمد الله ليست ذميمةً | ولكنها كالدر في عقد خردِ تقضت |
يعني القصيدة انقضت.
يحار لها قلب لذيذ وعارفٌ | كريمان إن جالا بفكرٍ منضدِ |
ثم قال:
فخذها بدرسٍ ليس بالنوم تدركن | لأهل النهى والفضل في كل مشهدِ |
وقد كملت والحمد لله وحده | على كل حالٍ دائمٍ لم يصددِ |
وسنبدأ الكلام في الدرس القادم -إن شاء الله- عن آداب تلاوة القرآن، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.