الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، و نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ آل عمران 102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاالنساء1.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا الأحزاب70-71.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
المال فتنة أمة محمد ﷺ
أيها المسلمون: إن فتنة المال من الفتن العظيمة التي وقع فيها المسلمون، وفتنة الجاه من الفتن الكبيرة التي أودت بكثير من أخلاق المسلمين، هذه الفتنة التي عظم رسول الله ﷺ شأنها، فقال: إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي المال، ولذلك كان ﷺلا يخشى على أصحابه الفقر، ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم[البخاري(4015)، ومسلم(2961)] تنشغلون بالدنيا وبالأموال، فتفتنون، فيصيبكم ما أصاب الأمم من قبلكم.
أيها المسلمون: ما لنا نرى اليوم كثيرًا من الناس إذا أصابته نعمة من الله كفروا، وإذا وسع الله عليهم شيئًا من معيشتهم نسوه ، وإذا أعطاهم الله وظيفة أو جاه تكبروا على عباد الله، ما هو السبب الذي يجعل كثير من النفوس تصاب بهذا المصيبة الكبيرة؟ أو رجل يزاد له في دخله شيء، أو يتجر تجارة، أو يكثر أمواله بوجه من الوجوه، فتخرب نفسه، ويتعالى على عباد الله، ويقطع الرحم، ويتكبر في الأرض، ويفسد فيها، ويعلو علوًا كبيرًا.
حال النبي ﷺ والصحابة قبل الفتوحات
لا بدّ لنا من رجعة إلى حال الصحابة -رضوان الله عليهم- وعلى رأسهم نبي الله ﷺ لنرى كيف عاشوا قبل أن تفتح عليهم الدنيا، وكيف كانوا وصاروا بعد أن فتحت عليهم الدنيا، إن الصحابة -رضوان الله عليهم- كثير منهم قد أدرك الحالين: حال الفقر، وحال الغنى، فكيف كان حالهم في وقت الفقر؟ وكيف صار حالهم في وقت الغنى؟ هل تغيرت نفوسهم؟ هل اضطربت أحوالهم؟ هل رجعوا وارتدوا على أعقابهم؟ كان حال النبي ﷺ وأصحابه قبل الفتوحات حالًا شديدا، قال ﷺ: لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثة من بين يوم وليلة مالي ولبلال طعام، وليس لي وبلال طعام إلا ما يواريه إبط بلال [ابن ماجة(151)]، قالت عائشة: "ما شبع آل محمد ﷺ منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعًا حتى قبض"[البخاري(9454) ومسلم(2970)]، ما شبعوا من طعام البر ثلاث ليال متوالية، لا يمكن ما مر عليهم، وقالت: "ما أكل آل محمد ﷺ أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر"[البخاري(6455)] وقالت: "كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارًا، إنما هو التمر والماء، إلا إن نؤتى باللحيم"[البخاري(6458)]- تصغير لحم- من الجيران، أو الصحابة الذين يهدون إلى النبي ﷺ" قالت لابن اختها عروة: "ابن اختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلالة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله ﷺ نار"[البخاري(6456)]، قال قتادة: "كنا عند أنس وعنده خباز له بعد ذلك قال: "ما أكل النبي ﷺ خبزًا مرققًا، ولا شاة مسموطة حتى لقي الله "[البخاري(5385)]، كان أهل الصفة فقراء ليس لهم مأوى، فينامون في المسجد، يأمر النبي ﷺ بإضافتهم، ويأخذ معه بعضهم إلى بيته، ويدخل النبي ﷺ على أهله يقول: عندكم طعام؟، فيقولون: لا، فيقول: إني إذًا صائم[مسلم(1154)]، الصحابي لما أراد أن يتزوج لم يجد مهرًا، ولا خاتمًا من حديد، ليس له إلا إزاره يواري به عورته، لو أعطاه للمرأة لما يغني عنها شيئًا وبقي هو بغير ثياب! عن عائشة قالت: دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل، محتاجة ومسكينة، فلما تجد عندي شيئًا غير تمرة -.
يا أيها المسلمون: اتعظوا بيت النبي ﷺ ليس فيه إلا تمرة- فأعطيتها إياها، فقستمها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي ﷺ علينا فأخبرته فقال: من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترًا من النار[البخاري (1418)]، فقم بتربيتهن يا أبا البنات، واحفظهن يحفظك الله في الدنيا والآخرة، كان الصحابة يقدم عليهم إخوانهم من سائر النواحي فقراء مطاردين مشردين، يقول النبي ﷺ: يا معشر المهاجرين والأنصار إن من إخوانكم قومًا ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضم أحدكم إليه الرجلين والثلاثة[أبو داود(2534)]، هذا شيء يسير جدًا من حال النبي ﷺ وأصحابه، ما شبعوا من التمر إلا بعد معركة خيبر، أما غير ذلك فلم يكونوا يرون الطعام إلا يسيرًا، وكانت خفافهم مشققة، وثيابهم مرقعة -رضوان الله عليهم- يجاهدون في سبيل الله، ولو لم يجدوا في طريق الجهاد إلا ورق الشجر.
حال الصحابة بعد الفتوحات
ثم بعد وفاته ﷺ، ومحاربة أبي بكر لأهل الردة بدأت الفتوحات شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، بدأت الفتوحات فانهالت الأموال على الصحابة لما فتحوا المدائن، وهي مستقر كسرى، وعاصمة مملكته، ومكان كرسيه، وعرشه أخذوا تاج كسرى، وهو مرصع بالجواهر، وبساطه منسوج بالذهب واللآلئ، ومصورة فيه جميع ممالك كسرى بأنهارها، وقلاعها، وأقاليمها، وكان كسرى إذا جاء يدخل تحت تاجه، ويجلس على عرشه، وتاجه معلق بسلاسل الذهب؛ لأنه لا يستطيع حمله على رأسه من ثقله، وكثرة ما فيه من الذهب والجواهر المرصعة، وملابس كسرى مرصعة بالجواهر، لما قاتل الصحابة الفرس فهزموهم، وأخمد الله نار المجوس، وجدوا تاج كسرى وبساطه واللآلئ والجواهر، ووجدوا دورًا مليئة بأواني الذهب والفضة، ووجدوا كافورًا كثيرًا جدًا ظنوه ملحًا، خلطوه بالعجين فصار العجين مُرًا، فعرفوا أنه ليس بملح، لما قسم سعد الغنائم حصل للفارس اثنتي عشر ألفًا، وكان كلهم فرسان، كانوا في معركة بدر ليس معهم إلا فارس، وبعضهم يعتقبون بعيرًا، وبعضهم مشاة حتى عقبة البعير لا يجد، وبعث سعد أربعة أخماس البساط إلى عمر، فلما نظر إليه عمر، قال: "إن قومًا أدوا هذا لأمناء، فقال علي: إنك عففت فعفت رعيتك ولو رتعت لرتعوا "[تاريخ الطبري4/20]، ثم قسم عمر البساط على المسلمين، فأصاب عليًا قطعة من البساط، فباعها بعشرين ألفًا، توالت الأموال على الصحابة، غنائم جهاد وأعطيات، وعمر يعدل، ويقسم على المسلمين.
وعمر كيف كان حاله؟ الصحابة بعد الفتوحات والغنائم -يا أيها المسلمون- الصحابة بعد الغنائم كيف صار حالهم؟ لما فتحت عليهم الدنيا كيف كان حالهم؟ خليفتهم كيف كان حاله؟ الذي في إزاره اثنتي عشرة رقعة، وفي رداءه أربع رقع، كل رقعة مختلفة عن الأخرى، الذي كان باستطاعته أن يأكل لحمًا مشويًا كل يوم، لكنه كان يأكل زيتًا، ويأكل خبزًا وملحًا، ويرفض أن يأكل من الطعام الهنيء، ورفض أن يجلس على الفراش الوفير، ونام في المسجد، حتى دخل مرسول من الكفرة، فرآه في المسجد، قال: "عدلت، فأمنت، فنمت يا عمر"، كيف كان حال الصحابة بعدما صاروا أمراء على البلدان، هل طغوا وبغوا؟ هل غيرتهم الأموال؟ هل غيرتهم الدنيا؟
روى البخاري -رحمه الله- عن أبي وائل قال: عدنا خبابًا، وخباب أصابه ما أصابه في مكة، أحرق أظهره بأسياخ الحديد، ومع ذلك عاش حتى رأى الفتوحات، قال: "هاجرنا مع النبي ﷺ نريد وجه الله" ما أردنا مالًا ولا شيئًا من الدنيا "فوقع أجرنا على الله تعالى- من مكة إلى المدينة- فمنا من مضى ولم يأخذ من أجره شيئاً -هذا خباب يتكلم بعد لما تدفقت الأموال- فمنا من مضى ولم يأخذ من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير -الذي مات قبل الفتوح فوفر الله له أجره كاملًا لم يأخذ منه شيئًا في الدنيا، قال خباب: "منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد وترك نمرة فإذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه فأمرنا النبي ﷺأن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه شيئًا من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها"[البخاري(1276)، ومسلم(940)]، ومنا من جاءته الأموال، أينعت له الثمرة فهو يقطفها، هذا الصحابي يذكر نفسه، ويذكر الحاضرين، ويذكر هذا الحديث ما كان عليه الصحابة من الصدق في وصف أحوالهم، يقول من مات قبل فتح البلاد فتوفر له ثوابه كاملًا، ومنا من بقي حتى نال من طيبات الدنيا، حتى خشينا أن حسناتنا قد عجلت لنا، وأن أجر الطاعة قد جعل منه شيء في الدنيا، وأنه نقصنا من الآخرة شيء، ولذلك كان عمر يتجنب هذا، ويقول: "إن قوماً قال الله فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَاالأحقاف20.
روى البخاري بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف أوتي بطعام وكان صائمًا- عبد الرحمن بن عوف من كبار الأغنياء- قال لما قرب إليه الطعام، نظر إلى الطعام الشهي قال: "قتل مصعب بن عمير وهو خير مني -هذا من تواضع عبد الرحمن مع أنه أفضل من مصعب- وكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام"[البخاري(1275)]، ما تغيرت نفوسهم والله، ولا تبدلت، ولا بطروا، ولا أشروا، وإنما تواضعوا لله، كانوا يذكرون على الطعام إخوانهم القتلى قبل الفتوحات، عن عبد الله بن بريدة: "أن رجل من أصحاب النبي ﷺ رحل إلى فضالة بن عبيد - فضالة بن عبيد هذا صحابي جليل- وهو بمصر" صار أميرًا على مكان، "فقدم عليه، وهو يمد ناقته- الأمير يسقى الناقة مديدًا من الماء!- فقال: "إني لم آتيك زائرًا، وإنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله ﷺرجوت أن يكون عندك منه علم"، فرآه شعثًا - المسافر القادم رأى أمير البلد الصحابي رآه شعثًا: متفرق الشعر- فقال: "ما لي أراك شعثًا، وأنت أمير البلد، قال: إن رسول الله ﷺ كان ينهانا عن كثير من الإرفاه"، يعني التدهن والتنعم، وشبابنا اليوم في الكريمات، والشعر بالسشوار وصالونات الحلاقة. وهذا أمير البلد فضالة بن عبيد شعره متفرق. والتنعم والدعة ولين العيش خطيرة على الأمة إذا تفشت فيها هل يرجى منهم جهاد أو وقفة أمام الأعداء؟ كلا والله، ورآه حافيًا- الأمير حافي- فقال: ما لي أراك حافيًا؟ قال: إن رسول الله ﷺ أمرنا أن نحتفي أحيانًا"[أبوداود:4160]، أحيانا نحتفي لنشعر بالخشونة، أمرنا أن نحتفي أحيانًا هذا الأمير يحتفي، ما تغيرت أحوالهم، بقوا على إيمانهم، تربية محمد ﷺ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِالأحزاب 23، حتى لما جاءتهم الدنيا ما تغيروا.
عن محمد قال: كنا عند أبي هريرة، "فتمخط فمسح بردائه، وقال، الحمد لله الذي تمخط أبو هريرة في الكتان"، هذا بعد الفتوحات، وصار أميرًا أبو هريرة"، قال: "الحمد لله الذي تمخط أبو هريرة في الكتان لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منزل عائشة والمنبر مغشيًا عليّ من الجوع، فيمر الرجل فيجلس على صدري، فأرفع رأسي، فأقول ليس الذي ترى، إنما هو الجوع"[شعب الأيمان:10206]، يعني يظنه مصروعاً، فيه جني، فيجلس على صدره ليرقيه ويقرأ عليه، يقول أبو هريرة: ما بي جنون ولا جن ما بي إلا الجوع، قال أبو هريرة: "والله إن كنت لاعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع"[البخاري:6452]، لقد رأيتني وإني لأخر ما بين المنبر والحجر من الجوع مغشيًا عليّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي يرى أن بي جنون، وما بي إلا الجوع" [البخاري:7324].
ماذا صار حال أبو هريرة بعد ما صار أميرًا؟ عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال: "أقبل أبو هريرة في السوق"، صار أمير على البلد في عصر الفتوحات، "أقبل أبو هريرة في السوق يحمل حزمة حطب، وهو يومئذ خليفة لمروان، وقال: أوسع الطريق للأمير"، أو في رواية: "طرقوا للأمير، طرقوا للأمير"[حلية الأولياء:1/384]طريق للأمير، والأمير يحمل حزمة من الحطب على ظهره، تغيرت أحوالهم بعد الأموال والمناصب؟ ما تغيرت أحوالهم.
مقارنة بين حال الصحابة وحال المسلمين اليوم
وكيف حال المسلمين اليوم؟ تأتيه وظيفة، أو يصبح موظفا بعد أن كان طالبا، أو ينجح في شيء من التجارة، انظر إليهم في فسقهم؟ وماذا يفعلون؟ انظر إلى حالهم؟ لتعلم فتنة المال، أنس كان عنده خباز يخبز له، وربما صنع له لونين من الطعام، وخبزًا حواريًا، يعني نقيًا منخولًا، يجيء إليه الضيوف، يكرم الضيوف، يأتي بالخباز يصنع ويطبخ لهم، هذا في عصر الفتوحات، قال قتادة: "كنا نأتي أنس، وخبازه قائم، وخوانه موضوع أيضا، يقول كلوا" إكرام الضيف، يقول: كلوا أنتم كلوا، "ما أكل النبي ﷺخبزًا مرققًا ولا شاة مسموطة"- هي الذبيحة الصغيرة التي تشوى، الطرية- "حتى لقي الله "[البخاري:5385]كل ما تقدم من الأحاديث في صحيح البخاري، أو هو حديث صحيح.
وقال عروة: "بعث معاوية مرة إلى عائشة بمائة ألف درهم، فقستمها، ولم تترك منها شيئا، فقالت بريرة -خادمة عائشة-: أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم؟ بدرهم واحد من المائة الألف، بدرهم واحد من أجل الإفطار، فقالت عائشة: لو ذكرتني لفعلت[الترغيب والترهيب:4876].
وتصدقت بسبعين ألف درهم وإنها لترقع جانب درعها رضي الله عنها"[الزهد، لهناد بن السري:617].
أبو هريرة زار قومًا، فأتوه برقاق فبكى، قال: "ما رأى رسول الله ﷺ هذا بعينه قط"[سنن ابن ماجة:3338].
ومن أعظم الأحوال خطبة عتبة بن غزوان في صحيح مسلم: عتبة بن غزوان أمير البصرة، قال في خطبته للناس: "ولقد رأيتني سابع سابعة" -أسلم سابع واحد مع رسول الله ﷺ"ما لنا طعام إلا ورق الشجر؛ حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة، فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرًا على مصر من الأمصار، وإني" - الأن هذا الكلام يا جماعة يا أمة محمد ﷺ قال في الخطبة الأمير بعد أن بين حاله السابق قال: "وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا وعند الله صغيرًا"[مسلم:2967]أعلم القوم بأول حاله وآخره، إظهارًا للتواضع، وتحدثًا بنعمة الله، وتحذيرًا من الاغترار بالدنيا.
أيها المسلمون: هل يكون في هذا الحال، وفي هذا الوصف عظة للمتعظ؟ وعبرة للمعتبر، ومانع لنا من الكبر إن أصابنا شيء من الدنيا، أو نعمة المال أو التجارة أو المناصب والوظائف؟ هذا حال الصحابة، ربما أتاهم من المال أكثر مما أتانا؛ لكن ما تغيروا ، بقوا على حفظ العهد الذي عاهدوا به محمد ﷺ.
اللهم إنا نعوذ بك من فتنة المال، نعوذ بك من فتنة الجاه، نعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم اجعلنا هداه مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، السراج المنير، سيد الزاهدين، وإمام العابدين، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين.
علامة الثبات عند فتنة المال
أيها المسلم: إذا رأيت الغني يصف حاله أيام فقره، ويذكر نعمة ربه، فهذا فيه خير كثير.
قال غني لأولاده: كنا أيام الفقر في الحر ينزع أحدنا ثوبه ينقيه وينفضه من القمل، التي كانت تعلق فيه.
وإذا رأيت الغني يقول: ورثت هذا كابرًا عن كابر، فاعلم أن الخير من نفسه منزوع، وأن نصيبه من الرحمة والتواضع مفقود، قصة الثلاثة الذين أنعم الله عليهم: هذا بقطيع من الإبل، وهذا بقطيع من البقر، وهذا بقطيع من الغنم، وزال من كل واحد عيبه، زال الصلع، وزال العمى، وزال البرص، فماذا قال الأول والثاني؟ ورثته كابرًا عن كابر، والأعمى قال: هذا مال الله، أعطاني إياه، خذ منه ما شئت، لا أمنعك منه شيئًا أبدًا.
من أشراط الساعة أن يفيض المال
أيها المسلمون: إن من أشراط الساعة أن يفيض المال، وفي بعض بلدان المسلمين فاض المال، فهل شكروا نعمة الله؟ أم ماذا فعلوا في المال؟ فجروا، وطغوا، وبغوا، وكفروا بنعمة الله، ولذلك يستحقون ما أصابهم من خوف، ويستحق المسلمون ما يصيبهم من جوع وفقر وسلب نعمة، وتحول عافية، وزوال، وسيسرون في الطريق حتمًا إذا استمروا على ذلك، ثم إن الناس لم يعودوا يبالون أكلوا من الحلال أم من الحرام، قال ﷺ: ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام. حديث صحيح [رواه البخاري2583]، وغيره، وفي رواية: يأتي على الناس زمان ما يبالي الرجل من أين أصاب المال من حلال أو حرام[سنن النسائي:4454]،وهؤلاء الناس اليوم لا يبالون يظلم، يأخذ راتب عمال، يحسم، أسهم البنوك، شركات محرمة، لا يبالون بما أخذوا من حلال أم من حرام، غصب الأموال، أخذ حقوق أيتام، وهكذا صدق نبي الله ﷺ وصار الجشع والشره في الناس عظيمًا، يتنافسون على الدنيا، ويتقاتلون، وقد يشتكي الابن أباه في المحكمة.
حقيقة الغنى
يا أبا ذر أترى أن كثرة المال هو الغنى؟ إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب[السنن الكبرى،للنسائي:11785]، من كان الغنى في قلبه، فلا يضره ما لقي من الدنيا، ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا، وإنما يضره نفسه شحها، قاله ﷺ.
اثنتان يكرههما ابن آدماسمع أيها الفقير، أو صاحب الدخل المحدود، أو الذي لا يكفيه راتبه، اسمع، اثنتان يكرههما ابن آدم: الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب[أحمد:23625]، يقول النبي ﷺ: اثنتان يكرهما ابن آدم يكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب، ولذلك الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، لأن أصحاب الجد محبوسون، يحاسبون على الأموال، فلا تجزع إذا فاتك شيء من الدنيا، المهم أيها المسلمون: أننا إذا أصابتنا نعمة الله، حمدنا الله وشكرناه وعرفنا حقه في نعمته، وإذا ابتلينا صبرنا، ولم نجزع لفوات شيء من الدنيا، الدنيا ملعونةهل نريد أكثر من هذا، هكذا يقول النبي ﷺ: الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالمًَا ومتعلمًا[الترمذي:2322].
وقفة مع المسافرين
وقفة مع المسافرين: أيها المسافر: اتقِ الله وأنت تستعد لسفرك، واجعل نيتك في السفر رضاء الله، وصلة الأرحام، وتعليم الجهال، ودعوة الأهل والأقارب إلى الله، اصطحب معك من الكتب والأشرطة المفيدة ما تستعين به على هداية أهلك، ونشر الخير بينهم في البلاد التي ستذهب إليها.
ولا تعمل شيئًا فيه مضرة لعموم المسلمين لقوله ﷺ: لا ضرر ولا ضرار[سنن ابن ماجة:2341].
واتق الله، واحذر من أماكن الفحش، واعلم بأنك موقوف عند الله، وسائلك عن البلد الذي سافرت إليه؛ لأي شيء سافرت؟ وماذا فعلت في السفر؟ وكم أنفقت من المال؟ مسؤول عند الله، أنت مسؤول عند الله، يقولون لك في تعليمات السفر: اركب وسائل النقل العامة، واحذر سيارات الأجرة الخاصة، حتى لا تكون عرضة للنهب وعملية السلب، وضع جواز السفر والجواهر والحلي في قسم الأمانات في الفنادق، ونحن نقول: اهتم بحفظ الدين الذي هو أهم من حفظ الأموال، وحفظ جوازات السفر حفظ الدين -يا جماعة- الذي قصر فيه المقصرون، وفرّط فيه المفرطون.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في هذا اليوم من عتقائك من النار، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وعمل مبرور، اللهم اجعل فيما سمعنا حجة لنا، لا حجة علينا، اللهم إنا نسألك رفع البلاء عن المسلمين، اللهم انصر المستضعفين، اللهم ارفع سيف الذل والبغي عن عبادك الصالحين، اللهم انصر المجاهدين واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم دمر اليهود، اللهم دمر اليهود، ومن شايعهم، اللهم من مالأهم على ظلمهم، أو كان معهم في فسقهم وبغيهم، فدمره تدميرا، وخذه أخذ عزيزًا مقتدر، إنك أنت العزيز الجبار، نسألك بكل اسم هو لك، أن ترحمنا، وتجعلنا من عتقائك من النار.